للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الثلاثاء، 30 أبريل 2013

هل تُشعل "بارانويا" المالكي الحرب الأهلية العراقية الثانية؟


- I -
لم يعد السؤال في العراق الآن: هل تقع الحرب الأهلية الثانية خلال عشر سنوات بين السنّة والشيعة ؟، بل: هل لازال بالامكان وقف الانزلاق السريع الراهن إليها؟

المؤشرات على السؤال الثاني لاتبدو إيجابية، والسبب يقع في الدرجة الأولى على عاتق رئيس الوزراء نوري المالكي. فالرجل  يبدو مهجوساً هذه الأيام بالانتفاضة السورية واحتمال تعزيرها لسنّة العراق إلى درجة يعتقد البعض أنها وصلت إلى مرحلة الوسواس المرضي (Paranoia ).
بكلمات أوضح: المالكي يرى وراء كل حركة مطلبية عراقية شبح انتفاضة شعبية سنيّة على الطراز السوري. وربما هذا مادفعه إلى اللجوء إلى الخيار الأمني- المخابراتي في الدرجة الاولى، منذ أن بدأ الحراك الشعبي في المحافظات السنّية الأربع في كانون الأول/ديسمبر الماضي. وقد  توّج المالكي هذا التوّجه بمذبحة قرية الحويجة الشمالية مؤخراً  التي راح ضحيتها عشرات السنّة بين قتيل وجريح.
بالطبع، هذا الموقف الطائفي الذي يتخذه المالكي، والذي يُغلِّب فيه نزعته السلطوية على هدف بناء الدولة الوطنية العراقية الشاملة لكل مواطنيها، ليس بالأمر المستجد، بل هو بدأ خلال الاحتلال الأميركي وبعده. كل ما هنالك أن هذه السياسات  بدأت تؤتِ أكلها الآن: شعور كبير بالامتعاض والتهميش بين العرب السنّة، الأمر الذي يهدد بتحويل حركاتهم الاحتجاجية الراهنة إلى تمرد مسلح في أي لحظة، شبيه بذلك حدث العام 2003.
 كما أن فشل الحكومة في تحقيق أي نوع حقيقي من المصالحة السياسية،  وتلبية حاجات السكان الاجتماعية والتنموية، وتسوية القضايا العالقة في مجالات النفط والأراضي المتنازع عليها، كل ذلك جعل "الحل الأمني" يفرض نفسه كمقاربة حكومية وحيدة للأزمات الراهنة. وإذا ماوضعنا في الاعتبار الخلل الديمغرافي- الطائفي الراهن في تركيبة قوات الجيش وأجهزة الأمن لغير صالح السنّة، فقد لايكون من الخطأ الاستنتاج بأن تفاقم الأوضاع في المحافظات السنيّة سيؤدي في نهاية المطاف إلى فشل النموذج العراقي الراهن لإعادة بناء الدولة- الأمة.
 والآن، دخلت الحرب الأهلية السورية على خطوط الصدع العراقية الجديدة لتكون بمثابة الصاعق الذي قد يفجّر بلاد العباسيين مرة أخرى، وربما أخيرة. فحكومة المالكي، بسماحها بتحوُّل العراق إلى ممر للمساعدات الإيرانية للنظام السوري، خلقت الظروف الملائمة لتقاطع مصالح السنّة العراقيين مع ثورة السنّة السوريين. وهذا ما دفع العديد من العشائر السنيّة العراقية، ناهيك بالطبع بالحركات الإسلامية المتطرفة إلى رفع شعار: اليوم دمشق وغداً الزحف على بغداد.
- II -

هذا القصور الذي يبديه المالكي في عملية بناء الدولة الوطنية يتقاطع، أو بالأحرى هو يصب، في صالح التنظيم الجديد الذي ظهر على الساحة العراقية: "جيش رجال الطريقة النقشبندية"، الذي هو حصيلة  بين حركة صوفية عريقة لها امتدادات عالمية (من بين أنصارها رجب طيب أردوغان كما يقال) وبين حزب البعث العراقي بقيادة عزت إبراهيم الدوري.
هذه المنظمة بدأت تفرض وجودها ليس فقط بسبب طرحها الإيدولوجي القومي العربي والإسلامي المشترك، وقدراتها التنظيمية والإعلامية، وانضمام أعداد كبيرة من أفراد الحرس الجمهوري السابق إليها، بل لأن سياسات المالكي الطائفية المتشنجة بدأت تدفع حركات الاحتجاج السنيّة المسالمة إلى الاقتناع بما تقوله المنظمة من أن الثورة المسلحة  ضد ما تصفه بـ"النظام الطائفي العميل للصفويين الفرس"، هو المدخل الوحيد لتحقيق المطالب.
رجال القبائل في الأنبار، المعقل الرئيس للانتفاضة السنيّة، بدأوا يستجيبون لهذه الدعوة، جنباً إلى جنب مع ظهور مجموعات مسلحة بشكل مطرد في كل المحافظات السنية.
والحصيلة؟
إنها واضحة: مالم يتخل المالكي عن سياسة الاقصاء المذهبي في دوائر الدولة والجيش والقضاء، ويقبل فكرة إعادة بناء الدولة العراقية على أسس وطنية، فإن أسوأ كوابيسه هو ستتحقق بالفعل: تحوّل الثورة السنيّة السورية والانتفاضة السنّية العراقية إلى ثورة واحدة قد تعيد تشكيل المشهد الجيو- استراتيجي في كل المشرق العربي.
كيف؟
- III -
في 8 آذار/مارس الحالي، ألقى المحلل البريطاني في "فايننشال تايمز" ديفيد غاردنر بعض الأضواء على السبب، حين ركَّز على النقاط التالية:
- التحالف الغربي، بدخوله العراق وتفكيكه، قلب موازين القوى في أكثر مناطق العالم التهابا، ليس لأنه أطاح نظام حسين، بل لأنه أوصل الأقلية الشيعية في داخل العالم الإسلامي (والتي هي أغلبية في العراق) إلى السلطة في قلب المنطقة العربية للمرة الأولى منذ سقوط الخلافة الفاطمية العام 1173.
- وهذا، إضافة إلى أنه أسفر عن حمام دم في العراق، أشعل مجدداً نزاعاً عمره ألف سنة بين السنّة والشيعة، امتد من المشرق العربي إلى شبه القارة الهندية.
- أحداث العراق غيَّرت بالفعل مقومات المنطقة، وهي كانت أخطر بكثير من مضاعفات حرب السويس العام ،1956 لأنها أعطت زخماً لكل ألوان وأنواع الحركات الإسلامية.
تحليل دقيق؟
أجل. لكن، يجب ان نضيف إليه عاملاً آخر لايقل أهمية.
فأرض العراق في الواقع رأس جسر ممتازاً ونموذجياً لتفجير العالم الأسلامي من داخله، لأنها كانت المسرح الرئيس للمأساة التاريخية لآل البيت على يد الأمويين. كما أنها كانت ساحة المعركة الرئيس بين العثمانيين والصوفيين طيلة قرنين من الزمن ( العراق آنذاك  كان يصبح صفوياً فارسياً في الشتاء، وسنّياً تركياً في الصيف! ) .
القسمة الدموية السنية – الشيعية انطلاقاً من العراق منذ غزوه العام 2003، حققت، وستحقق أكثر، جملة أهداف إستراتيجية غربية  دفعة واحدة. فهي شطرت الشرق الاوسط الكبير الى شطرين كبيرين متناحرين. وهي جعلت إيران في حال صدام ليس مع أميركا وحسب، بل (مجدداً ) أيضاً مع تركيا وباقي اطراف الغالبية السنّية في العالم الإسلامي. وبالطبع، حين تحاصر جمهورية الخميني على هذا النحو، لن يطول الوقت ( مجدداً أيضاً ) قبل ان تبدأ البحث في وقت ما عن حلفاء لها في الغرب. وهذا بالتحديد  ما فعله الصفويون طيلة القرنين 18 و19.
وأخيرا، حروب السنّة والشيعة قد تقلب صورة الصراع مع إسرائيل رأسا على عقب. ويكفي للتدليل على ذلك تخيلّ، مثلاً،  مصير مواجهة " حزب الله " مع إسرائيل، إذا ما انجرّ الحزب الى صراعات طائفية مع السنّة في لبنان وسوريا والعراق.
رب متسائل هنا: كيف يمكن أن يكون انقسام العراق هو المدخل لتقسيم المشرق؟
حسنا. الصورة تبدو بسيطة وواضحة: الحرب الأهلية العراقية الجديدة، في حال نشوبها، ستؤدي إلى انفصال المحافظات السنيّة الأربع عن الكيان العراقي، وربما انضمامها إلى الأردن في إطار مملكة أردنية هاشمية جديدة. وهذا بات أمراً وارداً بقوة بعد أن أعاد الرئيس الأميركي أوباما خلال جولته الشرق أوسطية الجديدة إحياء المحور التركي- الإسرائيلي- الأردني الشهير، الذي سيتحوِّل في وقت قريب إلى الوكيل الحصري الإقليمي الجديد للباكس أميركانا في الشرق الأوسط.
هذه المملكة الهاشمية الجديدة ستقيم بالطبع علاقات وطيدة مع المحافظات السنيّة السورية، سواء في شكل فيدرالي أو تنسيقي، في حال انهارت الدولة السورية الراهنة. وحينها سيكون الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام قيام دولة علوية على الساحل السوري لها امتدادات شيعية في داخل لبنان، فضلاً عن تقسيم لبنان نفسه إلى دويلات طائفية مسيحية ودرزية وسنّية وشيعية.
***
هل يعي المالكي كل هذه المعطيات الزلزالية الناجمة عن سياساته الطائفية الاقصائية، أم أن البارانويا هي الحاكم السعيد في رأسه؟
سعد محيو





الأحد، 28 أبريل 2013

لا للتقدم.. فليسقط" الحيوان الانساني " !





( I )

نادرة هي الكتب التي تتمّرد على الحاضر كلّي الحضور ، فتكسر قيوده لترى ما بعده.

ونادرة  أكثر  تلك الافكار الكبرى  التي تتجاوز ،  هي الاخرى ،  قوانين الواقع الجامدة لتحاول الامساك بروح المستقبل المتحركة .
الرساّم  العبقري غاري لارسون ، لديه رسم كاريكاتوري رائع  لحقل ترعى فيه أغنام بسلام ، عدا خروف واحد حكيم يرفع رأسه فجأة بدهشة كبيرة ويصرخ : " إنتظروا ! . هذا عشب. ما نأكله هو عشب !  ".
المفّكر جون غراي كان دوما مثل خروف لارسون المتمرد ، الفخور بلونه الاسود بين قطعان الخرفان البيض. فهو يهوى السباحة عكس التيار ، ويعشق قول  " لا "  حين يقول الجميع  " نعم " . وهذا ليس من باب إثبات الوجود ( فهو لا يحتاجه بسبب شهرته ) ، بل من موقع التشديد على ان الحقيقة لا يمكن ان تكون ذات وجه واحد ،  او بعد واحد ، او مذاق واحد .
في كتابه ما قبل الاخير  " فجر كاذب " ، كان غراي  أول من حذّر من مخاطر العولمة الرأسمالية المنفلتة من عقالها. آنذاك ، إنصبت عليه الاتهامات وإنهالت عليه اللعنات ، لكونه يعارض " نهاية التاريخ " ، تلك النظرية التي تحولّت ال دين جديد في  التسعينات . لكن بعد فترة قصيرة ، إنقلبت الاتهامات الى إعترافات بالخطأ ، واللعنات الى إشادات ببعد الرؤيا.
والان ، يتقّدم غراي بما هو أكثر بكثير من نقد الظواهر الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات البشرية . إنه يوجّه سهامه هذه المرة الى البشر أنفسهم ، مدينا ما يسميه " الحيوان الانساني ".
لماذا ؟.
قبل  الاجابة  ، فلنتوقف قليلا  امام الافكار الرئيسة في كتابه الجديد " الهرطقات : ضد التقدم والاوهام الاخرى " ( * ) .
( II )

يحمل غراي بشّده، في  " هرطقاته  "  على المحافظين الجدد في إدارة بوش ويطلق عليهم
 " يعاقبة واشنطن الذين يعتقدون انه من الممكن إستئصال الشر من العالم " .
 يقول : " الخطر في السياسة الخارجية الاميركية لا يكمن في انها مهووسة بالشر ، بل بأنها تستند الى الاعتقاد بأنه يمكن إزالة الشر . ومثل هذا الغباء بعيد كل البعد عن حكمة الاباء المؤسسن الاميركيين الذين كان  هدف الحكومة بالنسبة لهم  ليس  قيادتنا الى الارض الموعودة ، بل جعلنا نتحاشى الشرور المتكررة التي تتعرض لها الحياة البشرية " .
ويشدد  على ان تنظيم " القاعدة " يشكل  بالفعل تهديدا لأستمرارية القيم الليبرالية الغربية نفسها ، لكن ذروة الغباء هو الادعاء بأنه في وسعنا هزيمته بالقوة العسكرية.
 بدلا من غزو العراق وإطلاق الضجيج التهديدي ضد إيران وسوريا ، كانت السياسة المنطقية تقتضي معالجة القضايا الاقليمية ، مثل الصراع الدموي الفلسطيني- الاسرائيلي ، والفصل بينه وبين نشاطات " القاعدة " ،  بهدف " إعادة الارهاب الى مستوياته التاريخية الطبيعية " . بيد أن  " صليبيي البيت الابيض والبنتاغون ( على حد تعبيره ) ،  يحتقرون بالطبع مثل هذه المقاربة التدريجية " .
غراي يعتبر نفسه " ما بعد إنسانوي " بشكل لا يتزعزع " .يقول : " حين كنا صغارا ، كان التعليم الشفوي الكاثوليكي يؤكد لنا ان العالم خلق من أجل فائدة الانسان وإستخداماته ، وبالتالي فإننا أسياد الخلق الذين تخضع لسيطرتهم كل الطبيعة بما فيها من نباتات وحيوانات . ويضيف  : بالنسبة للأنسانيين الليبراليين ، هذه الانباء الطيبة  لا تزال طيبة. بيد ان ما يسمى بالانظمة العلمانية التي تحكم الغرب ، ليست في الواقع سوى حصيلة ديانة مفككة تقوم على الاعتقاد بان حياة الانسان تصبح أفضل مع نمو المعرفة .
ويبدي غراي إحتقارا واضحا لمن يسميهم رجال الكهنوت العلماني الحديث . فهؤلاء  ورثوا فلاسفة عصر الانوار في  القرن الثامن عشر وهم يدعّون  أنهم يدشنون عهدا جديدا من الوثنية . في حين انهم، برأيه ،  كانوا في الواقع مسيحيين جدد .
 كل ما فعله عصر التنوير ، هو أنه عزز الدين المسيحي بوسائل أخرى .أما إيمان هذا العصر  بالتقدم  ، فلم يكن سوى الرسالة المسيحية نفسها وقد أفرغت من مضمونها الغامض والتجاوزي . لا بل  يقول غراي  أن أولئك الذين ما زالوا يحملون الايمان المسيحي ، أعمق تفكيرا واكثر ثقافة حتى  من أعتى خصومهم الانسانيين الليبراليين .
هذه المقدمات ،  تقود الى الاجابة على سؤالنا الاولي عن أسباب إدانة غراي للبشر .
إذ هو يعتبر أن الايمان  بالتقدم ، الذي يصفه بأنه " أفيون الطبقات المفكرة " ، ليس سوى أوهام  تخفي أكثر السياسات الاجتماعية والسياسية الصارخة في خطئها.
 بالطبع ، هناك شيء إسمه تقدم ، لكن هذا لا يوجد إلا في العلم ، فيما هو خرافة في الاخلاق والسياسات .
وفي كل متون الكتاب ،  يحمل غراي بشدة على الفكرة ، التي قدمت للمرة الاولى في عصر النهضة ثم كرّست في عصر الانوار ، وهي أن التاريخ يتحّرك بشكل حتمي في خط مستقيم ، وبأن الطبيعة البشرية ستتحّسن بالضرورة مع تراكم معرفتنا . يقول : " المعرفة الانسانية تكبر بالفعل ، لكن الحيوان الانساني ما يزال على حاله  ".
( III )

هل غراي على حق؟
أجل !. وعلى من  يرفض منطقه ، أن يفسّر لنا ،  أولا ، لماذا لم يكن هناك سوى عشر سنوات سلام فقط ، من إجمالي  تاريخ بشري عمره عشرة آلاف سنة من الحروب .


                                                                        سعد محيو
                 ________________________
(  * ) John Gray : Heresies : Against progress and other illusions.  Granta. 2004 )   



الجمعة، 26 أبريل 2013

الانشوطة السورية تشتد حول عنق أوباما


- I -
"اعتراف البيت الأبيض الأميركي بأن النظام السوري ربما استخدم بالفعل الأسلحة الكيمائية ضد شعبه هو الاول من نوعه، وقد يكون نقطة انطلاق نحو تدخل أميركي أوسع في سورية".

هكذا أطلت صحيفة "فايننشال تايمز" الرزينة، في افتتاحيتها اليوم، على رسالة إدارة أوباما إلى الكونغرس حول مسألة استخدام النظام السوري الأسلحة الكيمائية. لكن هل استنتاجها في محله حول احتمال تغيُّر الموقف الأميركي إزاء سورية من "النأي بالنفس" إلى بدء خطوات التدخل المباشر؟
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك تذكير بأن الرئيس أوباما كان يكرر طيلة الأشهر القليلة المقبلة بأن قيام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيمائية "هو خط أحمر ومغيّر للعبة" بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
لكن إدارة أوباما لم تتحرّك قيد أنملة حين كانت التقارير تتوالى في الأسابيع الأخيرة من هنا وهناك، خاصة من قبل حليفتيها فرنسا وبريطانيا، عن قصف القوات السورية قوات المعارضة بغاز السارين المدمّر للأعصاب. فلماذا قررت الإدارة الخروج عن الصمت الآن؟ وإلى أين يمكن أن يقودها ذلك؟
- II -
الأرجح أن المسألة تتعلق بالدرجة الأولى بالضغوط التي تعرّض إليها أوباما مؤخراً في الكونغرس وفي الداخل الأميركي. فالشيوخ الجمهوريون، وفي مقدمهم جون ماكين، انطلقوا من التقارير البريطانية والفرنسية والدولية حول استخدام الأسد لغاز السيرين، ليتهموا أوباما بالتنكر لمواقفه هو نفسه حول كون الأسلحة الكيمائية خطاً أحمر، وبتعريض صدقية ومصداقية الولايات المتحدة إلى الخطر.
وحتى أقطاب حزب أوباما الديمقراطي كانوا هم أيضاً يتململون ويشتكون من تأخر الولايات المتحدة عن حلفائها الأوروريين في تتبع مسألة الأسلحة الكيمائية الخطيرة، على الرغم من أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه الجمهوريون من مطالبة برفع وتيرة التدخل الأميركي في سورية. وقد تصلّب موقف الديمقراطيين أكثر بعد أن أشارت استطلاعات الرأي العام الأميركي إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد الأميركيين الذين يؤيدون التدخل العسكري الأميركي في سورية.
كل ذلك دفع إدارة أوباما على مايبدو إلى استباق جلسات الكونغرس لاستجواب وزير الخارجية كيري حول هذه المسألة، بتوجيه رسالة سريعة مسبقة إلى الكونغرس تتضمن الموقف الأميركي التصعيدي الجديد.
كما قد يكون  هناك سبب آخر هو البيان المفاجىء الذي أصدره رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية أتاي برون قبل أيام، والذي اتهم فيه لأول مرة النظام السوري بالمسؤولية عن كل الهجمات التي وقعت بالأسلحة الكيمائية مؤخراً .
وعلى رغم أن الغموض لايزال يلف أسباب هذا البيان الذي جاء من طرف (إسرائيل) يفترض أنه أوفى أصدقاء النظام السوري الراهن، إلا أن تأثيراته لم تتأخر في التفاعل، خاصة في الكونغرس الاميركي الذي تهيمن عليه القوى الموالية لأسرائيل هيمنة تكاد تكون كاملة. إذ هو كان بمثابة الضوء الأخضر لها كي تتحرك للضغط على أوباما.
- III -
الرئيس الأميركي، إذا، يواجه ماقد يكون "ثورة صغيرة" في الداخل الأميركي تطالبه بتغيير وجهة سير السفينة الأميركية إزاء سورية. وهذا يعيدنا إلى سؤالنا الأولي: هل يبدأ أوباما بالتخلي عن سياسة النأي بالنفس إزاء سورية؟
من المبكر القفز إلى مثل هذا الاستنتاج، على رغم أن رسالة البيت الأبيض إلى الكونغرس تضمنت في ثناياها بالفعل روائح تغيير أميركي ما.
فأباما سبق له أن حدد قبل أربع سنوات هدفاً ثابتاً له هو إقفال ملف الحروب الأميركية التي استمرت 12 عاما في العالم الإسلامي (أفغانستان والعراق)، وهو لم يتدخل في ليبيا إلا بعد  تردد كبير وسوى كطرف ثانوي وراء حليفتيه بريطانيا وفرنسا.
وعلى رغم أن كل مساعديه ومستشاريه بلا استثناء كانوا يحثونه على رفع وتائر التدخل في سورية، إلا أنه كان يرفض بعناد، ويدعوهم إلى ترك هذه القضية للقوى الإقليمية والدولية الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
بيد أن تضخّم أعداد التقارير التي تتحدث عن بدء استخدام النظام السوري للأسلحة الكيمائية، وإن بشكل محدود، وضع إدارة أوباما في وضع صعب في الداخل الأميركي والعالم: إذ بات عليها أن تثبت أنها تقرن أقوالها بالأفعال حين تتحدث عن الخطوط الحمر، وإلا فقدت هيبتها ومصداقيتها كقوة عظمى في كل أنحاء العالم.
وهذا يصح، أكثر ما يصح، في العلاقة مع إيران، حيث أن تراخي واشنطن في التعاطي مع الملف الكيمائي "الصغير" في سورية، سيضرب كل استراتيجية أوباما وتكتيكاته في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني "الكبير".
بيد أن الطريق لايبدو مسدوداً أمام أوباما للإفلات من الضغوط المتصاعدة عليه لحمله على التدخل أكثر في سورية. ففي وسعه الآن (وهذا ماسيفعل على الأرجح) التحرك في الأمم المتحدة للمطالبة بإجراء تحقيق دولي حول الاسلحة الكيمائية. وهذا ما سيعطيه فسحة وقت قد تطول أو تقصر للتفلت من الضغوط. كما في وسعه تطوير خيارات أخرى للتعامل مع الأزمة السورية تقل عن درجة التدخل المباشر، وتكون محددة أمنياً وغير محدودة دبلوماسيا.
بيد أن هذا المخرج قد لايكون كافياً إذا ما تراكم المزيد من "الحقائق" (وليس فقط تقارير أجهزة المخابرات) عما يجري كيمائياً في سورية، أو إذا ما ارتكب النظام السوري الحماقة الكبرى وواصل استخدام هذه الأسلحة.
إذ حينها سيكتمل التفاف الانشوطة الداخلية الأميركية والدولية حول رقبة أوباما، وسيجد نفسه شاء أم أبى في قلب الأتون السوري، تماما كما حدث في ليبيا. وهنا، سيكون البنتاغون جاهزا: إذ هو أتم وضع خطط عسكرية تتراوح بين شن عمليات كوماندوس أميركية داخل الأراضي السورية للسيطرة على مخزون الأسلحة الكيمائية، إلى قصف الطائرات والمطارات العسكرية، وصولاً في وقت لاحق إلى إقامة منطقة حظر جوي قرب الحدود الأردنية.

سعد محيو

الثلاثاء، 23 أبريل 2013

حزب الله وسورية: تورُّط كامل أم لعب على حافة الهاوية؟



- I -
هل قرر حزب الله الانغماس الكامل في لجج الحرب السورية؟
نصر الله وخامنئي: إلى أين في سورية.؟(الصورة من غوغل

ثمة اجتهادان هنا:
الأول يقول أن الأمر على هذا النحو بالفعل. وأنصاره يستشهدون بكلام الرئيس السوري بشار الأسد الأخير أمام وفد 8 آذار اللبناني، الذي نعى فيه سياسة النأي بالنفس اللبنانية، ودعا حلفاءه اللبنانيين إلى الانخراط معه مباشرة وعلناً في قتال المعارضة المسلحة. كما يقولون أن زيارة السيد حسن نصر الله إلى طهران، والتي سرت أنباء بأنه تلقى خلالها طلبات مباشرة من أية الله خامنئي بوضع كل ثقل الحزب إلى جانب نظام الأسد، على الأٌقل مرحليا.
الاجتهاد الثاني يشير إلى أن التورط العسكري للحزب في سورية سيكون محدوداً استراتيجياً بمجرد تأمين مثلث حمص- اللاذقية- دمشق الذي يعمل النظام السوري الآن على محاولة تأمينه تمهيداً ليس فقط للدفاع عن العاصمة، بل أيضاً لخوض حرب طويلة الأمد إنطلاقاً منه.
أي السيناريوهين الأقرب إلى الصحة؟
- II -
الكثيرون في لبنان والمنطقة يتمنون أن يكون تورط حزب الله محدوداً كما كان طيلة السنتين الماضيتين. إذ من شأن تحقق السيناريو الأول أن يجر لبنان برمته إلى أتون الحرب الأهلية السورية، على قاعدة صراع سنّي- شيعي واسع النطاق يمتد هلاله من طهران إلى حارة حريك في بيروت مروراً ببغداد ودمشق.
والأرجح في هذه الحالة أن يتخذ الصراع في لبنان شكلاً أمنياً شبيهاً إلى حد بعيد بالنموذج العراقي الراهن، حيث تقوم المنظمات الجهادية السنّية بعمليات انتحارية وتفجير سيارات مفخخة في الضاحية الجنوبية من بيروت، فترد عليها المنظمات الشيعية المتطرفة (وهي قوية الحضور على يمين حزب الله) بالمثل في المناطق السنّية. وبالطبع، تدخل المخابرات السورية والإسرائيلية وغيرها من الأجهزة على هذا الخط لتأجيج نيران الصراع.
قد لاتصل الأمور في لبنان في هذه الحالة إلى مرحلة الحرب الأهلية مع خطوط تماس واضحة بين السنّة والشيعة، أو بين قوى 14 و8 آذار، لكن بطن لبنان سيكون مفتوحاً في كل حين على هذا الاحتمال، خاصة مع الضغوط الشديدة والمتواصلة التي يمارسها النظام السوري لتحويل حربه الداخلية إلى حرب إقليمية شاملة.
- III -
حتى الآن، المؤشرات تدل على أن السيناريو الثاني (المحدود) لاتزال له اليد العليا. وهذا كان واضحاً من الصفقة الإيرانية- السعودية الكبرى التي تم بموجبها تكليف تمام سلام المقرَّب من الرياض تشكيل الحكومة الجديدة، والتي فسّرها الكثيرون على أنها مسعى لتنفيس الاحتقان السنّي- الشيعي وبالتالي لمنع تمدد الحرب السورية إلى لبنان.
مؤشر آخر هو استمرار تمسُّك حزب الله بروايته "الوطنية اللبنانية"، أي أنه يقاتل في سورية للدفاع عن مواطنين لبنانيين يقطنون قرى حدودية سورية. وهذه الرواية، على ضعف منطقها، مهمة لأنها بمثابة إشارة إلى وجود رغبة في تجنب الوقوع كليا في في فخ السيناريو الأول.
بيد أن المشكلة هنا هي أن حزب الله ليس اللاعب الوحيد على الساحة اللبنانية. فماذا لو عمدت المخابرات السورية، مثلاً، قبل جبهة النصرة أو غيرها من المنظمات الجهادية، إلى تفجير السيارات الملغومة في المناطق الشيعية ؟ (قيل أن حزب الله اكتشف مؤخراً ثلاث سيارات مفخخة في الضاحية الجنوبية من دون الإعلان عن ذلك) ألن يؤدِ ذلك إلى سلسلة ردود فعل تفقد فيها الأطراف اللبنانية المعنية السيطرة على الوضع؟
هذا الاحتمال ليس مستبعداً على الإطلاق. ويكفي هنا أن نتذكر سيناريو التفجير واسع النطاق الذي عهدت به المخابرات السورية إلى الوزير السابق ميشال سماحة، والذي كان سيؤدي لو رأى النور إلى اشتعال أعمال عنف طائفية في الشمال وفي باقي أنحاء لبنان.
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: حزب الله وضع لبنان على منعطف خطر بمعاركه في مثلث حمص- دمشق- اللاذقية، حتى ولو كان هدفه محدودا. فهو يلعب يرمي بعيدان ثقاب مشتعلة في حقل من العشب اليابس سريع الاشتعال.
والمخرج الوحيد الآن من احتمال تدهور الوضع الأمني بسرعة ، أو خروجه عن نطاق السيطرة، في الداخل اللبناني، هو الاسراع في تسهيل ولادة حكومة سلام.
لماذا؟
لأن هذا سيكون أهم مؤشر على أن حزب الله وحلفاءه لم يخضعوا تماماً إلى ضغوط الأسد وإملاءاته، وأن شعار النأي بالنفس العقلاني لايزال حياً، وإن جزئيا.

سعد محيو


الاثنين، 22 أبريل 2013

أووم، أووووم أومممممم، أُم..


- I -

هل تستطيع بعض الكلمات السيطرة على عمل العقل وتغيير التركيبة الكيميائية للجسم؟

التجارب العديدة التي أجريت في الحقل تُثبت ذلك. آخرها كانت الدراسة التي نشرها عالما الكومبيوتر الهنديان أجاي غورجار وسيدهارت لادهيك في مجلة "انترناشنال جورنال أوف كومبيوتر ساينس".
في هذه الدراسة استخدم العالمان علم الرياضيات لتحليل تأثيرات كلمة "أووُم"(Om) التي تستخدمها مدارس فلسفية شرقية عدة تمارس فن التأمل كمدخل للفكر التجاوزي، فوجدوا أن التلفظ بهذه الكلمة خلال جلسة التأمل تؤدي بالفعل إلى تهدئة العقل وإلى خلق الشعور بالسلام والطمأنينة الداخلية. كما أنها تُحدث تغييرات واضحة في الجسم، فتخفض مستوى ضغط الدم، وتساعد على توازن كميات السكر والكوليسترول.
إلى هنا والموضوع لاجديد فيه. إذ أن المكتبات تعج بالدراسات التي أجريت على العلاقة بين الفكر والجسم خلال ممارسة التأمل أو الصلاة الخاشعة والمتحررة من الروابط المادية، والتي أثبتت كلها وجود تفاعل حيوي  نشط ومتبادل بين الطرفين.
هذا إضافة إلى أن الأديان  كلها تركز تركيزاً شديداً على محورية "المانترا"(Mantra)، أي الكلمة المُقدسة"، في عالمي الفكر والمادة. فالآية الأولى في القرآن الكريم تبدأ بكلمة "إقرأ". والآية الرئيس في الإنجيل تعلن أنه "في البدء كانت الكلمة". والفلسفات الآسيوية على أنواعها من بوذية وهندوكية والسيخية والجاينية وغيرها، لا وجود لمعظمها من دون "المانترا".
لكن السؤال هو: لماذا كلمة "أووم" بالتحديد هي التي حظيت بانتشار كاسح في كل أنحاء العالم، أكثر من كل المانترات المُستخدمة مجتمعة؟
- II -

نذكّر هنا بأن كلمة" أووم" سنسكريتية الأصل، وهي تستعمل عادة مع كلمتي "تات" و"سات" لتعني "كل ما هو حق"، أي كل ماهو حقيقة مطلقة. أما كلمة "أووم" بمفردها فتعني الروح أو الوجود الواحد.
قد تكون الصدفة وحدها هي التي جمعت بين كلمة أووم في اللغتين السنسكريتية وأم بالعربية لتعني في الثانية الوالدة وفي الأولى الخلق الروحي. بيد أنها في الواقع صدفة غريبة قد يحيلها بعض علماء اللغة إلى التلاقح القديم بين الحضارتين الإسلامية والهندية.
ثم أنها صدفة مثيرة أيضاً. إذ أن العديد من كبار المتوصفة الإسلاميين والمسيحيين والفلاسفة المثاليين الإغريق والغربين، لطالما عقدوا المقارنة بين دور الأم كوسيلة للخلق وكنبع للحنان والحماية والعطاء، وبين تجليات الحب والعناية الإلهيين في الخلق. وعلى أي حال، قريب هو العهد الذي كانت فيه كل مجتمعات العالم مطريركية (أي تحكمها المرأة أو الأم).
- III -

نعود إلى تجارب العالمين الهنديين لنشير إلى أنهما اكتشفا أنه مهما تغيّر امتداد تموجات الأصوات خلال استخدام كلمة أم، (مثل أوووم، أو أوم م م ممممممم، أو أووووووووووم) فإن تأثيراتها على تهدئة العقل والسيطرة على الجسد واحدة. وهذا يعني أن هذه الكلمة، ولسبب ما، تملك قدرات "سحرية" لم يستطع أحد بعد فك ألغازها.
هل يحتمل أن تكون هذه التأثيرات سايكولوجية، أي مجرد إيحاء ذاتي؟
ممكن. لكن كل من مارس الصلاة بنقاء روحي، وكل من اطّلع على اختبارات عمالقة التصوف مثل إبن عربي وجلال الدين الرومي والقديس أوغسطين الذين استخدموا مانترا كلمة الله، يؤكدون أن بعض الكلمات المحددة قد تكون بالفعل بوابة العبور إلى عالم الروح والفكر.
وهو عبور رائع، في كل الأحوال.

                                                                                        سعد محيو




الأحد، 21 أبريل 2013

قصة حروب الخليج تتكرّر في شرق المتوسط؟


              (الحلقة الرابعة والأخيرة من "حروب طاقة طاحنة في شرق المتوسط")
- I -
ماذا إذاً، كما تساءلنا بالأمس، عن احتمالات الحرب والسلام في ما يتعلّق بموارد الطاقة في شرق المتوسط؟
لولا التقارب التركي- الإسرائيلي الأخير، الذي أشرف عليه باراك أوباما، لقلنا ببساطة أن شرق المتوسط يجلس ببساطة فوق برميل بارود وسط غابة من عيدان الثقاب القابلة للاشتعال. وهو بذلك يشبه إلى حد كبير وضعية منطقة الخليج العربي، التي تشهد هي الأخرى كل عشر سنوات تقريباً حرباً كبرى أو أزمات أكبر بسبب مواردها النفطية.
فأساطيل تركيا وروسيا وأميركا وأوروبا وإسرائيل واليونان، والتي تتضمن أحياناً مئات السفن البحرية، تجوب مياه شرق المتوسط جنباً إلى جنب بشكل خطر، إلى درجة أن أي حادث صغير أو استفزاز قد يعتبر على نحو مخطىء أنه عمل عدواني. كما من المحتمل في مقبل الأيام أن تصبح المناورات البحرية التي تجريها هذه الأساطيل لإثبات الحقوق البحرية أكثر خطورة وتكرارا.
وفي مناخ من انعدام الثقة المتبادلة وعدم اليقين بين دول شرق المتوسط، يمكن أن تتحوّل الاستفزازات المفترضة ببساطة إلى صدامات.
خذوا، مثلاً، نموذجاً بسيطاً عن ذلك: علاقات لبنان وإسرائيل في مجال الغاز.
فلبنان، الذي لم يسو أبداً خلافاته مع إسرائيل حول الحدود البحرية، أعلن أن جزءاً من حقل ليفياثان يقع ضمن مساحة الـ330 ميل مربع التابعة له. وهذا الخلاف، إضافة إلى تهديد حزب الله اللبناني بشن هجوم على منصات الغاز الإسرائيلية، زاد من الأعباء التي تتحملها البحرية الإسرائيلية الصغيرة. فحتى وقت متأخر، كان التركيز الاستراتيجي الرئيس لهذه البحرية هو الدفاع عن السواحل ومواصلة حصار قطاع غزة، لكن بروز مسألة منصات الغاز دفعها إلى إقرار خطة لإضافة أربع سفن حربية إلى أسطولها، وإلى توسيع نطاق تحالفاتها العسكرية البحرية والسياسية مع أطراف متوسطية أخرى مثل قبرص واليونان.
- II -
بكلمات أخرى: بدأت إسرائيل تعد العدة لحروب بحرية محتملة في شرق المتوسط، بعد أن كان جل اهتمامها في السابق منصباً على الحروب البرية. وما ينطبق على إسرائيل يسحب نفسه أيضاً على باقي الاطراف المهتمة بموارد الطاقة الجديدة في هذه المنطقة.
سورية تقدم نموذجاً آخر. فما بدأ كانتفاضة شعبية لها مطالب إصلاحية محدودة فيها، تحوّل بسرعة إلى صراع دولي- إقليم للصراع على الطاقة فيه دور كبير. فسوريا لديها على مايبدو احتياطي غاز ونفط كبير قبالة شواطئها. وعلى رغم أن الأزمة الراهنة فيها منعتها من بدء التنقيب عنه، إلا أنها في وقت ما ستبدأ العمل في البحر، وحينها ستجد نفسها وجهاً لوجه مع كلٍ من قبرص وإسرائيل بسبب فقدان الاتقاقات البحرية مع كليهما. هذا علاوة على أن بروز نظام موالٍ لتركيا في دمشق، سيسدد ضربة قوية لكل مشاريع الطاقة الروسية في المنطقة.
لا بل أكثر: في حال لم تتوصل تركيا إلى اتفاقات مع قبرص اليونانية حول تقاسم ثروة الطاقة مع قبرص التركية، فقد تجد نفسها هي الأخرى في مواجهة مع البحرية الروسية التي أعلنت صراحة أنها ستحمي إنتاج الطاقة القبرصي.
هذه بعض احتمالات الحرب في شرق المتوسط، فماذا عن فرص السلام، أو التسويات؟
الفرص موجودة، لكنها تبدو الآن صعبة المنال. فالنزاع قد يتقلّص، مثلاً، إذا ماتوصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق على حدودهما البحرية، أو إذا ما اتفق القبارصة اليونانيون والأتراك على تقاسم عائدات الغاز، أو إذا توصلت تركيا وإسرائيل إلى صيغة لتجنب المجابهات العسكرية في أعالي المتوسط.
بيد ان التوصل إلى مثل هذه الاتفاقات بحاجة إلى وسيط. وهذا دور حاولت روسيا القيام به، لكن انحيازها إلى قبرص واليونان وانخراطها في الدفاع عن نظام الأسد، أثارا الشكوك العميقة حول مدى صدقية هذا الدور وحياديته. الاتحاد الأوروبي يبدو هو الآخر غير مؤهل للعب هذا الدور، لأن مصالحه الخاصة في الحصول على غاز شرق المتوسط تضعه على طرفي نقيض مع قوى أخرى في المنطقة كروسيا التي تزوده بأكثر من 80 في المئة من حاجياته من الغاز الطبيعي.
تبقى الولايات المتحدة، لكن ليس كوسيط ولكن كمدير ومُدبِّر للأمن الإقليمي الخاص بالطاقة في هذه المنطقة، وكصاحب مصلحة في استثمارات الطاقة فيها (إنتاج الغاز الإسرائيلي مشروع مشترك بين الشركات الأميركية والإسرائيلية). فهل هي مستعدة للقيام بهذه المهمة؟.
دورية "فورين أفيرز" الاستراتيجية الأميركية ردّت على هذا السؤال في عدد آذا/مارس 2013 بالتالي: التركيز الاستراتيجي الأميركي الحقيقي لايزال منصباً على منطقة الخليج، والآن أيضاً على آسيا- الباسيفيك. ولذا من المستبعد أن تقرر واشنطن إعادة الأسطول السادس الأميركي إلى ماكان عليه إبان الحرب الباردة في البحر المتوسط حين كانت سفنه تسيطر عملياً على مياهه. وبالتالي، الأرجح أن تعتمد الولايات المتحدة أكثر على الأساطيل الأوروبية- الأطلسية لموازنة الأسطول الروسي ولإطفاء لهيب النزاعات بين حلفائها، خاصة تركيا وإسرائيل.
لكن، في حال عجزت فرنسا وبريطانيا عن القيام بهذا الدور، بسبب انغماسهما في نزاعات شمال إفريقيا ومالي وأيضاً بسبب أزماتهما المالية والاقتصادية، فقد تجد الولايات المتحدة نفسها مرغمة على وضع الاسطول السادس قيد العمل مجددا، وإن بشكل انتقائي ومؤقت، كوسيلة لحل النزاعات بين حلفائها ولمنع الروس من ملء الفراغ في شرق المتوسط. وحينها ستصبح الحلول الإقليمية المحتملة قراراً دولياً من الطراز الأول.
- III -
على أي حال، الحروب كما الحلول في شرق المتوسط لن تبرز قريباً، لأن العمل لايزال في بداياته الأولى في مجال التنقيب والانتاج. لكن، إذا ما بدأ الغاز الإسرائيلي، على سبيل المثال، يتدفق على أوروبا، من دون اتفاقات شاملة بين دول شرق المتوسط، فهذا وحده سيكون كافياً لبدء قرع طبول الحرب في المنطقة.
وهي طبول يمكن ببساطة سماع تكتكاتها الآولى من الآن، لأنها تشبه كلياً تقريباً الطبول الخليجية.
إنها قصة الخليج العربي تتكرر بحذافيرها في شرق المتوسط.

سعد محيو





السبت، 20 أبريل 2013

مقال اليوم: نحو "حروب طاقة" طاحنة في شرق المتوسط؟ (الحلقة الثالثة: الدور التركي الكبير)


- I -
تطرقنا بالأمس إلى مواقف إسرائيل وقبرص واليونان وأوروبا وروسيا وأميركا من السباق على موارد الطاقة الجديدة في شرق المتوسط. لكن ماذا عن تركيا؟
قد لانبالغ في شيء إذا ماقلنا أن تركيا مؤهلة لتكون اللاعب الرئيس في الرقصة الجيوسياسية الكبرى الجديدة في المنطقة لأسباب عدة:
فهي، أولاً، تبذل منذ سنوات جهوداً ضخمة لتكون مركز الطاقة الجديد في مثلث الشرق الأوسط- آسيا الوسطى وبحر قزوين- أوروبا. وهي حاولت قبل اندلاع الثورة السورية أن تنشيء" خطأ أنابيب غاز عربية" إلى أوروبا عبر أراضيها؛ وهي تتصدى الآن للمحور الإسرائيلي- القبرصي- اليوناني الذي يحاول تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي عبر اليونان إلى أوروبا، وتُصر على أن يمر هذا الغاز عبر أنابيب غاز قزوين- آسيا الوسطى التي هي مقرها.
قبل زيارة الرئيس أوباما الأخيرة إلى الشرق الأوسط، كانت الخلافات وصلت إلى ذروتها بين تركيا وإسرائيل حول هذه المسألة، إضافة إلى الخلافات الأخرى المتعلقة بالصراع على الحصة التي تطالب بها تركيا في نظام الشرق الأوسط. وهذا دفع أنقرة، على سبيل المثال، إلى دعم مطالب لبنان في نزاعه حول الطاقة والحدود البحرية مع إسرائيل، وإلى التلويح باستخدام القوة للدفاع عن حقوق قبرص التركية في حقل أفروديت القبرصي الشمالي، وأيضاً إلى اعتبار الحرب الأهلية السورية جزءاً لا يتجزأ من حروب الموارد الطبيعية الجديدة مع روسيا واليونان وإسرائيل في شرق الأوسط.
لكن، بعد أن نجح أوباما في مصالحة أنقرة وتل أبيب، ينبغي الانتظار قليلاً لمعرفة ماإذا كانت العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين ستعود إلى سابق عهدها التحالفي والتعاوني كما قبل أحداث العام 2009 في غزة. وإذا ما حدث ذلك، ليس من المستبعد ولادة وفاق  طاقة تركي- إسرائيلي توافق بموجبه تل أبيب على تصدير الغاز عبر تركيا (وهو الخيار الاجدى اقتصادياً بكثير من خيار اليونان)، علاوة ربما على اتفاق آخر لتقاسم النفوذ السياسي وموارد الطاقة في سوريا ما بعد الأسد.

- II -
تركيا، ثانيا، تعتبر القوة البحرية الأكبر في شرق المتوسط. فهي تمتلك 200 سفينة حربية تتضمن فرقاطات، وطرادات، وغواصات تكتيكية، وزوارق للهجمات السريعة، وسفن برمائية، وسفن لوجستية. وهذا ما يجعلها الطرف الأكثر تأهيلاً لتأمين الممرات الآمنة لخطوط الطاقة والسفن التجارية في شرق المتوسط، في وقت تركّز فيه الولايات المتحدة على منطقتي الخليج العربي وآسيا الباسيفيك، ولم يعد لديها الآن سوى سفينة حربية واحدة في المتوسط بعد أن كان الأسطول السادس الاميركي له وجود مهيمن على حوض البحر المتوسط إبان الحرب الباردة( 4 غواصات وحاملة طائرات ترافقها 8 سفن حربية مقاتلة).
روسيا أيضاً كان لها وجود بحري قوي في المتوسط خلال الحرب الباردة (96 سفينة حربية إبان حرب أوكتوبر 1973)، لكن هذا الوجود انخفض إلى الصفر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ورغم أن البحرية الروسية عادت منذ العام 2001 إلى المتوسط وأجرت ثلاث مناورات كبرى، إلا أن قدرتها على الحفاظ على وجودها في المنطقة سيكون مشكوكاً به إذا سقط نظام الأسد، وهي ستكون مضطرة حينذاك للاعتماد على قبرص التابعة للاتحاد الاوروبي، وبالتالي لحلف الأطلسي.
وكل هذا يدفع إلى جعل الدور التركي في شرق المتوسط قوياً، كما هو ضروري في شرق المتوسط.
وتركيا، أخيرا، هي الأكثر تأهيلاً للعب دور الوكيل الإقليمي الجديد لأميركا ( بالاشتراك مع إسرائيل والأردن) في كل منطقة الشرق الأوسط، بعد أن تستكمل واشنطن "استدارتها نحو الشرق الآسيوي" (strategic pivot ). وهنا سيكون لمسألة الطاقة في شرق المتوسط شأو كبير في تحديد طبيعة التوجهات الجديدة للمثلث التركي- الأردني- الإسرائيلي.

- III -
ماذا الآن عن احتمالات الحرب والسلام في ما يتعلّق بموارد الطاقة في شرق المتوسط؟

(غدا حلقة رابعة وأخيرة)
سعد محيو

الجمعة، 19 أبريل 2013

نحو "حروب طاقة" طاحنة في شرق المتوسط؟ (الحلقة الثانية)


- I -
تساءلنا بالأمس عن القوى الرئيسة اللاعبة في رقصة النفط والغاز الجديدة في شرق المتوسط، والتي يمكن أن تكون مدخلاً إلى الصراعات كما إلى التسويات.
البحرية الروسية في المتوسط: نحن هنا (الصورة من غوغل

أول من يبرز من بين هذه القوى هي إسرائيل، التي دشّنت دخول المنطقة إلى مرحلة إنتاج الغاز الطبيعي، وأطلقت سلسلة مبادرات دبلوماسية- أمنية واسعة لحماية وضمان وتسهيل تصدير غازها المكتشف حديثا.
نقطة البداية في هذه المبادرات الإسرائيلية كانت قبرص، المرشح الأقوى الثاني لإنتاج الطاقة في شرق المتوسط، وداعمها الرئيس اليونان. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2012، وقّعت إسرائيل وقبرص واليونان اتفاقية شكّلت بموجبها القوى الثلاث فرق عمل لمناقشة ما أُسمي "ممر الطاقة عبر شرق المتوسط" لنقل صادرات الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان.
آنذاك، جرى الحديث عن ولادة محور جديد إسرائيلي- قبرصي- يوناني في المشهد الجيو-سياسي الجديد لحوض البحر المتوسط، يشمل ليس فقط عنصر الطاقة بل البعد الأمني أيضاً. وبالفعل، أجرت اليونان وإسرائيل، ومعهما الولايات المتحدة، مناورات جوية وبحرية تحاكي عملية الدفاع عن آبار الغاز البحرية في شرق المتوسط. ومنذ ذلك الحين، بدأ التعاون العسكري بين إسرائيل وقبرص واليونان ينمو بشكل متسارع، بدعم ضمني من روسيا التي تعتبر نفسها "حامية" قبرص اليونانية.
بيد أن هذا المحور تعرّض إلى تحدٍ كبير من تركيا التي اعترضت عليه لسببين رئيسيين: الأول أنها تريد أن تضمن حصة قبرص التركية فيه، والثاني أنها تريد أن تكون هي، وليس اليونان، مركز تصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا.

سنأتي إلى الدور التركي الضخم في ملحمة الطاقة المتوسطية بعد قليل. لكن، قبل ذلك فلنستعرض مواقف بقية أطراف اللعبة مبتدئين بأوروبا.
- II -
الاهتمام الرئيس للاتحاد الأوروبي بآفاق الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، ينبع من الحقيقة بأن الغاز سيواصل لعب دور هام ومتزايد في الاقتصادات الأوروبية لعقود عدة مقبلة. وقد أصدرت اللجنة الأوروبية مؤخراً تقريراً بعنوان "خريطة طريق الطاقة حتى العام 2050"، قالت فيه أن الغاز الطبيعي سيلعب دوراً حاسماً في التحولات التي ستطرأ على نظام الطاقة. كما توقّع التقرير أن يبقى الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي مرتفعاً، خاصة في مجال توليد الكهرباء.
 معروف أنه في العام 2010، جاء 80 في المئة من واردات الغاز الأوروبية من ثلاثة مصادر فقط: الاتحاد الروسي، النروج، والجزائر. وهذا الاعتماد الكثيف على مثل هذا العدد القليل من المصدِّرين، حفز اللجنة الأوروبية على تطوير مفهوم تنويع واردات الغاز ليكون حجر الأساس في استراتيجية الطاقة. ومن هنا نبع الاهتمام الأوروبي الشديد بغاز شرق المتوسط.
اللاعب الكبير الآخر في جيواستراتيجيا الطاقة المتوسطية هي روسيا، التي تريد هي الأخرى توفير حضور بارز لها في هذه المنطقة، رغم أنها أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، لأسباب عدة منها: اولاً، أنها تريد الحفاظ على موقعها المهمين الراهن بصفتها المصدّر الأول للغاز إلى أوروبا. وثانياً أنها تريد إحباط جهود تركيا لتكون بلد الترانزيت الجديد والرئيس لغاز بحري قزوين والمتوسط.
هذه المعطيات تفسّر جزئياً أسباب الاندفاعة الروسية الكبيرة (حتى الآن على الأقل) للدفاع عن نظام الأسد في سورية. إذ أن سقوط هذا النظام في أيدي معارضة موالية لتركيا والغرب، لن يعني فقط حرمان موسكو من قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر المتوسط في طرطوس، بل أولاً وأساساً تضعضع مواقعها التنافسية في الصراع على ممرات غاز شرق المتوسط. وهي لذلك كانت تحرص في كل حين على استعراض قوتها البحري في البحر المتوسط، خاصة قبالة السواحل القبرصية الحليفة لها، لتذكير تركيا على وجه الخصوص والآخرين بأنها مستعدة دوماً للدفاع عن مصالحها بالقوة.
- III -

ماذا الآن عن الولايات المتحدة؟
تتلخص مصالح هذه الدولة العظمى في شرق المتوسط في: حماية المصالح الإسرائيلية؛ تعزيز وجود شركات النفط الاميركية في خريطة الطاقة المتوسطية الجديدة، ودعم الجهود الأوروبية لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي.
لكن الأرجح أن يؤدي تزايد اكتشافات الطاقة في هذه المنطقة إلى دفع الولايات المتحدة إلى إعادة الاعتبار للوجود القوي الذي كان للأسطول السادس في البحر المتوسط، وإلى أن تعمل واشنطن على تحويل نفسها إلى "القاضي والحكم" في النزاعات التي ستنشب في المنطقة حتماً بسبب التنافس على الغاز وممراته.
لكن، كيف ستتوزع خريطة هذه النزاعات، وأين موقع تركيا على وجه الخصوص فيها؟

(غدا نتابع)
سعد محيو



الخميس، 18 أبريل 2013

نحو "حروب طاقة" طاحنة في شرق المتوسط؟


- I -
 "شرق البحر الأبيض المتوسط مصطلح يشير إلى الأراضي أو الناحية الجغرافية للدول الواقعة إلى شرق هذا البحر، أو التي لديها روابط ثقافية مع هذه المنطقة في غرب آسيا. بمعنى آخر، يشير المصطلح إلى الدول التي لها علاقة بدول منطقة شرق هذا المتوسط التي تشمل حاليا كلاً من قبرص, سوريا, لبنان, فلسطين, إسرائيل, والأردن. كما تعرف هذه المنطقة ببلاد الشام أو الهلال الخصيب".
نفط شرق المتوسط: بداية النزاعات؟ (الصورة من غوغل

هذا كان تعريف موسوعة ويكيبيديا لمنطقة شرق المتوسط. لكن من الآن فصاعداً، سيتوجب إدخال إضافات أخرى جذرية على هذا التعريف، مثل القول أن هذه المنطقة دخلت مؤخراً في مرحلة تغيُّر سريعة وكاسحة: فعملية الانتقال المضطربة في مصر بعد الربيع العربي، والحرب الأهلية في سورية، وبروز تركيا كقوة إقليمية قائدة في الشرق الأوسط، والنزاع الذي لاينتهي بين أنقرة وقبرص اليونانية، والصراع العربي- الإسرائيلي المستمر، كل ذلك يعيد الآن تركيب التوازنات الجيو-سياسية في شرق المتوسط.
وتشاء الصدف التاريخية أنه في الوقت نفسه الذي تمر فيه المنطقة في هذه المرحلة الانتقالية الخطرة، يدخل الغاز الطبيعي والنفط على خط الاحداث ليعيد بدوره رسم الخريطة الإقليمية للطاقة، مُحوِّلاً هذه المنطقة، جنباً إلى جنب مع  المتغيرات الجيو-سياسية آنفة الذكر،  إلى ساحة صراع شامل إقليمي ودولي، إلى درجة أن العديد من المحليين باتوا يعتبرون أن أحد الأسباب الرئيسة لاستمرار الحرب الأهلية في سورية هو دخول الغاز والنفط على خط الصراعات الجيوسياسية والجيواستراتيجية.
سنتطرق في هذا المقال، وفي المقالات اللاحقة، إلى محاولة استقراء الصراعات التي يمكن أن تنشب من جراء دخول الطاقة على خط النزاعات الجيوسياسية. لكن، فلنبدأ أولاً باستعراض الوضع الراهن لاكتشافات الغاز والنفط في شرق المتوسط.
- II -
بدأت عمليات استكشاف الغاز الطبيعي في هذه المنطقة في أواخر حقبة الستينيات وأوائل السبعينيات، حين اكتشفت شركة "بيلبيتكو" سلسلة من الآبار في كل من فلسطين المحتلة 1948 وشمال صحراء سيناء، لكن تبيّن لاحقاً أنها كلها جافة.
ثم بدأت عمليات الاستكشاف الفعلية في عامي 1999-2000، حين عُثِر على خمسة حقول للغاز الطبيعي في مناطق ضحلة المياه غرب بلدة عسقلان وقطاع غزة. وهذه الاكتشافات سرّعت من وتيرة الجهود البحثية، ودفعت إلى وضع داتا معلومات جيو-فيزيائية لكل منطقة حوض المشرق العربي برمته.
بيد أن نقطة التحوُّل الرئيسة في مجال اكتشافات الغاز الطبيعي جاءت في العام 2009، حين أعلنت الشركة الأميركية "نوبل إينيرجي" عن اكتشاف حقل تامار قبالة شواطيء إسرائيل. ثم أتبعت ذلك بالإعلان عن اكتشافين آخرين في حوض المشرق، الأول حقل ليفياثان قبالة الشواطيء الإسرائيلية (العام 2010) والثاني حقل أفرودايت قبالة الشواطيء القبرصية(2011).  ويُقدَّر أن حقلي تامار وليفياثان يحتويان على نحو 26 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهما يمكن أن يوفرا احتياجات إسرائيل من الكهرباء لمدة 30 سنة، لابل قد يحولانها إلى دولة مصدرة للغاز.
لبنان، الذي لم يسوِّ بعد خلافاته الحدودية البحرية مع إسرائيل، كان قد أعلن أن جزءاً من حقل ليفياثان يقع داخل منطقة الـ330 ميل مربع من منطقته الاقتصادية المحمية. هذا في وقت كانت ترد تقارير عن وجود احتياطات نفط وغاز ضخمة فيه.
اما مصر وسورية، وهما الدولتان الساحليتان الأخريان في شرق المتوسط، فلاتزالا منغمستين في اضطرابات داخلية تمنعهما من التركيز على اكتشاف الطاقة في مياههما. لكن من المعروف أن مصر تعتبر ثاني أكبر منتج للغاز في إفريقيا، مع احتياطي مؤكد يبلغ 77 تريليون قدم مكعب، 80 في المئة منه في دلتا النيل وحوض البحر المتوسط. هذا في حين أن عمليات الاستكشاف في سورية توقفت تماماً تقريباً مع بدء الانتفاضة فيها ومع فرض العقوبات الاقتصادية عليها. وحقيقة أن سورية تفتقر إلى اتفاقية مع قبرص حول منطقة الحدود الاقتصادية الحصرية، لاينبىء بالخير للمستقبل، خاصة إذا ما حلّ نظام آخر موالٍ لأنقرة مكان نظام الأسد.
لكن في خاتمة المطاف، الاضطرابات في مصر وسورية ستصل إلى خواتيمها في وقت ما، وحينها ستعود الدولتان إلى الانغماس بقوة في السباق والصراع على الطاقة في شرق المتوسط.
- III -
ماذا الآن عن النزاعات الإقليمية والدولية المتوقعة من تحوّل شرق المتوسط إلى مصدر جديد للطاقة في العالم؟

(غدا نتابع)

سعد محيو