للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الخميس، 28 أبريل 2016

القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟



(الحلقة الأولى)




    - I
لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية والجيوسياسية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي.
هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
وهنا، تكفي نظرة واحدة إلى مجريات الأحداث في دول هذا العالم لإدراك كنه وطبيعة هذه الحرب:
فتركيا، وبعد أن بدا للجميع أن ثورة أتاتورك حسمت مسـألة الهوية فيها، عبر تكريس القومية التركية العلمانية، عادت الآن 100 سنة إلى الوراء للبحث عن هوية أخرى. وهذا مايجعل النقاشات الساخنة الحالية حول الدستور الجديد في البرلمان والإعلام والدوائر السياسية خطرة للغاية ودقيقة للغاية، تتراقص في خضمها بلاد العثمانيين والسلاجقة على شفير حرب أهلية في الداخل، وحروب بالواسطة في الخارج.
وإيران، وعلى  رغم صمود نظامها الاسلامي في وجه أعاصير عاتية إقليمية ودولية ومحلية طيلة 37 سنة، لاتزال ممزّقة بين أحلام  ثورة إسلامية عالمية عجزت هي عن استيلادها، وبين كوابيس دولة- أمة قومية إيرانية، وفق المعايير الوستفالية،  ترفض أن تموت. والحصيلة: بروز دولة إقليمية استراتيجية غير مستقرة في الخارج ومعلّقة في الهواء على نحو خطر، وتتأرجح دوماً في الداخل على شفير نزاعات إيديولوجية عنيفة بين نزعة قومية صفوية،  وبين اندفاعة علوية (من علي بن أبي طالب) إسلامية.
في مصر والسعودية وتونس والمغرب والجزائر، وبقية الدول العربية، لا أحد يعلم "أي إسلام يريد"، بفعل الاستقطاب الحاد بين جملة كاملة من "الاسلامات": الوهابية، والسلفية الجهادية، والسلفية العلمية، والإخوان المسلمين البناويين (من حسن البنا) والأخوان المسلمين القطبيين (من سيد قطب)، والقاعدة وداعش، وإسلام الأزهر ودور الإفتاء الرسمية، والإسلام الصوفي.. ألخ.
وكل هذه الأنواع من الإسلامات المدوّخة، تشتبك في صراعات لا بوصلة فيها ولا محكمة مرجعية واحدة تلجأ إليها، مايجعل الصدام بينها طريقاً ذا إتجاه واحد يقود إلى لاجدوى جهنمية.
وبالطبع، لا يجب أن ننسى الحروب المأساوية المخيفة في سورية والعراق، والتي تذكّر ليس فقط بـ"الفتنة الكبرى-2) بين السنّة والشيعة، بل أولاً وقبل كل شيء بالأبعاد الجيوسياسية الإقليمية والدولية لحالة الحرب العامة في العالم الإسلامي.
-  - II
هل ثمة مشابهات ما في التاريخ العالمي لما يحدث الآن في القارة الإسلامية؟
أجل.
 لنقرأ معاً التوصيف التالي:
"إنها منطقة يُمزِّقها الصراع المذهبي بين تقاليد واجتهادات متنافسة في الدين نفسه. لكن الصراع يجري أيضاً بين المعتدلين والمتطرفين، وتُغذيه القوى الإقليمية المجاورة (والقوى الدولية) التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الخاصة وزيادة نفوذها. النزاعات تحدث بين دول المنطقة وفي كل دولة، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحروب الأهلية وبين الحروب بالواسطة، وبين الصراعات الدولية والاقليمية. ولذا فهو أيضاً صراع ديني يختلط بشدة بالتنافسات الجيو- سياسية التي تُفقد الحكومات السيطرة على المجموعات الصغيرة- الميليشيات ومثيلاتها- العاملة داخل الدولة وعبر الحدود، وتغيّر كل الخرائط السياسية. إن الخسائر في الأرواح هائلة وتكاد تبيد نصف سكان المنطقة، وكذلك الأضرار مخيفة على الصعد البيئية والاقتصادية والاجتماعية. الفظائع الإنسانية مروّعة، والملايين باتوا بلا مأوى".
هذا كان وصفٌ ليس لمنطقة الشرق العربي- الاسلامي الأوسط في القرن الحادي والعشرين، بل لأوروبا في القرن السابع عشر، في ما اتُفق على تسميته "حرب الثلاثين عاما" والتي يُجمع المحللون الغربيون على أن ماضي أوروبا بات بالفعل حاضر الشرق العربي- الاسلامي الأوسط الذي يعاين الآن حرب ثلاثين سنة مدمرة مماثلة.
          الحرب الأوروبية بدأت العام 1618 حين حاول فيرديناند الثاني ملك بوهيميا، الذي أَصبح لاحقاً امبراطور الامبرطورية الرومانية المقدسة اللاحق، فرض العقيدة الكاثوليكية المُطلقة على مناطق حكمه، فتمرد عليه النبلاء البروتستانت في كل من بوهيميا والنمسا. كان الاصلاح الديني قد بدأ في ألمانيا العام 1517 مع مارتن لوثر، فعمد العديد من أمراء الامبراطورية (التي كانت لها هيكلية شبه اقطاعية) إلى دعم القضية البروتستانتية.
 شرارة الحرب انطلقت حين قام المتمردون البوهيميون برمي ثلاثة من ممثلي الامبراطور الكاثوليكي من النافذة (ليسقطوا في حاوية روث على ماقيل)، في ما عُرِف في التاريخ بـ" حادثة براغ للرمي من النافذة". وبعدها سرعان ما انتشرت الحرب في كل القارة، من بحر البلطيق إلى البحر المتوسط، لتشمل كل القوى الكبرى في أوروبا تقريباً التي اعتقدت أنه سنحت الفرص لغزو البلدان المجاورة، أو أنها جُرّت إلى النزاع بسبب تعرُّضها إلى غزو أراضيها. ويعتبر المؤرخون أن هذه الحرب كانت الأكثر دماراً في التاريخ الأوروبي، حيث تم تدمير ونهب وإحراق مدن وقرى وبلدات بأسرها على يد المرتزقة الذين قاتلوا خدمة لقوى مختلفة، ودمروا عملياً كل القارة الأوروبية. مابين 30 إلى 40 بالمئة من سكان ألمانيا أُبيدوا، والتهجير والتنظيف الطائفي والعرقي طال ملايين البشر، والنسيج الاجتماعي تمزّق بعنف ووحشية، ومعظم البنى الاقتصادية والتحتية دُمِّرت.
لكن خطوط المعركة لم ترسم فقط وفق خطوط دينية. ففرنسا الكاثوليكية موّلت الغزو البروتستانتي السويدي، ثم عمدت لاحقاً إلى الانضمام إلى الحرب مباشرة، لأنها كانت تخشى أن يؤدي انتصار كاثوليك الامبراطورية الرومانية وإسبانيا إلى تطويقها جيوسياسيا. كما أن بعض الامراء البروتستانت حاربوا في البداية إلى جانب الامبراطور (كان البروتستانت منقسمين إلى لوثريين وكالفانيين). العديد من المشاركين في الحرب كانت لهم مطامع في الأراضي، فالسويد أرادت السيطرة على  منطقة البلطيق، فيما استخدمت فرنسا الحرب للسيطرة على الألزاس واللورين، وهما منتطقتان تسببتا بالكثير من النزاعات في القرنين 19 و20. كما شكّلت الحرب جزءا ً من حرب أطول دامت 80 عاماً بين إسبانيا ومقاطعتها السابقة هولندا.
حرب الثلاثين عاماً انتهت بسلسلة من المعاهدات التي وقعت في العام 1648 وعرفت بسلام وستفاليا، الذي أقام نظاماً سياسياً جديداً في أوروبا في شكل دول ذات سيادة متعايشة مع بعضها البعض على أساس: السيادة، واحترام وحدة الأراضي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. هذا السلام لم يكرّس حرية الانتماء الديني ولا حرية المعتقد، بل منع كل دولة أو فئة من فرض دينها على الآخرين، وأسس لبروز سيادة الدولة- الأمة.
صحيح أن سلام وستفاليا خُرِقَ مراراً، لكن جرى الاحتفاظ بمبادئه التي قام على أساسها النظام العالمي حتى القرن الحادي والعشرين.
III-  -
مقارنة حرب الثلاثين عاماً الاوروبية مع حروب المشرق الراهنة، جاءت في تموز/يوليو 2014 من ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في مقال بعنوان "حرب الثلاثين عاما"، شدّد فيه على أن الشرق العربي- الاسلامي الأوسط سيشهد مصيراً مماثلاً لمصير أوروبا، "ما لميبرز إلى الوجود نظام إقليمي محلي جديد". قال: "من الآن وحتى مستقبل منظور، وإلى أن يبرز نظام إقليمي محلي جديد أو يحل الانهاك بين الأطراف المتصارعة، فإن الشرق العربي- الاسلامي الأوسط لن يكون مشكلة تحتاج إلى حل، بل وضعاً يجب إدارته".
هنري كيسينجر أيضاً طرح المقاربة نفسها. ففي خطاب له العام 2013 أمام كلية فورد :" ما يحدث الآن في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط، شبيه بما حدث في حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حين واصلت مختلف الفصائل المسيحية الفتك وإبادة بعضها البعض، إلى أن قررت أخيراً أن عليها أن تعيش مع بعضها البعض، ولكن في وحدات منفصلة".
لكن، هل هذا التشبيهات في محلها؟
(غدا نتابع)
سعد محيو



الثلاثاء، 26 أبريل 2016

هل ينجح "الميجي" محمد بن سلمان؟



- - 1
سمتان تاريخيتان أساسيتان للثورة التغييرية التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان:
الأولى، أنها قلبت رأساً على عقب عقداً اجتماعياً دام نحو مئة سنة، تمت فيه مقايضة الولاء السياسي للنظام بالضمانات والعطايا الاجتماعية للشعب. وهذا تم عبر "رؤية المملكة العربية السعودية 2030" التي تتحدث بوضوح عن نقل موتور الاقتصاد من القطاع العام، الذي تعمل فيه معظم قطاعات المجتمع السعودي، إلى القطاع الخاص الذي يجب أن ترتفع حصته من الناتج المحلي الاجمالي إلى 60 في المئة في غضون سنوات قليلة.
هذا إضافة إلى بدء خصخصة شركة أرامكو العملاقة والأكبر في العالم، ومعها خصخصة العديد من الدوائر الرسمية، وخفض دعم الماء والكهرباء والمواصلات وباقي الخدمات.
وإذا ما عنى هذا شيئاً، فهو يعني، أولاً وأساساً، أن موسم العطلة من العمل التي تمتع بها العديد من المواطنين يوشك على الأفول، لتحل مكانه أولويات العمل وقيمته. فمن لايعمل لا يأكل، وشعار "مِنْ كل حسب طاقته ولكلٍ حسب رغبته" سينسحب لصالح مبدأ "مِنْ كلٍ حسب طاقته، ولكلٍ حسب عمله".
والسمة الثانية، أن هذه الثورة التغييرية لم تكن مجرد طموح ذاتي شخصي من أمير شاب في بداية العقد الثالث من عمره، بل تتقاطع فيها العديد من العوامل الموضوعية التي حتَّمت على مايبدو الانتقال من "أصالة" الإيديولوجيا والتوازنات القبلية، إلى حداثة الدولة والمجتمع.
أهم هذه العوامل:
1-  بدء العد العكسي لإنتهاء دور النفط التقليدي في الاقتصاد العالمي، بفعل إنقلاب النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة الذي يتوقّع أن ينتشر انتاجه الآن كالنار في الهشيم في بقية أنحاء العالم، خاصة في الصين والهند وأوروبا الشرقية وغيرها. هذا التطور هو مايجعل انخفاض أسعار النفط الراهنة أزمة بنيوية هذه المرة، لا عملية دورية كما في السابق.
2-  ومما يفاقم من مخاطر ماوصفه الأمير محمد "الإدمان على النفط"، هو الضجة الكبرى حالياً في العالم حيال مسألة تغيّر المناخ التي تهدد الحياة كما نعرفها على كوكب الأرض، والتي تدفع الآن ليس فقط لخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، بل أيضاً لتطوير طاقات خضراء بديلة مُتجددة (الشمس، الهواء.. ألخ)، وسيارات ووسائل نقل كهربائية، والاعتماد المتزايد على البشر الآليين في المصانع الذين لايحتاجون إلى النفط.
3-  وثمة عامل ربما كان الدافع الأهم في هذه "الرؤية": التغيّرات الكاسحة في النظام الدولي، من خلال التراجع الملموس لنفوذ وسطوة القوة العظمى الاميركية في العالم، خاصة في الشرق الأوسط، وتوجّهها بدلاً من ذلك إلى التركيز على "بناء الامة الأميركية" في الداخل، وعلى حوض الباسيفيك/ آسيا في الخارج.
هذا الحدث، الذي أجبر باراك أوباما على أن يكون أول رئيس أميركي "باسيفيكي" لا "أطلسي"، دقّ أجراس الانذار بقوة في أرجاء المملكة السعودية، ودفعها إلى رفع شعار الاعتماد على الذات بدل الركون إلى تعهدات خارجية. الحرب في اليمن، و"الثورة المضادة" التي شنّتها المملكة في أرجاء المنطقة العربية ضد الرياح الربيعية، كانت أولى تجليات التفاعل مع هذه الأجراس في السياسة الخارجية. ثم جاءت "رؤية 2030" لتستكمل هذا التفاعل في الداخل.
-       - II-
هل تنجح ثورة محمد بن سلمان؟
العقبات تبدو عديدة وكأداء بالفعل.
فنقل المواطنين السعوديين من حالة الاتكال السايكولوجي على عطايا الدولة الريعية- النفطية، يتطلّب ثورة ثقافية شاملة، تعيد الاعتبار لقيم العمل، والتطوير، والابداع. ومثل هذه الثورة واجبة الوجود والحدوث، لأن معظم الاقتصاديين يتفقون على القول بأن الاصلاحات هذه المرة ستكون مُحتمة، وليس كسابقاتها التي كانت صفحتها تُطوى حالما تعاود أسعار النفط الإرتفاع، للاسباب التي أوردناها أعلاه. وبالتالي، سيكون على القيمين على "الرؤية" مهمة شاقة وضخمة تتمثّل في إقناع المواطنين بضرورة التأقلم معها.
ومالم يحدث ذلك، ستقود أهداف "الرؤية"، القاضية بجعل الانتاج غير النفطي 50 في المئة من اقتصاد البلاد، عبر الصناعات العسكرية وتطوير الخدمات، إلى وضع الوظائف الجديدة (ومعها المعرفة والخبرات) في حضن الجاليات الأجنبية. وهذا سيفاقم أزمة العمالة لدى المواطنين، ويُشرع الأبواب والنوافذ أمام صعود الحركات الأصولية المتطرفة.
وما يُطبّق على المواطنين يسحب نفسه على أفراد الأسرة الملكية، الذين يجب أن يتأقلموا هم أيضاً مع فكرة الانتقال من الدولة الرعوية الموفّرة للملاعق الذهبية، إلى الدولة الحديثة التي  تضع حصان العمل قبل عربة المكانة الوراثية.
-       - III-
لكن  من كل هذا وذاك، هو أن يترافق التغيير في الجانب الاقتصادي مع تحوّلات أخرى في الجوانب السياسية- الاجتماعية، التي من دونها سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إحداث هذه النقلة التي وصفتها صحيفة "فايننشال تايمز" الرصينة بأن من شأنها "تغيير أسس المملكة".
النقطة الأبرز في هذه التحوّلات، هي رسم خط فاصل وواضح بين الإديولوجيا التقليدية التي لم تعد تفي بحاجيات العصر (خاصة في مايتعلق بدور المرأة في كل القطاعات الاقتصادية) وبين أسس الدولة الحديثة. هذا لا يعني بالطبع التخلي عن الدين الذي هو الجزء الرئيس من الهوية في المملكة، بل  هو يعني تقنين نفوذ رجال الدين الأصوليين المتطرفين في التعليم والقضاء والمجتمع المدني. الأولوية هنا يجب أن تكون للدولة الوطنية ولحقوق المواطن وواجباته تجاه الوطن.
لقد شبّه البعض "رؤية 2030" بإصلاحات ميجي في القرن التاسع عشر، التي حولّت اليابان من دولة تقليدية إلى دولة حديثة، ومن اقتصاد استهلاكي وبدائي إلى اقتصاد هو الثاني الأكبر والأكثر تطوراً في العالم.
مثل هذا التشبيه قد يصح إذا ماترافقت الرؤية الاقتصادية مع رؤية سياسية تحقق ما فعلته إصلاحات ميجي، حين أشركت كل قطاعات المجتمع الياباني فيها من دون استثناء.
فهل سيكون محمد بن سلمان شجاعاً في هذا المجال، كما كان مقداماً في مشروعه الاقتصادي التحديثي؟
ربما. لكن هنا يجب ألا نغفل الحقيقة بأن السياسة وهاجس السيطرة كانت لهما حتى الآن الغلبة الكاسحة على "رؤية" النخبة السعودية الحاكمة، على رغم اعتراف معظم عناصرها بضرورة الإصلاح والتغيير.
وبالتالي، مالم تسرِ الثورة التغييرية في عروق هذه النخبة، وحتى قبل عروق المواطنين، قد نكون أمام تجربة أخرى من تجارب الإصلاح المُجهضة.
قد يكون محمد بن سلمان ميجي جديد، لكن لايمكن أن ينجح أي ميجي من دون ميجيين.

سعد محيو