للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الثلاثاء، 31 يوليو 2012

صعود وسقوط امبراطورية المخابرات العربية



____
صُعود وسقوط
امبراطورية المخابرات العربية
                             (دراسة من أربع حلقات)
الحلقة الأولى: تعريف وتأريخ النظام الأمني في الوطن العربي.

- I -
في شهر شباط /فبراير 2007، وقع حدثان هامان: الأول، انعقاد القمة العربية في الرياض. والثاني، الذي جاء قبل أيام من القمة، كان اجتماع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في القاهرة مع مديري أجهزة المخابرات (*) في كلٍ من الأردن ومصر والسعودية والامارات العربية المتحدة.
آنذاك، تساءل الكاتب إسنادر العمراني(1): أي هذين الحدثين كان الأكثر أهمية من حيث تأثيره على مضمون وشكل وتوجهات سياسات الدول العربية؟ وهل هذا كان تفاعلاً طبيعياً بين عوامل ثلاثة منفصلة: السياسة الخارجية الأميركية، وأنظمة الأمن العربية، والقيادات العربية؟ أم أن هذه العوامل الثلاثة تتقاطع في منحى وحيد، حيث السياسة الخارجية الأميركية تندمج مع السياسة الأمنية العربية؟
هذه الأسئلة تبدو غريبة للوهلة الأولى. إذ كيف يمكن للقاء بين وزيرة أميركية وقادة أجهزة أمنية أن يكون أكثر أهمية من قمة للملوك والرؤساء العرب؟
بيد أن أي مقاربة واقعية لطبيعة القوى التي تشكّل حالياً عِماد الأنظمة العربية الراهنة، أو على الأقل التي تلعب الدور الرئيس فيها، تُسلّط الضوء فوراً على الدور المُهيمن الذي باتت تلعبه الأجهزة الأمنية في معظم الأقطار العربية في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والفكرية، علاوة بالطبع على الدور الأمني الداخلي والأمن القومي.
لقد درجت العادة حتى الآونة الأخيرة أن يتناول الباحثون العرب الأزمات السياسية العربية من منظور التحليلات العلمية  الخاصة بمفاهيم الشرعية والمقبولية، وبالتالي الديموقراطية. وهذا أمر بديهي ومطلوب أكاديمياً، لكنه ينحو في غالب الأحيان إلى تناسي/ أو القفز فوق دراسة القوى أو الطبقات أو الأطراف التي تُمسك بالسلطة السياسية، والتي من دون التطرق إليها وإلى طبيعة دورها، يصبح أي حديث عن أسباب انحباس الإصلاح والتطور والتطوير الديموقراطيين في الوطن العربي لغزاً أو أحجية لا سبيل لفك طلاسمهما.
د. عبد الأله بلقزيز، الذي يتمتع بعمق الرؤى وباع في مجال تتبع مسارات الأنظمة السياسية العربية، نشر حديثاً دراسة بعنوان " أزمة الشرعية في النظام السياسي العربي"(2). هذه الدراسة ألمّت بمعظم جوانب مسألة الشرعية أو أزمتها لدى الأنظمة العربية. لكن، ثمة نقطتين شددت عليهما الدراسة قد تثيران بدورهما أسئلة في غاية الأهمية، هما دور الإديولوجيا في صناعة المقبولية أو الشرعية، والثانية، أزمة الشرعية التي ينتجها "الانسداد السياسي" الراهن، وفق تعبير بلقزيز، في المنطقة العربية.
                                ____________
(*) سنتطبق في هذه الدراسة المصطلحات التي وضعها د. يزيد الضايع، حول استخدام تعبير "جهاز المخابرات" حين يكون هذا الجهاز غير عسكري، و"جهاز الاستخبارات" حين يكون تابعاً للجيش.
                              ____________
أما الأسئلة فهي:
-       من هي الطبقة أو الطبقات التي تمارس  هذه الهيمنة الإديولوجية (وفق المفهوم الغرامشي)، والتي وفّرت للأنظمة أو معظمها في السابق ما أسمته الورقة "الشرعية النسبية".
-       هل صحيح أن ثمة انسداداً سياسياً مُتفجّراً في الشرعيات الثلاث التقليدية والثورية و"الحديثة"، كما يقول الباحث، وإذا ما كان الأمر كذلك، كيف يمكن أن نفسّر حالة الاستقرار النسبي التي عاشتها معظم الأنظمة منذ أكثر من ثلاثة عقود على رغم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة؟
-       ثم: ما دور القوى الدولية المُهيمنة على المنطقة في توفير الدعم سابقاً للأنظمة السلطوبة الملكية والجمهورية على حد سواء، على رغم شعارات الإصلاح والديمقراطية التي كانت تطرحها هذه القوى؟
-       وأخيراً، هل من سبيل للإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية، وبالتالي لانتصار ثورات الربيع العربي، مالم يتحقق أولاً إصلاح حقيقي لدور القطاع الأمني في المجتمعين السياسي والمدني؟

- II -
 وردت الإشارة إلى السؤال الأول في أواخر بحث د. بلقزيز (صفحة 18)، حين أوضح أن "الاحتكار غير المسبوق- حدة وكثافة- للسلطة من قبل حزب أو فريق أو فرد في المنطقة، غالباً ما تكون سلطته واجهة مدنية للعسكر أو أجهزة الأمن".
هذه المسألة في حاجة إلى المزيد من التركيز والتوضيح والتوسّع، لأنه يبدو أن معظم مفاتيح السلطة في العقود الثلاث الأخيرة كانت بالفعل (ولاتزال؟) في عهدة أجهزة المخابرات العربية أو بقيادتها. وهذه الأخيرة  ما انفكت منذ ذلك الحين تلعب  دوراً يشبه دور النخب التوتاليتارية في أنظمة الحزب الواحد، وهو الدور الذي يستند إلى السيطرة السياسية على الدولة والجيش من قِبَل نظام حزبي سلطوي واحد. الجيش هنا يدين بالولاء للنخبة التوتاليتارية (إقرأ هنا أجهزة المخابرات) لأنها تضع موارد اقتصادية كبرى بتصرفه، فيما تكون السيطرة السياسية للشرطة السرية التي تتغلغل في الجيش وتدير عملية تعيين الضباط أو ترقيتهم أو عزلهم.
فضلاً عن ذلك، لم تكن الأجهزة الأمنية العربية تقصر نشاطاتها على الأمن أو السيطرة الأمنية، بل مدّت "هيمنتها" من المجتمع السياسي إلى المجتمع المدني: إلى الإعلام والثقافة، والسينما والمسرح، والنقابات والاقتصاد، وخلقت مابات يُسمى "ثقافة الأمن" في المجتمعات العربية.
وهنا نستذكر مقولة غرامشي بأن "أي طبقة ترغب في ممارسة السيطرة في ظل الظروف الحديثة، عليها أن تتحرّك إلى ما هو أبعد من مصالحها الاقتصادية الضيّقة لتمارس قيادة فكرية وأخلاقية، ولتبرم تحالفات وتسويات مع مختلف القوى لتشكّل الكتلة التاريخية".
هل يعني ذلك أن أجهزة المخابرات، بما تمتلكه من سلطة سياسية وسطوة اقتصادية وهيمنة ثقافية، أصبحت طبقة في ذاتها ولذاتها؟
هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه، لكن مع التشديد بأن هدفها ليس تعزيز نظرية المؤامرة عبر "شيطنة" أجهزة الأمن أو تحميلها وحدها مسؤولية الانسداد السياسي العربي، بل مناقشة الخيارات والسياسات التي يمكن أن تصوّب عمل هذه الأجهزة ونشاطاتها. فالأمن في خاتمة المطاف ليس كلمة رديئة، خاصة حين يرتبط بمفهوم "الأمن الإنساني". وأجهزة الأمن العربية لايجب بالضرورة أن تبقى سرّية في عالم محظور يعج بالهمسات والظلال. لابل أكثر: الدور الوطني والقومي لهذه الأجهزة المُعزز بالأمن الإنساني مطلوب أكثر من أي وقت مضى، بسبب ظروف التفتيت والاحتلالات التي تتعرض إليها معظم إن لم يكن كل الأقطار العربية (نماذج العراق واليمن وفلسطين والسودان وسورية ولبنان وليبيا ، والعد مستمر)، شريطة أن يتم ذلك في إطار ثقافة أمن ديموقراطية- إنسانية جديدة.
تبقى ملاحظة أخيرة: هذه الدراسة، وبسبب اقتضابها المطلوب، لم تستطع الاستفاضة بالحديث عن دور أجهزة المخابرات في كل أو معظم الدول العربية، إذ أن ذلك كان سيتطلب سلسلة كتب لا كتيباً واحدا. ولذا، تم التركيز على الخطوط العامة لمسألة العلاقة بين الأمن وبين السياسة في الحياة السياسية العربية، مع اهتمام خاص بدور أجهزة الاستخبارات في مصر والأردن والسعودية، وبالعلاقات الخاصة بين معظم أجهزة الأمن العربية وبين الولايات المتحدة.
ستتطرق هذه الدراسة إلى:
أ‌-     تعريف وتأريخ النظام الأمني في الوطن العربي.
ب‌- دور الجيش والتوسّع الانفجاري لأجهزة الأمن.
ت‌- هل أصبحت أجهزة الأمن "طبقة"؟
ث‌- دور أجهزة الأمن في إطار النظام الدولي الحالي.
ج‌-  تجارب الإصلاح الأمني: نموذجا اندونيسيا وتشيلي.
ح‌-  خلاصة.

- III -
أ‌-   تعريف وتأريخ
قطاع الأمن في معظم البلدان العربية يتكوّن من مزيج من القوات المسلحة النظامية (حين تقوم بدور محلي داخلي)، والقوات شبه العسكرية على غرار الحرس الوطني أو الملكي أو الجمهوري، وحرس الحدود، وعدد من أجهزة المخابرات والأمن المتنافسة في ما بينها عادة، وقوات الشرطة، وشركات الأمن الخاصة المتوسعة، والهيئات القضائية الجنائية.
هذه الأجهزة يفترض أن تكون الأكثر ولاء والتي يُعتد بها لضمان أمن النظام السياسي. وبالتالي، فهم تركيبة هذه الأجهزة وسلسلة هيكليتها، والطريقة التي تُموّل بها، وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض، ولمن ترفع تقاريرها، كل ذلك ضروري لتحديد طبيعة السلطة في بلد ما.(3).
الباحث فريديريك غرير(Fredric Grare ) يحدد دور الأجهزة في العالم الثالث عموماً كالآتي: " ممارسة السيطرة الاجتماعية؛ حماية النظام ضد كل مصادر الاضطراب، وتعزيز "المقبولية السلبية" للشعب لسياسات النظام بشتى الوسائل، بما في ذلك التخويف".(4).
وعموماً، تستند السلطة في دول العالم الثالث بشكل أساسي إلى ممارسة السيطرة(Control)  وليس الهيمنة (Hegemony) كما في الدول الديموقراطية الناضحة، وذلك من خلال الاعتماد على أجهزة الأمن. وهذه ظاهرة عامة في هذه الدول.
على الصعيد التاريخي، كان الشرق الأوسط الإسلامي هو الذي اخترع مفهوم ضبط الأمن(Policing)  . فأول قوات شرطة مدنية برزت في مصر وبلاد ما بين النهرين قبل آلاف السنين (5). بيد أن ضبط الأمن الحديث، بإشراف قوات مُحترفة ومُتخصصة ومُستقلة عن الجيش، لم تبدأ في الوطن العربي إلا مع مقدم حقبة الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ففي ظل الدولة العثمانية، لم تكن ثمة أجهزة أمن مستقلة. وكانت وحدات الانكشارية تسيّر دوريات في الشوارع والاسواق وتستأجر المُخبرين المحليين للحفاظ على الأمن. وفي المقاطعات العربية، ماعدا مصر( التي طوّرت أجهزة شرطة للمدن)، كان الحكم العثماني حتى القرن التاسع عشر يستند بكثافة على الجند المعزولين في ثكن عسكرية، الذين لايقيمون سوى النذر اليسير من العلاقات مع المجتمعات. وهؤلاء كانوا يحافظون على الأمن من خلال التجسس، والحلفاء المحليين، وممارسة القوة بين الحين والآخر.
إلغاء الفرق الانكشارية في العام 1826 وتشكيل قوات مسلحة جديدة، حفز على إجراء إعادة تنظيم شاملة في أسلوب ضبط الأمن (Policing) في الامبراطورية العثمانية. ففي العام 1846، تم فصل وظائف أجهزة الأمن عن الجيش، وفي العام 1870،  أنشئت وزارة شرطة جديدة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت أجهزة الأمن تعمل كقوة لاعسكرية منفصلة في اسطنبول، مُقلّدة بذلك التطورات المعاصرة في أوروبا في مجال ضبط الأمن. ومع ذلك، بقي دور الجيش في حفظ الأمن قوياً في المقاطعات العثمانية: التجسس ومواصلة توظيف المُخبرين للإمساك بالمجتمعات.
في المناطق العربية، برزت قوات الأمن المنفصلة للمرة الأولى في عهد الاستعمار الأوروبي. فبريطانيا وفرنسا طورتا أجهزة الأمن المحلية بالدرجة الأولى، لأن ذلك كان أقل تكلفة من استخدام الجيش للحفاظ على النظام. وقد حافظت هذه الأجهزة على بنية شبه عسكرية ثم على هدف سياسي حين سعى الحكام المستعمرون ثم الاستقلاليون ليس فقط إلى الحفاظ على الأمن العام بل أيضاً حماية نظام محدد.(6).
في ظل السلطات الاستعمارية وخلفائها، واصلت أجهزة الأمن الحصول على دعم التدخلات العسكرية النظامية الدورية، خاصة خلال عملها لاحتواء معارضة واسعة النطاق للنظام. وأجهزة الأمن التي برزت آنذاك، تم تنظيمها وفق النموذج الأوروبي: تحديد أجهزة أمن خاصة للمدن، ودَرَك للمناطق الأقل كثافة، والقوات العسكرية حين تفشل هذه الأجهزة في القيام بمهامها.
مع الاستقلال، حلّ ضباط وطنيون مكان الضباط الأجانب (على رغم أن المستشارين الأجانب غالباً ما بقوا في مناصبهم)، وتم الحفاظ على نموذج أجهزة الأمن كما كان في العهد الاستعماري، لكن مع فارق أن أمن الأنظمة وليس الوطن بات الشغل الشاغل الأكبر والأول للقادة السياسيين الجدد. وهذا مادفعهم في وقت مبكر إلى توسيع قطاع الأمن ليشمل أجهزة أمن متعددة، بعضها يرفع تقاريره إلى رئيس الدولة مباشرة، هذا علاوة على جهاز الإستخبارات العسكري.
________________
الحلقة الثانية غدا:
دور الجيش والتوسّع الانفجاري لأجهزة الأمن العربية.
________________
هوامش
1-  Issaner el Armrany: Security policy and Foreign Ploicy. March 31 2007
http://www.arabist.net/blog/2007/3/31/khouri-on-arab-security-services-and-foreign-policy.html
2-  عبد الإله بلقزيز: أزمة الشرعية في النظام السياسي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. 2010
3-  Kodmani and May ZVhartouni- Dubarry: The security sector in Arab Countries: IDS bulletin volume 40, March 200,P2.
4-  Fredric Grare: Reforming the intelligence agencies in Pakistan’s Transitional Democracy. Carnegie Endowment for international peace,2009, p,1.
5-  Patrick Adamson, :some comments on the origins of the Police,”Police studies(spring 1991).
6-  المعلومات التاريخية عن نشأة الأجهزة الأمنية مستقاة من:
Hesham Nasr, Jill Crystal, and Nathan J. Brown:   Criminal justice and Prosecution in the Arab world. A study prepared for the U.N Development program,  Oct.2004,pp2-

_________________________________


















الأحد، 29 يوليو 2012

السعودية: لماذا لن يكون الأمير بندر هو "المُنقِذ"؟


- I -

كان ملفتاً أن ترقية الأمير بندر بن سلطان في سلّم القيادة السعودية، لم يحظ في الغرب سوى بالقليل القليل من التغطية الإعلامية.
وإذا ماكان هذا الأمر غير مفاجيء ومتوقع في المنطقة العربية، بحكم سيطرة، أو هيمنة، أو النفوذ المالي للمملكة على معظم وسائل الإعلام والإعلان العربية، إلا أنه مثير للدهشة في الغرب.

                                        أمراء شبان سعوديون (عن غوغل)
فهل لهذا الأمر رابط ما بعلاقة الأمير بندر الوثيقة مع مراكز القرار والاستخبار الأميركية والغربية؟ أم أن واشنطن ولندن وباريس مهتمة هي الأخرى بعدم ازعاج الرياض بما تعترف أنها تنزعج كثيرا منه: الكشف عن سرّية المداولات والصراعات داخل الأسرة الحاكمة.
لكن، حتى هذا القليل القليل مما نشر في الغرب عن عودة بندر إلى دائرة الفعل السياسي في المملكة، يشي بالكثير في الواقع بالنسبة إلى الرياض.
كيف؟
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنتوقف معاً أمام ماجاء في هذا "القليل".
سايمون هندرسون، مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، نشر في 24 تموز/يوليو 2012 مقالاً مستفيضاً في الموقع الالكتروني للمعهد، أورد فيه النقاط المهمة التالية:
1- تعيد المملكة العربية السعودية رجلها الأكثر دهاء (بندر) إلى إدارة "الربيع العربي" لكن هل يستطيع بندر أن ينقذ حقاً الموقف في الرياض؟ الواقع أن تعيينه يشكِّل انعكاساً لمخاوف الملك عبد الله من التطورات الجارية في الشرق الأوسط، ولاسيما في سوريا، ومحدودية القيادات الموهوبة في بيت آل سعود لمجابهة مثل هذه التحديات. وبصراحة يشير تعيينه إلى وجود حالة من الذعر في الرياض.
2- حتى لو كان بندر قد استعاد بعض رونقه السابق (وخَرَجَ من حالات الاكتئاب النفسي والمشاكل الصحية)، إلا أن مشاكل الشرق الأوسط من منظور سعودي هي بالتأكيد أكبر من أن يتولاها شخص واحد. ففي سورية تريد الرياض خروح بشار الأسد، لكنها لاتريد انتقال العدوى إلى الأردن. وما يزيد غضب الرياض هو أن تجد نفسها تتصارع على النفوذ في سورية مع دويلة قطر التي هي الأخرى تزوِّد المعارضة بالمال والسلاح، لكنها تتمتع بنباهة شديدة في التعامل مع الأحداث على أرض الواقع. وفي الوقت ذاته تلوح إيران في الأفق إذ تكتسب قدرة نووية وتثير أيضاً - من وجهة نظر السعودية - لهب السخط الشيعي في البحرين بل وفي الداخل أيضاً في المنطقة الشرقية من السعودية. 
3- يشير تعيين بندر إلى وجود نقطة ضعف أخرى في الرياض: فالملك عبد الله على ما يبدو لايتمكن من تحديد أية [شخصية] أخرى ذات موهبة داخل آل سعود لتولي هذا الدور، أو ربما لايستطيع أن يثق بشخصية كهذه. وقد وُلد بندر غير محظوظ - والدته كانت محظية سودانية - ولذا فليس من حقه أن يصبح ملكاً في المستقبل. لكن ماذا عن كبار الأمراء الذين يجدر بهم أن يُظهروا ميلاً للقيادة في هذا المفصل التاريخي الدقيق؟ لايبدو أن ولي العهد ووزير الدفاع سلمان ووزير الداخلية الجديد الأمير أحمد يجتذبان ثقة كبيرة. أما الجيل الثاني الذي ينحدر منه الأمير بندر فيشمل نائب وزير الدفاع الأمير خالد بن سلطان وقائد الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله وكذلك حاكم المنطقة الشرقية الأمير محمد بن فهد والأمير محمد بن نايف. وحيث يهرم معظم الأمراء الكبار، فقد حان الوقت لهذا الجيل أن يتقدم ليتخذ دوراً قيادياً لو شاءت المملكة أن تتجنب وقوع أزمة فوضى في الخلافة في المستقبل القريب، أو على الأقل هذا هو ما يفكر به هؤلاء الرجال باعتبارهم الأصغر سناً وإن كانوا الآن بالفعل في الخمسينيات والستينيات من عمرهم.
4- لكن لبعض الأسباب، يمكن القول بأن الملك عبد الله قد اختار الأمير بندر لدورٍ يمكن أن يوصف - من دون كبير مبالغة - بأنه إنقاذ للمملكة. إنه بالفعل اختيارٌ لافتٌ.
- II -
هل هذا التحليل في محله؟
بالطبع، أهل مكة أدرى بشعابها من أهل واشنطن. لكن أي تدقيق سريع في هذا التحليل، يسلِّط الكثير من الأضواء على حجم التحديات الكبرى التي تُواجه المملكة هذه الأيام، إلى درجة حديث سايمون هاريسون عن حاجتها إلى "منقذ".
وهي، بالمناسبة تحديات داخلية بقدر ماهي خارجية.
وعلى سبيل المثال، صحيح أن كسب معركة سورية سيمكّن السعودية من ربح أهم جولات حرب النفوذ مع إيران في منطقتي الهلال الخصيب والخليج، وربما أيضاً حتى داخل بلاد فارس نفسها، إلا ان هذا النصر الكبير لن يترجم نفسه بالضرورة استقراراً كبيراً ونهائياً للداخل السعودي.
لماذا؟
ببساطة لأن طبيعة التحديات اختلفت إلى حد كبير عن تلك التي كانت تجري خلال نصف القرن المنصرم.
فحين تمكنّت الرياض (بالتعاون مع الولايات المتحدة) من إلحاق الهزيمة الكاسحة بالقومية العربية الناصرية على إثر حرب 1967 الإسرائيلية، دانت المنطقة كلها للإديولوجيا الإسلامية التي تبوأت فيها السلفية الوهابية نفوذاً لم تعرفه طيلة عمرها المديد الذي ناهز القرنين. كما أن هذا النصر دشّن على المستوى الاستراتيجي ماعُرِف آنذاك بـ"الحقبة السعودية".
وفي حقبة الثمانينيات، بدا أن الرياض تحقق نصراً تاريخياً آخر، حين أسفر تحالفها الكبير مع أميركا في أفغانستان عن إلحاق الهزيمة العسكرية بموسكو وما تلاها من تداعي الامبراطورية السوفييتية نفسها.
لكن هذه المرة كان هذا نصراً غير مؤزر وغير كامل. إذ أنه إدى إلى إفلات السلفية من عقالها اللاسياسي، فقعدت هذه قرانها الإديولوجي مع الجهادية المصرية، فُولِد بذلك أول تحدٍ للشرعية الإسلامية السعودية من داخل بيتها الإسلامي نفسه.
والآن، قد تتكرر هذه الصورة، لكن بشكل أخطر بكثير. فالربيع العربي بقياداته الإسلامية الجديدة المنفتحة (حتى يثبت العكس، إذ هي لاتزال تحت مجهر الاختبار الغربي) على الديمقراطية والليبرالية، ستنضم إلى السلفية الجهادية بوصفها قوى تتحدى الشرعية الوهابية، كل من من موقع  مغاير بالطبع.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك القرار الأميركي الداعم للربيع العربي، والمعطيات المحلية السعودية التي تتجلى في الطفرة الديمغرافية الكبرى في أعداد الشباب، ونشوء طبقة وسطى كبيرة ومثقفة ومتعلمة، ووجود العديد من الأمراء السعوديين الذين قد تتقاطع مصالحهم مع أهداف الإصلاحيين الداعين إلى نوع من الملكية الدستورية، فإننا سنكون حينها واثقين بأن التحديات الداخلية أخطر وأكبر بما لايقاس من التحديات الخارجية، إلى درجة أن أي نصر تحزره المملكة في سورية ولبنان والبحرين وغيرها سيفاقم من هذه التحديات بدل انقاصها.
- III -
ماذا يعني كل ذلك؟
أمراً واحداً: المملكة تحتاج إلى "بندر" داخلي يقوم بمهمة الإصلاح الداخلي، أكثر بكثير من حاجتها إلى بندر خارجي. ومثل هذا "البندر" الداخلي، وبسبب التعقيدات الهائلة المرتبطة بالصراع على السلطة والثروة داخل الأسرة الحاكمة، لن  يولد إلا إذا كان شخصية تاريخية وجريئة قادرة، من جهة، على إقامة التحالفات المكينة بين الأمراء الشبان والحركات الإصلاحية السياسية كما الدينية، وواعية، من جهة أخرى، لطبيعة الأنقلابات الكاملة التي طرأت على الاستراتيجية الدولية في حقبة مابعد 11 أيلول/سبتمبر ولضرورة التأقلم معها.
وحين يبرز هذا "البندر الداخلي"، لن تكون ثمة حاجة للغرب، كما للشرق، لأن يعتبرا أي تطور أو حدث سياسي في المملكة سراً مكنوناً من الأسرار العليا "المقدسة". العكس سيكون صحيحاً على الأرجح.
 ومثل هذا العكس سيكون دلالة بدايات صحّية، لانهايات كارثية.

                                                                                سعد








الجمعة، 27 يوليو 2012

أين أخطأ الفريق ضاحي خلفان؟

 
القراء الأعزاء
مدوّنتكم "اليوم، غدا" حظيت خلال شهر واحد فقط بأكثر من 50 ألف قاريء. ألف شكر وتحية لكم، ولنتابع مسيرتنا معاً على دروب الحرية والديمقراطية، والعدالة، والحقيقة.
                                                                                          تحياتي الصادقة
                                                                                                 سعد



                       الفريق ضاحي  خلفان                                                                
                     
- I -
"اكتشاف" الفريق ضاحي خلفان تميم، قائد شرطة دبي، لـ"المؤامرة الدولية" التي "تريد إطاحة حكومات دول خليجية عربية"، جاء متاخراً سنة ونصف السنة.
لا بل هو ربما تأخر 11 سنة كاملة، حين بدا واضحاً بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن أنه سيكون هناك رابط عضوي بين هذه الأحداث وبين ماسيجري من تطورات دراماتيكية في الشرق الأوسط.
خريطة طريق هذه التطورات وضعت بالفعل منذ ذلك الحين، لكنها كانت مخططاً علنياً لامؤامرة سرية. كل ما في الأمر أن صدمة 11 أيلول/سبتمبر دفعت الولايات المتحدة إلى تغيير استراتيجيتها التاريخية في الشرق الأوسط: من الاعتماد على الأنظمة السلطوية والاستبدادية (الجمهورية كما الملكية) إلى الرهان على المجتمعات المدنية، لتحقيق الاستقرار، وكبح جماح العنف الإصولي أو مايسميه الغرب الإرهاب الإسلامي، و"ترويض" الحركات الإسلامية وتحديثها عبر لعبة السياسة الديمقراطية لا القمع الأمني.
لكن، لماذا تسببّت أحداث أيلول/سبتمبر بمثل هذا الزلزال الاستراتيجي، وهل يعني ذلك أن الثورات العربية تحمل في طياتها دمغة "صُنِعَ في أميركا"؟
سنأتي إلى السؤال الثاني بعد قليل. قبل ذلك وقفة تأملية مع السؤال الأول.

تحوّل استراتيجي ومعرفي
 أحداث 11 سبتمبر\ أيلول 2001 لم تكن فقط نقطة تحّول إستراتيجي في الولايات المتحدة والغرب، بل كانت أيضا نقطة تحّول معرفي. وهذا أخذ شكل "الانفجار الكبير" في الاسئلة الحارة الموجّهة كلها بإتجاه الشرق الاوسط العربي والاسلامي : " لماذا يكرهوننا ؟ " .ماذا بعد 11 \9، وهل سيكون هناك 11\9 أخريات ؟ ما معنى ان يتكشف لنا ( للغرب ) أن أقرب حلفاءنا ( الانظمة العربية " المعتدلة ") هم في الواقع الاعداء الحقيقيون ؟ . ثم من رحم هذه الاسئلة كانت تتوالد أخرى: من هم الاصوليون الاسلاميون ، ما عقيدتهم وتراكيبهم؟ ، وهل هناك مؤامرة إسلامية عالمية ضد الولايات المتحدة والغرب ؟ ومن الاصوليين الاسلاميين الى الاسلام نفسه : ماذا ذهب خطا في هذه الحضارة التاريخية العريقة، ولماذا يفشل العرب والمسلمون في التأقلم مع قيم الديموقراطية والحداثة ؟ هل العطب في داخل هذه الحضارة نفسها ام في الظروف الخارجية المحيطة بها ؟.
بالطبع ، الولايات المتحدة لم تنتظر الاجابة على أي من هذه الاسئلة كي تبدأ تحرّكها . فهي شّنت حرب أفغانستان حيث حلفاءها السابقين أسامة بن لادن والاصوليين المتطرفين الافغان، ثم أتبعتها بحرب العراق ضد شريكها القديم صدام حسين. وخلال هاتين الحربين وبعدهما كانت الولايات المتحدة تطور إستراتيتجيتين إثنتين: الاولى شرق أوسطية ، وتتمثل بالتحّرك لتغيير الانظمة العربية وإعادة تشكيل الشرق الاوسط برمته؛ والثانية عالمية وترتكز الى مباديء الرئيس جورج بوش الأبن: محور الشر والحروب الاستباقية والقوة الهجومية.
الربط بين تغيير الانظمة وبين الحرب العسكرية على الإرهاب كان فجاً. وهو نفّر الشعوب العربية من الدعوات الأميركية إلى الديمقراطية، خاصة بعد أن أسفرت حربا أفغانستان والعراق عن "فوضى غير خلاّقة"، على رغم كل الجهود الإعلامية- الإديولوجية التي بذلتها إدارة بوش لتصوير هاتين الحربين على أنهما جزء من "استراتيجية حرية" جديدة هدفها "انهاء تحالف عمره 60 عاماً بين الغرب وبين الأنظمة السلطوية العربية والإسلامية"، على حد تعبير الرئيس جورج بوش الأبن.
هذا النفور وصل إلى ذروته في نهاية ولاية بوش الثانية، وأعاد إنتاج كل أدبيات الاستشراق في الشرق الأوسط، وحتى في الدول الغربية.
وهكذا كتب بول كينيدي، صاحب كتاب "صعود وسقوط الدول الكبرى" الشهير:
"من الصعب معرفة ما إذا كان سبب الحالة المضطربة للعالم الإسلامي ثقافي أم تاريخي. النقاد الغربيون الذين يشيرون إلى اللاتسامح الديني، والتأخر التكنولوجي، والعقلية الإقطاعية في المنطقة، ينسون أنه لسنوات عدة قبل عصر الإصلاح( الاوروبي)، كان الإسلام يقود العالم في الرياضيات، وعلم الخرائط، والطب، والعديد من مجالات العلم والصناعة. وهذه الأرصدة تمت التضحية بها لاحقاً عبر إحياء الفكر التقليدي والإنقسام المذهبي بين المسلمين الّسنة والشيعة. بيد ان تراجع الإسلام إلى نفسه- أي وجوده " خارج إيقاع التاريخ" على حد وصف أحد المؤلفين- كان في الغالب أيضاً رداً على الصعود الناجح لأوروبا التوسعية. فالغرب، الذي أبحرت سفنه على طول السواحل العربية، وساهم في إندثار الأمبراطورية المغولية، وإخترق نقاطاً إستراتيجية بخطوط السكك الحديدية والأقنية والمرافيء، وتقدم بثبات في شمال إفريقيا، ووادي النيل، والخليج الفارسي( العربي- الكاتب) ، والهلال الخصيب، وثم شبه الجزيرة العربية نفسها مقّسماً الشرق الأوسط وفق حدود لاطبيعية كجزء من مساومات ما بعد الحرب العالمية الاولى، هذا الغرب ربما لعب أكثر من دور في جعل الشرق الاوسط ما هو عليه اليوم، وبأكثر أيضاً مما يبدو ان المحللين الخارجيين مستعدين للإعتراف به. من الواضح ان الإسلام يعاني من العديد من المشاكل التي سببها لنفسه، لكن، إذا ما كان الموقف الغاضب والتجابهي نحو النظام العالمي اليوم سببه المخاوف المعشعة منذ وقت طويل من خطر الإبتلاع على يد الغرب، فلن يرجى الكثير من التغيير، إلى أن يتم تبديد هذا الخوف ".  

- II -
اوردنا هذه الفقرة الطويلة لسببين: الاول أنها تعرض بشكل موضوعي لتأثيرات الاجتياح الغربي للشرق. والثاني لأنها تضرب على وتر حساس للغاية في الشرق الاوسط : الخوف . الخوف من ماذا ؟ من الغرب. الخوف على ماذا ؟ على كل شيء تقريبا: الاستقلال والهوية وحتى في بعض الاحيان الاحساس بالخطر على الوجود نفسه. وهذا ميكازيم يكمن في أساس نزعة العنف الانتحاري التي تصبح عملة رائجة في سياسات أوائل القرن الحادي والعشرين العربي . وهنا لا يقف أسامة بن لادن كفارس وحيد في هذا المجال ، ولا حركة الجهاد الفلسطينية، ولا حزب الله اللبناني . فالمسألة كادت تتحّول الى ظاهرة عامة، او أسلوب من اساليب العمل السياسي في الشرق الاوسط العربي، قبل أندلاع ثورات الربيع العربي.
كتب محمد حسنين هيكل ( هيكل : 1995 : 10 ) : " العرب بما فعلوه وما لم يفعلوه، وصلوا بانفسهم الى حافة الانتحار. فالعالم العربي لم يعد منطقة ازمة عامة، بل منطقة أزمات مختلفة ومتعددة .. والامة العربية ليست في حالة ملل بل في حال إكتئاب جماعي " .
القول بأن العرب ( أي 400  مليون) وصلوا الى مرحلة الانتحار، بيان خطير . والقول بأنهم في حال إكتئاب جماعي، بيان أخطر. ولكي نتصّور فداحة مثل هذه الخلاصات، علينا ان نتخيل ان تنظيم القاعدة لم يعد حركة إرهابية معزولة عن التيار الاسلامي العام في المنطقة العربية، بل بات، بعملياته الانتحارية الجماعية، النموذج الذي يقدم "الحل الامثل" للخروج من الازمات العربية المتراكمة. حينها يمكن للنظام العالمي بالفعل ان يتوقع هجمات كارثية لاتنتهي، على أسسه ومقوماته ورموزه.

محصلات إيجابية
هذه العجالة ربما تجعلنا نفهم لماذا أدت أحداث11 أيلول /سبتمبر في واشنطن ونيويورك ، إلى ألا يبقى السؤال عن أسباب التخلّف والعنف في المنطقة العربية- الإسلامية سؤالاً عربياً يجب ان يجيب عليه العرب وحدهم . فما يحدث من تفاعلات داخلية في الرياض والقاهرة وعمان والقدس ، بات وثيق الصلة بأمن نيويورك وبوسطن ولوس انجيليز ولندن وباريس . وبرامج التربية والتعليم التي تدرّس في مدارس الشرق الاوسط ووأفغانستان وباكستان، باتت جزءا من الامنين القومي الاميركي والعالمي. ثم هناك العولمة التي تعمل الان على محو أي \ وكل فاصل بين ما هو محلي وما هو عالمي . وفوق هذا وذاك ، هناك بعض التطورات الموضوعية التي يجب
 تسجيلها :
1-     فقد إنتهت ، على ما يبدو علاقة "الحب المحّرم"  بين الأنظمة السلطوية العربية بشطريها الجهوري والملكي وبين الديموقراطيات الغربية. "علاقة الحب الغريبة " هذه، وفق تعبير جون كولي John cooley (في كتابه "الحرب غير المقدسة") ، إنتهت الى علاقة شك وكراهية. فالسعودية لم تعد مملكة " معتدلة " حليفة للغرب، بل باتت مصدر التطرف الاخطر الايديولوجي والسياسي. ومصر- مبارك لم تعد ركيزة إستراتيجية بل باتت منتجا مُحتملاً للصواريخ البشرية العابرة للقارات. أما إستخدام الغرب لمدة نصف قرن للأسلام السياسي كسلاح سياسي ، فقد تكشّف عن كونه تأشيرة دخول ذات إتجاه واحد الى جهنم .
2-     كما إنتهت أيضا مقولة التعايش بين غرب حديث وما بعد حديث ، وبين شرق أوسط ما قبل حديث . أمن النظام العالمي والعولمة بات يفرض جلب الشرق الاوسط ، ومرة والى الابد ، الى عالم الحداثة . جون لويس غيديس John lewis gaddis تحدث حتى قبل اندلاع ثورات الربيع العربي عن وجود "إستراتيجية كبرى" اميركية لتغيير الشرق الاوسط الاسلامي بأكمله وجلبه الى الحداثة. وفؤاد عجمي قال ان الدافع الاميركي الرئيس الان هو " تحديث العالم العربي " . اما مارتن انديك فتحدث عن ضرورة أدخال إصلاحات كاسحة في الدول العربية، وتشجيع الطبعات المعتدلة من الاسلام. وهذه كلها كانت تأكيدات على أن سؤال الأزمة في الشرق الاوسط لم يعد سؤالا محليا بحتا.
3-     وفي العالم العربي ، تم نفض الغبار بسرعة عن المسألة الديموقراطية بعد تعليق دام حقبات طويلة لصالح شعارات تحرر الأمة ووحدته، وبات الحل الديموقراطي على كل شفة ولسان في المجتمعات العربية . وهذا ما أعاد الاعتبار للمرحلة الليبرالية العربية التي إزدهرت في حقبة ما بين الحربين العالميتين الاولى والثانية، ولوصل ما إنقطع فيها بعد الافادة من دروس فشلها.
4-     وفوق هذا وذاك، فقدت معظم الأنظمة العربية ما تبقى لها من شرعية سياسية في الداخل ( ومن غطاء أجنبي في الخارج ) ، وباتت في صراع مباشر مع شعوبها وجها لوجه .
  بالطبع ، لن تكون التحولّات الكبرى المرتقبة في الشرق الاوسط سهلة أو بسيطة . فليس من السهل الان الحكم على نتائج ، أو إستمرارية ، الانقلاب الاميركي على التحالف مع الأنظمة الاستبدادية في الشرق العربي. لكن، ثمة حقيقة لا يمكن القفز فوقها، وهي أن سقوط التحالف الاستبدادي العربي- الديموقراطي الغربي بعد 11 أيلول/سبتمبر ، سيكون حتما لصالح الشعوب العربية . فهو سيجعل الدول "المحافظة" تقف عارية في بلاط الاسرة الدولية. وهو سيعيد الى حد ما التوازن في الصراع بين القوى العربية الحديثة والديمقراطية وبين القوى التقليدية والسلطوية في الشرق الاوسط، من خلال إرتسام موازين قوى جديدة بينها. وهو أخيرا أعطى القوى الديموقراطية والليبرالية الإسلامية فرصة العودة الى " مسرح عمليات " المنطقة ، بصفتها قوى فاعلة ومؤثرة فيها .
لقد قَبِلَ الغرب أخيراً أن تصل القوى الإسلامية إلى الحكم، شريطة أن تقبل بالمباديء الديمقراطية الخاصة بتداول السلطة وعدم مصادرة الحريات العامة، إضافة بالطبع إلى عدم تهديد المصالح الغربية الأساسية، وذلك لتكون هي البديل عن البنلادنية والتطرف الإسلامي. والقوى الإسلامية بدورها، والتي أفادت من دروس الحروب الاهلية الخاسرة التي خاضت طيلة نصف القرن المنصرم، تبدو مستعدة لاحتساء كأس الديمقراطية حتى الثمالة، مستنيرة بتجربتي تركيا وإندونيسيا الناجحتين.
وعلى رغم أن هذه الاستعدادت المتبادلة تحتاج إلى مراحل اختيار عدة، إلا أن المؤشرات حتى الآن تشي بغلبة التفاؤل على التشاؤم.

- III -
صنع في أميركا؟
نعود الآن إلى سؤالنا الثاني: هل تحمل ثورات الربيع العربي دمغة "صُنِعَ في أميركا"؟
حين طرحت إحدى الإذاعات العربية هذا السؤال على كاتب هذه السطور مؤخراً، جاءت الإجابة على النحو التالي: " ليس ثمة شك بأن هذه الثورات لم تكن لتنجح على هذا النحو السريع، لو أن الولايات المتحدة وبقية السرب الغربي كانتا ضدها (خاصة في مصر وليبيا). لكن هذا شيء، والقول أن هذه الثورات الشعبية صنعت في أميركا شيء آخر مختلف تماما. كل ما في الأمر أن واشنطن أوقفت تحالفها غير المقدس مع الأنظمة السلطوية العربية بكل أشكالها. فهل تريدوننا أن نحزن من أجل ذلك؟".
رد مقنع؟
أجل. وهذه بعض الادلة:
في العام 2001، وبعد أحداث نيويورك وواشنطن، أعلن الرئيس بوش عن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي يهدف إلى فرض الديمقراطية بالقوة على كل الأنظمة من المغرب إلى أفغانستان. وقد كان غزو العراق، كما هو معروف، المرحلة الأولى من رحلة كان يجب أن تأخذ القوات الأمريكية إلى سوريا وإيران وربما دول أخرى في المنطقة لتغيير أنظمتها.
هذا المشروع تعثّر في العراق كما في أفغانستان، بيد أنه لم يسقط في الداخل الأميركي. وقد تطلب الأمر مجيء رئيس أسمر السحنة إلى البيت الأبيض كي تعاد صياغة هذه الاستراتيجية على أسس جديدة: بدلاً من استخدام القوة الصلدة لفرض تغيير الأنظمة، يجري استخدام القوة الناعمة لتحقيق الغرض نفسه.
أبطال هذه المهمة الجديدة لم يعودوا البنتاغون ومجلس الأمن القومي الأمريكي ( إلا إذا تطلب الأمر ذلك كما في ليبيا) ولا حتى وزارة الخارجية الأمريكية، بل منظمات غير حكومية كانت أصلاً تعمل بكثافة منذ عقد لبناء البنى التحتية لهذه الاستراتيجية. على رأس هذه المنظمات مركز الأبحاث “راند”، و”فريدوم هاوس”، والمؤسسة القومية للديمقراطية “National  Endowment for democracy”.  . وهذه الأخيرة كان لها الدور الكبير والأبرز في النشاطات التي جرت في مروحة واسعة من الدول شملت تونس ومصر والأردن والكويت وسوريا واليمن والسودان، وحتى “إسرائيل”. كما أنها هي التي نسّقت، ولاتزال، سياسات تغيير الأنظمة “من تحت” في الشرق الأوسط. ويضم مجلس إدارة هذه المؤسسة وزير الدفاع السابق كارلوشي، والجنرال المتقاعد ويسلي كلارك، وزلماي خليل زاد مهندس غزو أفغانستان، ووين فيبر رئيس فريق السياسة الأمريكية للإصلاح في العالم العربي، وغيرهم.

الأمر، إذاً، لا يحتاج إلى “أيدٍ خفية” أو “مؤامرة سرية”. فالهدف، وكذلك النشاطات، الأمريكية، واضحة، ومباشرة، وعلنية. كل ما في الأمر أن القوة العظمى المهمينة على الشرق الأوسط والعالم قررت تغيير استراتيجيتها في المنطقة، ولم يعد أمام القوى المحلية والإقليمية سوى التأقلم مع هذه الاستراتيجية، أو التعرُّض إلى "الحلاقة" (على حد تعبير الرئيس السابق علي صالح).
الرئيسان زين العابدين بن علي وحسني مبارك فهما ذلك وغادرا المسرح. لكن العقيد القذافي لم يفهم فرُحِّل بالقوة سياسياً وجسديا. والأمر نفسه سيحدث حتماً مع الرئيس بشار الأسد.
دول الخليج كلها، ، لن تكون بمنأى عن هذه التغييرات (راجع مقالاً حول هذا في هذه المدونة). ومع أن الثورات الشعبية الواسعة مستبعدة في معظم دول الخليج بسبب بنياتها الاجتماعية الخاصة، إلا أن الإصلاحات فيها ستكون حتمية. إذ لايعقل أن يتغيّر الشرق الأوسط برمته، فيما تبقى أهم بقعة استراتيجية فيه، والتي كانت مصدراً رئيساً للصواريخ البشرية والإديولوجيات العنيفة، استثناء عن هذه القاعدة.
هل يضع الفريق خلفان هذه الوقائع في الاعتبار، في معرض "اكتشافاته" الجديدة حول "المؤامرة الدولية"؟
ربما هذه ليست مهمته. فموقعه الأمني يفرض عليه إطلالة أمنية بحتة على مجريات الأمور. لكن هذا لا يجب أن يفرض على النخبة السياسية الحاكمة في الإمارات المقاربة نفسها. فالسياسة (كما أشرنا في مدونة الأمس) يجب أن تقود الأمن وتعقلنه. وهذه السياسة في الظروف الراهنة تعني أمراً واحداً لاغير: إطلاق الإصلاحات السياسية من عقالها، وبأقصى سرعة ممكنة .
لماذا السرعة؟
لأن هذه النخبة قد تجد نفسها قريباً وسط "إطلاق نار" كثيف من كل الجهات: من الضغوط الهائلة للقرار الدولي بإصلاح كل أنظمة المنطقة، إلى تحرُّك تنظيم القاعدة وأشباهه الذين قد يفيدون من القمع الأمني لتقديم أنفسهم كبديل، مروراً بقوى الربيع العربي في الأقطار الأخرى التي قد لاتتسامح طويلاً مع نهج المجابهة التي تتبعه معهم حالياً دولة الإمارات.
هذا بالطبع من دون تناسي ضغوط المطالب المشروعة للمواطنين الإماراتيين بالمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، وتقليص الفجوة بين الإمارات الغنية والفقيرة، والمجابهة الجدية لمخاطر التركيبة السكانية المختلة، والحد من التجاوزات المجتمعية المنفلتة من عقالها.
فهل ينتصر الخيار السياسي العقلاني على المقاربة الأمنية الخطرة؟
نأمل ذلك. لا بل نصلي من أجله. فدولة  زايد بن سلطان تعني الكثير للعرب. الكثير حقا.

                                                                                سعد