للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الخميس، 30 مايو 2013

سيناريوهان لـ"انقلابات" حزب الله المُحتملة في لبنان



- I -
كلام كبير هو ذلك الذي قاله  قائد القوات اللبنانية سمير جعجع أمس، تعقيباً على الخطاب الأخير لزعيم حزب الله السيد حسن نصرالله.
نصر الله وجعجع  أيام الحوار الودي (الصورة من غوغل)

قال: " ثمة خطأ منهجي ارتكبه السيد حسن حين اعتبر ان طريقته في المواجهة هي الطريقة الوحيدة، وممنوع على أي طرف لبناني آخر أن تكون لديه طريقته. ما يقصده السيد هو أن ما يريده بديلا عن دولة الطوائف هو دولة طائفة، مايعني استبدال دولة ميشال شيحا ورياض الصلح وبشارة الخوري بدولة حزب الله". وأضاف: "نصر الله يريد دولة طائفة واحدة يترأسها ميشال خامنئي في ظل جمهورية اسلامية ايرانية".
لو أن هذا الكلام جاء في غير الظروف الراهنة، لقيل بكل بساطة أن جعجع لايفعل شيئاً سوى ممارسة موهبته الفريدة في "القفشات" السياسية، الطريفة وغير الطريفة، والتلاعب بالكلمات واللغة التعبيرية مزدوجة المعاني، وشن الحملات الإعلامية المدروسة.
لكن الصورة ليست الآن ليست على هذا النحو. فالوضع في لبنان يقف بالفعل على مفترق طرق خطر، بعد أن قذف حزب الله لبنان برمته إلى المعمعة الدموية الإقليمية- الدولية الكبرى التي تصطرع الآن على الأرض السورية. وعلى رغم أن أطرافاً سنّية لبنانية سبق لها أن رافقت أو حتى سبقت حزب الله في رحلته السورية هذه، للقتال إلى جانب المعارضة، إلا أن مشاركتها هذه لاترقى إلى أهمية انخراط حزب الله لأسباب عدة.
فهي محدودة التأثير عدة وعتادا، ولاتمثّل (رسمياً على الأقل) قوى إقليمية أخرى أو تنفذ أوامرها الإديولوجية- اللاهوتية على غرار، مثلاً، أوامر ولي الفقيه لحزب الله. هذا إضافة إلى أن هذا الأخير، وعلى عكس المنظمات السنّية، يسيطر عملياً على الكثير من مفاصل الدولة اللبنانية الأمنية والعسكرية والحكومية والتشريعية.
لكل هذه الأسباب تعتبر مشاركة حزب الله في الحرب السورية على هذا النحو الواسع (مابين 4 إلى 10 آلاف مقاتل في محافظتي حمص ودمشق)، هي المسؤول الأول أو الأهم عن تمديد الحرب الأهلية السورية إلى لبنان.
لكن، هل سيقتصر الأمر على مجرد خوض الحرب بالواسطة (proxy war) على الأرض السورية، أم سيكون لحزب الله، ومعه النظامين السوري والإيراني، أجندة أخرى تتعلّق بالعمل على "إعادة ترتيب" الأوضاع في كل من سورية ولبنان في آن؟
- II -
هنا تكتسب كلمات جعجع عن دولة لبنانية جديدة يرئسها "ميشال خامنئي" (أي جمهورية لميشال عون تحت مظلة ولي الفقيه الإيراني) بدلاً من دولة الطائف الراهنة، أهميتها الخاصة.
فإذا ماكانت الفرضية التي أشرنا إليها أمس في هذه الزاوية حول توجّه إيران إلى "تحصين" ماتبقى من نفوذ لها في منطقة الهلال الخصيب بالقوة العسكرية، صحيحة، فهذا سيعني حكماً احتمال العمل بالفعل على تغيير النظام السياسي اللبناني الحالي.
لكن كيف؟
هنا ثمة العديد من السيناريوهات. لكن أهمها أثنان يتراوحان بين "التغيير الناعم" و"التغيير الخشن".
التغيير من النوع الأول هو ماكان يشير إليه تكراراً السيد نصر الله منذ أشهر: تشكيل هيئة تأسيسية لإنتاج نظام سياسي جديد. وبالطبع، مثل هذه الهيئة التأسيسية لن تنطلق من إتفاق الطائف لأنها أصلاً تريد تغييره، بل من معادلات مختلفة يجب أن تأخذ في الاعتبار كلاً من المستجدات الديمغرافية والاقتصادية والسياسية التي صبّت في مصلحة الطائفة الشيعية خلال العقود الأربعة الأخيرة، إضافة إلى المستجد الأهم وهو وضع سلاح حزب الله على قدم المساواة مع الدولة ضمن معادلة "الشعب والجيش والمقاومة".
بيد أن تحقيق مثل هذا الهدف من خلال العمل السياسي دونه عقبات وممانعات، لأنه يمس توازنات طائفية تاريخية، في وقت تشهد المنطقة برمتها انفجارات مذهبية ستعيدها في حال استمرارها ألف سنة إلى الوراء. لكن هذا قد لايمنع بالضرورة حزب الله من طرح هذا المشروع قيد التداول السياسي.
هذه المعطيات تُفسح في المجال أمام "الخيار الخشن" الذي قد يأخذ أحد شكلين أساسيين: إما قلب الطاولة كلياً على الصعيد الأمني- العسكري بمشاركة بعض وحدات رسمية عسكرية تدين بالولاء للحزب والتيار العوني، وبدعم كامل من النظامين الإيراني والسوري، أو الاكتفاء برسم خريطة عسكرية جديدة تربط مثلث حمص- طرطوس- الهرمل بجنوب لبنان عبر السيطرة (أو على الأقل الهيمنة) على قطاعي البقاع الغربي والجبل الدرزي.
- III -
أي السيناريوهين الأقرب إلى التحقق؟
التمديد لمجلس النواب، مضافاً إليه تورّط قوات النخبة في حزب الله في حرب سورية، يعطيان الانطباع بأن الخيار الخشن ربما يكون مؤجلاً، ولو إلى حين. بيد أن الحزب وإيران وسورية ليسوا بالطبع اللاعبين الوحيدين على الساحة السورية. وبالتالي، إذا ما قررت الأطراف المحلية والإقليمية الأخرى الرد على حرب حزب الله في سورية بإشعال الجبهات ضده في لبنان، فقد يجد هذا الأخير نفسه مدفوعاً إلى السيناريو الثاني.
وحينها، سيكون حديث سمير جعجع عن مخطط إقامة "دولة طائفة واحدة يترأسها ميشال خامنئي في ظل جمهورية اسلامية ايرانية"، أكثر بكثير من مجرد كونه "قفشات" سياسية أوألعاب لغوية.

سعد محيو





الأربعاء، 29 مايو 2013

كيف سيرد الغرب على "التحية" الإيرانية في سورية؟


- I -
تساءلنا بالأمس: ماموقف الغرب وإسرائيل من هذه الحملة "التحصينية" الإيرانية الشاملة في سورية وبعض مناطق نفوذ طهران في الهلال الخصيب؟
ونرد سريعا: تخطىء طهران إن هي اعتقدت أن الغرب وتل أبيب سيقفان مكتفوفي الأيدي حيال محاولاتها لقلب موازين القوى في سورية.
صحيح أن إدارة أوباما لاتزال مترددة إلى حد كبير إزاء التدخل في سورية، بفعل جملة عوامل متقاطعة منها تركيزها على "بناء الأمة الأميركية" في الداخل، واستراتيجية الاستدارة شرقاً نحو آسيا- الباسيفيك، هذا إضافة إلى إصابة كل ألوان الطيف السياسي الأميركي بالعقدتين العراقية والأفغانية التي تُشبه العقدة الفيتنامية في الستينيات. إلا أن الصحيح أيضاً أن هذه الإدارة لاتستطيع لأسباب جيو- استراتيجية منح إيران إنتصارات في سورية، فيما هذه الأخيرة تمضي قدماً في برنامجها النووي.
وقل الأمر نفسه عن باريس ولندن اللتين تعتبران دول الهلال الخصيب العربية آخر معاقل نفوذهما الامبراطوري السابق في الشرق الأوسط، وعن تل ابيب التي قد تسعد إذا مابقي نظام الأسد حياً سياسياً، لكنها ستغضب إذا ماترجم هذا البقاء نفسه كقوة إضافية لحزب الله وإيران.
- II -
كل هذه المعطيات تدفع إلى الاعتقاد بأن الغرب سيعمل في وقت قريب على إعادة التوازن إلى ميزان القوى العسكري الذي اختل مؤخراً لصالح النظام السوري بفعل الدخول الكثيف لقوات حزب الله وبعض وحدات الحرس الثوري الإيراني على خط المعارك المباشرة في محافظتي حمص ودمشق. وهذا سيتم على الأرجح من خلال تزويد المعارضة المسلحة خلال أيام (وربما قبل مؤتمر جنيف-2 في حال انعقاده الشهر المقبل) بعتاد جديد ودعم لوجستي- استخباري أكبر، خاصة بعد أن أقر المؤتمر الوزاري الأوروبي حق بعض دول الاتحاد الاوروبي بتسليح المعارضة.
لا بل أكثر: على رغم أن إدارة أوباما لاتزال مُصّرة على عدم التدخل في الحرب الأهلية السورية، إلا أنها قد تفاجىء الجميع باندفاعها إلى فرض منطقة حظر جوي في شمال سورية أو جنوبها، في حال تبيّن لها أن الإجراءات الفرنسية- البريطانية المشتركة لتعديل موازين القوى لم تتكلل بالنجاح.
وربما هذا الاحتمال بالذات هو الذي دفع روسيا أمس إلى الإسراع في الإعلان عن نيتها المضي قدماً في صفقة صواريخ أس- 300 المتطورة المضادة للطائرات التي كانت جمدتها (بطلب أميركي- إسرائيلي مشترك) العام 2010، وإلى التصريح علناً بأن الهدف "هو منع حدوث تدخّل عسكري غربي في سورية".
وهنا، ثمة نقطة بالغة الأهمية يتعيّن الإلتفات إليها: هدف أي تدخل أميركي وغربي ليس منح المعارضة المسلحة السورية فرصة الانتصار على نظام الأسد، بل مجرد تمكينها من مواصلة الحرب.
لماذا؟
لأن واشنطن باتت تعتبر سورية أفغانستان إيرانية أو ثقباً أسودَ يستهلك الكثير من قدرات طهران الاقتصادية ويأكل ماتبقى من رصيدها السياسي- الإديولوجي في المنطقة العربية، في وقت يتراقص فيه الاقتصاد الإيراني على شفير الإفلاس أو حتى الانهيار.
ثم أن استمرار التورط الإيراني في الحرب السورية، يمكّن الولايات المتحدة من الانتقام من طهران (وأيضاً من النظام السوري) بسبب الدور الذي لعباه ضدها في العراق وأدى إلى إجهاض مشروعها هناك. وهذه حالة انتقامية شبيهة بما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق، حين ورطته الولايات المتحدة في حرب أفغانستان كرد على توريطها في الهند الصينية.
فضلاً عن ذلك، يشكّل الاشتباك الراهن بين الأصوليين الإسلاميين في كل من حزب الله الشيعي والفصائل الجهادية السنّية، أول فرصة ذهبية أمام واشنطن وتل أبيب لاستخدام الورقة الجهادية ضد إيران، بعد أن كانت هذه الأخيرة تمكّنت طويلاً من إقناع التنظيمات المنبثقة من تنظيم القاعدة في توجيه بنادقها نحو الغرب. وهذا فرصة يمكن أن تتضخم كثيراً في حال نفّذت التنظيمات الجهادية تهديداتها بنقل المعركة إلى مواقع حزب الله في لبنان، أساساً على الأرجح عبر العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة.
- III -

ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني، ببساطة، أن زج إيران لورقة حزب الله ولباقي أوراقها بالكامل في الحرب السورية، لن يجدِ نفعاً في نهاية المطاف، لأنه فعل سيؤدي سريعاً إلى رد فعل. وهذا قد يحوّل الانجازات العسكرية الراهنة ليس فقط إلى نكسات بل أيضاً إلى تعميق الورطة الاستراتيجية الإيرانية في سورية وبقية بلاد الشام.
وهو بالتحديد المطلوب أميركياً وإسرائيلياً وغربيا.
سعد محيو


  

الثلاثاء، 28 مايو 2013

هل "نَسِي" حزب الله وإيران إسرائيل؟


-  I-
"زوجي استشهد في القصير وهو يقاتل من هُم أخطر من إسرائيل".
هذا ماقالته أمس أمرأة بقاعية لـ"فرانس برس" بعد ان دفنت للتو جثة زوجها، في مراسم يبدو أنه غابت عنها شعائر الحزن لتحل مكانها شعارات الاستشهاد.

وإذا ماعنى هذا الأمر شيئاً، فإنه يعني النجاح الباهر لحزب الله في تعبئة قواعده الشعبية، في البداية عبر التركيز على أنه يخوض في سورية حرب الدفاع عن المواطنين الشيعة في محافظة حمص وعن المقامات المقدسة الشيعية في دمشق، ثم لاحقاً في إقناع هذه القواعد بأن كل المعارضين السوريين للنظام تكفيريون يتعيّن شن حرب استباقية ضدهم  "قبل أن يأتوا إلينا ليقتلونا".
وبعد ذلك كانت الحصيلة متوقعة: انغماس حزب الله بكليته في الحرب الأهلية السورية، ليس فقط في القصير ومحافظة حمص، بل أيضاً في دمشق وريفها، وربما غداً في درعا وامتدادتها. وهذه خطوة لم يكن الحزب ليقدم عليها لولا صدور أوامر مباشرة من ولي الفقيه الإيراني خلال لقائه الأخير(على ماقيل) مع السيد حسن نصر الله في طهران.
لكن، وكما تساءلنا بالأمس: لماذا قد تُقدم إيران على إحراق ورقة استراتيجية كبرى لها من نوع تنظيم كحزب الله تطلب بناؤه عشرات مليارات دولار خلال ثلاثة عقود، وكانت قد خصصته كخط دفاع أول وكدرع صاروخي ضد أي هجوم إسرائيلي عليها؟
-  II-
الإجابة تكمن في الصراع على الخرائط الجيو- سياسية الجديدة التي بدأت تتضح معالمها في الشرق الأوسط، والتي تتنافس ثلاث قوى إقليمية رئيسة على تقاسم مناطق النفوذ فيها: تركيا، إيران، وإسرائيل.
تركيا، وعلى رغم سياستها المعلنة الرافضة للتقسيمات المذهبية والطائفية في المنطقة وتحرُّكها لإقامة نظام إقليمي جديد على نمط السوق الأوروبية المشتركة، وجدت نفسها فجأة كقوة نفوذ إقليمي كأمر واقع. فهي وضعت شمال العراق الكردي تحت حمايتها الفعلية، فيما كان سنّة الوسط العراقيون يشيحون ببصرهم عن بغداد الشيعية ويرنون بها نحو اسطنبول العثمانية الجديدة. وكذا فعل مسلحو سنّة سورية الذين يسيطرون الآن على قطاعات واسعة من الأراضي المحاذية للحدود التركية، وكذا إلى حد ما سنّة لبنان.
وإسرائيل رسمت من دون إعلان حدود نفوذها الإقليمي الجديد، حين حددت بالدم والصواريخ والغارات الجوية خطوطها الحمر في سورية ولبنان، وبدأت نسج علاقات مع بعض الإقليات المذهبية العربية في الهلال الخصيب ومع الأكراد.
أما إيران فقد وجدت نفسها على  طاولة طعام هذه الوليمة الكبرى الجديدة، وليس على لائحة الضيوف، فيما كانت منذ الغزو الأميركي للعراق العام 2003 قد نجحت في إقامة هلال امبراطوري شيعي يمتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية من بيروت مروراً ببغداد ودمشق وغزة. وهذا أمر لم يكن في الوارد قبوله، خاصة وأن النظام الأيراني يتعرَّض إلى أزمة اقتصادية كبرى، (يفاقمها بشدة انقسام معسكر المحافظين إلى مهدويين وأنصار ولاية الفقيه)، ويحتاج بالتالي إلى تصدير أزماته إلى الخارج.
-  III-
هذا، على مايبدو، العامل الرئيس الذي دفع إيران إلى تحويل حزب الله من مقاومة ضد إسرائيل إلى مقاومة ضد المقاومة السورية على هذا النحو الواسع والفاقع: فعلى المحك لعبة جيو-استراتيجية كبرى ستحدد ليس فقط مصير موازين القوى بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، بل ربما أيضاً مصير النظام الإيراني نفسه. إذ أن تآكل النفوذ الإيراني على هذا النحو السريع في المشرق، سيسفر في نهاية المطاف عن تداعي الأسس الإديولوجية والشرعية والطبقية للنظام الإيراني نفسه.
وهذه الفكرة الأخيرة هي من بنات أفكار المستشار النمسوي البارز ميترنيخ، حين كان يفكر بأفضل وسيلة للقضاء على توسعية فرنسا البونابرتية. قال: "إذا مانجحنا في إعادة الذئب الفرنسي إلى داخل حدوده، سيختنق بأنفاسه في الداخل".
وهذا مايبدو أن النظام الإيراني يعرفه ويخشاه. ولذلك يلقي بكل أوراقه الاستراتيجية دفعة واحدة في الحرب السورية.
لكن، أين المجابهة مع إسرائيل في كل هذه المعمعة؟ وكيف يمكن لحزب الله أن يشعر بالثقة من أن إسرائيل لن تستغل الفراغ الذي يتركه آلاف مقاتلي الحزب الذين يتدفقون الآن على سورية، في الجنوب والبقاع؟
هل لأنه، وإيران، يعتبران أن تل أبيب ستكون سعيدة على أي حال لتورط حزب الله في "فيتنامه الخاصة" (على حد تعبير مواطن في الضاحية الجنوبية لـ"فايننشال تايمز")، ولذا ستجلس فوق السور وتكتفي بالمراقبة؟ أم لأن إيران تنوي إشعال النيران في كل المنطقة، كوسيلة وحيدة لانقاذ مايمكن انقاذه من نفوذها الإقليمي،  ومن ثَمَ إبعاد الأنظار نهائياً عن برنامجها النووي المُتسارع؟
ثم: ماموقف الغرب وإسرائيل من هذه الحملة "التحصينية" الإيرانية الشاملة في بعض مناطق النفوذ في الهلال الخصيب؟
(غدا نتابع)

سعد محيو









الاثنين، 27 مايو 2013

هل يقلب حزب الله الطاولة في لبنان أيضا؟



- I -
هل سقط لبنان في هوة الحرب الأهلية السورية وانقضى الأمر؟
هذا كان السؤال المؤرق الذي ساور كل اللبنانيين وهم يستمعون أمس الأول إلى السيد حسن نصر الله وهو يعلن رسمياً انخراط حزب الله الكامل "حتى النصر" في الحرب السورية. لكن هذه هذه المرة ليس للدفاع عن 30 الف شيعي لبناني يعيشون في القرى الحدودية السورية (كما كانت السيد يكرر مراراً قبل ذلك)، بل لنصرة النظام السوري نفسه.
\هذا الإعلان، المترافق مع تأكد الأنباء عن وجود آلاف المقاتلين من حزب الله في بلدة القصير والعديد من قرى ريف حمص الأخرى، بدد كل الافتراضات السابقة بأن حزب الله لايريد سوى حماية خطوط إمداداته وعمقه الاستراتيجي في مثلث حمص- طرطوس- الهرمل، وأطلق فرضية قوية أخرى تقول بأنه ربط مصيره نهائياً (ومصيثر لبنان معه) بمصير النظام السوري.
وإذا ماصحّت هذه الفرضية، والأرجح أنها كذلك لكل من قرأ خطاب نصر الله المتطرف في وضوحه حيال "إعلان الحرب" رسمياً على الانتفاضة السورية، فإنها ستجرجر وراءها سؤالاً في غاية الخطورة: هل انتقال حزب الله إلى مرحلة العمل على رسم خرائط عسكرية-جغرافية جديدة له سيقتصر على الوطن السوري، أم أن هذا سيتنقل عاجلاً أم آجلاً إلى الوطن اللبناني أيضا؟
بكلمات أوضح: هل سيستتبع نجاح الحزب والنظام السوري في السيطرة على مثلث حمص- طرطوس- الهرمل بالضرورة السيطرة أيضاً على مثلثات أخرى، تشمل هذه المرة، على سبيل المثال، مناطق البقاع الغربي السنّي والجبل الدرزي الشوفي اللذين يشكلان منطقة عازلة طبيعية عن المثلث الأول؟

- II -
هذا السؤال لم يعد افتراضياً الآن، بعد أن باتت إطلالة حزب الله على التطورات في سورية وبقية مناطق الهلال الخصيب مطابقة كلياً لإطلالة النظام السوري، ومعه النظامين العراقي والإيراني، من حيث تركيزها التام على الجوانب الأمنية- العسكرية للصراع الراهن الهادف إلى الدفاع عن النفوذ الإقليمي الإيراني المتآكل في هذه المناطق.
السيد حسن نصر الله نفسه ألمح إلى هذا الجانب ضمناً، حين نعى فجأة الدولة اللبنانية، على رغم حرصه الشديد قبل أشهر قليلة على الدفاع عنها وعن الحاجة الضرورية إليها، إلى درجة دعوتها إلى دخول معاقله في الضاحية الجنوبية للحفاظ على الأمن الداخلي فيها.
ويصب في هذه الخانة التطورات السياسية المثيرة التي حرّكها حزب الله مؤخراً، حين أسقط فجأة حكومة الرئيس ميقاتي، ثم تحرّك لشل كل المؤسسات الأخرى الأمنية والسياسية والتشريعية.
آنذاك، قيل أن الحزب فعل كل ذلك لأنه لايريد أن يسائله أحد عما يفعل في سورية. أما الآن، وبعد أن بات حرب الحزب في بلاد الشام علنية ورسمية "سيمضي فيها حتى النهاية وصولاً إلى تحقيق النصر" (على حد تعبير نصر الله)، فقد بات السؤال عن مصير النظام السياسي اللبناني نفسه على المحك.
لقد سبق لنصر الله أن دعا إلى تشكيل جمعية تأسيسية تقوم بإحلال نظام سياسي جديد مكان نظام الطائف. بيد أن الأمر اختلف الآن، بعد أن بات حزب الله منخرطاً في تنفيذ خرائط عسكرية جديدة إنطلاقاً من بلدة القصير. إذ أي أي تغيير في تركيبة النظام اللبناني يجب أن تتم الآن بقوة السلاح، أسوة بما يجري الأن في كلٍ من سورية والعراق.
- III -
هل ثمة مغالاة ما في هذه الاستنتاجات؟
ربما.
لكن من يقرأ بتمعن خطاب نصر الله الأخير، ويرفقه بالذعر الذي ينتاب النظام الإيراني من جراء تآكل نفوذه الإقليمي في سورية والعراق، ومعه تآكل وضعه الداخلي الاقتصادي - الاجتماعي واقترابه من مرحلة الإفلاس (كما أوضح هاشمي رفسنجاني قبل أيام)، فقد يتوصّل إلى الاستنتاج بأن طهران  ربما قررت بالفعل استخدام كل أوراقها الّإقليمية دفعة واحدة للدفاع عن نظامها الداخلي.
وأثمن ورقة هنا هي حزب الله، الذي يُعتبر الانجاز الكبير الوحيد في السياسة الخارجية للثورة الإيرانية، والذي كانت تحتفظ بها طهران كخط دفاع أول عن نفسها ضد أي هجوم إسرائيلي.
بيد أنه يبدو أن ضرورات إنقاذ النفوذ الإيراني طغت على محظورات حرق ورقة حزب الله على هذا النحو في سورية. فما الذي يمنع طهران  من استخدام هذه الورقة الآن لتغيير معطيات الأمر الواقع اللبناني كاستكمال لما تقوم به الآن من عمليات لتحصين النظام السوري في مثلث حمص- طرطوس- الهرمل؟
حقاً، ما الذي يمنعها؟

سعد محيو


الأربعاء، 22 مايو 2013

مقال اليوم الانتخابات الإيرانية: الحرس انتصر وسيحّول إيران إلى "الدولة- الثكنة"






استبعاد رفسنجاني ومشائي من انتخابات الرئاسة، يعني أن الثورة الإيرانية فقدت بخارها وزخمها، وقد تُخلي قريباً المجال أمام ثورة جديدة. أمام ربيع إيراني.

-I-
ضرب حرس الثورة الإيراني ضربته القوية، عبر نجاحه في حمل مجلس صيانة الدستور على استبعاد ترشيح كلٍ من هاشمي رفسنجاني واسنفنديار رحيم مشائي عن معركة الرئاسة. والآن باتت الأبواب مفتوحة على مصراعيها أمام الحرس للاستيلاء على منصب الرئاسة، ومن بعده على موقع ولي الفقيه.

إنها الحقبة العنفية الروبسبيرية من الثورة الإسلامية الإيرانية وهي تقترب من انتصارها النهائي، بعد أن كانت في العام 2009 (مع تزوير الانتخابات وقمع الثورة الخضراء بالعنف) قد بدأت مسيرتها نحو مصادرة كل السلطات الدينية والمدنية والعسكرية في البلاد.
هذا التطور يترافق مع أحداث أخطر كانت تجري تحت سطح المجتمع السياسي والمدني الإيراني منذ فترة غير قصيرة، أبرزها كانت عملية التلاعب بالعملة الإيرانية (الريال).
من كان  يتلاعب بالريال ويهدد الاقتصاد (ومعه ربما النظام السياسي الراهن برمته) بالانهيار؟
التحليلات قبل أشهر كانت كثيرة. لكن معظمها ركّز على الدور الكبير للعقوبات الاقتصادية والمصرفية والنفطية الغربية، وعلى سوء السياسات الاقتصادية لإدارة الرئيس أحمدي نجاد التي اعتمدت على توزيع "الصدقات والفتات ( TRickles)) على بعض فئات الشعب.
لكن الواقع أن ثمة ما هو أهم من هذين العاملين المهمين: وجود أطراف نافذة داخل السلطة تقوم بالمضاربة على العملة الإيرانية، التي فقدت 60 في المئة من قيمتها خلال سنة واحدة، لجني الأرباح الطائلة بين ليلة وضحاها، وأيضاً لتصفية حسابات سياسية.
الحديث عن هذا الاحتمال بدأ خافتاً، لكنه مالبث أن انفجر وطفا على السلطح، بعد أن تبيّن أن العديد من شركات الصيرفة التي تم إغلاقها لوقف تدهور الريال ترتبط مباشرة ببعض القادة ، لكنها لاتزال تعمل بالسر بغطاء منهم.
- II -
ماذا يعني هذا التطور؟
الكثير.
فهو يعني أن الفساد في بيروقراطية الدولة الإيرانية أفلت بالفعل من عقاله، كما يعني أن الزخم المثالي الجمعي الذي ميَّز الثورة الإيرانية العام 1979 أخلى السبيل أمام "خلاص فردي" عبر التسابق على الغنائم ومراكمة الثروات. وهذا ماجعل السلطة الإيرانية الراهنة تشبه شيئاً فشيئاً النظام الشاهناشي السابق الذي أطاحته. وهذا ليس على الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي، بل أيضاً على الصعيد الأمني- السياسي.
كيف؟
هنا، نجد أنفسنا مجدداً أمام ظاهرة الحرس الثوري الذي يعتبر الجهاز العصبي الرئيس للبنية السياسية- الإيديولوجية للنظام، فضلاً عن أنه أيضاً لاعب رئيس في الإقتصاد. وعلى رغم أن آية الله الخميني دعا في آخر وصية له العام 1988 القوات العسكرية إلى " الإبتعاد عن التدخل في شؤون الأحزاب السياسية"، إلا أن العكس هو الذي حدث. فالدولة الدينية التي نشأت العام 1979، سرعان ما تحَولت بفعل ديناميكيات الثورة ومضاعفات الحرب مع العراق إلى  " الدولة- الثكنة " التي يسيطر بموجبها العسكر على كل مناحي الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية.
الحرس هم الان العقبة الحقيقية أمام الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية- الاجتماعية. و"القوات الخاصة " التابعة له مدرَبة ليس على مواجهة غزو خارجي، بل على قمع الإنتفاضات السياسية والإجتماعية الداخلية (كما فعلت العام 1999 ضد إنتفاضة الطلاب والعام 2008 ضد الثورة الخضراء). كما أن جهاز الإستخبارات الخاص بالحرس الذي يطلق عليه إسم " وحدة الحفاظ على المعلومات" موجود في كل مكان جنباً إلى جنب مع أجهزة الامن والأستخبار الأخرى.  الحرس مسؤول كذلك عن قوة الصواريخ الإستراتيجية الأيرانية " شهاب "، ويعتقد  أنه يدير المشروع النووي الأيراني.
بيد أن قوة هذا الجهاز الأهم تكمن في الإقتصاد. فهو يعمل طليق اليد في كل المجالات الإنتاجية من دون حسيب سياسي أو رقيب قانوني، ويحصل على صفقات تقدَر بمليارات الدولارات سنوياً من الدولة. وعلى سبيل المثال، نالت شركة " خاتم الأنبياء " التابعة له عقداً بقيمة 1،3 مليار دولار للقيام بنحو 1222 مشروعاً صناعياً وتعدينياً. ثم بعد هذا العقد بثلاثة أيام، أبرم الحرس صفقة آخرى مع شركة " طهران ميترو " الحكومية بقيمة 2،4 مليار دولار. وفي تموز\يوليو الماضي، وافقت وزارة الطاقة على  قيام مقاولي الحرس بالأشراف على كل مشاريع البنى التحتية بما في ذلك الماء والكهرباء والجسور، في غرب إيران.
لكن الأمر لايتوقف عند حد الصفقات الرسمية. إذ يقول الإصلاحيون المعارضون، مثل مهدي كروبي وعلي قنباري، أن الحرس "يسيطر بشكل غير شرعي على 60 حوضاً بحرياً، مما يسمح له بالهيمنة على ثلث واردات البلاد وإدارة أسواق غير شرعية وإقتصاد سري" . ويضيف هؤلاء أن الحرس يستخدم أحياناً القوة  للحصول على المشاريع الإقتصادية الكبيرة، كما حدث العام 2005 حين رفضت شركة "أوريانتال كيش للنفط " طلب شراكة متساوية معه، فعمد الحرس إلى إعتقال نائب رئيس الشركة سيروس ناصري، ثم وضع يده على المنصات النفطية البحرية التي تديرها الشركة.
منصور سيواغيرا، أحد مؤسسي الحرس العام 1979 يلخَص كل هذه المعطيات بالكلمات الآتية : " ما كان مرة في السابق حرساً ثورياً، أصبح الان مافيا ".
هل ثمة مبالغة ما في تقييم سيواغيرا ؟ ربما، خاصة  حين نتذَكر أن مرشد الثورة يمتلك صلاحيات شبه مطلقة على الحرس. وبالتالي يد هذا الاخير ليست طليقة تماماً.
 لكن، ما لايحتمل المبالغة هي الحقيقة بأن الحرس، بتركيبته الإيديولوجية ومصالحه السياسية والإقتصادية الضخمة، يلعب في إيران الدور نفسه الذي يلعبه الجيش في تركيا وإن بشكل معكوس: الاول يعمل كـ"حارس" للنظام الديني،  فيما الثاني يمارس دور " حامي " النظام العلماني. لكن في كلا الحالين، المصالح الضخمة هي القاسم المشترك، وهي الحاكم سعيداً في كلا الجهازين.
- III-
 الحرس، أو بعض قادته، هم من يتلاعب بالريال ويستغل المصاعب الاقتصادية الكبرى في إيران لمصلحته، وهم من انتصروا أمس على أيه الله خامنئي في معركة الرئاسة عبر استبعاد المرشحين الأكثر تهديداً لزحفهم الهادف إلى إحكام القبضة على كل السلطات، وإلى تحويل إيران إلى "الدولة الثكنة".
إذا ما سار كل شيء الآن كما تشتهي سفن الحرس، فهذا يعني أن هذا التيار الحاكم قد تحوّل بالفعل إلى حزب بلشفي جديد، ولكن في أواخر عهد الاتحاد السوفييتي لا في بداياته. وهذا سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى ثورة اجتماعية وسياسية جديدة في إيران. سيؤدي إلى ربيع إيراني.
إنه قانون ابن خلدون وبول كينيدي حول صعود وسقوط الدول، يكرر نفسه بلا كلل أو ملل.

سعد محيو



سعد

الاثنين، 20 مايو 2013

حزب الله: معارك ميؤوس منها لانقاذ النفوذ الإيراني



- I -
ماذا قد يقول المؤرخون المستقبليون عن التدخل الكثيف لحزب الله اللبناني في الحرب السورية؟

شيء واحد على الأرجح: هذا الحزب، الذي لطالما جهد كي يُقدِّم نفسه على أنه حزب لبناني يدافع عن المصالح الوطنية اللبنانية ولايرفع سلاحه إلا لمقاومة إسرائيل وممانعتها، كشف بشطحة قلم واحدة عن كل أوراقه الإقليمية بصفته الراعي الأول للمصالح القومية الإيرانية في المشرق العربي.
هكذا الأمر بكل بساطة. فكما أن بعض المحللين كانوا مقتنعين بالأمس أن سلاح حزب الله لاوظيفة حقيقية له في خاتمة المطاف سوى أن يكون خط الدفاع الأول عن إيران بصفتها وطن ولي الفقيه الذي يأمر ويجب أن يُطاع، بات الكثير منهم مقتنعين اليوم بأن طهران هي التي حرّكت هذا السلاح نفسه لحماية خط الدفاع الثاني عن نظامها ونفوذها الإقليمي في سورية.
وهذه ستكون نهاية غير سعيدة لرواية المقاومة والممانعة التي روّج لها حزب الله، التي شكّلت على مدار العقود الماضية نقطة الارتكاز الأساسية في استراتيجية الحزب في الوضع الداخلي اللبناني، والتي تُوجّت بالشعار المجلل "الشعب والجيش والمقاومة".
- II -

إنها نهاية غير سعيدة لجملة أسباب دفعة واحدة:
الأول، أن حزب الله انخرط بقضه وقضيضه في حرب أهلية إسلامية- إسلامية، ترتدي حلّة أكثر خطورة بسبب ألوانها المذهبية والطائفية الفاقعة المتوزعة بين السنّة والشيعة والعلويين.
 فهل أمر بسيط أن يسحب الحزب وحداته من جنوب لبنان المخصصة لمقاومة إسرائيل في الجنوب، لمقاتلة أشقاء له في الانتماء إلى "الأمة" التي يعلن الحزب في أدبياته ووثائقه الانتماء إليها، في الشمال والشرق؟. وهل هو بالأمر الهيِّن أن ينحاز هذا الحزب الإيديولوجي الإسلامي إلى نظام يصف نفسه بالقومي العربي العلماني وتتشكّل نواته الصلبة من طائفة علوية لايعتبرها فقهاء الشيعة "إسلامية تماما"، على رغم فتاوى معاكسة صدرت من طهران وصور أيام الإمام موسى الصدر؟
أي منطق فكري أو فقهي يمكن أن يبرر هذا الانحياز، سوى أنه تنفيذ لأوامر "غير فكرية وغير منطقية" صدرت من إيران- الدولة لا إيران الثورة؟
السبب الثاني، هو أن هذا التورط الكثيف للحزب سيسفر في نهاية المطاف عن جر الوطن اللبناني برمته إلى الأتون السوري، حتى ولو لم تكن هذه رغبة الحزب. فهذا الأخير ليس دولة يمكنها أن تخوض معارك بالواسطة في دول أخرى من دون أن يتأثر داخله بها، بل هو مجرد جزء من نسيج مجتمعي يقابل أي فعل فيه رد فعل من باقي أجزاء هذا النسيج (إقرأ الطوائف والمذاهب).
وبالتالي، لن يطول الوقت قبل أن تتمدد النيران السورية إلى الداخل اللبناني، سواء من "معبر الهرمل" المحاذي لبلدة القصير، أو من مدينة طرطوس العلوية باتجاه مدينة طرابلس السنيّة ومنها إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية وصيدا.
والسبب الثالث للنهاية غير السعيدة، هو أن الحزب يخوض معركة خاسرة استراتيجياً سلفاً.
لماذا؟
لأن ماتشهده المنطقة العربية الآن، لايقل عن كونه بداية العد العكسي لسقوط الامبراطورية الإيرانية الصغيرة التي تمددت طيلة العقود الثلاثة الماضية في منطقة الهلال الخصيب، مشكِّلة هلالاً شيعياً افتراضياً امتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية من بيروت، مروراً ببغداد ودمشق وغزة.
فالنظام السوري، الذي شكّل الركيزة الكبرى للنفوذ الإيراني، تفكك ولن يكون ثمة مجال لإعادة بنائه مهما حقق هذا النظام وحلفائه من انجازات عسكرية. إذ مايجري في سورية حرب أهلية متعولمة وإقليمية، سرعان ماستتدخل فيها الأطراف الأخرى في حال حقق أحد الطرفين المتقاتلين خللاً في موازين القوى.
والنظام العراقي، الذي خضع إلى النفوذ الإيراني بعد الانسحاب العسكري الأميركي، يتفكك هو الآخر وبسرعة. فالشمال الكردي أصبح محمية تركية حقيقية خارجة عن أي نفوذ عليها من بغداد. والوسط السنّي يسير هو الآخر في هذا الاتجاه. والبلاد كلها تتجه بسرعة القذيفة الصاروخية إلى حرب أهلية جديدة، تكون امتداداً للحرب السورية.
وغزة الإخوان المسلمين الجديدة، لم تعد غزة القديمة الحليفة لطهران، بعد أن أدارت ظهرها لدمشق ويممته نحو "إخوانها" في القاهرة.
أما حزب الله نفسه في لبنان، فهو يعاني الآن من تمدد استراتيجي زائد وخطر، بعد أن بات مضطراً إلى خوض معارك أو مجابهات في سلسلة متصلة من الجبهات في سورية والجنوب والداخل اللبناني والساحة الأمنية الدولية.
- III -
الآن، إذا ما أضفنا إلى هذه العوامل تأرجح الاقتصاد الإيراني على شفير الهاوية بعد أن فقدت العملة الإيرانية نصف قيمتها خلال أشهر قليلة، علاوة على تضعضع قوة المحافظين الإيرانيين بعد انقسامهم بين المهدوية وولاية الفقيه، وصعود تركيا الكاسح إلى قمرة القيادة الإقليمية (وقريباً الدولية)، واندفاع إسرائيل القوي إلى قطع كل أمدادات الحزب العسكرية من سورية، لتوصلنا إلى الاستنتاج بأن حزب الله يخوض بالفعل معارك ميؤوس منها لانقاذ ماتبقى من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
ومضاعفات مثل هذه المعارك الخاسرة سلفاً، لن تتأخر كثيراً في الظهور.
 لا بل أكثر: يمكن القول أن حزب الله تحوّل في الآونة الأخيرة  بالنسبة إلى القوى الإقليمية التي تتحرّك الآن لـ"وراثة" التركة الإيرانية، إلى "نتوء استراتيجي" يجب إزالته قبل أن يعاد ترتيب أوضاع المنطقة من جديد.

سعد محيو


السبت، 18 مايو 2013

الربيع ينتظر طنجرة البريستو العربية



- I -
قلنا بالأمس أن الانفجار والدمار اللذان تشهدهما المجتمعات العربية هذه الأيام هائل بالفعل. لكن، مايغفله الكثيرون هو أن الحدث أمر طبيعي في الواقع، لا بل قد يثبت أنه في خاتمة المطاف صحي ومثمر.
لكن كيف؟
قبل الثورات، كانت المجتمعات العربية أشبه بطنجرة الضغط (البريستو) التي أحكمت الأنظمة السلطوية إغلاقها بدعم كامل من الغرب، فخلق ذلك استقراراً وهمياً ظن الكثيرون، بما في ذلك  هذا الغرب نفسه، أنه ثابت ودائم.
بيد أن أحداث 11 أيلول/سبتمبر في واشنطن ونيويورك أسفرت عن إرخاء القبضة الغربية الداعمة، فبدأ غطاء البريستو يترنح. وترافق ذلك مع صعود هائل في طفرة أعداد الشباب، وفشل مشاريع التنمية والنهوض الاقتصادي في العديد من الدول العربية، والفراغ الإيديولوجي الناجم عن إفلاس الطبعة الفاشية من القومية العربية ومن وطنية الدولة- الأمة في كل بلد عربي، فبات كل شيء جاهزاً للانفجار.
بالطبع، تباينت درجة التشظي في كل دولة. لكن الحصيلة في الواقع كانت، وستكون أكثر، واحدة: إعادة بناء المجتمعات العربية على أسس وتوازنات وقواعد جديدة، تبعاً للخصوصيات التاريخية والراهنية لكلٍ من هذه الدول.
ففي مصر وتونس والمغرب، ستعتمد إعادة البناء هذه على مدى قدرة الحركات الإسلامية على بلورة هوية وطنية جديدة قادرة على حل التناقضات بين أطياف المجتمع، من ناحية، وبين الإسلام السياسي والديمقراطية، من ناحية أخرى. وأيضا(وربما هنا الأهم كما تدل التجربة التركية) على تحقيق نهضة اقتصادية شاملة.
ومالم تنجح الحركات الإسلامية في تحقيق هذه الأهداف، ستتواصل التمخضات العنيفة داخل طنجرة البريستو، وقد يسفر ذلك عن استيلاد ليس ثورة واحدة جديدة بل سلسلة من الثورات الاجتماعية المتواصلة.
وفي سوريا وليبيا، اتخذ الانفجار شكل الوعاء الذي نشأ منه، وهو وعاء يعج بالتظلمات الطائفية والقبلية والإثنية. فنَحَتْ الامور في كلا البلدين منحى تصفية الحسابات بين الريف السنّي وبين العلويين في سورية، وبين القبائل المتنافسة وغلاة الزيديين والسنّة في اليمن.
 وهكذا، باتت إعادة البناء تتطلب إعادة النظر في الكيانات السياسية نفسها، لا في الأنظمة السياسية وحدها كما في مصر وتونس. وهذه عملية قد تستغرق ردحاً من الزمن قبل أن تصل النخب المتصارعة إلى الاقتناع بضرورة تطوير نظام سياسي جديد أكثر تعددية وأقل عسفاً في العلاقة بين الطوائف والقبائل.
صحيح أن هذه العملية دموية للغاية وقاسية للغاية، إلا أنها لابد أن تصل في لحظة ما إلى نهايات سياسية تعيد البناء من جديد، سواء كان ذلك في إطار دولة سورية ويمنية وليبية موحّدة وديمقراطية أو دولة فيدرالية على النمط العراقي أو اللبناني.

- II -
بيد أن تمخضات طنجرة البربستو لاتقتصر على العوامل الداخلية في بلدان الربيع العربي. إذ هناك أيضاً الحدث الجلل المتمثّل في الصعود الهائل والسريع لتركيا إلى قمرة القيادة الإقليمية والعالمية، والذي سيترك بصمات واضحة على الوجهة التي ستسير فيها الثورات العربية. كما هناك أيضاً عوامل أخرى لاتقل أهمية:
- تقلُّص النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وتفاقم الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية في البلاد نتيجة لكلٍ من السياسات المخطئة واستنزاف الغرب لإيران في سباق على التسلح والنفوذ الإقليمي شبيه بذلك الذي تعرّض إليه الاتحاد السوفييتي السابق. وهذا سيسفر في مرحلة ما عن انفجار جديد لطنجرة البريستو الإيرانية، بما لذلك من تأثيرات أخرى ضخمة على المنطقة لاتقل عن تأثيرات الصعود التركي؟
- بدء إنحسار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، بفعل كلٍ من الأزمة الاقتصادية الداخلية واستراتيجية الاستدارة شرقاً التي تنتهجها حالياً إدارة أوباما. وهذا ماسيعطي أهمية مضاعفة للتمخضات المحلية والإقليمية في الشرق الأوسط على حساب الأدوار الدولية المُقررة المعهودة.
- وأخيراً، تراجع قدرة إسرائيل الاستراتيجية على توجيه دفة الأحداث في المنطقة، بعد أن انتقل الوزن التاريخي الفاعل في بلدان المنطقة من مؤسسات الدول والنخب الحاكمة إلى المجتمعات المدنية والأهلية. صحيح أن الدولة العبرية قد تفيد من تفكك الكيانات في الهلال الخصيب وتشتق لنفسها مناطق نفوذ بين بعض الطوائف والإثنيات، إلا أن السياق العام للتطورات في كل المنطقة، مترافقاً مع انتقال مركز الثقل العالمي إلى آسيا/الباسيفيك ومعه محط التركيز الأميركي وصعود تركيا، سيسفر في نهاية المطاف عن تآكل الهيمنة الضمنية الإسرائيلية على نظام كامب ديفيد الشرق أوسطي.

- III -
كل هذه المعطيات تكسي لحماً وعظماً الفرضية التي تقول إن المرحلة الانتقالية العربية الراهنة، على رغم كل آلامها (في مصر وتونس) ومآسيها المُروِّعة (في سورية) ومعاناتها القاسية (في ليبيا)، ستؤدي في خاتمة المطاف إلى ولادة جديدة في المنطقة. وعلى أي حال، بعد كل حرب هناك سلام، وبعد كل دمار هناك إعادة بناء، وبعد كل هبوط صعود.
ربما توقّف الكثيرون عن وصف الثورات العربية بالربيع، وباتوا أقرب إلى نعتها بالشتاء. بيد أن هذه نظرة تفتقر إلى العمق التاريخي.
صحيح أن هذه الثورات لم تقد إلى أنظمة ديمقراطية مستقرة، كما ثورات ربيع أوروبا الشرقية خلال الموجة الثالثة من الديمقراطية، لكن الصحيح أيضاً أن الثورات العربية فتحت باباً لم يعد في الوسع إغلاقه بعد الآن، وهو سيقود في نهاية المطاف إلى حياة جديدة و"عرب جدد".
كل ما في الأمر أن التناقضات غير المحلولة التي تراكمت في طنجرة البريستو العربية طيلة نيف و60 عاما(والبعض يقول ألف عام!)،  لما تنفجر كلها بعد.

سعد محيو





الخميس، 16 مايو 2013

من يسيطر الآن على تاريخ الشرق الأوسط؟





- I -
للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وربما حتى أيضاً في التاريخ القديم منذ العصر العباسي، تطغى العوامل الداخلية على العوامل الخارجية في تشكيل الحدث العربي.
قد لايكون هذا التطور كاملاً او تاماً، في عصر تحوّل العالم فيه إلى قرية واحدة، لكنه حقيقي. صحيح أن قوة جاذبية الدول الكبرى لاتزال موجودة بكثافة، لكن إلى جانبها الآن نبض الشارع العربي الذي يخفق بشدة هذه الأيام.
 العامل الداخلي الذاتي حظي فجأة بقصب السبق واحتل سلم الاولويات. وهو إن لم يكن قادراً على أن يصنع التاريخ وحده، إلا أنه سيؤثر حتماً فيه وفي توجهاته.
الأمريكيون أول من أدرك هذا التطور الجديد والكبير في السياسات العربية، ولذلك تحركوا بسرعة لمحاولة فهمه أولاً، ولتحديد الموقف منه ثانياً. هذه بعض العيّنات:
-       ستيفن هايدمان( نائب رئيس مؤسسة الولايات المتحدة للسلام): المنطقة العربية تهتز بعنف، ويتعيّن على الولايات المتحدة الآن ان تعترف بعمق مشاعر الغضب لدى المواطنين العرب، وأن تقيم علاقة واضحة بين مصالحها وبين مسألة الشرعية في الشرق الأوسط.
-       أرون ديفيد ميلر( باحث في مركز وودرو ويلسون): إدارة أوباما ستكون ذكية إذا ما تجنّبت الانغماس في الأجندة الإديولوجية لسلفها إدارة جورج بوش، خاصة وأنه قد برزت على الساحة أجندة حرية محلية خاصة بالشعوب العربية. الولايات المتحدة لم تعد تُسيطر على تاريخ الشرق الأوسط.
-       دانيال بليكا (نائب رئيس في مؤسسة أمريكا أنتربرايز): ثمة خيارات ثلاثة الآن أمام الولايات المتحدة: أن تقود، أو أن تقوم برد فعل، أو أن توحي بأنها لامبالية. في ضوء التطورات الراهنة في الشرق الأوسط، الأفضل الانحياز إلى الخيار الثالث .
-       حسين آغا وروبرت مالي(باحثان أميركيان بارزان حول الشرق الأوسط): عقود من السياسة الأميركية في المنطقة تلاحق واشنطن كالشبح. ولذا، عليها الآن أن تنتظر لتر ما ستتكشف عنه التطورات في المنطقة.

- II -
خلاصات خطيرة؟
حتماً. إذ هي دليل إضافي على أن حيزاً لابأس به من مستقبل المنطقة بات في أيدي أبناءها. وهذا، كما ألمعنا في البداية، يحدث للمرة الأولى، بعد أن كانت المصائر والمقادير رهن بغرف العمليات الغربية ورهينة لها.
الآن سيتوجب على شعوب المنطقة أن تنظر ملياً في المرآة لترى نفسها فقط وليس "الأخر" الغربي المتفوّق الذي لطالما أربك هويتها. وهذا سيُرتب على هذه الشعوب، نخباً ومواطنين، تحمّل مسؤولية تاريخية كبرى في اتجاهين:
الأول، منع هذه المسؤولية التاريخية الكبرى والجديدة من الانزلاق إلى الفوضى أو الصراعات الداخلية، التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تآكلها أو تضعضع مقوماتها.  وهذا أمر ممكن لأن المطلوب في هذه المرحلة ليس "الفوضى الخلاقة" المُدمّرة، بل "البناء الخلاّق" لمجتمع جديد ولديموقراطية متقدمة.
والثاني، العمل على إعادة ترتيب علاقات المجتمع، بكل مكوناته المدنية والعسكرية، على أسس عقلانية وغير متهورة. فالسرعة مطلوبة، لكن التسرّع أحياناً يؤدي إلى عكس النتائج المتوخاة.
لقد اكتشف ابن خلدون مبكراً أنه " إذا ما تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم وكأنه ولد من جديد"
الأحوال تبدّلت بالفعل بعد أن باتت العوامل المحلية هي الأكثر حسماً. بقي أن يُواكب الخلق ذلك، بحكمة وتؤدة.
- III -

لكن، هل هذه الحكمة متوافرة، وبالتالي هل لايزال في المستطاع الإفادة من هذه "الحرية النسبية" التي يوفرها النظام الدولي للشعوب العربية؟
البعض يرد سريعاً بالنفي. لابل يقفزون إلى القول فوراً أن هذا بات مستحيلاً بعد أن انقلب الربيع العربي إلى شتاء.
ويورد هؤلاء لتعزيز وجهة نظرهم، الحرب الأهلية الدموية في سورية، وانهيار الدولة المتواصل في ليبيا واليمن، وتفاقم الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية في تونس ومصر، ثم يضيفون بأن كل ذلك يشي بأن العوامل الذاتية العربية غير قادرة بنفسها على تجنُّب الفوضى غير الخلاقة.
حسناً. هذا الرأي صحيح جزئياً. لكن جزئياً فقط ومؤقتاً أيضا.
فالانفجار والدمار اللذان تشهدهما المجتمعات العربية هذه الأيام هائل بالفعل. لكن، مايغفله الكثيرون هو أن الحدث أمر طبيعي في الواقع، لا بل قد يثبت أنه في خاتمة المطاف صحي ومثمر.
كيف؟
(غدا نتابع)

سعد محيو