للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الخميس، 26 مارس 2015

الصفقة الإيرانية- الأميركية على "نار يمنية" حامية





جهود إدارة أوباما الضخمة لتحصين الصفقة الكبرى المحتملة مع إيران، بالكاد خرجت مؤخراً (وإن مؤقتا) من خروم إبر حملات الليكوديين الإسرائيليين والجمهوريين الأميركيين عليها. فهل تنجح الآن في الخروج من عنق زجاجة الحرب الخطيرة التي اندلعت في اليمن فجر يوم الخميس 26 مارس /آذار الحالي؟
السؤال يبدو مبررأ لأسباب عدة:
فالغارات الجوية الكثيفة التي شنها سلاح الجو السعودي، بدعم من تحالف ضم تسع دول أخرى كما أعلنت الرياض من دون أن تحدد هذه الدول، والتي دمّرت على مايبدو معظم القواعد والمطارات الجوية التابعة للقوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح والحوثيين، ستكون بداية لحرب أوسع. فالحوثيون هددوا بنقل الحرب إلى الأراضي السعودية، كما فعلوا حين خاضوا مع مملكة الوهابيين حرباً محدودة دامت بضعة أشهر العام 2009 كبّدوا خلالها القوات السعودية نحو 140 قتيلا. والسعوديون، على لسان سفيرهم في واشنطن عادل الجبير، أعلنوا أنهم لن يوقفوا العمليات العسكرية إلا بعد استعادة السلطة الشرعية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي.
وفي الوقت نفسه، كانت مصر تعلن دعمها للعمليات السعودية و"استعدادها لإرسال قوات بحرية وبرية وجوية لقتال الحوثيين إذا تطلب الأمر". هذا في حين تواترت أنباء عن أن باكستان والأردن والمغرب ربما تشارك أيضاً في هذه العمليات. وعلى رغم أن الولايات المتحدة لم تنضم الغارات، إلا أن البيت الأبيض أكد دعمه لها وأعلن أن الرئيس أوباما أمر بمنح التحالف الجديد "دعماً استخبارياً ولوجستيا".
سنّة وشيعة..
ماذا يعني هذا التحالف الجديد وإلى أين يمكن أن تؤدي هذه الحرب الجديدة؟
يجب الالتفات، باديء ذي بدء، إلى أن هذا التحالف سيضم القوى السنيّة الرئيسة في المنطقة، وسيواجه في الدرجة الأولى النفوذ الشيعي الإيراني الذي يقف بقوة وراء الحركة الحوثية التي اجتاحت معظم مناطق اليمن مؤخرا. وهذا يعني أن الحرب الباردة المستترة بين السنّة والشيعة، والتي تتمثّل في الجولات القتالية المتنقلة بين العراق وسورية ولبنان، قد تدخل مرحلة جديدة تنغمس فيها الدول المعنية، خاصة المملكة السعودية، في لجج حرب مباشرة.
وفي المقابل، ستكون إيران في وضح حرج للغاية. فهي ستتجنب على الأرجح التورط مباشرة إلى جانب حلفائها الحوثيين في الحرب الجديدة في اليمن، لكنها لن تكون قادرة على تركهم يواجهون مصيرهم منفردين في وجه هذا التحالف السنّي الكبير، لأن ذلك سيفقدها مصداقيتها لدى بقية حلفائها في المنطقة، من جهة، ولأن ذلك سيضعف إلى حد كبير مواقعها التفاوضية العامة مع واشنطن، من جهة أخرى.
وكل هذا من شأنه خلق أوضاع غاية في التوتر في المنطقة ككل، خاصة إذا ما قرر هذا التحالف السنّي الجديد تمديد "هجومه المعاكس" ضد إيران إلى سورية ولبنان. إذ أن ذلك قد يحوّل حرب اليمن إلى حرب إقليمية شاملة في الشرق الأوسط ربما تشارك بها إسرائيل.
حتى الآن، لما تصل الأمور إلى هذه المرحلة الخطرة. لكنها ستقترب منها بقوة إذا ما قررت أطراف الصراع الإقليمي رمي كل أوراقهم على الطاولة. وفي هذه  الحالة، لن تكون تطورات اليمن سوى جزء من لعبة شطرنج أكبر بكثير، هدفها الرئيس التحكّم، أو محاولة التحكّم، بتوجهات سياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، بوصف هذه الأخيرة القوى العظمى الوحيدة  التي لاتزال تُمسك وحدها معظم مصائر دول المنطقة، ومعها مصير النظام الإقليمي الشرق أوسطي العتيد.
بكلمات أوضح: سيكون الهدف الأول لهذه الحرب المفترضة، من جانب السعوديين وحلفائهم، تقويض (أو على الأقل تعقيد) الصفقة الكبرى الأميركية- الإيرانية، من خلال إجبار واشنطن على الانحياز علناً إلى جانب "أصدقائها القدماء" في الشرق الأوسط، ماسيترك مضاعفات سيئة على المفاوضات حيال هذه الصفقة، كما على الداخل الإيراني. هذا في حين قد تعمد إيران إلى استخدام هذه الحرب نفسها لإبلاغ واشنطن بأنها القوة الأكثر تأثيراً على لعبة الحرب والسلام في المنطقة، وبالتالي السماح لها أميركياً بممارسة "الدور الأمبراطوري ( الإقليمي) الذي تحدث عنه مؤخراً أحد مستشاري الرئيس روحاني، كجزء من الصفقة النووية.
أكبر من اليمن
كما يتضح من هذه المعطيات، التطورات المحتملة في اليمن مفتوحة على احتمالات ضخمة تتجاوز بكثير مصير الصراع على السلطة في هذه الدولة التي تعتبر من أفقر الدول في العالم. فالأزمة الجديدة قد تكون الصاعق الذي  سيحوّل الاستقطابات الحالية الحادة السعودية- الإيرانية، والسنّية- الشيعية، إلى حريق إقليمي خطير يفوق بكثير الحرائق الأخرى الآن المندلعة على قدم وساق على الأرضين السورية والعراقية (وربما قريباً اللبنانية).
وحينها سيكون التساؤل محقاً حول ما إذا كانت الصفقة الكبرى المحتملة بين أميركا وإيران، ستكون قادرة على الصمود أم لا. حينها أيضا، سيكون الجمهوريون الأميركيون والليكوديون الإسرائيليون أكثر من جاهزين لمحاولة تحقيق ماعجزوا عن تحقيقه في الجولة الأولى من معركتهم ضد هذه الصفقة، عبر جر إدارة أوباما إلى المعركة إلى جانب حلفائها التقليديين ضد إيران.

سعد محيو- بيروت


الثلاثاء، 3 مارس 2015

نتنياهو وإيران: مصير الصهيونية برمته على المحك



(ينشر هذا المقال اليوم في موقع سويس انفو)

بنيامين نتنياهو على حق: زيارته الأخيرة إلى واشنطن وخطابه أمام مجلسي الكونغرس الاميركي، كانا  بحق "مصيريين وتاريخيين" وفق كل المعايير.
هما مصيريان، لأنهما دشنا معركة سياسية ضخمة بين الليكوديين الإسرائيليين والجمهوريين الأميركيين (شبّهها جون كيري بـ"مباراة كرة قدم سياسية كبرى") حول الاتفاق النووي مع إيران. معركة ينتظر أ ستستخدم فيها كل أنواع الاسلحة الفتاكة الاعلامية والاديولوجية وحنى الدينية.
خطاب نتنياهو أعلن رسمياً بدء هذه المعركة. لكن مجلس الشيوخ الجمهوري كان سبقه إلى تدشين هذه الحرب، حين صادق على مشروع قانون يتيح للكزنغرس "مراجعة أي إتفاق" مع إيران في غضون خمسة أيام من إبرامه. كما يمنع أوباما من إلغاء أو تجميد العقوبات التي أجازها الكونغرس على طهران لمدة ستين يوماً بعد التوصل إلى اتفاق. وكل هذه إجراءات رفضها الرئيس أوباما وأكد أنه سيستخدم حق النقض (الفتيو) ضدها. ثم أتبع ذلك بنشر مقابلة مع وكالة رويترز، عشية خطاب نتنياهو، شن فيها حملة عنيفة على هذا الأخير واتهمه بتجاوز البروتوكول بين الدول وباستخدام خطابه لخدمة معركته الانتخابية داخل إسرائيل.
أما تاريخية الزيارة والخطاب، فيكمنان في مكان بعيد يبتعد كثيراً عن "الحياة اليومية" للشرق الأوسط الراهن، ويتعلقان بالبون الذي بات شاسعاً بين إسرائيل والولايات المتحدة (أو على الأقل بين الليكوديين والبيت الابيض الديمقراطي) حيال هذا الاتفاق.
فإسرائيل تخشى أن تؤدي الصفقة النووية إلى مجرد تأجيل حصول إيران على القنبلة النووية، مع إسباغ الشرعية الدولية على برنامجها النووي. وهذا سيقود في نهاية المطاف إلى كسر احتكار إسرائيل لسلاح يوم الآخرة (يقال أنها تملك 300 قنبلة نووية "في القبو") في الشرق الأوسط، وبالتالي إلى سقوط خط الدفاع العسكري الأخير عن الدولة العبرية. هذا في حين أن الولايات المتحدة لايهمها كثيراً في الواقع حتى لو امتلكت إيران للقنبلة، لانها قادرة في أية مجابهة على محو إيران عن وجه البسيطة في غضون 20 دقيقة لا أكثر.
مابعد النووي
البُعد النووي من الصراع موجود إذا. لكنه ليس في الواقع كل شيء. ماوراء هذا البُعد هو الأهم.
كيف؟
هنا، يقفز أمام أعيننا مباشرة المشهد التاريخي بجلاء. فتل أبيب تدرك أن إدارة أوباما تريد إبرام الاتفاق  بأي ثمن، ليس فقط لأن أول رئيس أميركي إفريقي يريد أن يختم ولايته بإنجاز دبلوماسي كبير في السياسة الخارجية، يقارع الانجاز الذي حققه الرئيس نيكسون في الستينيات حين أخرج الصين من الفلك الشيوعي وضمها بالتدريج إلى المملكة الرأسمالية، بل أولاً وأساساً لأن المؤسسة الاميركية تريد أن تكون الصفقة مع إيران بداية تحوّل استراتيجي كبير لتوجهاتها في الشرق الاوسط وقارة أوراسيا.
محور هذا التغيير: إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، بحيث تتمكن الولايات المتحدة من تخفيف أعبائها ومسؤولياتها فيها من دون المس بمصالحها الأساسية، ثم لنقل مركز الثقل في نشاطاتها إلى منطقة آسيا- الباسيفيك التي باتت عملياً، المركز التجاري والاقتصادي والعسكري الأول في العالم بدل أوروبا، وذلك للمرة الأولى منذ خمسة قرون.
وهذا يتطلب، من ضمن مايتطلب، الاعتراف بالادوار الإقليمية للعناصر الرئيسة في هذه المنطقة، والتي شكّلت كل أنظمة الشرق الأوسط السابقة في التاريخ: الإيرانيون والأتراك والعرب، وفي الدرجة الثانية اليهود والاكراد والمسيحيون وباقي الاقليات.
لكن هذا بالتحديد ماتخشاه إسرائيل، لأنه سيعني ببساطة تقويض النظام الإقليمي السابق الذي أقيم غداة الهزيمة العربية في حرب 1967، والذي رسّخ السيطرة شبه المطلقة لإسرائيل على نظام الشرق الأوسط برعاية أميركية ومباركة (آنذاك) من تركيا الاتاتوركية التي كانت تدير الظهر لكل ماهو شرقي، ومن إيران الشاهنشاهية التي قبلت أن تصدر قواعد نفوذها الإقليمي من تل أبيب وواشنطن، ومن مصر الساداتية التي وافقت على الانكفاء بعد معاهدة كامب ديفيد 1979 لصالح الهيمنة الإسرائيلية.

كل هذا الصرح، النووي والاستراتيجي، سيكون عرضة إلى الانهيار، في حال تم التوصل أواخر هذا الشهر إلى اتفاق بين القوى الخمس زائد واحد وبين إيران، ما سيؤدي في الواقع إلى تسديد ضربات قد تكون قاتلة للمشروع الإسرائيلي في حلّته الصهيونية، الذي استند بقضه وقضيضه إلى فكرة تفرّد الدولة العبرية بالتفوق العسكري والاستراتيجي والاقتصادي الاسرائيلي المطلق، في إطار "امبراطورية" حقيقية تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.
وهذا ما قد يفسِّر جانباً من الهستيريا الحقيقية التي تنتاب العديد من الدوائر الحاكمة في إسرائيل. فما هو على المحك لايقل عن كونه تغيير كل البنية الاستراتيجية التي انبثق من ثناياها جل مشروع الدولة اليهودية العام 1948، لكن بخاصة العام 1967. كما أنه يفسّر أسباب عدم قدرة النخبة الحاكمة الاسرائيلية على ابتلاع فكرة الجلوس إلى طاولة واحدة على قدم المساواة مع القوى الإقليمية الإيرانية والتركية، التي تطالب الآن بحصة واضحة من الكعكة الشرق أوسطية. إذ أن ذلك سيقلص حجم الدولة العبرية إلى مجرد قزم ديموغرافي وسط عمالقة إقليميين.
إلى أين؟
لكن، ما آفاق هذه المعركة الكبرى؟
الاعتبارات كثيرة هنا، ومعها الأسئلة المحورية:
-       هل المؤسسة الاميركية منقسمة بشكل حاد بالفعل حيال مسألة إعادة ترتيب نظام الشرق الاوسط لتسهيل الانطلاقة الجديدة في رحاب آسيا- الباسيفيك، أم أن هذه مجرد مناورات جمهورية لاستعادة البيت الأبيض من الديمقراطيين؟. بكلمات أوضح: هل سيعمل أي رئيس جمهوري جديد على بث الروح مجددا في النظام الاقليمي الإسرائيلي – الاميركي، وإدارة الظهر للقوى الإقليمية الجديدة الصاعدة، على رغم أن ذلك قد يكلّف الولايات المتحدة غالياً ويضعها عملياً في مواجهة عالم إسلامي سبق لزبغنيو بريجينسكي أن حذّر (في كتابه "رؤية استراتيجية جديدة") من أنه قد يقوّض الزعامة الاميركية في العالم؟
-       وهل النخبة الإسرائيلية، بيمينها ويسارها، موحّدة حقاً وراء معركة "كسر العظم" التي يخوضها نتنياهو مع إدارة أوباما، أم أن تردد أجهزة المخابرات الإسرائيلية في دعم هذا الاخير مؤشر على وجود اتجاهات واقعية ما بينها؟
-       ثم: أين الحرس الثوري والقوى الإديولوجية الإيرانية المتطرفة من آفاق الصفقة المحتملة مع الغرب. هل سيقبل هؤلاء الثمن المؤكد الذي يجب أن يدفعونه مقابلها، وهو التخلي عن الثورة لصالح الدولة، وعن القرآن والإديولوجيا لصالح السوق الرأسمالي العالمي؟
هذه الأسئلة، وربما غيرها الكثير، ستطل برأسها خلال الايام والأسابيع القليلة المقبلة، وستكون إطلالتها حادة لأن ماهو في الميزان مصيري بالفعل، وتاريخي بالفعل، وسيعيد تركيب بنية الشرق الأوسط برمتها.


سعد محيو- بيروت