للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الاثنين، 26 مارس 2012

هل يخطف خريف التطرف الديني الربيع العربي؟



الارتباك  لايزال عظيماً في الغرب حول طبيعة الثورات العربية.
وهنا لانقصد فقط التناقض المُضحك للمواقف الرسمية الأمريكية إزاء ماجرى ويجري في المنطقة سوريا إلى البحرين، بل أيضاً التضارب في الاجتهادات الفكرية التي تغشى هذه اللحظات مراكز الأبحاث والأعلام الأيركية.
فكما أن هيلاري كلينتون تكون يوماً مُحافظة ومطمئنة لـ"الاستقرار" في  بعض الدول العربية وفي اليوم التالي "ثورية" وداعية تغيير وانتفاضة إصلاحية، كذلك تحار مراكز أبحاث عملاقة كمجلس العلاقات الخارجية، وبروكينغز، وهارفارد وغيرها، في تفسير أسباب وطبيعة الثورات المدنية – المُواطَنِية الراهنة في الوطن العربي.
فثمة من يثق بأن مايجري هو انتفاضة عربية شاملة لاستقبال الموجة الثالثة من الثورة الديموقراطية العالمية، وإن متأخرة 20 سنة. وبالتالي، مانراه الآن ليس أمراً مفاجئاً أو مستغرباً بل هو امتداد طبيعي لثورات أوروبا الشرقية العام 1989 ولانتفاضات أمريكا اللاتينية العام 1999.
في المقلب الآخر، ينتصب من لايزال لايثق ولا يؤمن بامكان دخول العرب العصر الديموقراطي. ومن يُمثّل هؤلاء في الولايات المتحدة هم أنفسهم من مثّلهم في أوائل التسعينيات، حين تم اختراع "العدو الإسلامي" كي يحل مكان العدو الشيوعي في الغرب: الحركة الصهيونية وغلاة اليهود والمحافظين الأميركيين اليمينيين.
هذا الفريق يعترف بأن ثمة انتفاضة عربية حقيقية، لكنه متأكد بأنها سرعان ما ستتعرض إلى الخطف والسبي على يد الأصوليين الإسلاميين الذين سيقيمون أنظمة حكم ثيولوجية (دينية) تكون أسوأ في استبدادها من الحكومات السلطوية الراهنة.  وهنا، بدلاً من أن تعيش المنطقة الموجة الثالثة من الديموقراطية ، فإنها بالأحرى تشهد أرهاصات ما قبل استيلاء رجال الدين على ثورة 1979 الإيرانية المدنية.
النجم الفكري والنظري لهذه المدرسة لم يعد، كما كان الأمر في التسعينيات، برنارد لويس( "ماذا ذهب خطأ في الإسلام") أوصموئيل هانتيغتون ("صدام الحضارات") أو فؤاد عجمي (" نهاية الامة العربية")، بل مُفكّر يهودي بلغاري هو الياس كانيتي (1905-1994).
كانيتي هذا نشر العام 1960 كتاباً بعنوان "الجمهور والجبروت"(Crowds and Power). المؤلَفْ مثير بالفعل لأنه موسوعي في تحليله لظاهرة الجمهور وعلاقته بمرض ارتياب الحكّام. وهو يرى، على سبيل المثال، أن البيئة الطبيعية هي التي تعلّم الإنسان كيف يتصرّف كجمهور. وهكذا، فإن الألمان يتصرفون كأشجار بلادهم الكثيفة والشامخة، والعرب كرمال الصحراء، والهولنديين كأمواج البحر، والمغول كالريح.
"الجمهور والجبروت" أثار، ولايزال، الكثير من اللغط حول مدى مصداقيته العلمية، حيث اتهمه الكثيرون بأن يخلط بين العلم والشعر( كانيتي حاز على جائزة نوبل للآداب). لكن الصهيونيين واليمينيين الأميركيين (ومن أسف بعض العرب) يستخدمون بعض مقولاته الآن لقذف الثورات العربية الراهنة بالعشوائية وحتى بالغوغائية التي ستقود إلى استبداد جديد. أبرز هذه المقولات:
" المؤمنون يتوسلون جبروت الله لأن قوتهم وحدها لاتكفيهم، إذا هي بعيدة للغاية وتتركهم أحرار أكثر مما ينبغي. إن حالة التوقع الدائم للقيادة تجعلهم يستسلمون للسلطة منذ نعومة أظفارهم".
كيف فسّر اليمينيون هذه الفقرة؟
بسيطة: بالقول أن العرب لن يحصلوا على الحرية والديموقراطية، لأنهم لازالوا يرضخون لمن هو فوق في السلطة، سواء أكان أباً أو مديراً أو ناظراً أو رئيس دولة.
هل ثمة صدقية ما في هذا "الاجتهاد الجديد"؟ وهل الثورات العربية الراهنة ستكون في نهاية المطاف تكراراً مملاً لتاريخ استبدادي أكثر مللا؟
لا. قطعاً لا.
فمن يتقوّل بذلك، لما يتلقط بعد كُنه وجوهر ما يقوم به المواطن العربي هذه الأيام. إنه بالأحرى يستخدم أدوات تحليل عتيقة وباتت عقيمة، هي نفسها بالمناسبة أدوات الفكر الاستشراقي في الغرب التي نزع عنها إدوارد سعيد ببراعة كل أوراق التوت العلمية التي كانت تتلطى وراءها.
مايجري الآن لايقل عن كونه ثورة بنيوية ضخمة لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي، تطال كل بنية الإنسان العربي. وهذه بعض قسماتها والأدلة.
مايفعله الشباب المصري الآن، على سبيل المثال، يكسر تقاليد عمرها سبعة آلاف سنة اصطلح على تسميتها "الثقافة الفرعونية". وهذه استندت، كما هو معروف، إلى علاقة السيّد والعبد؛ الفرعون ذو السلطات الالهية والرعية ذات الصلاحيات المعدومة؛ السلطان الذي يأمر والعامة التي تطيع.
هذه المعادلة تتساقط أمام أعيننا مباشرة. وعلى يد مَنْ؟ ليس حفنة من الضباط الأحرار، ولا حتى نخبة بورجوازية مثقفة كتلك التي قادها سعد زغلول، بل على يد المواطن العادي الذي يقف الآن في وجه تمثال أبو الهول للمرة الأولى في التاريخ ليقول له: لا.
ومايفعله الشباب في العديد من البلدان العربية هو معلم بارز آخر في هذه الثورة. فهو كسر حاجز الخوف التاريخي الذي لطالما ميّز العلاقة بين الحكام والمحكومين في المنطقة، وبدأ يُحل مكانه رويداً رويداً مفهوم العقد الاجتماعي والقانوني بين الطرفين، حيث الأوائل يحكمون  برضى الأخيرين وشروطهم لا بالقوة والغلبة.
وهذا أسقط معادلة أخرى عاشت وازدهرت نيفاً و1350 عاماً، قوامها أنه من الأفضل أن يعيش المواطنون العرب عشر سنوات في ظل الاستبداد (كرعايا) على أن يبيتوا ليلة واحدة في ظل الفوضى. هذا ما عُرف في التاريخ العربي بنظرية الحاكم العادل المستبد، وهذا ما أنتج على مدار القرون كل أنواع الحكم السلطوية والديكتاتورية.
كيف وصل الجيل الجديد العربي إلى هذا الانقلاب الهائل في المفاهيم السياسية والاجتماعية؟
عبر المبرر نفسه الذي يُسقطه عنهم المستشرقون وحلفاؤهم السلطويون العرب: قدرة المجتمعات العربية على التغيّر والتطور، أسوة بكل المجتمعات الأخرى في العالم.  فما سُمّي في الغرب "الاستثناء العربي، لتبرير الادعاء بأن الديموقراطية لن تحدث في الوطن العربي، يتبيّن بجلاء الآن أنه كان استثناء في عقول أصحابه وحسب، وأن المواطن العربي أثبت، وسيثبت أكثر، أنه الأكثر استئهالاً وتأهيلاً لثورة الحداثة والعصرنة والديموقراطية.
هكذا كان حال المواطن العربي إبّان العصر العباسي، حين كان يقود العالم من أذنه نحو ثورات الطب والفلك والكيمياء وعلم الحياة والحرية الفكرية. وهكذا سيكون حاله الآن بعد أن يستكمل هويته الحديثة الجديدة وشخصيته المتطورة.
ومن لايُصدق، ما عليه سوى الاستماع إلى هدير هتافات الشباب في كل أنحاء الوطن العربي، الذي بدأ يتحوّل بالفعل إلى "ميدان تحرير" واحد، ليس فقط ضد الاستبداد السلطوي، بل أيضاً ضد أي استبداد حتى ولو كان يتلحّف بغلالات الدين.
                                _________________________



                                                                                         




الأربعاء، 21 مارس 2012

سورية: معجزة قبل"الانفجار العظيم"؟


سورية: معجزة قبل"الانفجار العظيم"؟


ماذا إذا؟

هل يندلع في سورية "الانفجار العظيم" في السنة الثانية للانتفاضة، فيتمزّق النسيج الوطني، وتتقطع الأوصال الاجتماعية، وتغرق البلاد والعباد والمشرق برمته في أتون حرب أهلية إقليمية لاسابق لها في التاريخ الحديث، أم تحدث المعجزة وتعبر بلاد الأمويين إلى مرحلة انتقالية يتغيّر فيها الجميع بموافقة الجميع؟.

لاتطرحوا هذا السؤال على أنصار النظام والمعارضة. فكلٌ منهم مستكين ليقين لايهتز بأنه منتصر لامحالة، وقريبا. النظام، لأنه يملك تفوُّقاً كاسحاً في موازين القوى العسكرية والأمنية، مشفوعاً بحماية دولية روسية وصينية يعتقد أنها ستقيه دوماً غوائل الافتراس الغربي الزاحف، والمعارضة لأنها واثقة بأن الناس لن تعود إلى بيوتها لتستأنف الرضوخ إلى القمع والخوف، جنباً إلى جنب مع موثوقية أخرى تتعلّق بدعم غربي كاسح لها.

بيد أن الصورة ليست على هذا النحو القاطع بين الأسود والأبيض. كما أن الوضع الدولي (الذي هو في الواقع العامل الحاسم الراهن في سورية والمنطقة في هذه المرحلة)، ليس هو الآخر على هذه الوضعية القاطعة.

أجل. روسيا والصين تدعمان النظام السوري. لكن هذا ليس (كما يعتقد أنصار النظام) دلالة كبرى على حرب باردة جديدة أو على ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب. فالمصالح الاقتصادية بين الصين وأميركا شاهقة، إلى درجة قد تتقزّم معها الاحتكاكات بينهما في بحر الصين الجنوبي وبقية أنحاء قارة آسيا- الباسيفيك، أو على الاقل تكون قابلة للتسويات. وروسيا انضمت لتوها إلى منظمة التجارة العالمية، وليست في وارد ان تبيع النظام الرأسمالي العالمي الذي تتبناه لتشتري حرباً باردة مع الغرب. حرب هي أصلاً لاتريدها إديولويجياً، وليست قادرة عليها اقتصاديا.

مايريده الروس والصينيون من "مقاومتهم وممانعتهم" في سوريا، هو بالدرجة الأولى منع أميركا من التدخل في شؤونهم الداخلية (عبر سيناريوهات الربيع المتنقّل من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط)، جنباً إلى جنب مع مطالب استراتيجية وأمنية أخرى تتعلّق بتحسين المواقع في كل من النظام العالمي ومناطق العمق الجغرافي.

أجل. أميركا والغرب يدعمان الانتفاضة السورية، لابل قد تخوضان حروب تدخّل عسكري في وقت لاحق في بلاد الشام، إذا ماتطلب الأمر، لأن هذا جزء من استراتجية عليا بدأ تنفيذها منذ العام 2001 لتغيير كل وجه الشرق الأوسط. بيد أن مثل هذا الهدف الاستراتيجي قد يأتي بثمن تكتيكي فادح: تفكيك الدولة السورية، بدل تفكيك النظام وحده.

هل النظام والمعارضة على بيّنة من هذه الوقائع؟

لايبدو. أو هذا ما يتبدى على الأقل من اندفاع النظام إلى إغلاق كل أبواب التسوية السياسية عبر استفتاء لايُفتى به وانتخابات لايريد معظم الناس أن ينتخبوا فيها، وأيضاً من تخبط المعارضة السورية وصراعاتها وتأرجحها بين حلول داخلية صعبة وبين جراحات خارجية أكثر صعوبة.

ومثل هذا الاستقطاب الحاد قد يفتح الأبواب على مصراعيها أمام حرب أهلية (طائفية إلى حد كبير)، ستليها حتماً تسويات ما بإشراف دولي، لكن بعد ان تسيل الدماء مدرارا، وبعد أن يعم خراب البصرة في كل مكان، من جبل الزاوية إلى سواحل طرطوس.

وحدها المعجزة باتت قادرة الآن على انتشال سورية من هذه المقادير.

 أي معجزة؟

إنها تلك التي لايموت فيها الناطور فيحافظ النظام على بقائه عبر تغيير نخبته الحاكمة الراهنة (كما حدث في مصر وتونس واليمن، وحتى نسبياً في ليبيا) وينغمس في مرحلة انتقالية جديدة وجدّية يإشراف دولي، ولايفنى الغنم فينال الشعب السوري حقه التاريخي في الكرامة والحرية.

لكن، هل ثمة وقت بعد للمعجزات؟



___________________________________________________________










الأربعاء، 7 مارس 2012


سوريا: انقلاب في "طبيعة الصراع"



ثمة شبه إجماع الآن بين المحللين العرب والغربيين على أن النظام السوري فقد السيطرة على مناطق شاسعة من البلاد، على رغم الحملات العسكرية الواسعة التي يشنّها منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، في إطار ما بات يُعرف في أدبيات النظام بـ"الانتقال من الحل الأمني إلى الحسم العسكري".

السبب الرئيس لفقدان السيطرة لايعود إلى اختلال موازنين القوى العسكرية بين الحكّام وبين المحكومين المسلحين، سواء أكانوا "الجيش السوري الحر" أو الفصائل المدنية المسلحة الأخرى. فمثل هذا التوازن غير موجود قط، حتى الآن على الأقل، حيث النظام لايزال يتمتع بتفوق عسكري بري وجوي وبحري كاسح.

السبب هو تغيّر طبيعة هذه السيطرة. ففي السابق، وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية من عمر النظام الحالي، كان هذا الأخير يُمسك بكل مفاصل السلطة السياسية ويهيمن بشكل مطلق على كل منافذ المجتمع المدني عبر 15 جهاز أمني - استخباري نجحوا في التغلغل في كل مناحي الحياة السورية، فكانوا في كل بيت وشارع ومؤسسة وشركة وجمعية، وبالطبع في كل ثكنة.

هذه الهيمنة الأمنية المطلقة تهاوت في اللحظة التي وجد فيها النظام نفسه مضطراً إلى الاعتماد على الجيش لاستعادة السيطرة، بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من اندلاع الانتفاضة. فآلاف الدبابات والمدرعات كانت قادرة على احتلال المواقع التي وقعت في قبضة المتظاهرين والثوار، من الزبداني في ضواحي دمشق إلى درعا في الجنوب (والآن حمص في الوسط)، إلا أنها غير قادرة بالطبع على فرض استراتيجية الخوف التي كانت أجهزة الأمن متشعبة الرؤوس تنفذها بنجاح واضح طيلة عقود عدة. الدبابة تستطيع السيطرة بالنيران على شارع أو حي، لكنها لاتستطيع الدخول إلى المنازل والبيوت والمقاهي.



هذا التطور ليس تفصيلاً بسيطا البتة، بل هو سيُثبت، كما سنرى بعد قليل، أنه تحوُّل تاريخي من الطراز الأول في مجال طبيعة الصراع السياسي في سوريا: من صراع بين أجنحة عسكرية- أمنية هيمنت على الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال العام 1946 وحتى الآن، إلى صراع بين العسكر والمدنيين.

لكي نوضح هذه النقطة، قد يكون من المفيد القيام باستعراض سريع لصفحات من تاريخ سوريا الحديث، من حيث العلاقة بين المؤسسة العسكرية- الأمنية وبين المجتمع المدني.

الجيش والأقليات

ثمة انطباع شائع يميل إلى اتهام النظام السوري الحالي بأنه المسؤول عن الخلل الفادح في العلاقة بين الجسمين العسكري والسياسي.

لكن وقائع التاريخ لاتدعم هذا الرأي. فالدولة السورية الحديثة منذ استقلالها في نيسان/إبريل 1946، وبالتحديد بعد نكبة فلسطين، تحوّلت إلى مسرح مفتوح للصراعات العسكرية- العسكرية التي همّشت إلى حد بعيد المجتمعين السياسي والمدني وصادرت إلى حد بعيد أيضاً كل أو معظم أوجه الحياة السياسية.

فغداة حرب فلسطين، قام حسني الزعيم في آذار/مارس 1949 بأول انقلاب عسكري (مُدشِّناً بذلك سلسة انقلابات عسكرية لاحقة في كل أرجاء المنطقة العربية)، سرعان مالحق به إنقلاب ثانٍ بقيادة سامي الحناوي، ثم ثالث بعد سنة واحدة بقيادة أديب الشيشكلي.

وعلى رغم إطاحة الشيشكلي في انقلاب العام 1954، إلا أن الحياة السياسية التعددية والبرلمانية كانت قد أُفرغت من أي مضمون، بسبب إشراف فصائل الجيش والأمن على كل محاورها، وأيضاً بسبب اللااستقرار الذي خلقته الصراعات المتواصلة بين كبار ضباط النخبة العسكرية. فقد وقع عدد كبير من الانقلابات ومحاولات الانقلاب في الفترة بين 1949 و1971، وتغيرّت 20 حكومة في الفترة بين 1946 و1956، وتم فرض حالة الطواريء منذ العام 1963 وحتى تعليقها (شكلياً) أواخر العام 2011.

الملفت هنا هو الدور الكبير الذي لعبته النخب العسكرية الآتية من رحم الأقليات في هذه الصراعات المتواصلة على السلطة. فالزعيم والحناوي والشيشكلي يعودون جميعاً بجذورهم إلى الأقلية الكردية السنّية التي لاتشكل سوى نحو 9 في المئة من أجمالي سكان سورية.

وفي العام 1949 صدر تقرير رسمي عسكري سوري أشار إلى "كل القيادات التي تقف على رأس الوحدات العامة، تعود إلى أصول أقلاوية. وهذه القيادات تساعد الأقارب وأبناء الطائفة على الانخراط في صفوف الجيش".

البعض يُعيد هذا المنحى إلى الانتداب الفرنسي الذي شجّع بوضوح أبناء الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية والإسماعيلية على دخول "القوات الخاصة للشرق" التي شكّلتها قوات الاحتلال. وهكذا بدأت منذ ذلك الوقت رحلة الأقليات، الذين جاء الكثير منهم من مناطق ريفية مُفقرة ومُضطهدة، مع العمل السياسي عبر السلك العسكري.

هذا التطور وصل إلى ذروته مع صعود نجم حزب البعث في السياسات السورية. ففي العام 1959، على سبيل المثال، تألفت "اللجنة العسكرية" في الحزب (أي القيادة العسكرية) من 15 ضابطاً بينهم 3 علويين (حافظ الأسد، صلاح جديد، ومحمد عمران)، وإسماعيليان (عبد الكريم الجندي وأحمد المير) ودرزيان من جبل العرب (سليم حاطوم وحمد عبيد) وستة سنّة من حوران وحلب واللاذقية. وكل هؤلاء الضباط جاءوا من أصول ريفية وعائلات فقيرة ماعدا صلاح جديد وعبد الكريم الجندي.

بعد الانقلاب البعثي في 8 آذار 1963، نشب صراع حاد على السلطة بين ضباط الأقليات الدرزية والعلوية والإسماعيلية. وحين حسم العلويون الصراع لمصلحتهم وأبعدوا الضباط العلويين والإسماعيليين، انفجر الصراع في صفوفهم بين حافظ الأسد وصلاح جديد. ومع نجاح الأسد في إطاحة جديد، من خلال فرض هيمنة الجيش الكاملة على حزب البعث الذي كان منحازاً إلى جديد، وتحوّله إلى أول علوي يتبوأ منصب الرئاسة في سوريا، بدأت مسيرة طويلة كانت سمتها الرئيس ضبط الصراعات داخل المؤسسة العسكرية- الأمنية، وتحويل هذه المؤسسة، التي احتل فيها العلويون معظم المواقع النافذة والمؤثرة (على رغم غلبة عديد سنّة الأرياف في سلك الجنود والمجندين وصغار الضباط)، إلى جهاز بيروقراطي ضخم لإحكام السيطرة على المجتمع المدني.

ومنذ ذلك الحين، تحوّلت هذه المؤسسة إلى شبه طبقة اقتصادية، ومالبثت أن انفصلت عن جذورها الريفية وأبرمت حلفاً مع تجار المدن السنّة تمت فيه (في البداية على الأقل) مقايضتهم بالمنافع الاقتصادية مقابل الرضوخ الأمني، فكانت الحصيلة تصحير كل الحياة السياسية، وإطباق كامل على كل مقومات المجتمع المدني.

تحوُّل تاريخي

هذه المعطيات ربما توضح أن الخلل في العلاقة بين العسكر والمدنيين، وعلى رغم أنها بلغت ذروتها مع حكم الرئيس حافظ الأسد، إلا أنها لم تبدأ معه، بل كانت سمة "تأسيسية" رافقت قيام الدولة السورية الحديثة.

وهذه الحقيقة بالتحديد هي التي تعطي الانتفاضة السورية الراهنة بعدها التاريخي العميق الذي أشرنا إليه في البداية. فهذه قد تكون المرة الأولى التي ينتفض فيه معظم المجتمع المدني السوري ضد النخب العسكرية الحاكمة، مسجلاً بذلك أول اهتزاز كبير في موازين القوى بين الطرفين.

صحيح أن سوريا شهدت في السابق طيلة العقود الستة الماضية انتفاضات شعبية ومطلبية، إلا أن هذه لم تتسم بالشمولية ولم تؤثر على طبيعة الصراع على السلطة في البلاد. هذا في حين أن الانتفاضة الحالية اخترقت معظم بنى المجتمع السوري، وهي تطرح شعارات تصب مباشرة ضد هيمنة النخب العسكرية - الأمنية على مقدرات البلاد: الدولة المدنية، الديمقراطية، حكم القانون، الحرية.. ألخ.

حقيقة تغيّر طبيعة الصراع هذه ستبقى ماثلة، حتى لو انحدرت سوريا إلى حرب أهلية طائفية في حال بقيت معظم النخب العلوية متماسكة وداعمة للنظام الحالي. فالنخب العسكرية العلوية لن يكون بمقدورها بعد الآن مواصلة سيطرتها الأمنية السابقة على البلاد، كما أنها باتت تفتقد بشكل خطير إلى الأدوات الإديولودجية التي مكّنتها في السابق من دمج مفهومي الهيمنة (بالمعنى الغرامشي) والسيطرة (بالمعنى التوتاليتاري): القومية العربية العلمانية؛ حرب تشرين/أوكتوبر 1973 (التي منحت النظام شرعية غير مسبوقة)؛ وأولوية ما هو عروبي وحدوي على ما هو وطني محلي أو مطلبي.

كل هذه الأدوات أصبحت هشة أو حتى لا أثر لها. فالقومية العربية انحسرت في سوريا وكل المنطقة العربية بعد أن تلقَّت الضربة القاضية في هزيمة 1967 وبعد أن تعثّرت كل وعود الوحدة والحرية والاشتراكية. وحرب تشرين/أوكتوبر تكاد تصبح حدثاً تاريخياً عادياً، خاصة وأن الجولان لايزال محتلاً منذ 45 عاماً، ما عنى أن هذه "الحرب التحريرية" لم تكن في الواقع تحريرية تماما. وأولويات الجيل السوري الجديد، كما أولويات كل أجيال الربيع العربي، لم تعد الوحدة والاشتراكية، بل الخبز والكرامة واحترام حقوق الإنسان.

لكل هذه الاعتبارات، جوهر الصراع في سورية الذي قلبته الانتفاضة الراهنة رأساً على عقب، سيبقى بين العسكر والمدنيين، حتى لو تلوّن بسمات طائفية ومذهبية، أو حتى لو توسّعت وتيرة الانشقاق في صفوف الجيش السوري.

فالحدث التاريخي الآن في سوريا بات في يد المدنيين أو الشعب للمرة الأولى منذ 1949. وما لم يتأقلم العسكر بكل أشطارهم (أي في الموالاة كما في المعارضة) مع هذه الحقيقة، فأنهم سيحفرون بأيديهم قبر الدولة السورية الحديثة (ومعها الكيان الوطني السوري)، أو على الاقل سيحولونها إلى "دولة فاشلة".



سعد محيو- بيروت