للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الأربعاء، 31 يوليو 2013

السيسي: ناصر آخر يولد في مصر؟


               



- I -

جمال عبد الناصر جديد يولد الآن مباشرة أمام أعيننا في مصر: الفريق أول عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي.


القسمات بين الرجلين تكاد تكون واحدة: الشخصية الكاريزمية اللبقة والمبتسمة دائماً ولزبة اللسان والقادرة على تحريك مشاعر الناس بسهولة (السيسي أبكى هاني شاكر ومحمد فؤاد والعديد من الناس في خطب عدة، تماما كما كان عبد الناصر يبكيهم ويضحكهم).
 كما يبدو أيضاً أن مفهوم السيسي لـ"الجماهير"، هو نفسه مفهوم ناصر: مادة خام يمكن "طبخها وعجنها" غب الطلب، من خلال إقامة علاقات مباشرة بينها وبين "القائد" تستند إلى المصارحة، واللغة العامية المباشرة، والإيحاء بالصدق والقوة والوعود الكبيرة. وهو جسّد ذلك قبل يومين حين دعا "الجماهير" إلى النزول بالملايين إلى الشارع لدعم أجراءات قاسية ينوي اتخاذها ضد "العنف والإرهاب".
وفوق هذا وذاك، يتشابه الرجلان بالقدرات التكتيكية الهائلة. فقد تمكّن عبد الناصر، بعد نجاحه في تنفيذ انقلاب 23 يوليو/تموز  ،1952من البقاء سنتين تحت الأضواء ووراء الكواليس بصفته الرجل الثاني في الثورة بعد اللواء محمد نجيب، كان يعمل في أثنائها على التدرب على السلطة وتنظيم أركان عهده الجديد. وبالمثل، نجح السيسي في نيل ثقة من لايثقون بأحد (الأخوان المسلمين) ليس فقط بعد تعيينه قائداً عاماص للجيش المصري بل حتى قبل ذلك، حين كان المفاوض عن القوات المسلحة مع محمد مرسي الذي سيصبح رئيساً فيما بعد.
وتقول نيويورك تايمز أن السيسي كان بارعاً في تكتيكاته السياسية، إلى درجة أن الرئيس مرسي ظل مقتنعاً حتى اللحظة الاخيرة، وعلى رغم إنذار الجيش له بتسوية الازمة خلال يومين، أن السيسي لن ينقلب عليه.

- II -
إلى هذا المتشابهات بين ناصر والسيسي، هناك بالطبع الخلفية العسكرية والسياسية.
فالرجلان لاينتميان إلى مؤسسة واحدة لها تاريخ عريق في مصر وحسب، بل هما يمتلكان أيضاً إيماناً بأنها هي وحدها القادرة على إدارة شؤون البلاد. عبد الناصر كان يطلق على القوات المسلحة وصف "الطليعة الثورية" المنوط بها دفع مصر نحو دورب التقدم والحداثة وموقع الزعامة الإقليمية والعالمية، والسيسي عبَّر أكثر من مرة عن قناعته بأن الجيش قادر على تحويل مصر من "أم الدنيا" إلى "أم وزعيمة عالمية".
والمفارقة هنا أن كلاً من السيسي وناصر بدءا حياتهما السياسية بإقامة علاقات ودية مع الاميركيين. فالثاني كان على اتصال (عبر أحد الضباط الأحرار) مع السفارة الأميركية في القاهرة قبل إنقلاب 23 يوليو وبعده، ولم تنقطع العلاقات بينهما إلا بعد حرب السويس العام 1956، حين اتهمت واشنطن ناصر بعدم الوفاء لعهد قطعه بإقامة سلام مع إسرائيل مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء. والسيسي أقام علاقات مع الأميركيين خلال الدورتين التدريبيتين اللتين قام بها في المؤسسات العسكرية الأميركية، ثم بالطبع خلال تسلّمه قيادة الجيش المصري ووزارة الدفاع.
هل تشمل التشابهات في الشخصية، تشابهاً أيضاً في المباديء؟
بعض المصادر المقربة من السيسي تقول أنه من الأنصار المتحمسين لعبد الناصر. بيد أن هذا لابعني بالطبع التحمّس أيضاً لمباديء هذا الأخير، التي استنتدت إلى مفاهيم عدم الانحياز في السياسة الدولية، والاشتراكية وقيادة القطاع العام للانتاج، ورفض الديمقراطية الغربية. فالظروف الداخلية والخارجية انقلبت رأساً على عقب في كل المجالات. ولو أن عبد الناصر نفسه كان حياً الآن، لانتهج أساليب مختلفة في مجال التنمية الاقتصادية والسياسية.
المجال الذي يمكن أن يكون فيه السيسي ناصر ثانياً قد يكون في السياسة الخارجية، في اتجاه استعادة مصر لدور الزعامة الإقليمية بعد استقرار وضعها الاقتصادي والسياسي.

- III -

هل تعني كل هذه المعطيات أننا نتوقع أن يكون السيسي هو زعيم مصر الجديد؟
أجل، لكن هذه المرة لن يأتي الرئيس السيسي من فوهة البندقية كما فعل عبد الناصر، بل من خلال أقلام الاقتراع. وحتى لو التزم السيسي عدم الترشح للرئاسة، كما أعلن قبل أيام، فهو سيبقى رجل مصر الأقوى من وراء الستار، كما كان ناصر رجلها الأقوى قبل إطاحة نجيب.
ثمة نجم كاريزمي جديد يبرز في مصر الأن.
كل الأنظار إليه.

سعد محيو
 هذا المقال نشر أولاً في موقع "المدن" الالكتروني في 30-7-2013



   

الاثنين، 29 يوليو 2013

بول بوت الكمبودي يبُعث حياً في سورية


- I -
الأزمة السورية انتقلت مؤخراً من كونها مأساة إنسانية إلى كارثة إنسانية مكتملة الأوصاف، ومتكاملة الأبعاد، بحيث يمكن القول بحق أنها كارثة القرن الحادي والعشرين.
حصيلة "الانسان الجديد" في كمبوديا(الصورة من غوغل

الكثيرون من محبي علم المقارنات أسرعوا إلى تشبيه سورية بالصومال، حيث أدت الدولة الفاشلة هناك إلى سقوط البلاد في أيدي الميليشيات والمافيات المتصارعة في حرب مستمرة ومستعرة منذ عقدين. فيما البعض الأخر فضّل النموذج الأفغاني الذي تتصارع فيه القبائل والإثنيات إلى الأبد على الأرض وفتات الثروات والنفوذ بدعم من قوى إقليمية ودولية متنافسة.
بيد أننا نعتقد أن المقارنة الأهم لوضعية سورية الراهنة يجب أن تكون مع كمبوديا في عهد بول بوت في سبعينيات القرن العشرين.
لماذا كمبوديا؟
لأن ماجرى في ذلك البلد لم يكن، كما في الصومال وأفغانستان، حصيلة عشوائية لعملية إنهيار الدولة المركزية، بل جهداً مخططاً له بدقة وعناية، وعن سابق تصوُّر وتصميم.
فزعيم الخمير الحمر بول بوت، الذي تعلّم وتدرّب على يد منظرين ماويين فرنسيين خلال دراسته في باريس، تبنى نظرية "الاشتراكية الزراعية"، بدل اشتراكية البروليتاريا، كوسيلة وحيدة لبناء "الإنسان الجديد" و"الشيوعية الجديدة" في كمبوديا.
وحين اكتشف أن سكان المدن مدمنون على الحداثة الاستهلاكية ومن المستحيل عليهم قبول طبعته الخاصة من الاشتراكية وبناء الإنسان، قرر في البداية نقل كل سكان المدن إلى الأرياف لإعادة صقلهم من جديد من خلال العمل اليدوي الزراعي وغسل الأدمغة من "الوسخ الرأسمالي" العالق بها. لكن، عندما فشلت هذه الخطوة أيضاً في تغيير أنماط حياة سكان المدن، اتخذ قراره التاريخي المخيف: قتل ثلث سكان كمبوديا، أي نحو ثلاثة ملايين من أصل ثمانية ملايين. وأتبع ذلك بنظرية أخرى تقول أن الاشتراكية الزراعية والإنسان الجديد لايحتاجان سوى إلى مليوني كمبودي، ولذا لايزال هناك "فائض" من ثلاثة ملايين نسمة يمكن الاستغناء عنهم.
- II -
\في سورية، ليس هناك بول بوت إديولوجي من هذا النوع. لكن يبدو أن قادة النخبة الحاكمة وبعض قطاعات المعارضة على حد سواء، يتبنون توجهات مشابهة إنطلاقاً من اعتبارات ديمغرافية وأمنية وطائفية. توجهات قيل أن السيدة أنيسة، زوجة الرئيس الراحل حافظ الأسد، عبّرت عنها في بدايات الأزمة بالقول: "لقد استلمنا سورية وهي سبعة ملايين نسمة، وسنعيدها سبعة ملايين".
ليس ثمة تأكيد ثابت لهذا القول "البولبوتي" الخطير (كما ليس هناك نفي له أيضا). لكن مع ذلك، مايجري في سورية الآن يصب في هذه الحصيلة: تشريد نصف سكانها (12 مليوناً) في الداخل والخارج. سقوط مايقترب من مليون قتيل وجريح (والعد مستعد بمعدل ستة آلاف قتيل وعشرات آلاف الجرحى شهريا). تدمير قطاعات واسعة من البنى التحتية والصناعية والزراعية، وبالطبع السياحية التي كانت تدر وحدها على سورية نحو 7 مليارات دولار سنويا. ترييف المدن عبر مسح أحياء فيها بالكامل.. ألخ.
المسؤولية هنا تقع في معظمها على كاهل النظام. بيد أن هذا لاينفي أن المعارضة المسلحة الأصولية المتطرفة، تتبنى هي الأخرى أساليب بول بوتية مماثلة، تم التعبير عنها بشعار "العلويون إلى التابوت والمسيحيون إلى بيروت"، وأيضاً بتطبيق طرائق حياة بدائية بالقوة على سكان المناطق التي تسيطر عليها.
وهنا، حيث تتقاطع أساليب النظام البربرية مع شعائر بعض قطاعات المعارضة الهمجية، يتضح كم الشبه كبير الآن بين سورية أوائل القرن الحادي والعشرين وبين كمبوديا أواخر القرن العشرين، خاصة في مايتعلق بتغيير التركيبة الديمغرافية السورية بالحديد والنار، والتهجير والتدمير، والقتل والترويع.
ومما يزيد من بربرية ووحشية مايجري، ليس فقط الصمت المريع للمجتمع الدولي على هذه الكارثة الإنسانية الكبرى والمخطط لها عن سابق تصوّر وتصميم، بل أيضاً انعدام أي إمكانية حوار بين الطرفين المقاتلين. وهذا أمر لم يحدث حتى إبان الحرب الأهلية الوحشية اللبنانية (1975-1989) حيث كان الأفرقاء المتصارعون حريصين على الأقل على عقد الجلسات تلو الجلسات للحوار، حتى وهم يعلمون أنها لن تصل إلى شيء.
- III -
سورية الآن هي حقاً كمبوديا بول بوت في صيغة أخرى. ومالم يلتفت المجتمع الدولي سريعاً إلى هذه الحقيقة، سيكون الأوان قد فات ليس فقط لمحاولة إعادة توحيد الوطن السوري، بل حتى أيضاً إلى إنقاذ ربع أو حتى نصف الشعب السوري من مصير بول بوتي آخر.

سعد محيو




الأربعاء، 24 يوليو 2013

ماذا ينتظر حزب الله وإيران في سورية؟



- I -
السؤال التالي قد يبدو لوهلة بسيطاً، لكنه في الواقع معقَّد للغاية:
كيف تتسامح إسرائيل، أو حتى تتعايش، مع امتداذ النفوذ العسكري لعدوها حزب الله  من جنوب لبنان إلى القصير وحمص في سورية، وصولاً إلى بعض مناطق درعا ودمشق؟
ولماذا تتسامح الولايات المتحدة، أو حتى تتعايش، مع انبعاث النفوذ الإيراني في سورية، بعد أن ذجَّت طهران مؤخراً جل طاقاتها العسكرية والأمنية والتنكولوجية لإنقاذ نظام الأسد؟
السؤال يبدو بسيطاً لأن جوابه بسيط: تل أبيب وواشنطن تبدوان سعيدتين للغاية بغرق إيران وحزب الله في الوحول السورية. ولذلك فهما لاتعتبران أن ثمة خطراً أمنياً عليهما، طالما أن الحرب الأهلية- الإقليمية السورية ستدوم طويلاً كما تؤكد معظم التحليلات.
لا بل أكثر: بالنسبة إلى إسرائيل، قد يكون "الكوريدور(الممر) الأمني الذي يقيمه الأن النظام النظام السوري بالتعاون مع حزب الله في مثلث القصير- حمص- دمشق  إضافة إلى امتدادته الجغرافية في البقاع اللبناني (وربما أيضاً الجنوب اللبناني) تطوراَ إيجابياً، طالما أنه قد يعني احتمال قيام دولة علوية وبالتالي تفتيت سورية إلى دويلات طائفية كما كانت أيام الاستعمار الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين.
- II -
لكنه (السؤال) ينقلب إلى التعقيد، حين نضع في الاعتبار أن موازين القوى الداخلية السورية توقفت عن كونها العامل الحاسم في الصراع، وحلّت مكانها الاعتبارات الاستراتيجية الإقليمية والدولية.
هنا، تكون "إيجابية" قيام الدولة العلوية سلبية لأسرائيل، إذا ما عنت أن هذه الدولة ستكون تحت حماية إيران وسطوتها.
وهنا أيضاً، ستكون أميركا هي الخاسر الأكبر، ليس في الشرق الأوسط بل في العالم أيضاً، إذا ما نجحت إيران وحزب الله في فرض سيطرة نظام الأسد مجددا على سورية أو معظمها، لأن ذلك سيعني ابنعاث امبراطورية قورش الفارسية التاريخية مجدداً في قوس يمتد من أصفهان إلى سواحل البحر المتوسط على رفاة الامبراطورية الأميركية- الإسرائيلية المشتركة في الشرق الأوسط.
وهذه الحقيقة لن تسمح لأميركا بإدارة الظهر الأميركية للأزمات الدولية في الشرق الأوسط وغيرها من المناطق، إذا ما أرادت هذه القوة العظمى مواصلة اعتصار الاقتصاد المالي الدولي والحفاظ على سطوة الدولار، عبر لعبها دور شرطي النظام العالمي المحافظ على أمنه واستقراره.
في مرحلة ما، ستصل إدارة أوباما إلى لحظة الحقيقة. وهذه الأخيرة ستأتي إذا ما واصل النظام السوري، ومعه حلفاؤه في إيران والعراق وحزب الله الذين قذفوا مؤخراً بكل أوراقهم الاستراتيجية في لعبة البوكر الدموية السورية، تحقيق المزيد من الانجازات العسكرية والأمنية. إذ أن ذلك سيعني أن إيران ستخرج من سورية منتصرة مما كان يفترض أن يكون أكبر هزيمة استراتيجية لها.
ومثل هذا التطور لن يلبث أن يجعل دولة الخميني في موقع يمكنها من فرض حصار حقيقي على منطقة الخليج العربي التي تحتوي على 45 في المئة من احتياطي العالمي، والتي ستصبح حينذاك ليس فقط خليجاً فارسياً  قولاً وفعلاً وحسب، بل أيضا مرتعاً للصينيين الذين ييدو أنهم بدأوا يردون الآن على استراتيجية الاستدارة الأميركية شرقاً نحو الصين وشرق آسيا باستراتيجية الاستدارة غرباً نحو الشرق الأوسط وروسيا وإفريقيا.
- III -
الآن، طالما أن سؤالنا الأولي يتضمن كما هو واضح التبسيط والتعقيد في آن، فما هي طبيعة التطورات التي يمكن أن تنهي هذا التناقض؟
أي: متى (وليس هل) ستقرر واشنطن وتل أبيب التدخل في سورية؟
سيحدث ذلك حتماً في اللحظة التي يبدو فيها أن مثلث إيران- حزب الله- نظام الأسد، بات قاب قوسين أو أدنى من سحق المعارضة السورية.
إذ حينها، ستتبدد كل المبررات التي ساقها رئيس هيئة الأركان المشتركة الاميركية ديمبسي أمس لرفض التدخل الاميركي في بلاد الشام، وستحل مكانها الدعوات المزدوجة في واشنطن إلى كلٍ من ضرورات التدخل الإنساني ("مسؤولية التدخل") لوقف الإبادات الجماعية في سورية، وإلى حماية المصالح الاستراتيجية الاميركية ضد "الاعتداءات" الإيرانية والصينية والروسية عليها.
أما إسرائيل، فسيكون تدخلها أكثر إلتباسا، لأنها لن تعارض الموقف الأميركي الذي ينتظر أن يدعم المعارضة السورية بالسلاح والتدريب، خاصة ضد وحدات إيران وحزب الله، لكنها ستعمل في الوقت ذاته على عرض مظلة حمايتها للدولة العلوية في حال تقرر إنشاؤها.
وهذا ما  يفسر لنا مجدداً أسباب بساطة وتعقيد سؤالنا الأولي!

سعد محيو






الخميس، 18 يوليو 2013

أين أميركا من "الثورة المضادة" الخليجية؟


- I -
"الثورة المضادة" التي شنَّتها بعض دول الخليج في المنطقة العربية، بدت للوهلة الأولى وكأنها "ضربة معلِّم" في مجال الألعاب الدبلوماسية الدولية.
لكن هذا للوهلة الأولى فقط، كما سنرى بعد قليل.
فهذه الثورة جاءت في وقت لايزال فيه الجدل ساخناً في الولايات المتحدة حول الوسيلة الأنجع للحفاظ على الزعامة العالمية الأميركية في القرن الحادي والعشرين. وهو جدل يدور بين معسكرين رئيسيين إثنين:
الأول، يدعو إلى تقليص الالتزامات الأمنية- العسكرية الأميركية في العالم إلى حد كبير، والتركيز بدلاً من ذلك على "بناء الأمة" في الداخل الأميركي وعلى تطوير الاقتصاد والبنى التحتية والتعليم.
والثاني، يطالب بإبقاء الاستراتيجية الكبرى الراهنة القائمة على الحفاظ على النظام الدولي الراهن بقوة السلاح الأميركي، ويحذَر من أن التخلي عن هذه الاستراتيجية والتقوقع في الداخل سيعنيان نهاية الدولار كعملة احتياط عالمية ومعه البحبوحة الأقتصادية الأميركية.
المقاربة التي يُطل بها أنصار الخيار الأول الإنسحابي على إقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منها منطقة الخليج، تعزز في الواقع الانطباع بأنه مالم تعمد الأنظمة والأسر الحاكمة في الشرق الأوسط إلى إحداث إصلاحات سياسية شاملة في ممالكها وإماراتها وجمهورياتها، فإنها ستضع نفسها (وربما أوطانها أيضاً) في خطر ماحق، ولن يقدم الغرب على انقاذها.
ماذا يقول أنصار هذا المعسكر؟
أحد أبرز ممثلي هذا التيار هو باري بوسن، مدير برنامج دراسات الأمن في مؤسسة ماساشوستس للتكنولوجيا. وهو نشر مؤخراً في دورية "فورين أفيرز" دراسة بعنوان :"انسحبوا- الدفاع عن قضية سياسة خارجية أميركية أقل نشاطاً". (Pull back: The case for a less activist foreign policy) )
جاء في الفقرات المتعلقة بمنطقة الخليجـ على سبيل المثال:
- على المؤسسة العسكرية (الأميركية) إعادة تقييم  التزاماتها في الخليج "الفارسي" (العربي)، إذ يجب على الولايات المتحدة أن تساعد الدول في هذه المنطقة على الدفاع عن نفسها ضد هجمات خارجية، لكن ليس في وسعها تحمُّل مسؤولية الدفاع عنها ضد تمردات داخلية.
- واشنطن لاتزال في حاجة إلى إعادة تطمين دول الخليج حيال الدفاع عنها ضد قوة إقليمية مثل إيران قد تهاجمها وتخطف ثروتها النفطية، لكن لم يعد ضرورياً أن يقيم الجنود الأميركيون قبالة شواطىء هذه الدول، حيث أن وجودهم يثير النزعة المعادية لأميركا ويربط الولايات المتحدة بأنظمة أوتوقراطية مشكوك في شرعتيها.
- على سبيل المثال، تعاني البحرين من قلاقل داخلية كبيرة، الأمر الذي يطرح أسئلة حول قابلية استمرار الوجود العسكري الأميركي المتنامي هناك. وقد أثبت العراق أن محاولة تنصيب أنظمة جديدة في البلدان العربية أمر مخطيء من ألفه إلى الياء. وبالتأكيد، الدفاع عن أنظمة قائمة تواجه ثورة داخلية لن يكون أسهل بأي حال.

- II -
نص واضح؟
يفترض ذلك. وهو يجب أن يدق أجراس إنذار قوية لدى كل الأنظمة الملكية التي لاتزال تراهن على أن الغرب يمكن أن يحافظ على الصفقة التي عقدها مع الإسلام السياسي الخليجي منذ الحرب العالمية الثانية، على رغم كل إنقلابات الربيع العربي.
قد يقال هنا أن باري بوسن ليس سوى صوت واحد من جمهرة أصوات في أميركا ترفض الفصل بين الصفقة الأمنية وبين التحالف السياسي بين الولايات المتحدة ودول الخليج.
وهذا صحيح.
لكن الصحيح أيضاً أن هذا الصوت المنفرد بات يصبح له أنصار كثر، خاصة وأن منطقة الخليج تمتص 15 في المئة من إجمالي النفقات العسكرية الأميركية المكلفة في العالم. كما أنه يندرج ضمن إطار تطورين إثنين:
الأول، استعداد أميركا، كما بدا مع ثورات الربيع العربي، لقلب نوعية تحالفتها مع حركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، من خلال تبينها للقوى الإسلامية التي تعانق شروط العولمة الليبرالية سياسياً كما اقتصاديا (النماذج التركية والإندونيسية والماليزية.. ألخ).
والثاني، أن الاستراتيجية الكبرى الأميركية في العالم تمر هي الأخرى في مرحلة مخاض وتطوير وتبديل، بفعل تحوّل السلطة الاقتصادية والتجارية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهاديء، وهو مخاض لابد أن يترك تأثيرات جلى على منطقة الشرق الأوسط ومركزها الخليجي.

- III -
المعسكر الانسحابي له اليد العليا الآن في الولايات المتحدة. وهذا واضح من خلال سياسة نفض اليد الفعلية التي تنتهجها إدارة أوباما إزاء الأحداث الجسام في مصر وسورية. الأمر الذي يجب أن يدفع إلى قرع أجراس الانذار في دول الخليج.
لماذا؟
 لأنه يعني أن الولايات المتحدة قد لاتكون في وارد التدخل لحماية هذه الدول، في حال أدّت "الثورة المضادة" الخليجية إلى ثورات ارتجاعية ضدها في الداخل تغذيها الصراعات الإقليمية الجديدة.
وهذا بات أمراً وارداً بقوة الآن، بعد أن فجّر الربيع العربي الخلافات والاستقطابات الحادة داخل المعسكر الإسلامي في المنطقة العربية. وعلى الأخص بعد أن أدّت "الثورة المضادة" إلى مايشبه إعلان الحرب العلنية بين أطراف الإسلام السياسي.
سعد محيو

الأربعاء، 17 يوليو 2013

لماذا لن تنجح "الثورة المضادة" الخليجية؟


- I -
أشرنا بالأمس إلى أن أصحاب القرار في دول الخليج لم يضعوا بعد يدهم على طبيعة التحولات التي تجري هذه الأيام في المجتمعات العربية، وهذا مادفعهم إلى شن ماوصفه المحلل البريطاني مايكل بيل بـ"الثورة المضادة".
إذ هم يعتقدون أن الصراع فيها قصر على التلاوين المختلفة من الإسلام السياسي، بحيث يكفي تغليب لون ماقريب من إسلام أولي الأمر الخليجيين (على غرار أطراف محددة من السلفيين) بدعم من المؤسسات العسكرية- المخابراتية العربية، على الإسلام السياسي (للأخوان المسلمين مثلاً) حتى يستتب الأمر لهم.
بيد أن الصورة قد لاتكون على هذا النحو.
صحيح أن ثورات الربيع العربي أسفرت عن وصول قوى الإسلام السياسي إلى السلطة، لكن هذا كان مجرد "صدفة تاريخية" إذا ماجاز التعبير. إذ أن هذه القوى "صدف" أنها كانت الأكثر تنظيماً وتمويلاً حين انطلقت الثورات بسبب عجز الأنظمة السلطوية السابقة عن قمع مساجدها وتكاياها ومنظماتها الاجتماعية غير الدينية، فقطفت ثمار هذه الثورات.
لكن، وبعد أحداث 30 حزيران/يونيو في مصر، يتبيّن الآن بجلاء أن هذه الثورات أعمق بكثير من مجرد انتقال السلطة من يد إلى يد. فهي ظواهر معقدة للغاية يتربع على رأسها صراع طبقي من نوع جديد لم تعهده المنطقة العربية من قبل، جنباً إلى جنب مع صراع الحداثة والتقليد.
السمات الرئيس لصراع الطبقات تمثَّل في نزول ملايين من الطبقة الوسطى والعاطلين عن العمل والعمال إلى الشوارع، بسبب فشل الإخوان المسلمين في وضع الاقتصاد على طريق الشفاء، وتعثرهم في حل القضايا المعيشية الملحة. شعار الإخوان هنا "الإسلام هو الحل"، لم يستطع أن يردع المتظاهرين عن إبداء تظلماتهم حتى في خضم الاتهامات لهم بأنهم "غير إسلاميين". وهذا كان في الواقع تطوراً كبيراً في المجتمع المصري كشف النقاب بشطحة قلم عن تقدم الصراع الطبقي الاقتصادي- الاجتماعي على الصراعات الإديولوجية الدينية.
في تونس، وعلى رغم أن حزب النهضة الذي هو نسخة من تنظيم الإخوان المسلمين، تجنّب الوقوع في العزلة التي سقط فيها إخوان مصر، لايزال هو الأخر عرضة إلى تحديات كبرى مقبلة إذا ما استمر العجز عن وضع الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية الصعبة على سكة الحل. وهذا أيضاً مؤشر فاقع على أولوية الصراع الطبقي على الإديولوجيا.
علاوة على ظاهرة الصراع الطبقي هذه، هناك مسألة لاتقل أهمية كنا قد أشرنا إليها في هذا الموقع، وهي أن المنطقة العربية دخلت طيلة نصف القرن المنصرم مرحلة حداثة لم يعد بامكان شعوبها التراجع عنها. الحداثة هنا، بقيمها الليبرالية، وأدواتها التكنولوجية، ومعاييرها العلمية، باتت نمط حياة لاتستطيع الحركات السلفية أو الأصولية تغييره لا بسهولة ولا بصعوبة. وهذا يعني ان بديل الإخوان لن يكون حلفاء السعودية من السلفيين الوهابيين، بل صيغاً جديدة من التحالفات بين القوى الحديثة والتقليدية، خاصة في حال تراجع الإخوان بعد حين عن نهج المجابهة الراهنة، وسلكوا الطريق الأردوغاني.
وبالمناسبة، صراع الحداثة والتقليد هذا ليس قصراً على دول الربيع العربي. فإذا ما كان الصراع الطبقي يغيب عن المجتمعات الخليجية بسبب ثروات النفط والتراكيب الديمغرافية، فإن صراع الحداثة والتقليد يحتل الأن المرتبة الأولى من بين الصراعات هناك. وبالطبع، وعلى رغم أن التحديث لايعني بالضرورة التوجّه نحو الديمقراطية، إلا أنه شرط لازب لها، تماما مثل شرط نشوء طبقة وسطى كبيرة.
- II -
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنها تعني، ببساطة، أن "الثورة المضادة" التي تقوم بها دول الخليج الآن لمحاولة إعادة تشكيل المنطقة العربية على صورتها، لن تكلل بالنجاح، وهذا في الدرجة الاولى لأنها تستخدم أدوات تحليل قديمة لمحاولة تطورات جديدة غاية في الاختلاف في المجتمعات العربية (كما أيضاً في المجتمعات الخليجية نفسها).
لقد حاول د. أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، تطوير هذه الأدوات حين حدد المخاطر في المنطقة العربية على أنها: العنف، وصعود الطائفية، والدور غير الواضح للجماعات الإسلامية السياسية، وتفاقم التدخلات الخارجية من جانب معتدين إقليميين، والأزمة الاقتصادية المتعمقة؛ وأيضاً حين اقترح إجراءات سريعة لخلق الوظائف للشباب ودعم القوى المعتدلة لمنع المتطرفين من ملء الفراغ.
بيد أن هذا التوصيف وتلك الاقتراحات، على أهميتها، لن تكون كافية لا على صعيد المنطقة العربية ولا في داخل دول الخليج.
فالمساعدات الضخمة التي قدمتها دول الخليج لدعم "الإنقلاب العسكري- الشعبي" في مصر، ستكون مجرد فقاعة سرعان ماتتبدد خلال ستة أشهر أو سنة، مالم يعاد بناء الاقتصاد المصري من جديد على أسس إنتاجية تأخذ بعين الاعتبار حيثيات الصراع الطبقي الجديد. أي أن الحل في مصر ليس مالياً خليجياً بل اقتصادياً استراتيجيا.
واستمرار دول الخليج في رفض التحديث السياسي المتطابق مع التحديث الاقتصادي الكبير الذي حدث فيها، عبر الإصلاحات الديمقراطية، لن يمنع التمخضات الكبرى داخل المجتمعات الخليجية، ولن يجعلها بالطبع النموذج الذي يمكن أن تتطلع إليه شعوب الربيع العربي. المَلَكِية المغربية حينذاك ستكون (في حال نجحت المرحلة الانتقالية الراهنة إلى الديمقراطية) هي النموذج، لا السطوة المالية لأموال دول الخليج.
- III -

ماذا الآن عن الموقف الأميركي من "الثورة المضادة" الخليجية؟

سعد محيو





الثلاثاء، 16 يوليو 2013

هل أخطأ حُكّام الخليج بشن "الثورة المضادة"؟


- I -
المحلل البريطاني مايكل بيل، ربما كان أحد قلة قليلة في الغرب والشرق حاولت التقاط الابعاد الاستراتيجية العميقة للدعم الكبير الذي قدمته السعودية والامارات والكويت لـ"الانقلاب الشعبي- العسكري" في مصر.
الأفكار الرئيسة  لبيل(فاينناشال تايمز- 15-7-2013):
أين أخطاً حكام الخليج؟ (الصورة من غوغل

- البيانات الخليجية عن "إرادة الشعب المصري" وعن "الاعتدال والتسامح"، كان يمكن أن تأتي مباشرة من كتاب ليبرالي امبريالي في واشنطن أو لندن. وهي تعكس استعادة الدول الخليحية للثقة بالنفس بعد أن هزتها أحداث الربيع العربي.
- المسؤولون في شبه الجزيرة العربية اغتنموا فرصة الإطاحة بمرسي كنقطة انطلاق لشن "ثورة مضادة" تستغل قلق الشعوب في الشرق الأوسط من الموت والدمار واللايقين الذي أثارته الاضطرابات السياسية. لكن تصوير دول الخليج لنفسها على أنها راعية الاستقرار والأمن الاقتصادي والكفاءة التكنولوجية، هي استراتيجية خطرة لانها تتركها عرضة إلى الاتهامات نفسها بالتدخل في شؤون الدول الأخرى وبالمعايير المزدوجة التي لطالما أتُهِمت بها الدول الغربية.
- مشكلة هذا التوجّه الخليجي هو أن الحكام أنفسهم ردوا على الربيع العربي بمزيج من العطايا المالية والقمع الذي تراوح بين الضرب العنيف للانتفاضة في البحرين وبين سجن النشطاء. كما أن هناك فجوة كبيرة داخل الخليج وخارجه حول ما يعنيه "التطرف والاعتدال"، ومؤسسات الحكم ذات الصدقية.
- وأخيرا، دول الخليج تحاول الآن إعادة رسم منطقة الشرق الاوسط على صورتها. لكن العديد من الدبلوماسيين يحذرون هذه الدول الآن من أن التدخل في شؤون الدول الأخرى على أسس إديولوجية، يحمل معه خطر زرع الكراهية لها في المنطقة. والأسوأ، أن ذلك قد يمتزج مع مغامرات امبريالية  (خليجية ) كارثية وسيئة الطالع.
- II -
أوردنا هذه الفقرات الطويلة من مقالة بيل، لأنها كانت بالفعل أول محاولة لاستشراف الابعاد الاستراتيجية للتوجهات الخليجية الراهنة إزاء دول الربيع العربي.
صحيح أن الأجواء الاحتفالية التي تسود الآن دوائر النخبة الحاكمة في الخليج، ستحجب أي تفكير منطقي حيال الانقلاب الشعبي- العسكري المصري ومابعده، لكن الأصح أن يبدأ صناع  القرار التفكير العلمي من الآن في تلك المنطقة بالغة الحساسية والأهمية الاستراتيجية، قبل أن تدهمها الاحداث بمفاجآت قد لاتخطر على بال.
وهذه بعض المعطيات والفرضيات التي قد تساعد على مثل هذا التفكير:
- فشل إسلام الإخوان المسلمين في مصر، لن يعنِ بالضرورة نجاح صيغ اسلام أولي الأمر الخليج. فأوراق فصل الربيع لاتزال وفيرة، كما أثبتت ذلك كلٌ من ثورة 30 حزيران/يونيو في مصر، وتمخضات الثورة الشعبية الراهنة في تونس، وحتى تمردات منطقة تقسيم في اسطنبول.
- الرسالة في كل هذه التطورات في مصر وتونس وغيرها جلية ومباشرة: الحداثة التكنولوجية والثقافية والاقتصادية باتت متجذرة في المنطقة، وهي بدأت تندفع حكماً بقوة الشارع نحو التعددية والشراكة، وصولاً في النهاية إلى الديمقراطية الناضجة، وإن بعد نكسات وتعرجات.
- لا بل فشل الإخوان في مصر لن يكون نهاية المطاف في مسيرة الانتقال إلى الديمقراطية، بل هو قد يؤدي على العكس إلى تعزيز زخمها، من خلال تحالف جديد بين شبان الطبقات الوسطى الليبراليين واليساريين والعلمانيين، وبين القوى الإسلامية الديمقراطية التي ستنبثق حكماً من بين ركام نظام الإخوان.
- وفوق هذا وذاك، المواقف الحاسمة والحادة التي اتخذتها دول الخليج الثلاث ضد جماعات الإخوان المسلمين والحركات العديدة المشابهة لها أو المنبثقة منها، دشَّنت مرحلة جديدة وخطيرة في المنطقة العربية برمتها ستكون بمثابة حرب أهلية  حقيقية باردة (وربما ساخنة) داخل المعسكر الإسلامي للمرة الأولى منذ ألف عام.
صحيح أن ظهور القاعدة والتنظيمات الجهادية في تسعينيات القرن العشرين، خلق شرخاً مهماً في المعسكر الإسلامي (وهو يتكرر الآن في سورية)، إلا أن هامشية هذه التنظيمات وعجزها عن جر التيارات الغالبية الرئيسة في المجتمعات الإسلامية إلى برامجها، لم يوفّر الظروف لأي حروب أهلية حقيقية.
اليوم الوضع مختلف للغاية. فالشرخ الآن موجود بين  الأنظمة الخليجية وبين حركات إسلامية تمتلك قواعد جماهيرية عريضة، وتحوز على أسلحة إديولوجية- سياسية فتاكة. ناهيك عن أنها قادرة على أن تحرّك سراً (كما كانت يفعل التنظيم السري للأخوان المصريين) مجموعات قد تمارس العنف ضد الدول الخليجية.
- III -
لكل هذه الأسباب، تحتاج "الثورة المضادة" الراهنة في الخليج إلى الكثير من التروي والتفكير والتعمق في أبعادها ومضاعفاتها القريبة والبعيدة، من جانب أصحاب القرار الخليجيين. وهذا أمر أكثر من ضروري، بسبب التغييرات الكاسحة الراهنة التي تحدث الأن ليس فقط في المنطقة الإسلامية، بل أيضاً (وربما أولاً وأساساً) على جبهة السياسات الخارجية الأميركية.
كيف؟
(غدا نتابع)

سعد محيو


الخميس، 11 يوليو 2013

بعد فشل الإخوان:هل انتصر "إسلام" السعودية والإمارات؟


- I -
هل كانت المملكة السعودية (والإمارات والكويت) في حاجة إلى صب 12 مليار دولار، كي تحتفل بسقوط حكم الاخوان المسلمين في مصر؟
الكثيرون يردون سريعاً بنعم. فالخطبْ كان كبيراً بالنسبة إلى الرياض حين وصل الإخوان إلى السلطة. وهو لم يقل عن كونه تحدياً لكل الأسس الرئيسة التي قام عليها نظام الحكم فيها: الطاعة لأولي الأمر، والفصل بين ما هو لقيصر (أمور الدنيا للأسرة الحاكمة) وبين ما هو لله (أمور الآخرة لـ"أسرة" رجال الدين)، ورفض تزويج الإسلام للديمقراطية.
الأخوان، بأسلامهم السياسي، شكلوا تهديداً موضوعياً لهذه الصيغة التي أقام فوقها الملك عبد العزيز كل صرح مملكته. لكن، مع ذلك، كان هناك ماهو أخطر: الدعم الكامل الذي قدمته الولايات المتحدة لجماعة الإخوان، في إطار استراتيجية جديدة لتصفية التطرف الإسلامي على يد إسلاميين، من جهة، ولتعميم تجربة الإسلام الليبرالي في المنطقة العربية، من جهة أخرى.
وهذا كان بمثابة إنقلاب حقيقي في تاريخ المنطقة، لأنه عملياً نسف تحالفاً دام نيفاً وسبعين عاماً بين الإسلام السعودي والولايات المتحدة، كان أبرم إبان الحرب العالمية الثانية على متن بارجة حربية بين الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي روزفلت.
لكل هذه الاسباب نفهم لماذا كانت السعودية أول دولة في العالم تسارع إلى دعم "الإنقلاب الشعبي- العسكري" على الرئيس مرسي وجماعة الإخوان؛ ولماذا فُتِحت خزائن السعودية والإمارات والكويت على مصراعيها لتثبيت أقدام هذا الإنقلاب. هذا علماً (وهنا نرد على سؤالنا الأولي) أن دول الخليج الثلاث لم تكن في حاجة لدعم العمل الراهن على تدمير جماعة الإخوان، إذ أن هذه الأخيرة دمّرت نفسها بنفسها خلال سنة واحدة فقط في السلطة، بسبب سلسلة أخطاء وخطايا استراتيجية وسياسية متصلة ارتكبتها عن وعي وعن لاوعي.
- II -
هل يعني كل ذلك أن الأمور ستستبب الآن مجددا للإسلام السعودي؟
ليس بالضرورة، لثلاثة أسباب:
الأول، أن المجتمعات العربية، كما دلّ على ذلك تدفق 30 مليون مصري إلى الشوارع ضد شعارات الإخوان الدينية، دخلت مرحلة حداثة لم يعد بامكانها التراجع عنها. الحداثة هنا، بقيمها الليبرالية، وأدواتها التكنولوجية، ومعاييرها العلمية، باتت نمط حياة لاتستطيع الحركات السلفية أو الأصولية تغييره لا بسهولة ولا بصعوبة. وهذا يعني ان بديل الإخوان لن يكون حلفاء السعودية من السلفيين الوهابيين، بل صيغاً جديدة من التحالفات بين القوى الحديثة والتقليدية، خاصة في حال تراجع الإخوان عن نهج المجابهة الراهنة، وسلكوا الطريق الأردوغاني.
الثاني، أن فشل الإخوان في السلطة، لن يعني بالضرورة لا فشل تجربة الخُطبة (ومن ثم الزواج) بين الإسلام والديمقراطية، ولا بين الإسلام والحداثة. صحيح أن المنطقة قد تشهد عما قريب طفرة في مظاهر الإسلام المتطرف رداً على الإنقلاب المصري (كما حدث غداة الإنقلاب الجزائري في اوائل التسعينيات)، إلا أنها قد تشهد أيضاً صعوداً آخر لقوى إسلامية ديمقراطية تفيد جيداً من دروس الفشل الإخواني في مصر.
والثالث، والأخير، أن أحداث مصر لم ولن تعنِ نهاية ظواهر ميدان التحرير (والأن ميدان تقسيم في تركيا). فسلطة الشارع العربي، من القاهرة إلى تونس، وجدت لتبقى. وهي إذ واجهت حكم الإخوان اليوم، فهي ستواجه غداً كل سلطة عسكرية أو دينية أو مدنية قد تقف في طريق نمو ديمقراطية أكثر نضجاً ومشاركة ومساءلة.
والخلاصة؟
- III -

إنها واضحة: فشل إسلام الإخوان في مصر، لن يعنِ بالضرورة نجاح صيغ الإسلام الأخرى في منطقة الخليج. فأوراق فصل الربيع لاتزال وفيرة، كما أثبتت ذلك ثورة 30 حزيران/يونيو في مصر، وتمخضات الثورة الشعبية الراهنة في تونس، وحتى تمردات منطقة تقسيم في اسطنبول.
الرسالة في كل هذه التطورات جلية ومباشرة: الحداثة التكنولوجية والثقافية والاقتصادية باتت متجذرة في المنطقة، وهي بدأت تندفع حكماً بقوة الشارع نحو التعددية والشراكة، وصولاً في النهاية إلى الديمقراطية الناضجة.
وفشل الإخوان في مصر لن يكون نهاية المطاف في هذه المسيرة، بل هو قد يؤدي على العكس إلى تعزيز زخمها، من خلال تحالف جديد بين شبان الطبقات الوسطى الليبراليين واليساريين والعلمانيين، وبين القوى الإسلامية الديمقراطية التي ستنبثق حكماً من بين ركام نظام الإخوان.

سعد محيو



الأربعاء، 10 يوليو 2013

تفجير الضاحية: أول مسلسل "تضحيات" حزب الله


- I -
هل سقط لبنان في هوة الحرب الأهلية السورية وانقضى الأمر؟
تفجير بئر العبد في الضاحية الجنوبية قد يكون أبلغ تأكيد ذلك. لكنه لم يكن التأكيد الأول ولا الوحيد.
ففي 26 أيار/مايو الماضي، كان هذا هو السؤال المؤرق الذي ساور كل اللبنانيين وهم يستمعون إلى السيد حسن نصر الله وهو يعلن رسمياً انخراط حزب الله الكامل "حتى النصر" في الحرب الأهلية السورية، ويدعو إلى تقبّل "الأثمان والتضحيات".
هذا الإعلان، المترافق مع  وجود آلاف المقاتلين من حزب الله في محافظتي حمص ودمشق، بدد كل الافتراضات السابقة بأن حزب الله لايريد سوى حماية خطوط إمداداته وعمقه الاستراتيجي في مثلث حمص- طرطوس- الهرمل، وأطلق فرضية قوية أخرى تقول بأنه ربط مصيره نهائياً (ومصيثر لبنان معه) بمصير النظام السوري.
وإذا ماصحّت هذه الفرضية، والأرجح أنها كذلك لكل من قرأ  آنذاك خطاب نصر الله المتطرف في وضوحه حيال "إعلان الحرب" رسمياً على الانتفاضة السورية، فإنها ستجرجر وراءها سؤالاً في غاية الخطورة: هل انتقال حزب الله إلى مرحلة العمل على رسم خرائط عسكرية-جغرافية جديدة له سيقتصر على الوطن السوري، أم أن هذا سيتنقل عاجلاً أم آجلاً إلى الوطن اللبناني أيضا؟
بكلمات أوضح: هل سيستتبع نجاح الحزب والنظام السوري في السيطرة على مثلث حمص- طرطوس- الهرمل بالضرورة السيطرة أيضاً على مثلثات أخرى، تشمل هذه المرة، على سبيل المثال، مناطق البقاع الغربي السنّي والجبل الدرزي الشوفي اللذين يشكلان منطقة عازلة طبيعية عن المثلث الأول؟

- II -
هذا السؤال لم يعد افتراضياً الآن، بعد أن باتت إطلالة حزب الله على التطورات في سورية وبقية مناطق الهلال الخصيب مطابقة كلياً لإطلالة النظام السوري، ومعه النظامين العراقي والإيراني، من حيث تركيزها التام على الجوانب الأمنية- العسكرية للصراع الراهن الهادف إلى الدفاع عن النفوذ الإقليمي الإيراني المتآكل في هذه المناطق.
السيد حسن نصر الله نفسه ألمح إلى هذا الجانب ضمناً، حين نعى فجأة الدولة اللبنانية، على رغم حرصه الشديد قبل أشهر قليلة على الدفاع عنها وعن الحاجة الضرورية إليها، إلى درجة دعوتها إلى دخول معاقله في الضاحية الجنوبية للحفاظ على الأمن الداخلي فيها.
ويصب في هذه الخانة التطورات السياسية المثيرة التي حرّكها حزب الله مؤخراً، حين أسقط فجأة حكومة الرئيس ميقاتي، ثم تحرّك لشل كل المؤسسات الأخرى الأمنية والسياسية والتشريعية، وحين واصل منع تشكيل حكومة جديدة.
آنذاك، قيل أن الحزب فعل كل ذلك لأنه لايريد أن يسائله أحد عما يفعل في سورية. أما الآن، وبعد أن بات حرب الحزب في بلاد الشام علنية ورسمية "سيمضي فيها حتى النهاية وصولاً إلى تحقيق النصر" (على حد تعبير نصر الله)، فقد بات السؤال عن مصير النظام السياسي اللبناني نفسه على المحك.
لقد سبق لنصر الله أن دعا إلى تشكيل جمعية تأسيسية تقوم بإحلال نظام سياسي جديد مكان نظام الطائف. بيد أن الأمر اختلف الآن، بعد أن بات حزب الله منخرطاً في تنفيذ خرائط عسكرية جديدة إنطلاقاً من بلدة القصير. إذ أي أي تغيير في تركيبة النظام اللبناني يجب أن تتم الآن بقوة السلاح، أسوة بما يجري الأن في كلٍ من سورية والعراق.
هل ثمة مغالاة ما في هذه الاستنتاجات؟
ربما.
لكن من يقرأ بتمعن خطاب نصر الله الأخير، ويرفقه بالذعر الذي ينتاب النظام الإيراني من جراء تآكل نفوذه الإقليمي في سورية والعراق، ومعه تآكل وضعه الداخلي الاقتصادي - الاجتماعي واقترابه من مرحلة الإفلاس (كما أوضح هاشمي رفسنجاني قبل أيام)، فقد يتوصّل إلى الاستنتاج بأن طهران  ربما قررت بالفعل استخدام كل أوراقها الّإقليمية دفعة واحدة للدفاع عن نظامها الداخلي.
وأثمن ورقة هنا هي حزب الله، الذي يُعتبر الانجاز الكبير الوحيد في السياسة الخارجية للثورة الإيرانية، والذي كانت تحتفظ بها طهران كخط دفاع أول عن نفسها ضد أي هجوم إسرائيلي.
بيد أنه يبدو أن ضرورات إنقاذ النفوذ الإيراني طغت على محظورات حرق ورقة حزب الله على هذا النحو في سورية. فما الذي يمنع طهران  من استخدام هذه الورقة الآن لتغيير معطيات الأمر الواقع اللبناني كاستكمال لما تقوم به الآن من عمليات لتحصين النظام السوري في مثلث حمص- طرطوس- الهرمل؟
حقاً، ما الذي يمنعها؟
-III -
كل هذه المعطيات يجب وضعها في الاعتبار، ونحن نشهد بدء مسلسل التفجيرات في الضاحية الجنوبية.
وهنا يتعين القول أن تفجير بئر العبد لم يكن مفاجئاُ لأحد. فالكل كان يعلم، وفي مقدمهم حزب الله، أن التفجيرات في لبنان آتية لاريب فيها: اليوم في بئر العبد في الضاحية الجنوبية الشيعية، وغداً ربما في الطريق الجديدة السنيّة في بيروت.
ولأن الكل كان يعلم، لا أحد تفاجأ. لا بل العكس: العجب العجاب كان أن يمر كل هذا الوقت منذ أن انخرط حزب الله اللبناني بكليته في الحرب السورية، قبل أن ينتقل لهب الحريق إلى بلاد الأرز.
إنها حروب حزب الله التي بدأت مع دفع لبنان إلى أشداق الحرب الأهلية السورية، ولن تنته (من أسف) في أي وقت قريب.

سعد محيو





الثلاثاء، 9 يوليو 2013

"ماما أميركا" لن تُنقذ الإخوان


- I -
تساءلنا بالأمس: إذا ماكانت جماعة الإخوان المسلمين المصريين أخطأت التقدير، حين اعتقدت أن إدارة أوباما ستمنع حليفها الجيش المصري من القيام بانقلاب عسكري، فهل تخطىء مجدداً الآن إن هي راهنت على أن تصديها للجيش باسم استعادة الشرعية والعملية الديمقراطية سيحظى بدعم واشنطن؟
الأرجح أن الأمر كذلك.
لماذا؟
لأن الجماعة لاتزال تستخدم وسائل تحليل قديمة لفهم مستجدات السياسة الأميركية. وهذه المستجدات تشير إلى أن الولايات المتحدة، أو على الأقل إدارة أوباما، قد "ملّت" من كل قضايا الشرق الأوسط بعد نكساتها الاستنزافية في العراق وأفغانستان. وهذا الملل يشمل حتى مصر التي تعتبر بعد إسرائيل الركيزة الثانية للباكس أميركانا في الشرق الأوسط.
لا بل أكثر: أوباما يريد الآن الانسحاب التام من أفغانستان قبل سنة كاملة من الموعد المحدد، ويرمي بكل ثقله وراء برامج داخلية أميركية تتعلّق بالهجرة والاقتصاد و"بناء الأمة"، إضافة إلى تركيزه على استراتيجية الأستدارة شرقاً نحو آسيا.
هذا "الانحسار" في النفوذ الأميركي قد يفسّر إلى حد بعيد موقف اللاموقف الذي تتخذه واشنطن الآن من الأزمة المصرية. فهي انتقدت انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب مرسي، لكنها لم تسم الانقلاب انقلاباً واكتفت بدعوة الإخوان إلى التفاهم معه. وهي رفضت قمع أنصار مرسي في موقعة الحرس الجمهوري الدموية، لكنها دعت فيه الوقت نفسه الإخوان إلى "عدم ممارسة العنف".
وهذا ماجعل كلا الطرفين المتصارعين في مصر، الجيش والجماعة، يتهمان واشنطن بالانحياز إلى أحدهما، فبدت هذه الأخيرة في موقف التباسي غريب كطرف يدير كل اللعبة الراهنة، وفي الوقت نفسه لايدير شيئاً على الإطلاق.
- II -
بيد أن هذا الموقف اللاموقف الأميركي سيصب في غير صالح جماعة الإخوان إلى حد كبير، بسبب الخلل في موازين القوى بينها وبين جيش أثبت خلال الأيام القليلة أنه قادر على نيل دعم 35 مليون مصري نزلوا إلى الشارع وراءه، وعلى قتل 50 وجرح 500 إخواني خلال ساعتين إثنتين أمام مقر الحرس الجمهوري. وماذا كان موقف واشنطن إزاء هذا التطور الدموي؟ إنها دعت القوات المسلحة المصرية إلى "ضبط النفس"، لكنها أدانت في الوقت نفسه "لجوء جماعة الإخوان إلى العنف".
وهكذا، كانت مجزرة الحرس الجمهوري عيّنة عما يمكن أن يحدث، إذا ماقررت جماعة الإخوان المضي قدماً في المجابهة، أو إذا ما وصل قادتها إلى الاستنتاج بأن "الطريق القطبي" (من سيد قطب) القائم على استخدام العنف، هو السبيل الوحيد المتاح للعودة إلى جنة الحكم.
فهي ستخسر حينذاك ليس فقط دعم العديد من قواعدها وأنصارها (مقابل ربح الأجنحة الجهادية والمتطرفة) بل أيضاً، وهنا الأهم، ستفقد ماتبقى من دعم أميركي لها، الأمر الذي سيجردها من كل أوراق الحماية الدولية التي كانت العامل الأهم في تغطية وصولها إلى السلطة.
- III -
ماذا يتعيّن على الجماعة أن تفعل؟
التعقّل واللاانفعال يجب أن يكونا سيد الموقف، على رغم مشاعر المرارة والمظلومية التي يشعر بها أفراد الجماعة وقادتها، بعد أن وجدوا أنفسهم يخرجون بين ليلة وضحاها من فردوس السلطة إلى سراديب السجون والمعتقلات (مجددا).
والسبيل إلى هذا التعقُّل واضح: العودة إلى استراتيجية "المشاركة لا المغالبة" الشهيرة التي لطالما رفعت الجماعة لواءها طيلة ثلاثة عقود كاملة، وأوحت أنها ستتمسك بها ولو فازت بأغلبية الأصوات في الانتخابات. بيد أن جرى هو أن الأخوان التونسيين هم من طبّق هذه الوصفة السحرية، فيما تنكّر لها إخوان مصر بسرعة مذهلة، الأمر الذي استجر ضدهم كل مشاعر الكراهية والخوف من كل الأطراف، بما في ذلك حتى السلفيين.
البديل الوحيد عن المشاركة لا المغالبة، هي محاولة المغالبة. وهذه بات لها الأن بعد دحرجة رأس الإخوان من السلطة معبر واحد: الحرب الأهلية.
فهل الإخوان مستعدون لخوض هذه المغامرة؟
إذا ماكان الرد بالإيجاب، فسيكون عليهم أن يدركوا بأن "ماما أميركا" (وهذه هي التسمية التي كان يطلقها مساعدو مرسي على الولايات المتحدة) لن تكون إلى جانبهم هذه المرة، وستعود إلى أحضان حليفها التاريخي الجيش المصري.
وهذا سيعني أن مغامرة الإخوان هذه ستكون محكومة بالفشل سلفا، ومن ألفها إلى الياء.

سعد محيو


الاثنين، 8 يوليو 2013

أسرار رهانات مرسي المخطئة على واشنطن والسيسي


- I -
جماعة الأخوان المسلمين المصرييين تبدو هذه الأيام كبقرة حرون وجامحة لاترى حولها سوى سكاكين القتلة، على رغم أنها تعرف أنها هي التي دشّنت المشكلة حين رفست بنفسها دلو الحليب (الحكم).
مرسي والسيسي أيام الوفاق (الصورة من غوغل)

فلو أن الرئيس محمد مرسي أدرك مبكراً، أي قبل أشهر عدة، أن حكمه دخل مرحلة الأزمة، وأقدم على العودة إلى إحياء شعار الإخوان الشهير "المشاركة لا المغالبة" من خلال تشكيل حكومة وفاق وطني، لما تدهورت الأمور على هذا النحو.
ولو أن الجناح المعتدل في جماعة الإخوان، والذي يمثّله أبوالعلا ماضي وعصام سلطان والدكتور محمد محسوب وعبدالمنعم أبوالفتوح، والذي يرفض مقولة الجناح المتطرف (بقيادة خيرت الشاطر) بأن الجماعة "قلعة متماسكة تقود المجتمع"، ويدعو إلى اعتبارها قوة وطنية من
ضمن قوى أخرى، نجح في "إدارة" و"توجيه" الرئيس مرسي، لكانت أمور الحكم استتبت للإخوان لعشر سنوات أخرى.
بيد أن هذا لم يحدث. فالجناح المتطرف هو الذي ساد طيلة السنة الماضية، ورفض أي تراجع عن مشروع "أخونة" الدولة، على رغم كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسة الطاحنة، منطلقاً من اعتقاده بأن ثمة فرصة ذهبية قد لاتتكرر لتحقيق ذلك الآن.
لكن، ما هي هذه الفرصة؟
- II -

إنها ببساطة الاتفاق السري الذي يقال (وهذا الذي يقال يبدو مؤكدا) أن جماعة الإخوان وقعته مع الولايات المتحدة العام 2005، وتضمن دعم هذه الاخيرة وصول الإخوان إلى السلطة مقابل سلسلة شروط منها الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، وأطلاق حرية السوق، واحترام قواعد تداول السلطة ديمقراطيا.
الإخوان انطلقوا من هذا الاتفاق لترتيب أوضاعهم الداخلية. وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تعيين أحد قادتهم محمد مرسي كمحاور للحليف الأكبر لأميركا في مصر: الجيش. وحين انتخب مرسي رئيساً، كانت صيغة الاتفاق مع الجيش (برعاية واشنطن) انجزت، ونشأت علاقة وطيدة على أساسها بين مرسي والفريق عبد المنعم السيسي، بدا معها للأخوان أن الأمور استتبت لهم بفعل الاتفاق مع الولايات المتحدة والصفقة مع الجيش التي شملت تثيبت أمتيازاته في صلب الدستور المصري.
هذه المعطيات ربما توضح لماذا "ركب الأخوان رأسهم" طيلة الأشهر الماضية، ورفضوا سلسلة منقطعة النظير من النصائح التي قدمت لهم بضرورة العمل على تحقيق الوحدة الوطنية.
إحدى هذه النصائح جاءت من رئيس الوزراء التركي أردوغان، الذي قال لنا بولنت أرليج، خلال لقاء خاص معه في أنقرة مؤخراً، أنه أتصل مراراً بمرسي ليطلب منه إبرام تسويات مع المعارضة. وهذا مافعله أيضاً راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي الذي قالت لنا مصادر عربية أنه طار خصيصاً إلى القاهرة لتقديم نصيحة مماثلة.
وقبل يومين، كشفت نيويورك تايمز النقاب عن أن الرئيس الأميركي أوباما استدعى مستشار مرسي للشؤون الخارجية د. حداد إلى البيت الأبيض، وطلب منه نقل رسالة عاجلة إلى مرسي يدعوه فيه إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد برادعي.
بيد أن مرسي رفض كل هذه المناشدات، إلى درجة دفعت أحد قادة الإخوان إلى القول أنه "لو لم يكن هو في موقع قيادة الإخوان، لقال أن عناد مرسي دليل على أنه يريد أن يصبح ديكتاتورا".
والمثير هنا أن الرئيس المصري المعزول، ظل على قناعة حتى اللحظة الأخيرة بأن الفريق السيسي لن يقدم على حركة انقلابية، ربما لأنه كان يعتقد بأن واشنطن لن تسمح له بذلك.
- III -
لكن الآن،  وعلى رغم اتضاح سوء حسابات مرسي والفريق المتطرف في الإخوان، لايزال هؤلاء يراهنون على مايبدو على أن الإدارة الأميركية لم تحسم موقفها نهائياً بعد حيال الأزمة سواء لصالح حليفها القديم (الجيش) أو حلفائها الجدد (الإخوان). ولذا، فهم قرروا على مايبدو دفعوا الأمور إلى حافة الهاوية في الشارع مراهنين على أن ذلك سيشكل ضغطاً على الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية لدفعها إلى الوقوف إلى جانب الشرعية الانتخابية.
هل هذا الرهان في محله؟
(غداً نتابع)
سعد محيو