للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الاثنين، 9 مايو 2016

القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟(الحلقة الأخيرة)




الحضارة الاسلامية بين الحوار أو الانتحار



لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
في الحلقة الرابعة في هذه المدونة، " تحدثنا عن عن احتمال وجود مخطط، أو "مؤامرة" لتفتيت المنطقة والمضاعفات المحتملة لذلك. في هذه الحلقة، الخامسة والأخيرة، سنبحث ما إذا كان لهذه المخططات التقسيمية فرص نجاح ما:

-       I
 مشاريع الدويلات المذهبية والطائفية التي بدأت تشق طريقها رويداً رويدا نحو التنفيذ، لن تنجح حيث فشل ما هو أكثر تجذراً منها في التاريخ والاجتماع العربيين. فلا هي ستكون قادرة، مهما فعلت، على تجنُّب الحروب الدائمة بين بعضها البعض، ولا على إقامة (كما ألمعنا  في الحلقات السابقة) طبعتها الخاصة من الدولة- الأمة، ولا على توفير مقومات البقاء الاقتصادي والأمني والاستراتيجي.
وحتى لو نجحت هذه الدويلات في البقاء، في ظل إعادة انتاج صيغ الحماية الدولية على الأرجح، ستكون مضطرة في مرحلة ما إلى البحث عن  صيغ اتحادية في المنطقة لتوفير ظروف الحياة لها، سواء في شكل نظام إقليمي مشرقي جديد، أو حتى في شكل تكتلات إقليمية.
في مرحلة ما أيضاً، حين ستوغل الهويات ماقبل الوطنية في المشرق في تغوّلها وتوحشها وحروبها، وفي اسقاطها لكل مقومات السيادة والكرامة بفعل استتباعها لإرادة وأوامر السيِّد الدولي الجديد، ستبرز مرة أخرى، وبقوة، الحاجة الماسة إلى أنموذج فكري – استراتيجي جديد، يستند إلى القيم الروحانية في الأديان التوحيدية الثلاثة، وإلى التعاون والتضامن الإقليمي المشرقي، بوصفه المنقذ الوحيد من جهنم حروب الدمار الشامل، وبكونه الجامع المشترك الأول بين مكونات مجتمعات المشرق.
فحين تتكشف أمام أفراد "الهويات القاتلة" ماقبل الوطنية والقومية أي أتون جهنمي دخلوا فيه؛ وحين يشعرون بالتعب من الحروب العبثية والقتل والدمار الشامل، وحين يبدأون بتلمّس الاثمان الباهظة للغاية للصفقة الفاوستية مع القوى الخارجية؛ وحين تتقطع بهم سبل الأمن والعيش، سيجدون أن المنقذ الوحيد من الضلال هو هذا الأنموذج الفكري- الاستراتيجي الجديد في المشرق، التعاوني والروحاني (في مقابل التكلّس الديني العصبوي) والمسالم.
هذه  اللحظة ستأتي أيضاً حين تصل السعودية وإيران وتركيا والأكراد إلى حالة الانهاك، أو حين تصل ألسنة اللهب التقسيمية الطائفية والإثنية إلى عقر دارها (وهي ستصل حتما)، فتتوقف عن استخدام/ وإشعال الورقة المذهبية في المنطقة كعنصر أساسي في سياستها الخارجية، سواء الثورية أو المحافظة، وتبدأ البحث عن القواسم المشتركة لأمن مشترك، واقتصاد مشترك، ونظام إقليمي مشترك في الإقليم، ونزعة روحانية- ثقافية مشتركة.
-       II

ثم أن هذه اللحظة ستأتي بفعل التغيرات الكبرى المرتقبة في النظام الدولي.
إذ يبدو واضحاً الآن أن العولمة، وعلى رغم كونها ذات طبعة نيوليبرالية أميركية، لاتهتم بوجود "القومية الأميركية" على عرش هذه الامبراطورية، ولايهمها لون قطة النظام العالمي طالما أنها تصيد فئران الأرباح والأسواق المفتوحة أمام شركاتها العملاقة.
الدول الكبرى الأخرى، التي تعرف ذلك، والتي بدأت تشم روائح الانحدار الأميركي حتى في ذروة صعود العولمة الجديدة وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، بدأت بالفعل تعيد النظر بأجنداتها وتخطيطاتها في السياسة الخارجية. لا بل بدأ بعضها ينتقل في هذا المجال من التخطيط إلى التنفيذ:
  - فاليابانيون، على سبيل المثال، بدأوا يفكرون بإقامة روابط أوثق مع أوروبا.
- والهند واليابان تدرسان بلورة تعاون استراتيجي عسكري بينهما  (ضد الصين).
- وروسيا تعد الخطط لإعادة الهيمنة على مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، وربما أيضاً على بعض دول أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى وبعض دول الشرق الأوسط.
- وأوروبا المتشظية هذه الأيام، تشهد اندفاعة من دولها الرئيسة في هذا الاتجاه. فألمانيا وإيطاليا تغازلان روسيا لأهداف اقتصادية في الدرجة الأولى (احتكار عملية تحديث الجغرافيا الروسية الشاسعة) واستراتيجية في الدرجة الثانية. وبريطانيا تخطط للابتعاد عن البر الأوروبي والاقتراب أكثر من الشواطيء الأطلسية الأميركية.
أما الصين، وعلى الرغم أنها ستصبح أكبر اقتصاد في العالم العام 2025 (في حال استمرت وتائر نموها الراهن)، فهي لاتزال حتى الآن تمارس سياسة "الصبر التاريخي"، بانتظار أن تسقط  ثمرة الزعامة الأميركية في حضنها.                               
ما سيتحكَّم بكل هذه التطورات، برأي زبغنيو بريجنسكي، ليس "التناغم الدولي" الذي تطرحه الصين الآن كإديولوجيا لسياستها الخارجية (إنطلاقاً من فلسفات التاو وبوذا وكونفوشيوس)، بل الصراعات العنيفة بين كل هذه الدول الصاعدة، على الموارد الطبيعية (النفط والماء أساسا)، والهيمنة الإقليمية، والدور العالمي (وإن في الإطار العام للعولمة). لا بل لايستبعد المحللون نشوب حروب مدمّرة بين الصين والهند واليابان، على غرار الحروب الانتحارية التي وقعت في لججها الدول القومية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين وأدّت إلى انحدار أوروبا التاريخي.
-       III

هذه اللوحة الدولية الجديدة المحتملة قد تقلّص إلى حد كبير من قوة القبضة الغربية الخانقة، والمتواصلة منذ حرب 1967، على المشرق (خاصة على مصر)، وستوفّر ذلك النوع من الفرصة الدولية (في إطار نظرية الفراغ الدولي) التي وضعها د. جلال أمين كشرط لازب لأي نهضة جديدة للحضارة الاسلامية.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية: إقليم المشرق يمثّل وحدة جغرافية- إيكولوجية متكاملة. وهذه حقيقة باتت في غاية الأهمية والخطورة الآن، لأن الكوكب الأزرق ككل يشهد خللاً خطيراً في توازناته البيئية، ولأن أمنّا الأرض لم تعد تحتمل العربدة الأجرامية الراهنة التي يرتكبها بعض البشر بحقها، والتي تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الملّوثة للجو والمدمّرة للبيئة وماتبقى من الزرع والشجر والمياه الجوفية. مثل هذه الأسلحة تستعمل الآن بلا أي رادع في كل أنحاء المنطقة، في وقت يتغيّر فيه مناخ الأرض بسرعة غير مسبوقة. وهو تغيّر كان أصلاً (كما أشرنا) أحد الأسباب الرئيسة لاندلاع العديد من الثورات مؤخراً في بعض البلدان العربية، خاصة في سورية والعراق واليمن وحتى في مصر. ومما يفاقم من هذه الأزمة الإيكولوجية، الانفجار الديموغرافي المنفلت من عقاله هو الآخر، والذي يفرض (بسبب عدم اتساقه مع التخطيط التنموي الاقتصادي- الاجتماعي ) ضغوطاً هائلة على البيئة.
إقليم المشرق يحتل حالياً المرتبة الأولى في العالم من حيث المناطق المهددة بنضوب المياه الكافية لشعوبه فيها. وحروبه الراهنة التي تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الكيميائية والإشعاعية تُمعن تخريباً بما ماتبقى من مياه جوفية وتربة صالحة للحياة.
الأزمة البيئة توحّد هذا الأقليم الآن، ولكن بطريقة دفعه بشكل مشترك إلى الهاوية. فكما أن اهتزاز جناحي فراشة بأكثر من اللازم في كاليفورنيا قد يتسبب بزلزال في اليابان، كذلك بات تغيّر المناخ وتلوث البحار والمياه والأجواء في أي بلد في منطقتنا، معظوفاً عليه ضغوط اللاجئين والديموغرافيا، يؤدي إلى كوارث متصلة في بقية بلدان المنطقة.
هذه المخاطر البيئية الجامحة، إضافة إلى حروب الدمار الشامل الأهلية الراهنة وضرورات التكامل الاقتصادي في ظل العولمة، يفرض على أي توجّه انقاذي جديد أن يطرح صيغة لتعاون إقليمي مع شعوب المنطقة من عرب أتراك وإيرانيين وأكراد؛ على أن يكون هذا التعاون بقيادة جماعية ( وليس بتفرّد عثماني جديد، أو إسلامي- فارسي مُستجد، أو حتى قومي عربي مُنبعث، أو بالطبع طموحات امبريالية توسعية إسرائيلية).
في إطار حل إقليمي، أو نظام إقليمي، من هذا النوع، يمكن مثلاً للأكراد (الذين هم الآن لغم التقسيم الرئيس في المنطقة) أن يحققوا طموحاتهم القومية، من دون "حروب استقلال" قد تكون عبثية مع تركيا وإيران والعراق وسورية. كما يمكن لكل الأطراف العربية والتركية والإيرانية القيام بأدوار تكاملية بدل الانسياق إلى مجابهات إقليمية مستنفزة ومدمِّرة. لا بل يمكن في هذا الإطار العثور على حل لـ"المسألة اليهودية" بعيداً عن المشاريع الانتحارية الصهيونية
***
أشرنا في كل الحلقات الرابعة السابقة إلى أن منطقة المشرق دخلت بالفعل مايمكن أن يكون بالفعل حرب الثلاثين عاما. ومؤشرات هذه الحقيقة واضحة وجلية في الدمار الشامل الآن في سورية والعراق واليمن والسودان، وربما قريباً في كل دول المنطقة.
بيد أن الحرب الكارثية ليست حتمية، إلا بالقدر الذي ننغمس فيها من دون محاولة الخروج، وسريعاً، من جحيمها.
بكلمات أوضح: الخيار هنا هو بين الانتحار الجماعي للقارة الاسلامية (وللحضارة الاسلامية) برمتهما وبين البقاء والاستمرار. إنه في الواقع والحقيقة خيار حقيقي بين الجنّة وجهنم. بين الحياة والموت. وخريطة الطريق المؤدية إلى كلٍ منهما أكثر من جاهزة، وهما تتلخصان في جملة يتيمة واحدة: الحوار أو الانتحار.
(انتهى)

سعد محيو 

الجمعة، 6 مايو 2016

تقسيم المنطقة من سايكس إلى بيترز





القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟(4)



- الحلقة الرابعة-
لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية والجيوسياسية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
في الحلقة الثالثة في هذه المدونة، "اليوم، غدا"، حاولنا الاجابة على السؤال التالي: هل عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حاليا، والتي قد تمتد قريباً إلى تركيا وإيران وأقطار عدة أخرى، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي "مؤامرة" أم حصيلة موضوعية؟ وفي حلقة اليوم، الرابعة،  سنتحدث عن احتمال وجود مخطط، أو "مؤامرة" لتفتيت المنطقة والمضاعفات المحتملة لذلك:

مارك سايكس
رالف بيترز



-         I
معطيات العولمة الراهنة التي تُفتت الدول- الامم الآن في كل أنحاء العالم، قد تدفع إلى الإسراع في الإجابة على سؤالنا الأول بالقول أن مايشهده المشرق من تفكك المفكك وتجزؤ المجزأ، ليس مؤامرة جديدة، بل هو جزء مشرقي من كلٍ عالمي؛ كلٌ تعمل فيه في الدرجة الأولى العولمة على تذرير كل الكيانات السياسية الهشة أو الضعيفة، وتسييل باقي الكيانات السياسية في دول العالم الأول الراسخة، بهدف إعادة تركيب الأوطان في سوق قرية عالمية واحدة، وتحويل المواطن إلى مستهلك اقتصادي وثقافي في هذا السوق. وهذا يتطلب (كما في الاتحاد الاوروبي) تفكيك الدول أو تقويض سيادتها، ثم دمجها في سوق إقليمي مرتبط بالسوق العالمي الجديد.
هذا صحيح، ولكن جزئياً فقط. إذ على عكس المناطق الأخرى التي تشهد سيرورة التفكيك، يتميّز المشرق بوجود مخططات غربية- إسرائيلية قديمة العهد وُضعت قبل حقبة غير قصيرة من بروز ظاهرة العولمة الأميركية كقوة تغيير عالمية، وهدفت إلى تذرير هذه المنطقة بهدف اخضاعها استراتيجياً إلى المركز الغربي، عبر منعها من بلورة كتلة إقليمية تاريخية جديدة.
كل ماهنالك أن هذه المخططات تقاطعت الآن مع خطط قوى العولمة في المرحلة التاريخية الراهنة، فبات كلً منها يتغذى من الآخر ويتعزز بقدراته وامكاناته. وهذا ماجعل المشرق مفتوحاً على التفكيك دون التركيب، في إطار حروب دائمة، معيداً بذلك تجارب حرب الثلاثين عاماً الطاحنة في أوروبا.
هل تذكرون هنا السير مايكل سايكس؟
بالتأكيد. فهو ذلك الدبلوماسي البريطاني الأشهر الذي دمغ مائة سنة من تاريخ الشرق العربي- الاسلامي الاوسط بختمه الخاص، أو بالأحرى بقلمه الخاص، الذي قسَم به المنطقة وزينًها باللونين الاحمر( حصة بريطانيا) والأزرق (حصة فرنسا) بعيد الحرب العالمية الأولى.
ذكرى سايكس هذا تنبش هذه الأيام على عجل في الغرب، جنباً إلى جنب مع فتوحات العولمة، وتحاط بهالة تكاد تقترب من القدسية. فهو "الدبلوماسي العبقري" الذي "بنى عالماً جديداً" في المشرق العربي. وهو الشاب الذي لو لم تقضِ الأنفلونزا الإسبانية  عليه سنة 1919 وهو في ريعان الشباب( 39 عاماً) ، لكان أصبح أشهر وأهم وزير خارجية في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. ثم أنه ذلك السياسي الذي "أدخل الرؤى العميقة والخيال الرحب" إلى علم السياسة الذي أسسه نيقولو ماكيافيلي قبله بأربعة قرون. هذه الصحوة المفاجئة على عبقرية سايكس، والتي ينغمس بها بنشاط الأعلام الانغلوساكسوني والإسرائيلي، ليست بريئة. إنها كانت على الأرجح تمهيداً لإستيلاد طبعة جديدة من السير سايكس، تكون هي العنوان الجديد للتاريخ في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط الجديد. 
من هم المرشحون لهذا الموقع الخطير؟
 هناك مرشح أبرز: الكولونيل الأميركي المتقاعد رالف بيترز، الذي كان نائب رئيس الأركان لشؤون الإستخبارات في البنتاغون، وأحد أهم الباحثين العسكريين حالياً في الدوريات الإستراتيجية والأمنية الاميركية.
هذا الكولونيل قفز فجأة من غياهب التقاعد إلى قلب الفعل، حين نشر في 10 تموز\ يوليو العام 2006 كتابه "لا تتوقفوا أبداً عن القتال"، [1] والذي تضمن خريطة "الشرق العربي- الاسلامي الاوسط الجديد"، كما فصَلها وشكَلها ولوَنها هو( تماماً كما فعل سايكس).
كان يمكن ان تبقى هذه الخريطة، ومعها الكتاب، مجرد خيال رحب لو أن مجلة القوات المسلحة الاميركية لم تنشرها، أو لو أن البنتاغون لم يقم بعرضها على إجتماع رفيع لحلف الاطلسي في بروكسل. بيد أن هذين الحدثين، مضافاً إليهما الضجة الإعلامية الكبرى التي رافقتهما، أوحيتا بأن المسألة ليست البتة إجتهادات أكاديمية، وان وراء اكمة الكتاب ما وراءها.
للتذكير، دراسة بيترز استندت إلى المحاور التالية:
-       حدود الدول الراهنة في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط هي الأكثر تعسفاً وظلماً، جنباً إلى جنب مع حدود الدول الإفريقية التي رسمها أيضاً الأوروبيون لمصلحتهم الخاصة.
-       الحدود الجديدة المُقترحة ستحقق العدل للسكان الذين كانوا الأكثر عرضة إلى الخديعة، وهم الأكراد، والبلوش، ثم المسيحيون والبهائيون والاسماعيليون والنقشنبديون، وغيرهم من الأقليات التي تلم شملهم رابطة "الدم والإيمان".
-       إعادة رسم الحدود يتطلب تقسيم وإعادة تركيب كل دول الشرق العربي- الاسلامي الأوسط تقريباً: من الدول العربية إلى باكستان، ومن تركيا إلى إيران. وهكذا سيتم، على سبيل المثال، تقسيم إيران إلى أربع دول. وتركيا ستفقد أراض شاسعة في الأناضول. والسعودية ستصبح ثلاث أو أربع دول، وسوريا سيتم تقاسمها بين دولة مذهبية عراقية جديدة وبين "لبنان الكبير" الذي سيضم كل "ساحل فينيقيا" القديم. كما ستمنح معظم الأقليات الدينية  والعرقية إما الاستقلال أو الحكم الذاتي.
أخطر ما قالته دراسة وخريطة بيترز كمن في مالم تقله: حصة "إسرائيل" الجغرافية في الخريطة الجديدة. وهي حصة واجبة الوجود لأن الشرق العربي- الاسلامي الأوسط الجديد الذي سيرث شرق أوسط بريطانيا وفرنسا، سيكون في الدرجة الأولى أميركياً- إسرائيلياً مع تلاوين أطلسية وأوروبية، خاصة إذا ما ما تمكّ الغرب من وقف التمدد الروسي والصيني إلى المنطقة.

II-

بيد أن الوثائق الصهيونية المُبكّرة منذ مؤتمر السلام بُعيد الحرب العالمية الأولى، سبق أن أوضحت أن حدود "إسرائيل" الطبيعية تشمل إلى كل فلسطين، جنوب لبنان ومعه بالطبع نهر الليطاني، وسيناء، وأجزاء واسعة من سوريا والأردن والعراق. وأي تغيير في الخرائط لايشمل حدود "إسرائيل الكبرى" هذه، لن ير النور بسبب الدور الكبير والحاسم للحركة الصهيونية في النظام العالمي الراهن.
حين نشرت مجلة البحرية الأمريكية هذه الخريطة، سارعت وزارة الخارجية الامريكية إلى التنصل منها. لكن يبدو الآن أن رالف بيترز ليس صوتاً صادحاً في برّية قفر. إنه بالأحرى مارك سايكس جديداً، ولكن بجموح أكبر بما لايقاس. لكنه جموح له مرتكزات إديولوجية وجيو- استراتيجية قوية.
فـ"المجزرة الجغرافية"  الكبرى، إذا ما جاز التعبير، لها بالنسبة إلى الكولونيل بيترز مبرر "اخلاقي ". يقول في كتابه: "الحدود الدولية لاتستطيع أبداً أن تكون عادلة. بيد أن درجة الظلم التي تُنزلها بأولئك الذين يفصلون أو يضمون إلى حدود جديدة، تخلق فرقاً كبيراً هو نفسه الفرق بين الحرية والقمع؛ بين التسامح والفظائع؛ بين حكم القانون والإرهاب، أو حتى بين السلام والحرب".
السير سايكس أيضاً أضفى مسحة إنسانية على مجرزته الجغرافية، حين قال أن تفتيته للمنطقة العربية هدفه" إدخال هؤلاء الفقراء العرب إلى العالم الحديث ".
حصيلة خريطة سايكس كانت مائة عام من الحروب والنزاعات والجروح التي لما تندمل بعد، لأنها (الخريطة) كانت منقطعة الصلة كلياً بالواقع المشرقي، ومرتبطة طلياً بالواقع الفرنسي- البريطاني آنذاك. ومع ذلك، يعاد الإعتبار في الغرب الآن لسايكس بوصفه "بطل الرؤى الإبداعية".
المحصلة نفسها ستحدث في الغالب مع خريطة رالف بيترز: ثلاثون عاماً من الحروب والنزاعات والجروح التي لن تندمل، لكن هذه المرة على نطاق جغرافي أوسع بكثير يمتد من سواحل قزوين إلى شواطيء سوريا، مبتلعاً في طريقه كل مناطق الشرق العربي- الاسلامي العربي، آسيا الوسطى،  تركيا وإيران، آسيا الجنوبية وأفغانستان. إنها "لعبة الشطرنج الكبرى" الجديدة التي تحدث عنها زبغنيو بريجنسكي، والتي ستجد في " رؤى " بيترز أولى تطبيقاتها العملية.
لكن، هل تملك هذه الخطط مقومات ما للنجاح؟
(للحديث صلة)

سعد محيو




[1] Ralph Peters: Never Quit the Fight, March 10, 2008

 

الخميس، 5 مايو 2016

هل تفتيت المنطقة مؤامرة أم حصيلة موضوعية؟



القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟(3)

(الحلقة الثالثة) 
لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية والجيوسياسية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
في الحلقة الثانية في هذه المدونة، "اليوم، غدا"، تطرقنا إلى التشابه بين مايجري الآن في العالم العربي-   الاسلامي راهنا، وبين ماجرى في حرب الثلاثين عاماً في أوروبا القرن السابع عشر التي دمّرت القارة وأبادت نحو نصف سكانها. وفي الحلقة  الثالثة اليوم  سنحاول الاجابة على السؤال التالي: هل عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حاليا، والتي قد تمتد قريباً إلى تركيا وإيران وأقطار عدة أخرى، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي "مؤامرة" أم حصيلة موضوعية؟

-       - I
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، وقفة أولاً أمام طبيعة ومآلات الأحداث التي شهدها ويشهدها العالم منذ نيّف و25 سنة.
بات معلوماً أن النظام العالمي يمر حالياً بواحدة من أضخم الثورات التاريخية، التي لن تغّير هذا النظام وحسب، بل ربما أيضا الطريقة التي عاش بها البشر طيلة العشرة آلاف سنة الماضية. إنها في آن ثورة في التكنولوجيا كما في الاديولوجيا؛ في الاقتصاد كما في الفكر؛ في الزراعة التي ستنتقل قريبا مع البيوتكنولوجيا من الارض الى المختبرات، كما في الصناعة التي بدأت تنتقل هي الأخرى من عالم المادة الى عالم المعلومات والافكار والروبطة؛ في الطب العضوي كما في الطب النفسي؛ في مفاهيم القوة كما في نظريات السيادة والدولة- الأمة والحدود.
حازم الببلاوي كان مصيباً حين أطلق على هذه الثورة إسم "عصر الانقطاع ". فإذا ماكان ظهور الزراعة قبل عشرة آلاف سنة ثورة وإنقطاعاً بين نمط حياة القنص والبداوة وبين نمط الحياة الأنتاجي المستقر، وإذا ماكانت الصناعة إنقطاعاً ضخماً آخر قلب الحياة البشرية رأسا على عقب، فإن الثورة التكنولوجية الثالثة الراهنة المستندة الى المعلومات والاتصالات والبيوتكنولوجيا، والانترنت، ستكون فاتح عصر جديد يمثِّل إنقطاعا كبير آخر في نمط الحياة والانتاج. ثم هناك ايضاً الثورة العلمية الرابعة، والزاحفة، التي قد تكون الاخطر في التاريخ، والمستندة إلى الروبطة (البشر الآليين) والصناعة ثلاثية الابعاد، والمرحلة الجديدة من البيوتكنولوجيا، واستكمال ربط كل شيء بالشبكة العنكبوتية.
من لا يسير في تيار هذه الثورة، سيجد نفسه سريعا كّماً مهملاً ملقىً على ضفاف مجراها الذي سيعج ببقايا " القديم" و "غير الفعاّل". ومن لايكون ضيفاً على وليمتها الكبرى، سيكون على لائحة الطعام.
 العولمة الراهنة تدّعي أنها ليست أيديولوجيا ولا حتى نظاماً، لكنها كذلك في الواقع بسبب تقديسها الشديد للأقانيم الكبرى الثلاثة للرأسمالية: "اليد الخفية" للسوق، والتجارة الحرة، والفردية المطلقة[1]. إنها قوى وشبكات قوى تعتبر الكرة الارضية كلها مجال عملها، وهي بدأت تضع للمرة الاولى في التاريخ السلطتين السياسية والاقتصادية في آن مباشرة في يد الرأسمالية.
وهنا بالتحديد كان هاردت ونيغري دقيقين في مؤلفهما "الامبراطورية"، حين أطلقا على السلطة الجديدة إسم " إمبرطورية العولمة" [2]، وحين أشارا الى أن هذه الامبراطورية تولد مباشرة امام أعيننا الآن. فخلال العقود القليلة الماضية، وفيما كانت النظم الكولونيالية تتعرض الى الاطاحة، ثم تنهار الحواجز السوفييتية أمام السوق العالمية بسرعة كبيرة آخر المطاف، كنا شهوداً على ظاهرة مبادلات اقتصادية وثقافية غير قابلة للمقاومة إتفق على تسميتها العولمة.
فجنبا الى جنب مع السوق العالمية ودورات الانتاج العالمية، برز نظام عالمي، ومنطق وآلية جديدان للحكم. باتت الامبراطورية الجديدة التي تتولى الاضطلاع بمهمة تنظيم هذه المبادلات العالمية، هي السلطة السيادية التي تحكم العالم.
وفي هذا الإطار، لم يكن تدهور سيادة الدول- الأمم وعجزها المتزايد عن تنظيم المبادلات الاقتصادية والثقافية، سوى أحد الأعراض الرئيسة لعملية قدوم إمبراطورية جديدة. لقد كانت سيادة الدولة- الأمة حجر زاوية النظم الامبريالية التي دأبت القوى الاوروبية على إقامتها عبر الحقبة الحديثة. غير ان كلمة إمبراطورية في قاموس القرن الحادي والعشرين باتت تعني شيئاً مختلفاً تماماً عما تعنيه كلمة الامبريالية. فالحدود التي فرضها نظام الدول القومية الأوروبية كانت أساسية بالنسبة الى الكولونيالية الاوروبية، والى التوسع الاقتصادي. الحدود الاقليمية للدولة كانت تعّين مركز السلطة الذي يمارس حكم الاقاليم الاجنبية الخارجية عبر منظومة القنوات والحواجز. لم تكن الامبريالية في الحقيقة الا تمددا للدول القومية الاوروبية الى ما وراء حدودها الخاصة.
ويشير هاردت ونيغري الى أن الانتقال الى الامبراطورية الجديدة، لا يأتي الا من غسق إحتضار السيادة الحديثة. فعلى النقيض من الامبريالية، لاتقوم الامبراطورية بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لاتعتمد على أية حدود أو حواجز ثابتة. ولإنها أداة حكم لا مركزية ولا إقليمية فهي تسعى، تدريجيا، الى إحتضان المجال العالمي كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة. وتتولى الامبراطورية إدارة الهويات الهجينة، والمنظومات التراتبية المرنة، والمبادلات المتعددة عبر شبكة طبقات متباينة من الحكم والقيادة. لقد باتت الالوان المتمايزة لخريطة العالم الامبريالية متداخلة ومندمجة في قوس قزح العالم الامبراطوري ( قوس قزح العولمة الجديدة في الحقيقة ).[3]
- II -
بالطبع، فكرة نهاية الامبريالية وحلول "امبراطورية شبح" مكانها، تلسع ولاتُرى، حظيت بمعارضة شديدة من سمير أمين والعديد من اليساريين الذين رأوا فيها تسويغاً لكل مقولات الولايات المتحدة عن أنها "امبراطورية حميدة وغير امبريالية"[4]. بيد أن هؤلاء المنتقدين كانوا يعترفون في الوقت نفسه بأن العولمة في طبعتها النيوليبرالية الراهنة، دكّت بعض أسس الدولة- الأمة التي ارتكز إليها النظام الحديث منذ معاهدة وستفاليا العام 1648.
لكن، وعلى رغم أن العولمة هزّت مقومات الدولة- الأمة في بلد المنشاً (الدول الغربية)، إلا أنها لم تُلغ بعض أدوراها الرئيس. وهذا كان واضحاً بجلاء خلال الأزمة المالية والعقارية الطاحنة التي شهدتها الولايات المتحدة منذ العام 2008، والتي لعبت فيها الدولة الأميركية دوراً حاسماً في إخراج الرأسمالية من ورطتها. كما هو واضح أكثر مع الإطلالة القوية الراهنة للقوميات في شرق آسيا والعديد من مناطق العالم، وإن كانت هذه الاطلالة لم تعن، حتى الآن على الأقل، انهيار للعولمة الأميركية الراهنة، وإن كان هذا الاحتمال وراداً كما حدث مع العولمة في طبعتها البريطانية التي انفجرت في الحرب العالمية الأولى.
 في عالم الدول النامية، عمل كل من نهاية الحرب الباردة وظاهرة العولمة، إضافة إلى عوامل أخرى على رأسها تغيّر المناخ، والدمار الإيكولوجي، وقانون مور Moore law (سلطة الكومبيوتر والانترنت)، على نسف وجود العديد من الدول نفسها. فمن دون نظام الحرب الباردة، لم يكن من السهل على الدول النامية الضعيفة في العالم توفير الحد الأدنى لمواطنيها في مجالات الأمن والوظائف والصحة والضمانات الاجتماعية. ثم جاءت العولمة عبر شروط "إجماع واشنطن" التي فرضها صندوق النقد الدولي ليسلب هذه الدول ماتبقى من أدوار اجتماعية وتنموية.
 كما تكفّلت أمنا الطبيعة في تسريع الانفجار الداخلي لهذه الدول. إذ من الصعب، على سبيل المثال، فهم أسباب انفجار سورية على هذا النحو المروّع، من دون فهم كيفية قيام الجفاف القاسي الذي ضرب البلاد طيلة سنوات أربع، والذي كان يرقص على إيقاع انفجار ديموغرافي كبير (طفرة هائلة في أعداد الشباب)، في تقويض أسس الاقتصاد والدولة السوريين. كما لانستطيع فهم بعض الأبعاد الرئيسة لانتفاضات مصر من دون فهم تأثيرات عولمة اليد العاملة الصينية على فرص العمل المصرية، ومن دون أزمة القمح العالمية العام 2010، وأيضاً من دون دراسة مضاعفات زحف ملوحة البحر على الأراضي الزراعية المصرية التاريخية، والتي تهدد الآن بتشريد نحو 10 ملايين فلاح مصري (كدفعة أولى).[5]
وبالمعيار نفسه، لايمكن فهم أسباب انتشار داعش أو انتفاضات الربيع العربي، من دون قانون مور (التطويرات المتلاحقة في الانترنت والكومبيوتر) الذي مكّن مجموعات صغيرة من تجنيد الأنصار، وتحدي الدول، وإزالة الحدود.[6]
- III -
حصيلة هذه التطورات كانت مذهلة. فقد بدأت سيرورة التفكك السياسي أولاً في أراضي العديد من الامبراطوريات السابقة، خاصة الامبراطورية العثمانية، ثم انتقلت إلى العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك أحدى القوتين العظميين: الاتحاد السوفييتي. وقبل حلول العام 2000 كان عدد الدول في العالم قد تضاعف أكثر من ثلاث مرات. فمن إندونيسيا إلى سكوتلندا، ومن الاتحاد السوفييتي السابق إلى السودان، كانت السمة الأبرز لعصرنا هي التفكك، واللامركزية، وحتى التحلل. إذ لم يكن يمر شهر إلا ونسمع عن ظهور دولة جديدة على الخريطة العالمية. وقد أدى هذا التفكك إلى طفرة هائلة في قوة منظمات لادولتية على غرار الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية والإعلام، وبالطبع المنظمات المدموغة غربياً بالإرهاب.
الباحث مارتن فان كريفيلد  Martin van creveldيعتقد أن هذه العملية تعود بنا ثانية إلى حقبة القرون الوسطى الأوروبية، لكن بدلاً من الامبراطور هناك الرئيس الأميركي، وبدلاً من البابا هناك الأمين العام للأمم المتحدة. وكما في القرون الوسطى، ستتواصل حالة اللامركزية السياسية وستترافق مع تنقلات ضخمة للسكان من وحدة سياسية إلى وحدة أخرى، ومع سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والحروب الصغيرة المحدودة، في إطار فوضى تحكمها لاقطبية عالمية.
* * *
هذه بعض المعطيات الدولية المحيطة بعملية التفكيك والتركيب في الشرق الأوسط، مايعيدنا إلى سؤالنا الأولى: هل هذه العملية الاوسطية حصيلة هذه الظروف الموضوعية الدولية، أم هي نتاج "مؤامرة" ما؟
(للبحث صلة)

سعد محيو



[1]  بدائل- العدد الرابع،2005 
[2] مايكل هارت وانطونيو نيغري- الامبراطورية- ترجمة قاضل جنكر- العبيكان، 2002
[3] المرجع السابق ص 13
[4] Samir Amin: Empire and Multitude. Post - Imperialist empire or renewed expansion of imperialism? Monthly review,2005, volume 57,issue 6(November)

[5] David Sterman, Climate Change in Egypt: Rising Sea Level, Dwindling Water Supplies .Climate institute .  July 2009



[6] Thomas Freidman: the world according to Mazwell Smart. New York times,13,7,2014

الثلاثاء، 3 مايو 2016

القارة الإسلامية تنفجر: "أي إسلام نريد"؟(الحلقة 2)



حروب الـ30 عاماً في أوروبا والمشرق
____
(الحلقة الثانية)


لم يعد الأمر مستعصياً على الفهم:
العالم الإسلامي، بكل دوله وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية والجيوسياسية، ويتقاطع فيها ما هو محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
في الحلقة الأولى في هذه مدونة "اليوم، غدا"، تطرقنا إلى التشابه بين مايجري الآن في العالم العربي- الاسلامي، وبين ماجرى في حرب الثلاثين عاماً في أوروبا القرن السابع عشر التي دمّرت القارة وأبادت نحو نصف سكانها. وفي حلقة اليوم سنستعرض أوجه الشبه والاختلافات بينهما:


الحروب الصفوية- العثمانية





-   -I
1-  في الحروب الإسلامية الراهنة، تجري الابادات وعمليات "التطهير" والتهجير الجماعي، إضافة إلى الهجرة القسرية بسبب العنف العسكري، على قدم وساق على أساس طائفي وعرقي منذ العام 2011، وتكاد حواضر في العراق وسورية، كبغداد والموصل وشرق وشمال سورية، تخلو من تركيبتها التعددية التاريخية وتُصبح أحادية الانتماء المذهبي والطائفي. وهذا أيضاً ما حدث في أوروبا القرن 17 التي شهدت خلال حرب الثلاثين عاماً عمليات تهجير واسعة ومتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك، أدّت في نهاية الأمر إلى إعادة رسم معظم خريطة القارة الأوروبية.
2-   التمازج بين ما هو ديني وما هو جيوسياسي، يتفاقم على إيقاع تصاعد الحروب بالواسطة في المنطقة. فكل دولة إقليمية (إيران، تركيا، السعودية، ومصر) تساند في الحروب الأهلية السورية والعراقية واليمنية والليبية الأفرقاء المحليين المتجانسين معها طائفياً أو إديولوجياً أو سياسياً بالمال والسلاح وأحياناً بوحدات عسكرية. ولا يشذ عن ذلك إسرائيل التي، وبسبب كونها هي نفسها أقلية في المشرق، تعمد إلى دعم أو التنسيق مع أقليات أخرى في المنطقة. في أوروبا أيضاَ، كانت قوى إقليمية كالسويد والدنمرك تدعم أشقائها البروتستانت في ألمانيا، فيما كانت إسبانيا تخوض الحرب إلى جانب الكاثوليك.
3-  حرب الثلاثين سنة الأوروبية كانت في أحد جوانبها صراعاً حول طبيعة ومفهوم الدين المسيحي. وحروب المشرق هي أيضاً في جانب معها معركة حول مصير الإسلام. الحروب الأهلية حول هذه المسألة هنا لاتقتصر على الصراع التاريخي المديد بين السنّة والشيعة (كما بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا)، بل أيضاً، وربما أساساً، بين  التيارات السنيّة المتعددة حيث المجابهة، على سبيل المثال، مُحتدمة بين سلفية الإخوان المسلمين والسلفيات الأخرى من وهابية وأصولية أخرى، وبين السلفيات نفسها (القاعدة وداعش، السلفية العلمية والجهادية.. ألخ)، وبين الإسلاميين الليبراليين والاسلاميين الأصوليين. وهو (الصراع) يشمل أيضاً التيارات الشيعية، في إطار الخلافات الحادة حول ولاية الفقيه، ومسألة المهدية، والاصلاح الانفتاحي أو المحافظة المتشددة.
لكن هنا أيضاً يختلط الدين بالجيوبوليتيك، حيث تتأثر الحروب الأهلية الاسلامية- الاسلامية بتراكيب الدول القطرية التي تنطلق منها التيارات الدينية. فالإخوان المسلمون في تونس والمغرب، على سبيل المثال، يختلفون عن الإخوان في مصر في توجهاتهم بسبب جهودهم للتأقلم مع طبيعة الدولة والمجتمعين القطريين فيهما. وكذا الأمر في إيران التي تختلط فيها الشيعية بالنزعة القومية الإيرانية، وفي تركيا في العلاقة الوطيدة بين النزعة السنّية والنزعة القومية الطوارنية.
في أوروبا القرن السابع عشر، أسفرت الحروب الدينية عن حصيلتين إثنتين متقاطعتين: الأولى، اضطرار القوى المتنازعة بسبب الانهاك والدمار الشامل إلى الاعتراف بأنه من المستحيل فرض مذهب أو اجتهاد ديني معيّن على الأطراف الأخرى. وهذا تجسّد في سلام وستفاليا. والثانية، وجنباً إلى جنب مع حركة الإصلاح الديني وبدء حلول الدولة القومية مكان العناية الالهية في تحقيق تطلعات الناس، مالت غالبية الشعوب الاوروبية إلى الابتعاد التدريجي عن الدين نفسه، وبرمته، إلى درجة أن معدلات الإيمان في أوروبا شهدت مسيرة انحدارية متواصلة طيلة ثلاثة قرون حتى وصلت نسبة المؤمنين في القرن العشرين إلى 2 في المئة فقط، على رغم كل جهود الكنيسة لإعادتهم إلى بيت الطاعة الديني من خلال الترهيب (عذابات جهنم) والترغيب (الخلاص والجنّة)
-   - II
هل تتكرر هاتان الحصيلتان الآن في المشرق؟
الحصيلة الأولى، أي السلام الوستفالي، تبدو محتمة في مرحلة ما (وإن من أسف بعد مرحلة دمار في الغالب) بين السنّة والشيعة. إذ سيتأكد المتعاركون في مرحلة ما أن الشيعة لن يتمكنوا من تشييع 1،2 مليار سنّي لا الآن ولا بعد ألف سنة أخرى، وأن السنّة لن يتمكنوا بعد الآن من إعادة الشيعة إلى مربّع الاضطهاد والحرمان.
لكن هذه الحصيلة المحتمة تقريباً على هذه الجبهة، لاتزال غير واضحة المعالم في الحروب الداخلية السنّية والشيعية. فالصراع على "أي إسلام نريد"، والذي استقر منذ القرن الثالث عشر لصالح القوى الأصولية وتمثّل في الجمود الشامل وإغلاق الاجتهاد (بفعل كل من الحروب الأهلية السنُية- الشيعية، وغزوات المغول وقبلهم الصليبيون، ومصالح الطبقات الحاكمة)، تجدّد بعنف وحدّة في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. صحيح أن صعود الاسلام السياسي بدأ مباشرة بعد هزيمة 1967 العربية، لكنه لم يأخذ آنذاك شكل الحروب الأهلية الاسلامية، لأن التيارات الاسلامية كانت منغسمة في معارك ضد الأنظمة "العلمانية". بيد أن اندلاع الربيع العربي أشرع كل الأبواب والنوافذ أمام هذه الحروب الداخلية.
والآن، خطوط المعركة في هذه الحرب الأهلية باتت جلية. لكن، ما لم تتمكن الحركات الاسلامية من الوصول إلى شكل من أشكال الاجماع حول "أي إسلام نريد" على قاعدة التأقلم مع المتغيرات العالمية الكاسحة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية، أي مع الحداثة ومع بعد الحداثة، ستتحوّل حرب الثلاثين عاماً الراهنة إلى حرب المائة عام. وحينها ستطل الحصيلة الثانية برأسها. لا بل الواقع أنها بدأت تطل برأسها من الآن، حيث أعداد الملحدين في بلد شديد الإيمان كمصر، كانت تشهد ارتفاعاً ملحوظاً منذ 2011 أثار قلق المؤسسات الدينية المصرية.
-   III-

نأتي الآن إلى أوجه الاختلاف.
ربما يكون وجه الاختلاف الأول والأبرز بين حربي الثلاثين في أوروبا- القرن السابع عشر ومشرق- القرن الحادي والعشرين، هو ما آلت إليه الحروب في أوروبا، وماقد تؤول إليه حروب المتوسط، على رغم أن الحربين تتشاطران بدايات مماثلة وسمات مشتركة في مجال التدمير والتهجير والابادات الجماعية.
فالحرب الأوروبية انتهت، كما رأينا، بسلام وستفاليا المؤسس لمفهوم الدولة- الأمة، الذي تحوّل لاحقاً إلى ركيزة كبرى للنظام العالمي طيلة نيّف و400 عام، قبل أن تُطل العولمة برأسها في أواخر القرن العشرين لتفرض أول تهديدات حقيقية لفكرة الدولة- الأمة.
لكن السؤال الأبرز في المشرق حول: هل سيؤدي إهراق الدم الراهن في المنطقة، والتنافسات الجيو-سياسية للإرادات بين القوى السنيّة والشيعية، وتجدد المنافسات بين الدول الكبرى في الإقليم، إلى تأسيس نظام وستفالي مشرقي، تشوبه شكوك عميقة قد تدفع فوراً إلى الإجابة بلا.
كتبت دورية "ناشنال انترست" الاميركية المحافظة:" النهاية السعيدة لصراعات الشرق العربي- الاسلامي الأوسط لبيت في الأفق. مايجري بدل ذلك هو جهنم. إنها جهنم حقا. لقد أعطى نظام وستفاليا معنى للأرواح التي أُزهقت، لكن السؤال في الشرق العربي- الاسلامي الأوسط هو ما إذا ككان يمكن إنقاذ شيء من رماد الخراب والدمار الراهنين.
لماذا هذا التباين المحتمل الفادح بين حصلات هاتين الحربين؟
الإجابة واضحة، أو أنها يُفترض كذلك: ما انفجر في وسط أوروبا ليرسم الخريطة الجديدة للدول- الأمم، هي امبراطوريات (الامبراطورية الرومانية المقدسة) وإقطاعيات كبرى. وهذا ترافق مع بدء صعود القومية والحداثة على إيقاع الاصلاح الديني والثورة العلمانية والعلمية، في حين أن ماينفجر الآن  في المشرق هو مشروع الدولة- الأمة نفسه الذي فرضته أوروبا المنتصرة منذ منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مستعمراتها في الهلال الخصيب، عبر سايكس بيكو، ومصر والخليج والمغرب، ثم عبر الاختيار الذاتي في تركيا- أتاتورك وإيران.
وهذا الانفجار يجري في وقت بدأ فيه مفهوم القومية نفسه يُخلي الساحة عالمياً، رويداً وبالتدريج، لمفهوم التكتلات الاقتصادية – السياسية الكبرى (على شاكلة الاتحاد الأوروبي، ونافتا، وآسيان، وصولاً إلى مشروع معاهدة شنغهاي) التي توفّر لحيتان العولمة (الشركات متعددة الجنسيات) الأسواق الموحّدة الضخمة التي تحتاج.
التأقلم مع فكرة تآكل مفهوم الدولة- القومية سيكون صعباً بما فيه الكفاية بالنسبة إلى دول- أمم على شاكلة تركيا وإيران، لكنه سيكون صعباً إلى درجة الاستحالة في أي كيانات سياسية جديدة  قد تنشأ في الخرائط الجديدة التي تُعد للمنطقة. إذ أنه سيكون مطلوباً منها، وفق شروط العولمة، أن تلفظ أنفاسها القومية المفترضة حتى وهي تشهد ولادتها بالذات. وهذا في حد ذاته قد يجعل هذه الكيانات مادة  دسمة لسخرية التاريخ.
مانقصد هنا بالكيانات الجديدة هي الدويلات الطائفية- الإثنية، التي يجري العمل في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين على استيلادها من رحم حروب الثلاثين سنة المشرقية الراهنة.  
بالطبع، السؤال مبرر عما إذا كانت عمليات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية حاليا، والتي قد تتمتد قريباً إلى تركيا وإيران أقطار عدة أخرى ، خصيصة عربية وإسلامية، أم هي جزء من ظاهرة عامة عالمية بدأت تتجلى بأبهى صورها غداة نهاية الحرب الباردة؟ بكلمات أوضح: هل هي "مؤامرة" أم حصيلة موضوعية؟
(غدا نتابع)

سعد محيو