للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

إيران وأميركا: صفقة كبرى دونها عقبات أكبر



I--
"يقوم أحدهم بسرقة سترة بذلتك، فتصرخ مطالباً باستعادتها، لكن اللص يسرق حينها قبعتك، فتواصل القتال من أجل استعادة السترة لكنك لاتحصل سوى على القبعة. وحينها ستنسى سترتك ولماذا كنت تقاتل في المقام الأول".
هكذا أطلَّ حسين شريعتمداري، رئيس تحرير صحيفة كايهان الإيرانية المحافظة، على الصفقة النووية الإيرانية- الغربية: الغرب يسرق حقوق إيران النووية، ثم يتفاوض على بعض هذه السرقات. وهذا ما جعل إيران، برأـيه، تفقد زمام المبادرة في المفاوضات.
بالطبع، هذا الموقف، الذي ربما يعبّر عن رأي المعسكر المحافظ الإيراني، وفي مقدمه قطاعات واسعة من الحرس الثوري الإيراني التي كانت تثرى من العقوبات الدولية على إيران، يتناقض حرفاً بحرف مع أناشيد النصر التي تغنى بها الرئيس روحاني ورحب بها المرشد خامنئي، اللذان اعتبرا أن إيران حققت نصراً باهراً في هذه الصفقة لأن الغرب اعترف فيها بالدولة الإيرانية كقوة نووية، ولأنها (الصفقة) "كسرت ظهر العقوبات عليها".
II--

الحقيقة تبدو في منزلة بين منزلين في هذين الموقفين. فإيران قدّمت بالفعل في هذا الاتفاق المؤقت الذي سيدوم ستة أشهر(هذا إذا لم يتحوّل المؤقت إلى دائم)، تنازلات جمة ليس فقط على صعيد وقف تخصيب اليورانيوم بأكثر من 5 في المئة، و"تحييد" مخزونها من اليورانيوم المخصب بمعدل 20 في المئة، والحد من أجهزة الطرد المركزي، ووقف العمل في مفاعل أراك للمياه الثقيلة، بل أولاً وأساساً في قبول أجراءات التفتيش الدولي بشكل يومي في كل منشآتها النووية. وهذا في مقابل رفع "مؤقت وجزئي وقابل للإلغاء" للعقوبات الدولية.
وهذا مايعزز وجهة نظر المحافظين الإيرانيين بأن الغرب يبيع إيران مايسرق منها.
لكن في المقابل، خامنئي وروحاني على حق أيضا. فالصفقة تترك بالفعل كل البنى التحتية النووية الإيرانية كما هي وبلاخدوش، الأمر الذي لن يعيق اندفاعة إيران لحيازة السلاح النووي بأكثر من شهر أو أقل إذا ما قررت ذلك، في الوقت الذي تبدأ فيه هي بتقويض كل نظام العقوبات الدقيق الذي انفقت الولايات المتحدة سنوات طوال في إشادته لبنة لبنة.
وفوق هذا وذاك، وحتى لو توصلت إيران والدول الخمس زائد واحد إلى اتفاق نهائي في نهاية الأشهر الستة يقفل نهائياً ملفها النووي، فإن كماً هائلاً من المصادر الغربية والشرقية تؤكد أنها امتلكت بالفعل المعرفة النووية (Know- how ) وباتت قادرة في أي وقت على صناعة القنبلة خلال أسابيع.
III--
الآن، طالما الصورة على هذا النحو، وطالما أن الصفقة، الآنية المؤقتة واللاحقة "الدائمة"، مهددة في أي وقت بالأنهيار إما بفعل مقاومة الداخل الإيراني (الحرس الثوري) والاميركي(الكونغرس)، أو ممانعة الخارج الإسرائيلي والسعودي والتركي والمصري، فلماذا كل هذا الحماسة الغربية والإيرانية لوصف هذه الصفقة بأنها "إنجاز تاريخي"، وليس "خطأ تاريخي" حسب وصف بنيامين نتنياهو؟
ببساطة لأنها تحمل في طياتها فرص إبرام "تفاهم تاريخي" بين واشنطن وطهران، لايكون فيه الاتفاق النووي سوى جزء من كلٍ أكثر تعقيدا.
بكلمات أوضح: الصفقة النووية، في حال سار كل شيء على مايرام ولم تنسفها الألغام الكثيرة المزروعة على طريقها، ستعطي أميركا فرصة إعادة دمج إيران في النظام الدولي كدولة طبيعة لامارقة وفق شروطها، وستعطي إيران ليس فقط طوق النجاة من الانهيار الاقتصادي- الاجتماعي وحسب بل أيضاً دوراً إقليمياً معترفاً به دوليا.
إذا ماتوصل الطرفان إلى مثل هذه "الصفقة الكبرى"، سيكون الشرق الأوسط على موعد بالفعل مع نظام إقليمي جديد وتحالفات دولية- إقليمية قد لاتخطر الآن على بال.
لكن، دون هذه المحصلة التاريخية عقبات تاريخية كبرى، تبدأ بقبول إيران بأن تغيّر نظامها نفسه بنفسها، وأن ترحب بها إسرائيل وباقي دول المنطقة كطرف رئيس في نظام إقليمي عتيد.
وهذا مايبدو الآن تفكيراً رغائبياً في بعض طهران وبعض واشنطن، وأحلاماً كابوسية في تل أبيب والرياض والقاهرة.
سعد محيو
( *) هذا المقال نشر أولاً في صحيفة المدن الالكترونية

___________________________________



الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

هل هي الحرب بين الأمير بندر والجنرال سليماني؟



أهم مؤشران على طبيعة وأهداف الهجوم الانتحاري المزدوج على السفارة الإيرانية في بيروت، هما توقيته ودقته.
فمن حيث التوقيت، جاء الهجوم عشية استئناف المفاوضات النووية الإيرانية- الغربية التي تثير كبير القلق في كلٍ من الرياض وتل أبيب وأنقرة والقاهرة والعديد من دول الشرق الأوسط الأخرى. إذ أن هذه العواصم تعتبر المفاوضات مقدمة لاعتراف واشنطن وبروكسل بالدور الإقليمي الكبير لـ"امبراطورية قورش الفارسية الجديدة" في الشرق الأوسط، على حد تعبير دبلوماسي خليجي في بيروت.
بندر وبوش
سليماني

هذه الدول، وخاصة تل إسرائيل وإلى حد ما المملكة السعودية، لاتخفي رغبتها في دفع هذه المفاوضات إلى التعثر أو حتى إلى الفشل. فالأولى تحرّك الكونغرس الأميركي الموالي لها بشدة لفرض عقوبات جديدة على إيران، تحت شعار لارفع لهذه العقوبات قبل الوقف الكامل والشامل لكل البرنامج النووي الإيراني. فيما الثانية تنشط الآن على أرض الشرق الأوسط لتحويله كله إلى "سورية جديدة" لطهران، أي إلى فيتنام تستنزف ماتبقى من الموارد الإيرانية التي لم تبتلعها بعد الحرب السورية (نحو 20 مليار دولار سنوياً).
التفجير المزدوج في بيروت يأتي في هذا السياق. وهو بمثابة رسالة استراتيجية لا تكتيكية متعددة الرؤوس إلى واشنطن وكل من يهمهم الأمر، بمدى "المقاومة والممانعة" التي ستبرز في وجه أي اتفاق إيراني- غربي ثنائي يتم من دون موافقة القوى الإقليمية المعنية. وهذا يعني أن تفجير السفارة الإيرانية هو بداية لعملية او عمليات متسقة، لا نهاية لها.
معركة القلمون
علاوة على ذلك، جائ التوقيت متطابقاً مع حدث ميداني كبير يجري هذه الأيام على الأرض المشتركة اللبنانية- السورية. إذ يبدو أن المعركة الكبرى في منطقة القلمون الاستراتيجية، التي تعتبر فائقة الأهمية للتواصل الجغرافي بين خطوط إمداد النظام السوري في كلٍ من منطقة دمشق ومعاقله العلوية في حمص وجبال العلويين والبقاع الشيعي اللبناني، قد بدأت.
رأس الحربة البرية في هذه المعركة هي آلاف من مقاتلي حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية وفصائل إدارة وقيادة من فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. ومن شأن انتصار النظام السوري في هذه المعركة أن يسدد ضربة عنيفة للمعارضة المسلحة السورية وانتصاراً كبيراً آخر للنفوذ الإيراني. وهذا أمر لن تقبل به مملكة الوهابيين بأي حال وسترد عليه بكل الوسائل المتاحة.
هذا عن التوقيت. أما الدقة التي نفِّذت فيه العملية فهي، بما تضمنته من عملية مراقبة متواصلة للسفارة الإيرانية ومعرفة موعد مغادرة السفير غضنفر ركن أبادي للمبنى بهدف اغتياله، يشي بأن التحضيرات للتفجير استلزمت وقتاً طويلاً وأجهزة متطورة وعناصر عدة. وهذا ماليس بمقدور تنظيم "كتائب عبد الله عزام" الذي أعلن مسؤوليته عن العملية القيام به. هذا ناهيك أصلاً عن أن هذا التنظيم ضبابي للغاية. فهو إيراني النِشأة أسسه  صالح عبد الله القرعاوي الذي كان يتخذ من إيران مركزاً له، ويديره معارضون سعوديون. وتتقاطع كل المعلومات على القول أن هذا التنظيم المرتبط بالقاعدة مخترق، كما الحال مع معظم الحركات الإرهابية، من مختلف أنواع أجهزة المخابرات، بما في ذلك الموساد.
ماذا بعد؟
حسنا. ماذا بعد هذا "الهجوم الاستراتيجي"، سواء على الصعيد الإقليمي أو بالنسبة إلى لبنان؟
صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" لم تجد ما تقوله حيال هذا الهجوم سوى القول بأنه "يظهر كم أن الصراع في سورية قد انقلب بشكل حاد إلى حرب سنّية- شيعية بين القوتين الإقليميتين السعودية وإيران".
لا بل هي نسبت إلى كوادر موالية لحزب الله في الضاحية الجنوبية من بيروت اتهامهم المباشر للرياض بالوقوف وراء العمليتين الانتحاريتين، وتهديدهم باستهداف السفارة السعودية في العاصمة اللبنانية.
هذه المعطيات المتقاطعة، أي المفاوضات النووية ومعركة القلمون والحرب السورية، مضافاً إليها المجابهة السعودية- الإيرانية فوق أرض العراق والتي تتخذ هي الاخرى طابعاً سنياً- شيعياً فاقعا، تعني أن منطقة الهلال الخصيب برمتها باتت ساحة مجابهة بين الرياض وطهران، أو بين الأمير بندر بين سلطان مدير المخابرات السعودية المخضرم، وبين قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني (على حد تعبير مقاتل من حزب الله عاد لتوه من معارك سورية).
لبنان كان حتى الآن بمنأى نسبياً عن هذه المجابهة، حيث كانت الاطراف السياسية المتصارعة فيه المناوئة والمعارضة للنظام السوري (8 و14 آذار/مارس) تكتفي بالحروب بالواسطة داخل الأرض السورية.
لكن الهجوم على السفارة الإيرانية في بيروت قد يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، خاصة إذا ما كان لهذا  الهجوم مابعده. وهو أمر مؤكد تقريباً بسبب العوامل الدولية والإقليمية والسورية التي ألمعنا إليها.
المفاوضات النووية ستكون هو المحفز لهذه المجابهة. لكن معركة القلمون ستكون هي الوقود الذي قد يشعل إوار التفجير في لبنان، بسبب مايقال عن تدفق أعداد كبيرة من المسلحين السوريين إلى لبنان الذين سيكون هدفهم الأول، جنباً إلى جنب مع الأصوليين السنّة اللبنانيين، الانتقام من حزب الله عبر نقل المعارك إلى مناطقه. وهذا ماجعل بعض المراقبين اللبنانيين يذهبون إلى حد تشبيه العملية الانتحارية ضد السفارة الإيرانية بحادث بوسطة عين الرمانة العام 1975 الذي أشعل فتيل الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت زهاء 15 عاما.
الأمور لما تصل بعد إلى هذه المرحلة. لكنها قد تصل إليه إذا ما فشل مؤتمر جنيف-2 لحل الأزمة السورية في الانعقاد أو في التوصل إلى نتائج ملموسة في حال انعقاده، وبالطبع إذا ماعجزت المفاوضات النووية عن تهدئة نفوس المعارضين الإقليميين لها، وأيضاً إذا ماتبيّن أن القوى الإقليمية سترمي بكل ثقلها في معركة القلمون.
ففي هذه الحالة، ستخرج الأمور عن نطاق السيطرة في لبنان، وستنضم بيروت إلى دمشق وبغداد بصفتها كلها ضواحٍ ثلاث لعاصمة حرب إقليمة واحدة.
ويخشى الآن أن تكون العملية الانتحارية المزدوجة ضد السفارة الإيرانية، هو أول غيث مثل هذا التطور المأساوي الذي سيدفع لبنان ثمنه غاليا.
وقديماً قيل: حين يتصارع الفيلة، يكون العشب أول من يدفع الثمن.
(*) نشر هذا المقال أولاً في صحيفة المدن الالكترونية

سعد محيو





هل هي الحرب بين الأمير بندر وسليماني؟
أهم مؤشران على طبيعة وأهداف الهجوم الانتحاري المزدوج على السفارة الإيرانية في بيروت، هما توقيته ودقته.
قاسم سليماني
فمن حيث التوقيت، جاء الهجوم عشية استئناف المفاوضات النووية الإيرانية- الغربية التي تثير كبير القلق في كلٍ من الرياض وتل أبيب وأنقرة والقاهرة والعديد من دول الشرق الأوسط الأخرى. إذ أن هذه العواصم تعتبر المفاوضات مقدمة لاعتراف واشنطن وبروكسل بالدور الإقليمي الكبير لـ"امبراطورية قورش الفارسية الجديدة" في الشرق الأوسط، على حد تعبير دبلوماسي خليجي في بيروت.
بندر مع بوش

هذه الدول، وخاصة تل إسرائيل وإلى حد ما المملكة السعودية، لاتخفي رغبتها في دفع هذه المفاوضات إلى التعثر أو حتى إلى الفشل. فالأولى تحرّك الكونغرس الأميركي الموالي لها بشدة لفرض عقوبات جديدة على إيران، تحت شعار لارفع لهذه العقوبات قبل الوقف الكامل والشامل لكل البرنامج النووي الإيراني. فيما الثانية تنشط الآن على أرض الشرق الأوسط لتحويله كله إلى "سورية جديدة" لطهران، أي إلى فيتنام تستنزف ماتبقى من الموارد الإيرانية التي لم تبتلعها بعد الحرب السورية (نحو 20 مليار دولار سنوياً).
التفجير المزدوج في بيروت يأتي في هذا السياق. وهو بمثابة رسالة استراتيجية لا تكتيكية متعددة الرؤوس إلى واشنطن وكل من يهمهم الأمر، بمدى "المقاومة والممانعة" التي ستبرز في وجه أي اتفاق إيراني- غربي ثنائي يتم من دون موافقة القوى الإقليمية المعنية. وهذا يعني أن تفجير السفارة الإيرانية هو بداية لعملية او عمليات متسقة، لا نهاية لها.
معركة القلمون
علاوة على ذلك، جائ التوقيت متطابقاً مع حدث ميداني كبير يجري هذه الأيام على الأرض المشتركة اللبنانية- السورية. إذ يبدو أن المعركة الكبرى في منطقة القلمون الاستراتيجية، التي تعتبر فائقة الأهمية للتواصل الجغرافي بين خطوط إمداد النظام السوري في كلٍ من منطقة دمشق ومعاقله العلوية في حمص وجبال العلويين والبقاع الشيعي اللبناني، قد بدأت.
رأس الحربة البرية في هذه المعركة هي آلاف من مقاتلي حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية وفصائل إدارة وقيادة من فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. ومن شأن انتصار النظام السوري في هذه المعركة أن يسدد ضربة عنيفة للمعارضة المسلحة السورية وانتصاراً كبيراً آخر للنفوذ الإيراني. وهذا أمر لن تقبل به مملكة الوهابيين بأي حال وسترد عليه بكل الوسائل المتاحة.
هذا عن التوقيت. أما الدقة التي نفِّذت فيه العملية فهي، بما تضمنته من عملية مراقبة متواصلة للسفارة الإيرانية ومعرفة موعد مغادرة السفير غضنفر ركن أبادي للمبنى بهدف اغتياله، يشي بأن التحضيرات للتفجير استلزمت وقتاً طويلاً وأجهزة متطورة وعناصر عدة. وهذا ماليس بمقدور تنظيم "كتائب عبد الله عزام" الذي أعلن مسؤوليته عن العملية القيام به. هذا ناهيك أصلاً عن أن هذا التنظيم ضبابي للغاية. فهو إيراني النِشأة أسسه  صالح عبد الله القرعاوي الذي كان يتخذ من إيران مركزاً له، ويديره معارضون سعوديون. وتتقاطع كل المعلومات على القول أن هذا التنظيم المرتبط بالقاعدة مخترق، كما الحال مع معظم الحركات الإرهابية، من مختلف أنواع أجهزة المخابرات، بما في ذلك الموساد.
ماذا بعد؟
حسنا. ماذا بعد هذا "الهجوم الاستراتيجي"، سواء على الصعيد الإقليمي أو بالنسبة إلى لبنان؟
صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" لم تجد ما تقوله حيال هذا الهجوم سوى القول بأنه "يظهر كم أن الصراع في سورية قد انقلب بشكل حاد إلى حرب سنّية- شيعية بين القوتين الإقليميتين السعودية وإيران".
لا بل هي نسبت إلى كوادر موالية لحزب الله في الضاحية الجنوبية من بيروت اتهامهم المباشر للرياض بالوقوف وراء العمليتين الانتحاريتين، وتهديدهم باستهداف السفارة السعودية في العاصمة اللبنانية.
هذه المعطيات المتقاطعة، أي المفاوضات النووية ومعركة القلمون والحرب السورية، مضافاً إليها المجابهة السعودية- الإيرانية فوق أرض العراق والتي تتخذ هي الاخرى طابعاً سنياً- شيعياً فاقعا، تعني أن منطقة الهلال الخصيب برمتها باتت ساحة مجابهة بين الرياض وطهران، أو بين الأمير بندر بين سلطان مدير المخابرات السعودية المخضرم، وبين قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني (على حد تعبير مقاتل من حزب الله عاد لتوه من معارك سورية).
لبنان كان حتى الآن بمنأى نسبياً عن هذه المجابهة، حيث كانت الاطراف السياسية المتصارعة فيه المناوئة والمعارضة للنظام السوري (8 و14 آذار/مارس) تكتفي بالحروب بالواسطة داخل الأرض السورية.
لكن الهجوم على السفارة الإيرانية في بيروت قد يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، خاصة إذا ما كان لهذا  الهجوم مابعده. وهو أمر مؤكد تقريباً بسبب العوامل الدولية والإقليمية والسورية التي ألمعنا إليها.
المفاوضات النووية ستكون هو المحفز لهذه المجابهة. لكن معركة القلمون ستكون هي الوقود الذي قد يشعل إوار التفجير في لبنان، بسبب مايقال عن تدفق أعداد كبيرة من المسلحين السوريين إلى لبنان الذين سيكون هدفهم الأول، جنباً إلى جنب مع الأصوليين السنّة اللبنانيين، الانتقام من حزب الله عبر نقل المعارك إلى مناطقه. وهذا ماجعل بعض المراقبين اللبنانيين يذهبون إلى حد تشبيه العملية الانتحارية ضد السفارة الإيرانية بحادث بوسطة عين الرمانة العام 1975 الذي أشعل فتيل الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت زهاء 15 عاما.
الأمور لما تصل بعد إلى هذه المرحلة. لكنها قد تصل إليه إذا ما فشل مؤتمر جنيف-2 لحل الأزمة السورية في الانعقاد أو في التوصل إلى نتائج ملموسة في حال انعقاده، وبالطبع إذا ماعجزت المفاوضات النووية عن تهدئة نفوس المعارضين الإقليميين لها، وأيضاً إذا ماتبيّن أن القوى الإقليمية سترمي بكل ثقلها في معركة القلمون.
ففي هذه الحالة، ستخرج الأمور عن نطاق السيطرة في لبنان، وستنضم بيروت إلى دمشق وبغداد بصفتها كلها ضواحٍ ثلاث لعاصمة حرب إقليمة واحدة.
ويخشى الآن أن تكون العملية الانتحارية المزدوجة ضد السفارة الإيرانية، هو أول غيث مثل هذا التطور المأساوي الذي سيدفع لبنان ثمنه غاليا.
وقديماً قيل: حين يتصارع الفيلة، يكون العشب أول من يدفع الثمن.

سعد محيو




الجمعة، 15 نوفمبر 2013

3 سقطات "تاريخية" لحزب الله


- I -
هنري كيسنجر سجّل في كتابه الأهم "الدبلوماسية" ملاحظة مثيرة للأهتمام في فلسفة التاريخ.
قال:" ليس هناك في التاريخ طرف ساخر أكثر من هذا التاريخ نفسه. فهو يجعل من بطل اليوم خائن الغد، ومن خائن الأمس بطل اليوم"
آثار أقدام الأمثلة على صحة هذه المقولة تكاد لانتهي: من تحوّل الفيتناميين من أبطال المقاومة ضد الأميركيين بالأمس القريب إلى "أصدقائهم وحلفائهم" الودودين اليوم، على رغم المليون قتيل الذين سقطوا وهو لايدرون أن أبناءهم وأحفادهم سيكونون غداً "خونة" ومرتدين.
وهذا أيضاً ما حدث لعشرات ملايين الأوروبيين الذين قاتلوا وقتلوا من أجل رفع رايات القومية الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية، فإذا بورثة جيناتهم اليوم يلعنون الفكر القومي صباح مساء ويعتبرونه أساس البلاء الأوروبي.
حزب الله في سورية: السقطة الكبرى(الصورة من غوغل

ويبدو أن هذه اللعنة التاريخية بدأت تحيق بحزب الله اللبناني، وبسرعة قياسية لم يسبق لها مثيل، وعلى كل الجبهات أيضا.
فهذا الحزب الذي نشأ وترعرع وازدهر بوصفه حزب المقاومة ضد إسرائيل، تحوّل بعد حرب 2006 إلى ما يشبه حرس الحدود مع الدولة العبرية. فلا عمليات المقاومة استؤنفت لتحرير مزارع شبعا والقرى السبع المحتلة، ولا ممانعة برزت لوجود قطاعات عسكرية كبيرة من حلف الأطلسي (الذي يتزعمه الشيطان الأكبر الأميركي) في جنوب لبنان وفق منطوق القرار 1701.
الجنوب انضم الآن إلى الجولان بصفته أهدأ الجبهات العربية مع إسرائيل. صحيح أن حزب الله لايزال يصف نفسه بأنه حزب المقاومة، عبر اعتبارها عمل ردع نظري لا فعل اشتباك فعلي، إلا أن هذا التوصيف فقد جل زخمه ومعناه اللذين راكمهما منذ العام 1982.
ومن الجنوب إلى سورية، كان حزب الله يخطو الخطوة القاتلة الثانية في سيرورة التدمير الذاتي. إذ أنه بقتاله واسع النطاق إلى جانب نظام قاتل لشبعه (باعتراف حتى بعض قادة الحزب أنفسهم)، كان "يخون" ليس فقط تعريفه الاستراتيجي لنفسه كتيار مقاومة ضد إسرائيل، بل أيضاً تحديده الإديولوجي لذاته كقوة كربلائية لنصرة المظلومين على الظالمين. هذا بالطبع علاوة على أن هذا الانغماس على هذا النحو الدموي في الصراع السوري، قد أطلق كل شياطين الفتنة الكبرى-2 بين السنّة والشيعة من عقالها. وهكذا، تحوّل الحزب بين ليلة وضحاها من بطل المنطقة العربية الذي ترفع راياته في قلب أروقة جامع الأزهر السنّي، إلى "خائن" الأمة وإلى (مايسميه الأصوليون السنّة الآن) "حزب اللات أو الشيطان".
ثم جاءت ضربة كبرى أخرى موجعة حين وقف السيد حسن نصر الله قبل أيام ليدافع بقوة عن أي صفقة محتملة بين إيران وأميركا. وهو فعل ذلك انطلاقاً من تحليل سياسي بارد للمصالح الإيرانية لاعلاقة له من قريب أو بعيد ببنية الحزب الإديولوجية ولا بالطبع بتاريخ مواقفه المقاومة والممانعة ضد الولايات المتحدة. وهكذا سقطت بالنسبة إليه صفة الشيطان الأكبر عن أميركا، وباتت ممانعة السعوديين والأتراك لأميركا هي الخيانة بعينها. لا بل أصبحت حتى ممانعة الإسرائيليين ضد أميركا هي أيضاً خيانة بحد ذاتها.
- II -

لماذا تدهورت وضعية حزب الله على هذا النحو المفجع؟ وإلى أين من هنا؟
الاسباب تبدو معقدة وعديدة، لكن أهمها هي الهشاشة الفائقة للبنية الاستقلالية للحزب (مالياً وإديولوجياً وسياسياً)، الأمر الذي جعله كرة تتقاذفها الأمواج الإقليمية العاتية، فلا يعرف على أي أرض يجب أن يقف ولا إلى أي ميناء يجب أن تيمم سفينته وجهها.
أما السؤال إلى أين، فيمكن أحالته إلى قواعد الحزب التي ربما بدأت تتساءل الآن عن معاني المقاومة والممانعة، والثورة الحسينية ضد الظلم والظالمين، وحتى عن الشيطان الأكبر.
إنها صيغة التاريخ الكيسنجري وقد ارتدت أكثر أرديته سخرية، وسوداوية.
سعد محيو
__________________________


الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

مصر والديمقراطية وسخرية كارل ماركس



- I -
أكثر مايُقلق في تطورات مصر ليس فقط السرعة التي يُعيد بها النظام  الأمني- العسكري إعادة إنتاج نفسه بزخم غير مسبوق، بل أيضاً المناخ الشعبي والسياسي الذي يبدو أنه يرقص بحماسة على طبول هذه الولادة الجديدة للسلطوية.
وهذا يقلب الآن كل مقاييس ثورة يناير رأساً على عقب.
فالحرية، التي كانت أنشودة الملايين في ميدان التحرير وكانت وراء إطلاق سمة الربيع على هذه الثورة، غابت عن الأنظار وحلّت مكانها شعارات حصانة "الرموز" التي ليست شيئاَ آخر سوى القيادات العسكرية- السياسية الجديدة.
والديمقراطية، التي كان يجب أن تحل مكان السلطوية المباركية، باتت في عهدة محاكم عسكرية ومدنية تسلِّط سيف ديموقليطس القمع والرقابة فوق رؤوس الجميع.
والتوازن المفترض بين السلطتين العسكرية والمدنية سقط بالضربة القاضية، حين تحوّل زبانية أجهزة المخابرات فجأة إلى أبطال، وحين تم بسرعة خلق عبادة شخصية الجنرال عبد الفتاح السيسي، تارة عبر تشبيهه بجمال عبد الناصر، وتارة أخرى بطرحه كمنقذ أول من ضلال فوضى الأمن والأمان.
- II -
لماذا انتكست ثورة يناير على هذا النحو المفجع؟
الإخوان المسلمون يتحملون مسؤولية كبرى. فهم فهموا الديمقراطية بشكل مخطيء، حين قفزوا فوق حقيقة أن المراحل الانتقالية إلى الديمقراطية تتطلب إجماعاً وطنياً لاتفرداً في السلطة. وهم واصلوا التصرف كتنظيم سري منغلق على نفسه حتى وهم يسيطرون على كل مفاتيح السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما أن أداءهم الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي دلّ على فقدان ملحوظ للكفاءة وبُعد النظر.
الرئيس مرسي نفسه كان تتويجاً لكل هذه الموبقات، حين رفض بصلف كل النصائح العديدة التي قدمتها له مروحة واسعة من القيادات العربية والأجنبية بضرورة ممارسة استراتيجية شمول الجميع في المرحلة الانتقالية، من راشد الغنوشي ومحمد رجب أردوغان إلى أوباما وكاميرون وأولاند.
لكن، وبعد قول كل شيء عن مسؤولية الإخوان في نكسة الديمقراطية هذه، يتعيّن القول أن بديل الجماعة لم يكن تصويب مسيرة الديمقراطية عبر ثورة يناير ديمقراطية ثانية( كما تم تصوير أحداث 30 يناير)، بل تصويب المسدس إلى رأسها من خلال تسليم مقاليد الأمور ثانية (وبحماسة شديدة) إلى زبانية أجهزة المخابرات الذين كانوا قد تحولوا إلى طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وفق تعريف أنطونيو غرامشي، تمارس شتى أنواع النشاطات السياسة والاقتصادية والأمنية، وحتى الثقافية والفكرية.
أجل. المواطنون المصريون تعبوا من انهيار الأمن والأمان ويبحثون بالفعل، كما في جل التاريخ الإسلامي، عن منقذ و"مستبد عادل". لكن لم يكن هذا يستوجب بالضرورة تحويل رجال المخابرات إلى أبطال، لولا أن هذه النزعة تلقت حقنة دعم قوية في العضل من القوى اليسارية والليبرالية والديمقراطية، التي أعماها خوفها من الإخوان عن رؤية غابة الاستبداد التي تختفي الآن وراء شجرة البحث عن الأمن.
هذه القوى هي في الواقع المسؤول الأول عن نكسة ثورة يناير، تماماً كما أن جماعة الإخوان هي المسؤول الأول عن تعثُّر مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. وغداً حين يأتي وقت كتابة تاريخ ثورة يناير، سيقال حتماً أن الإخوان طعنوها في الظهر، لكن اليساريين والليبراليين نحروها من الوريد إلى الوريد، عبر الصفقة الفاوستية المُغرقة في انتهازيتها التي أبرموها مع النظام العسكري- الاستخباري، والتي سيدفعون ثمنها غالياً في وقت لاحق.
- III -

مصر إلى أين من هنا؟
إلى ماكان يصفه كارل ماركس بتكرار التاريخ لنفسه، أولاً بشكل درامي ثم بشكل كاريكاتوري.
الدراما الأولى تجسَّدت في النظام السلطوي الواضح الذي حكم مصر 61 سنة. أما الشكل الكاريكاتوري فسيظهر في النظام السلطوي الجديد الذي يولد الآن، والذي يحاكم بموجبه مغتصبو السلطة رئيساً منتخباً ديمقراطيا.. بتصفيق حماسي من الديمقراطيين.

سعد محيو

السبت، 2 نوفمبر 2013


كيف نخرج من الجحيم الأرضي؟

- I -
تساءلنا بالأمس: كيف الخروج من "الجحيم الأرضي"؟


ثمة طريقان: أحدهما مستحيل والآخر لامفر منه.
الطريق الأول هو الخلاص الفردي، أو القومي، أو حتى الإقليمي. وهو كان ممكناً في الماضي القريب والبعيد، لكنه بات مستحيلاً الأن بعد أن استحال العالم إلى ما يشبه خلية نحل واحدة. فالروابط بين التغيرات فيه بات متشابكة إلى الدرجة التي لم يعد في المقدور معها تمييز ماهو محلي فيه بما هو عالمي، وماهو فردي بما هو جماعي. وهذا على كل المستويات: الاقتصادية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والديموغرافية، والثقافية التي تحدد نمط وجودنا اليومي على هذا الكوكب.
والطريق الثاني، القائم على الخلاص العالمي الجماعي، لم يعد ثمة مفر منه ليس للأسباب أعلاه وحسب، بل أيضاً لأن نمط حياتنا اليومية سيقرر مصير الوجود البشري نفسه، وربما ديمومة الحياة نفسها على الأرض. وهنا نقصد بالطبع التأثّر المشترك لكل الدول والأمم والقارات بظاهرة تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض.
لكن، ما الشكل المُحتمل لهذا النوع من الخلاص؟
إنه ذاك الذي يستند إلى الإفادة من كل سقطات الجنس البشري، منذ بدء تأريخ الحضارات قبل عشرة آلاف سنة إلى "نهاية التاريخ" في القرن الحادي والعشرين.
وهي، بالمناسبة، سقطات مريعة.
فقد فشل معظم الحضارات في إقامة التوازن الدقيق والمطلوب بين المادة والروح، وبين المصالح والقيم، وبين الفردي والجماعي. وهذا انطبق على الحضارات الشرقية التي غلبّت كفة الروحانيات على المادة فخسرت في العصور الحديثة لعبة موازين القوى. كما انطبق على الحضارات الغربية التي تسربلت حتى النخاع بالنزعة المادية فخسرت روحها.
- II -

وما جرى على مستوى الحضارات، سرى على جبهة الإديولوجيات.
فـ"الاشتراكية العلمية"، التي علّق عليها الكثيرون كبير الآمال بأن تُنهي الحروب وتؤسس لنهاية تاريخ حقيقي، اسقطت من اعتبارها الجوانب الإيجابية في كلٍ من التجربة الرأسمالية ( الديمقراطية) والحضارات الشرقية (الروح)، فسقطت في لجج الديكتاتوريات على أنواعها.
والرأسمالية الليبرالية، وعلى رغم أنها نجحت في امتحان النمو الاقصادي والهيمنة (بدل السيطرة) الثقافية والفكرية، تسير الآن على الطريق نفسه الذي سبقته إليها الاشتراكية: ديكتاتورية السوق الأعمى والتدمير التدريجي للديمقراطية.
ثم جاءت السقطة المريعة الأخرى، حين حوّلت القوى الرأسمالية الثورة الكبرى في مجالي البيوتكنولوجيا وتقنية الاتصالات، إلى وسيلة  لإغناء الأغنياء وإفقار الفقراء. وهكذا قسمت العالم برمته إلى قسمين: قسم لايتجاوز عدده الستة آلاف شخص يقوم على خدمتهم 20 في المئة من المجتمع، ويسيطرون وحدهم على كل مفاتيح هذه التكنولوجيا واستهدافاتها. وفريق يشمل ثلاثة أرباع البشرية يتم طرحه الآن بوحشية على ناصية التاريخ.
وبالطبع، لايجب أن ننسى الكارثة البئيية التي ولدت أساساً في حضن فكر مادي بحت، يرى إلى الطبيعة بوصفها بقرة يجب تقطيع أوصالها، لا أمّاً رؤوم يتعيّن الحنو عليها والتأقلم مع قوانينها.
أضف إلى ذلك ما أشرنا إليه بالأمس من تحوّل كل الأديان من نزعات روحية- أخلاقية إلى إيديولوجيات مغلقة لا تستولد سوى الهويات القاتلة والحروب.
هذه هي المعاصي الكبرى التي وقع فيها الجنس البشري. وهي تتشابك الآن للمرة الأولى في التاريخ مع بعضها البعض لتشكل تهديداً مباشراً لوجود هذا الجنس نفسه.
ولكي نطرق طريق الخلاص، علينا أن نعمل معاً لنحل كل هذه الرزايا معاً، عبر الانتقال من "صراع البقاء" إلى "صراع النقاء".
 ماذا يعني ذلك؟
- III -

إنه يعني، ببساطة، أننا يجب أن نعيش "موسم الثورة العالمية".
الثورة على ماذا؟
على كل شيء، وفي كل شيء:
على ذاتنا البشرية، في المرتبة الأولى، التي آن لها أن تُغادر ذهنية صراع البقاء العنيف، هذا الصراع الذي حوّل تاريخ الإنسان إلى سجل جرائم متصلة، بعد أن انتفت الحاجة إليه. البشر لازالوا يعتقدون أنهم يعيشون في العصر الحجري حيث الحيوانات الضارية والمفترسة، والبرد أو الحر القاتلين، والندرة في المأكل والمشرب. وهذا مايدفعهم إلى وضع  صراع البقاء أو البقاء للأصلح (Survival of the fittest) على رأس جدول أعمالهم.
الظروف الخارجية تغيّرت كلياً، لكن الساعات البيولوجية لأدمغتنا لاتزال متوقفة عند السنة المليون قبل الميلاد. هذا بالطبع عدا قلة قليلة كانت هي الناجية من هذا الجحيم الأرضي، لأنها اكتشفت أنه لايتعيّن عليها لكي تحصل على الخبز والسعادة أن تخوض الحروب الضروس، أو تنغمس في لجج الأحقاد الاجتماعية القاتلة.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية، قج تكون الأهم، هي ضرورة تشكيل كتلة تاريخية كبرى جديدة تمهد الطريق أمام "أرض جديدة" و "حياة جديدة" و"مجتمع إنساني جديد"، ويتم في إطارها الخروج من "جهنم" إلى "الجنة". أي:
- من الصراعات والقتل الجماعي والدمار إلى السلام والتضامن والتعاون؛
-  ومن إعلان الحرب على أمنا الطبيعة  إلى عودة الاندماج معها والاتصال الوثيق بها؛
 - ومن تسييد نزعة التنافس الضاري والاستهلاك المنفلت من عقاله والنمو الاقتصادي المدمر لتوازنات البيئة، إلى مجتمع التعاون ووضع النمو في خدمة البيئة لا العكس، والمساواة وسد الفجوة الهائلة من القلة الغنية والكثرة المفقرة؛
- ومن الفلسفة المادية الفردية القاتلة لكل روح، إلى فلسفة وحدة الوجود التي تعيد تصويب مسار الحضارة الإنسانية وتضع البشر في موقعهم الطبيعي كجزء بسيط، مجرد جزء بسيط، من وجود حيث الكل فيها واحد، والجزء موجود في الكل والكل موجود في كل جزء. وهذا مايسمى الآن في العلوم الفيزيائية الحديثة " الكون الهولوغرامي".
- ومن عولمة الرأسمالية المتوحشة إلى عولمة إنسانية جديدة، اشتراكية وديمقراطية في آن.
من هم المرشحون لهذه الكتلة التاريخية؟
إنهم كل الأطراف التي ترفض النظام العالمي الراهن، والفلسفة المادية الحالية، وتدعو إلى إنقاذ الحياة على كوكب الأرض من الأنقراض. وهي تشمل: الحركات البيئة والإيكولوجية، والمنظمات الاشتراكية الديمقراطية الجديدة خاصة في أميركا اللاتينية، وحركات السلام، وأنصار "الأرض الجديدة" الداعين إلى بناء وعي إنساني جديد ومتجاوز، والعلماء الرافضين لنظرية النمو الرأسمالية ولتحويل هذه الأخيرة التكنولوجيا والعلم إلى أداة لأخطر قسمة في التاريخ البشري بين "جنس جديد" متجاوز للإنسان بفعل زواج البيولوجيا والتكنولوجيا وبين غالبية البشر، وأنصار الفلسفات الشرقية والحركات الصوفية النقية الداعين إلى وقف الانقسام المدمر (في العقل البشري) بين المادة والروح.
توحُّد هؤلاء في مشروع حضاري جديدة، وحده القادر على إنقاذ الجنس البشري من الانقراض، أو على الأقل إخراجه من أتون الجنون الجماعي الراهن الذي يعيشه حاليا.
لكن، هل هذه الكتلة قابلة للولادة حقا؟
حسنا. في القرن الماضي كان الكثير من المفكرين اليساريين يرفعون الشعار: إما الاشتراكية أو البربرية. لكن الآن بات الشعار أكثر خطورة بكثير: إما "الأرض الجديدة" او الحضارة الجديدة، أو الانقراض.
وعلى البشر أن يختاروا الآن، وبسرعة.


سعد محيو

الجمعة، 1 نوفمبر 2013

كيف "تآمروا" على الله؟!


- I -
التقرير في صحيفة "النهار" اليوم للزميلة هالة حمصي كان موجزاً للغاية لكنه بليغ للغاية أيضا: انفجار صراع شرس على كل السطوح بين الكنائس الأرثوذكسية في روسيا والقلسطنطينية واليونان والقدس، مايهدد بنسف المجمع المسكوني الأورثوذكسي الكبير المتوقع وبقطع "الشراكة" بين هذه الكنائس.
جهنم كما يتخيلها الانسان( اللوحة من غوغل

سبب الخلافات: صراع على نفوذ التبشير في الصين واليابان والقارة الأميركية، ورغبة الرئيس الروسي بوتين الواضحة في تحويل المسيحية الأورثوذكسية إلى أداة رئيسة من أدوات السياسة الخارجية الروسية الجديدة.
قبل هذا التقرير وبعده، كان المطارنة والآباء الموارنة في لبنان يدأبون على نشر بيانات شهرية تعج بكل المواقف السياسية الممكنة، ويختفي منها أي أثر لله أو الروحانيات أو أخلاقيات سلم المسيح. ويذكر كاتب هذه السطور أنه أمضى مع الزميلة جمانة نمور زهاء أربع ساعات في حوار تلفزيوني لم يبث مع بشارة الراعي حين كان مطراناً قبل أن يصبح بطريركاً، قلنا له في نهايته:" هل انتبهت إلى شيء يا مولانا؟ طيلة هذه الساعات الأربع كنا نحن نسأل عن فلسفة الوجود والحياة والمعنى الروحاني للدين، وكنت أنت لاتتحدث إلا عن السياسة".
وقل الأمر نفسه عن معظم الباباوات الذين تعاقبوا على الفاتيكان كورثة للرسول بطرس الذي قيل أنه الصخرة التي أراد يسوع بناء كنيسته (الروحية) عليها، فلم يفعلوا شيئاً سوى قيادة الحروب بأنفسهم والدعوة إلى "قتل الأعداء بمحبة".

II - -
لماذا هذا الحديث الأن عن تسييس المسيحية، فيما العالم بأسره يرتعد خوفاً من تسييس الأسلام وتحويله على يد الجهاديين إلى عبوة ناسفة ضخمة تزنر نصف كوكب الأرض؟
لتقرير حقيقة مشتركة غالباً ما يتم تناسيها: كل الأديان المعاصرة، بما فيها التوحيدية والبوذية والتاوية والهندوكية، تحوّلت من ومضات أخلاقية وروحية تبغي، كما أراد رسلها وفلاسفتها،  الارتقاء بالوعي البشري من صراع البقاء إلى صراع النقاء، إلى إديولوجيات مغلقة تبني هويات قاتلة ونفوس مريضة وتعصب أعمى.
الهدف التاريخي الأول المعلن للأديان كان تعريف الإنسان على الله الذي يُفترض أنه خلقه على صورته، لكن قيمها ومعانيها وأبعادها تدهورت بعد رحيل مؤسسيها إلى درجة أنها قلبت الصورة رأساً على عقب فجعلت الله على صورة الإنسان، وباتت المشيئة الإلهية في خدمة أمة بعنيها (كما لدى اليهود) أو طوائف بعينها وحدها الناجية من النار (كما لدى الطوائف المسيحية والإسلامية) أو رهباناً متعصبين ضد "الآخر" (كما لدى البوذيين) أو حتى شخص واحد بعينه (حيث يريد أن يوظف الله في كل مصالحه).
الإديولوجيا المنغلقة والقاتلة أصبحت هي الحاكم سعيداً لدى كل التيارات الدينية، حتى تلك التي تدعو إلى الحوار والتسامح. لماذا؟ لأن لاهوتها سار تاريخياً على الطريق الخطأ: بدلاً من العمل على جعل وحدة الله والوجود مدخلاً لوحدة البشر وتضامنهم وتآخيهم، حوّلت الآخر إلى كافر، أو مرتد، أو إحالت أوراقه (في حال ساد التسامح) إلى الله في الأخرة علماً أنه سيكون حتماً في جهنم إذا لم يتعمد (عند المسيحيين)،  أو ينطق بالشهادتين (عند المسلمين) ، أو يقر بوضع الله في خدمة الشعب المختار (كما عند اليهود).
لكن، لماذا انقلبت الأديان من حركات روحية- أخلاقية إلى تيارات إديولوجية مقفلة ومدمرة، على رغم ادعائها بأنها تدعو إلى إله واحد مُحب للجميع وراعٍ للجميع؟
احتكار معرفة الحقيقة المطلقة الوحيدة سبب. تشويه التعاليم الرئيسة بعد رحيل "المعلِّم" وفق المصالح والأهواء، سبب ثان. لكن يبقى أن السبب الرئيس هو أن الجنس البشري في مغامرته الوجودية الكبرى لم يستطع بعد بناء وعي جديد متعدد الأوجه يتجاوز فيه مرحلة صراع البقاء أو البقاء للأصلح والأقوى الدارويني المستند إلى الأنا الأنانية ( Ego) إلى مرحلة المصالحة الكبرى مع الذات والآخر والبيئة والطبيعة ووحدة الوجود.
الإنسان كان ولايزال في حالة حرب مع نفسه، حتى وهو في ذورة اندفاعه لخدمة هذه الذات عبر السيطرة والهيمنة ومراكمة السلطة والثروة. لكنه سرعان مايكتشف بعد حين أن الثروة لاتتضمن الخلود، وأن السلطة والشراهة لا تضمنان السعادة بل تؤديان على العكس إلى أمراض نفسية عضال، كما عرف هتلر وستالين وبول بوت والقذافي وشارون، وكما يعرف الآن بشار الأسد.
لو أن تاريخ البشرية يمكن أن يتجسد في تاريخ إنسان واحد، لكان التشخيص كالتالي: أوهام ارتيابية حادة (تتكرس في الإديولوجيات والهويات القاتلة)، ومنحى قوي لارتكاب الجرائم والعنف والقسوة المتطرفين ضد من يعتبرون "الأعداء" الذين هم ليسوا شيئاً آخر سوى عقل الإنسان الباطن وقد تجسد في الخارج".
III - -
أنها حقاً جهنم إنسانية على الأرض. لكن كيف الخروج منها؟

(غداً نتابع)
سعد محيو