للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

السبت، 29 مارس 2014

هل نجح أوباما في "طمأنة" السعودية؟



هل نجح الرئيس الأميركي أوباما في تسوية الخلافات السعودية- الأميركية؟

ربما، لكن فقط في الفضاء "الدبلوماسي- العاطفي". فهو كرر التمسُّك بالتحالف التاريخي بين البلدين الذي يعود بجذوره إلى 80 سنة، وتعهد (كما أشار مسؤولون أميركيون) بعدم إبرام أي "صفقة ضعيفة" مع إيران حيال برنامجها النووي، مشفوعاً بتعهد آخر بـ"التشاور" مع المملكة في هذا الشأن.
كل هذه الإلتزامات، التي قدمها أوباما للملك عبد الله في منتجع صحراوي ساحر قرب الرياض،  قد تحرّك المشاعر وتداعب الحنين في المملكة إلى عهد سابق كانت فيه للسعودية الكلمة الأولى في البيت الأبيض إزاء العديد من قضايا الشرق الأوسط الإسلامي.
بيد أن القادة السعوديين لن يكتفوا بالطبع بالكلمات الرنانة التي يعرفون دورها عن ظهر قلب. فهم في النهاية أسياد الدبلوماسية الحاذقة التي تميّز بدقة بين التكتيكات العلنية وبين الاستراتيجية الضمنية. كان القادة يريدون أن يسمعوا من الرئيس الأميركي كلاماً واضحاً حول جملة معقدة من المسائل التي انفجرت مؤخراً الخلافات حولها بعنف بين الطرفين:
- من وقف الدعم الأميركي للإسلام السياسي المتمثّل بجماعة الأخوان المسلمين، وبالتالي العودة إلى التحالف التاريخي مع الإسلام في طبعته السعودية؛
- إلى عدم إضفاء الشرعية على النفوذ الإيراني الإقليمي، سواء في منطقة الخليج أو المشرق العربي،
- مروراً بحسم الموقف الأميركي المتردد من عملية إسقاط النظام السوري، والذي لايرى فيه السعوديون (التردد) سوى أدلة على أن واشنطن قد انحازت بالفعل إلى المصالح الاستراتيجية الإيرانية في المشرق العربي، وبالتالي وإلى الشيعة، في الصراع المذهبي الراهن الذي تقوده طهران والرياض.
- ثم هناك بالطبع  الشكوى السعودية من تواصل ضغوط بعض التيارات الأميركية عليها للقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية أوسع مدى، تحت شعار ضمان استقرار الكيان السياسي للمملكة. وكان فردريك ويري، الخبير في شؤون دول الخليج في مؤسسة كارنيغي، فصيحاً في التعبير عن هذه التيارات (في كتاب ومقالات صدرت له مؤخراً حول العلاقات الأميركية- السعودية) حين دعا علناً إلى ربط المظلة الأمنية الأميركية لدول الخليج بإدخال إصلاحات في كلٍ من النظام السياسي وقطاع الأمن فيه، لأن ذلك (على حد تعبيره)" أمر بالغ الأهمية لاستقرار المنطقة على المدى الطويل".
ويعتقد بعض المحللين أن قرار الملك عبد الله الأخير بتعيين أخيه غير الشقيق الأمير مقرن كولي لولي العهد قبل وصول أوباما إلى السعودية، كان رسالة واضحة إلى واشنطن بأن مسألة الخلافة في السلطة لن تسفر عن لا استقرار في المملكة.
تطمينات لا ضمانات
هل حصل السعوديون على مايريدون في هذه القضايا خلال قمة عبد الله- أوباما؟
فريدريك ويري لا يرى ذلك، وهو يعتبر أنه "ليس ثمة طريقة لطمأنة الخليجيين لأنهم يعتبرون النفوذ الإيراني خطراً وجودياً عليهم".
 أنطوني كوردسمان، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، يؤكد أيضاً هذا الأمر. قال (فايننشال تايمز- 30-3-2014): " كثير من الناس (يقصد بالطبع الحلفاء السعوديين) في المنطقة يشعرون أن الولايات المتحدة تتحوّل إلى إيران. من الصعب علينا نحن أن نفهم أسباب ذلك، لكن هناك بالفعل نظرية مؤامرة تقول أن الولايات المتحدة بدأت تتخلى عن العرب الخليجيين وتتحوَّل إلى إيران والشيعة. وفي هذه النقطة، يتعين أن يكون دورنا طمأنة السعوديين حيال استمرار كلٍ من الوجود الأميركي في الخليج ودعم واشنطن لمجلس التعاون الخليجي".
بكلمات أوضح، إدارة أوباما مستعدة لطمأنة الخلييجين لكن من دون ضمانات، لاحول تغيير توجهها  الخاص بالاستدارة إلى آسيا (Pivot ) (إلا بالطبع إذا ما اندلعت بالفعل حرب باردة جديدة بينها وبين روسيا بسبب أوكرانيا)، ولا في وقف السعي إلى إبرام صفقة مع إيران ، لمجرد معالجة القلق الذي تشعر به دول الخليج.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية: واشنطن تدرك أن السعودية وبقية السرب الخليجي غير قادرين على التخلي عن المظلة الأمنية الاميركية، ببساطة لأنه لا الصين ولا الاتحاد الأوروبي ولا حتى روسيا في مقدورها ضمان الأمن الخليجي كما تفعل الولايات المتحدة. ولذا، فهي مطمئنة إلى أنها قادرة على مواصلة سياستها الراهنة، الهادفة إلى لعب دور "مايسترو موازين القوى" بين الرياض وطهران وبين السنّة والشيعة، من دون أن تتعرض مواقعها الاستراتيجية الراهنة إلى أي خطر.
دوافع الرياض
بالطبع، الرياض تدرك ماتدركه واشنطن. لكن، وطالما أن الأمر على هذا النحو، أي طالما أن المملكة تعرف أنها غير قادرة على الاستغناء عن خدمات الشرطي العالمي الأميركي، لماذا تنشر غسيل خلافاتها  على السطح مع واشنطن بشكل لم يسبق له مثيل طيلة ثمانية عقود؟
ثمة على الأرجح سببان: الأول سايكولوجي، والثاني سياسي.
السبب السايكولوجي يعود بالفعل إلى غضب حقيقي تشعر به النخبة الحاكمة السعودية بسبب ماتعتبره "خيانة" واشنطن لحلفائها التاريخيين في المنطقة، من بن علي إلى مبارك مروراً بالأسرة الحاكمة البحرينية، من دون أن يرف لها جفن. ولأن هذا الغضب ترافق مع القلق على تأثيرات هذه "الخيانة" على الأوضاع الداخلية، خرجت السياسة الخارجية السعودية للمرة الأولى عن قواعد الحيطة والحذر والنفس الطويل التي لطالما اشتهرت بها، واندفعت إلى ممارسة توجهات "انتفاضية" في طول المنطقة وعرضها.
أما السبب السياسي فهو أن المملكة، ومعها قوى إقليمية أخرى في المنطقة، تعتقد أنها قادرة، من خلال إبداء التعارض العلني مع السياسات الأميركية، على تعديل هذه السياسات، خاصة وأن ثمة قطاعات نافذة في الولايات المتحدة، على رأسها الحزب الجمهوري الذي قد يفوز بمجلس الشيوخ في الخريف المقبل ومنصب الرئاسة في العام 2016، ترفض جل توجهات إدارة أوباما وتعتبر أنها قد تقوّض الزعامة الاميركية في العالم.
هذان السببان، مضاف إليهما تعقُّد المشهد الداخلي في السعودية بسبب تقدم القادة الحاليين  بالسن، سيواصل تزخيم السياسة الخارجية السعودية ودفعها إلى مواصلة سياستها المستقلة الراهنة حيال مصر والبحرين وتونس وسورية وإيران بالتعارض مع واشنطن.
ماذا في وسع إدارة أوباما أن تفعل في ضوء "تمرد" الحلفاء عليها، من مصر إلى السعودية، على هذا النحو؟
بالضبط مافعله أوباما في الرياض: تقديم الوعود وتهدئة المخاوف، لكن ربما مع جرعة مادية محدودة لاحقاً قد تتمثل بمماشاة الرغبة السعودية بتعديل موازين القوى في سورية، لكن ليس إلى الدرجة التي تُغضب طهران أو تؤثر على مسيرة المفاوضات معها.
أما ملفات الإخوان وإيران ومصر، فسيكون عليها انتظار ما ستتمخض عنها أزمة أوكرانيا- أوروبا- روسيا، ومعها طبيعة النظام الدولي الجديد.

سعد محيو








السبت، 22 مارس 2014

ماذا جرى حقاً في يبرود؟






- I -
معركة يبرود عكست بشكل صارخ حقيقة الصراع في سورية، الذي تحوَّل إلى مايمكن أن يكون  "حرباً أولى داخل حرب ثانية، داخل حرب ثالثة".
صورة من الأقمار الاصطناعية لمنطقة يبرود والقلمون (من غوغل

كيف؟ لماذا؟
لنبدأ أولاً ببعض الوقائع التي تكشّفت مؤخرا:
مقاومة المعارضة في مدينة بيرود، التي تقع مباشرة على الحدود اللبنانية- السورية وكانت تعتبر آخر معقل مديني للثوار في منطقة القلمون، استمرت شهراً كاملاً. وكان واضحاً أنها قادرة على الصمود ستة أشهر أخرى، وربما أكثر. لكن هذه الجبهة انهارت فجأة، وانسحب منها المقاتلون خلال يومين إثنين فقط الأسبوع الماضي.
مصادر المعارضة تنحي بلائمة هذا التطور على الصراع السعودي- القطري في سورية، الذي لات جلياً بالفعل الآن أنه له مضاعفات دراماتيكية خطيرة على جبهات القتال. وتقول هذه المصادر أنه "لو وصلت تعزيزات إلى المدينة من الكتائب الإسلامية التي تموّلها السعودية إلى المدينة، لما سقطت هذه الأخيرة. لكن الذي حدث أنه بعد يوم واحد من السقوط، دخلت هذه الكتائب إلى المنطقة وأحزرت تقدماً كبيرا. وهذا يوضح طبيعة اللعبة بين السعودية وقطر، حيث أن هذه الأخيرة تدعم جبهة النصرة وفصائل أخرى تابعة للقاعدة".
وتعتقد المصادر أن السعودية كانت مصممة على عدم تدخل أنصارها لمنع سقوط يبرود لسبيين: الأول، أن جبهة النصرة وحلفاءها كانوا هم القوة الأساسية في المدينة. والثاني أن النصرة كانت تستخدم يبرود كنقطة إنطلاق لشن الهجمات على حزب الله في لبنان. وهذا كان من شأنه إضعاف نفوذ تيار المستقبل المعتدل الموالي للرياض بين سنّة لبنان.
- II -
هل ثمة مبالغات ما في هذه الاتهامات؟
لايبدو أن الأمر كذلك.
فالخلافات السعودية- القطرية التي انفجرت وطفت على السطح خلال الأسبوعين الماضيين (عبر سحب سفراء السعودية ودولة الإمارات والبحرين من قطر) ، والتي تتمحور أساساً حول دعم هذه الأخيرة لجماعات الإخوان المسلمين ومعها كل/ وأي فصيل إسلامي آخر مستعد لمناصبة السعودية العداء في المنطقة (كجبهة النصرة التي صنّفتها الرياض مؤخراً منظمة إرهابية)، هذه الخلافات وصلت إلى ما أسميناه في موقع "اليوم، غداً" قبل أيام "الحرب الوجودية".
في مثل هذه الحرب، التي يعتبر فيها كل طرف أن مستقبل نظامه السياسي نفسه على المحك، يسود مبدأ "الحصيلة صفر"، حيث مكسب أي طرف يعتبر خسارة صافية للطرف الآخر.
في سورية، يترجم هذا الأمر نفسه في صورة "الحرب داخل الحرب" بين الفصائل الإسلامية الموالية للسعودية وبين تلك الموالية لقطر.
وينتظر الآن أن تتفاقم هذه الحرب مع اقتراب موعد معركة دمشق إنطلاقاً من جبهة الجنوب، حيث أن "جبهة ثوار سورية" القريبة من الرياض والتي انضمت إليها مؤخراً عشرات الكتائب المسلحة، تعتبر الفصيل الأقوى في الجنوب، فيما الكتائب الإسلامية الموالية لقطر لها تواجد ضعيف في هذه المنطقة، أصلاً لأن الأردن (وعلى عكس تركيا) لم يسمح للأصوليين المتطرفين السوريين وغيرهم بالدخول إلى جنوب سورية عبر حدوده.
وسبق لقادة جبهة ثوار سورية أن أكدوا عزمهم على تصفية وجود "الكتائب القطرية" في الجنوب، في الوقت ذاته الذي سينطلقون فيه للإطباق على الطرق والمناطق المحيطة بالعاصمة دمشق. كما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أعربا علناً عن نيتهما دعم هذه الجبهة التي يصفونها بالمعتدلة، بشرط أن تقاتل أيضاً الجهاديين التابعين لقطر.

بيد أن الأمور، كما أشرنا في البداية، لاتقتصر على حرب ثانية بين الإسلاميين داخل الأهلية الأهلية الأولى بين النظام والمعارضة، بل هناك حرب ثالثة داخل هاتين الحربين، تتمثّل في الجهود الضخمة التي كان النظام السوري، ولايزال، يبذلها لاختراق صفوف المعارضة المسلحة.
هذا الاختراق كان واضحاً في معركة يبرود، حيث قيل أن عناصر تابعة للنظام اخترقت بعض الفصائل المسلحة في المدينة؟ وهذه لعبت دوراً بارزاً في الترويج لحرب نفسية أشاعت مناخات غير حقيقية حول تداعي دفاعات المدينة. كما أنه ظهر في يبرود بعض سقوطها قائد فصيل معارض تحدث أمام التلفزيون الرسمي السوري عن خوض معركة مشتركة مع النظام ضد المعارضين الذي وصفهم بـ"الأرهابيين".
هذه الوقائع كست الشكوك حول دور النظام في تسهيل ولادة تنظيمات أصولية كداعش والنصرة لحماً ودماً كثيفين، الأمر الذي جعل الحرب، أو بالأحرى الحروب، فوق الأرض السورية أشبه بلغز داخل لغز، أو بلوحة كلمات متقاطعة لاتنظيم منطقياً فيها تكتبها أطراف إقليمية ودولية متنازعة.
وحين يكون الأمر على هذا النحو في سورية، حيث تتصارع الفيلة الخارجيين في مابينها ، يكون العشب هو الضحية الأولى.
والعشب هنا هو بالطبع الشعب السوري.
سعد محيو  
.
.


الخميس، 20 مارس 2014

هل تُشعل معركة دمشق مجابهة إقليمية واسعة؟



- I -
ماذا يعني التصعيد الراهن على جبهة الجولان؟
دوائر حزب الله والنظام السوري تقول إن إسرائيل، التي يتهمانها بـ"التواطؤ" مع المعارضة المسلحة السورية (وهي بالطبع تهمة متبادلة بين النظام والمعارضة)، لجأت إلى التصعيد بعد المكاسب العسكرية التي حققها الجيش النظامي في يبرود القلمون ومنطقة الغوطة. وهذا تجسَّد في الغارات الجوية التي شنها الطيران الإسرائيلي فجر أمس على مواقع عسكرية سورية في المناطق المحررة من الجولان.
بيد أن إسرائيل ترى، على العكس، أن حزب الله هو الذي يبادر إلى التصعيد في الجولان، بهدف جر إسرائيل إلى الحرب. ويسوق المسؤولون الإسرائيليون هنا جملة عمليات نفذها حزب الله منذ أوائل شهر آذار/مارس الحالي في كل من الجولان والحدود السورية- الإسرائيلية.
 هدف الحزب؟  جر إسرائيل إلى المعركة في جنوب سورية، وفق ما نقلته "فاينناشال تايمز" عن بعض المسؤولين في تل أبيب.
لكن، وبغض النظر عمن الأوفر حظاً في تحمّل تهمة التصعيد، ثمة حقيقة لايمكن القفز فوقها: جبهة الجنوب السوري الممتدة من درعا إلى جولان مروراً بدمشق، تشهد بالفعل منذ الأشهر القليلة الماضية تزخيماً لم يسبق له مثيل، تجسّد أولاً في نجاح الجهود لتوحيد عشرات الفصائل المسلحة في إطار "جبهة ثوار سورية" التي يقال أنها باتت تضم ما بين 30 إلى 40 ألف مقاتل. كما تمثَّل، ثانياً، في تأكيد دوائر إعلامية أميركية وبريطانية أن الأجهزة الأمنية الغربية والخليجية والأردنية قطعت شأواً بعيداً في تدريب آلاف المقاتلين المعارضين، تمهيداً لتشكيل "الجيش الوطني الحر" بقيادة جمال معروف، وأنها قد تزودهم بأسلحة نوعية ضد الطائرات الحربية (أو على الأقل الهليوكوبتر) والدبابات (راجع  التفاصيل في موقع "اليوم، غدا"- 17 آذار/مارس 2014) لخوض معركة دمشق.
- II -
جبهة الجنوب، إذا، هي الرقعة الاستراتيجية التي تجري فوقها الاشتباكات والعمليات التكتيكية بين حزب الله وإسرائيل. كما أنها أيضاً الجبهة التي تشكّل الآن القلق الرئيس للنظام السوري والحزب معا. وهذا ماقد يعطي الاتهام لحزب الله بأنه يريد جر إسرائيل إلى المعركة بعض الصدقية. ولعل هذا مادفع إسرائيل إلى تجنب الرد على حزب الله في لبنان، واختارت أن ترد على مواقع داخل سورية.
علاوة على ذلك، سيكون من الأسهل على الحزب ودمشق خوض المعركة الكبرى المقبلة في الجنوب وهما يضعان الدولة العبرية في سلَّة المعارضة. كما يجب ألا نسقط من الاعتبار هنا أن معظم مناطق الجنوب، عدا الطرقات الاستراتيجية، هي الآن في قبضة المعارضة. وبالتالي، أي تورط إسرائيلي في الحرب سيكون في نهاية المطاف على حساب هذه الأخيرة.
قلق النظام السوري من تطورات الجنوب كان واضحاً في التحليل الأخير الذي نشره الخبير العسكري السوري الموالي للنظام سليم الحربا، والذي أورد فيه النقاط الرئيسة التالية (بعد أن أسقطنا منها اللغة الإديولوجية التعبوية):
- كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن المعركة الكبرى في الجنوب السوري لجهة درعا والذي اطلق عليها إسم “السهم” المنطلق من الأردن باتجاه القلب في دمشق، وبدأت حمى التصريحات والتلويحات والتهديدات والضربات الإعلامية الكثيفة حول تغيير موازين القوى. وقد صدر أمر عمليات من الولايات المتحدة إبان انعقاد الجولة الثانية لجنيف2، نتيجة الفشل في تحقيق الأهداف المرسومة بكليتيها التكتيكي والإستراتيجية. هذه الحمى في التصريحات والحديث المتكرر عن تسخين جبهة الجنوب، ما هي إلا محاولة لرفع المعنويات لدى "العصابات الإرهابية" التي بدأت تنهار نتيجة الضربات التي تتلقاها، ناهيك عن إعطاء فرصة أخيرة لوهج بني سعود بعد تغيير رئيس جهاز الأمن بندر بن سلطان بالتوازي مع إعطاء دور وظيفي للأردن قد يكون مقبوض الثمن سلفاً وبالتنسيق مع الكيان الإسرائيلي.
- من هنا نرى (والكلام لازال للخبير حربا) أن الجيش السوري ينفذ عملياته في المنطقة الجنوبية على إمتداد تواجد العصابات المسلحة في ريف درعا الشرقي والغربي وريف القنيطرة، ويمنعها من السيطرة على أي نقطة إستراتيجية يمكن أن تشكل مرتكزا لهذه المجاميع الإرهابية التي تأتي من الأردن، والتي تهدف إلى تشكيل جيش جديد بأسلحة متطورة وتدريب نوعي.
 -  الجيش السوري يوزِّع بنيته التكتيكية والإستراتيجية على المستوى القتالي والناري والشعبي على أنساق كبيرة جداً في الجبهة (الجنوبية) لصد أي عدوان قد يأتي من الأردن أو الجولان المحتل، وهو لايترك على المستوى الإستراتيجي أي مكان للغفلة أو للصدفة، حيث حوَّل المساحة الممتدة من الحدود الأردنية الى هضبة الجولان وصولاً الى دمشق الى “مثلث برمودا”. وبالتالي الجيش السوري إستعد لمثل هكذا مواجهة، كونه سيعمد الى تغيير قواعد الإشتباك التي قد تتطور الى مجابهة إقليمية وربما تتدحرج نحو العالمية أو الدولية الى ما لا تستطيع إسرائيل تحمله.
- III -
هذه النقطة الأخيرة التي أوردها الخبير السوري، أي احتمال تطور معركة الجنوب إلى حرب إقليمية، تضفي على التصعيد الأخير في الجولان والمناطق الحدودية السورية- الإسرائيلية الأخرى، بعدا استراتيجياً خاصاً. ولعل النظام السوري وحزب الله يبنيان حساباتهما الآن على الشكل التالي: إذا ما كانت الولايات المتحدة والدول الغربية والخليجية قررت فتح باب الجحيم عليهما إنطلاقاً من البوابات والنوافذ الأردنية، فلا أقل من أن يقوما هما أيضاً بتوسيع دائرة المجابهة كي تكون أيضاً إقليمية ودولية واسعة.
وإذا ما أضفنا إلى هذا السيناريو المضاعفات الكبرى المتوقعة على سورية من الصراع الروسي- الاميركي والأوروبي حول أوكرانيا، والتي بدأت تتحوّل إلى شكل من أشكال الحرب الباردة، فقد نصل إلى الاستنتاج بأن  شجرة الاشتباكات التكتيكية في الجولان، قد تخفي وراءها بالفعل غابة من الحسابات الاستراتيجية الجديدة للغاية، والخطرة للغاية.

سعد محيو


-

الاثنين، 17 مارس 2014

حزب الله يربح معارك.. في حرب خاسرة
- I -
لايستطيع المرء أن يدين، أو حتى أن يطلق حق قيمة، على حزب الله اللبناني، بسبب الدين المعلَّق في رقبة المنطقة العربية له لنجاحه في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال، من دون مساومات أو تنازلات تفاوضية. فهذه قضية تاريخية ثابتة لاتجري عليها قوانين تقادم الزمن.
بيد أن عدم الإدانة لاتُلغي، أو لايجب أن تُلغي، النقد أو المحاسبة والمساءلة, وهي أمور تصب في الواقع في صالح هذا الدَيْن لا ضده، تماماً كما يفعل الديالتيك الهيغيلي حين يستولد الجديد الإيجابي من وضع النفي في مواجهة النفي.
لماذا المحاسبة؟
لأن حزب الله توغَّل بعيداً للغاية عن الصورة التي رسمها لنفسه بشق الأنفس وبأنفاس الشهداء في المنطقة العربية طيلة عقدين كاملين من الزمن، بصفته القوة العسكرية التي فرملت التفوق الإسرائيلي الكاسح على العرب.
فقد كان عليه بعد نهاية حرب 2006 أن يعيد النظر بمفهوم المقاومة، بعد أن توقفت العمليات كلياً في الأراضي اللبنانية الجنوبية المحتلة، وأن يعمل على إدماج وحداته المقاتلة في منظومة دفاع استراتيجي لبناني جديدة، طالما أنه يكرر أناء الليل وأطراف النهار أن مبرر وجوده هو الدفاع عن أمن لبنان ضد عربدة إسرائيل.
بيد أن الحزب لم يفعل شيئاً من هذا، بل واصل الحديث عن نفسه كمقاومة لكن دون فعل المقاومة. وبديهي بعد ذلك أن تتحوّل قوته العسكرية إلى الداخل، سواء من خلال اجتياح بيروت بحجة الدفاع عن البنى التحتية لشبكة اتصالات المقاومة، أو عبر استخدام القمصان السود والضغوط الأمنية على السياسيين (وليد جنبلاط نموذجا) للتحكُّم بمسار الحكم اللبناني.
كما كان عليه أن يشرح بشكل مقنع لقواعده وللبنانيين اسباب ودوافع وهن "الممانعة" ضد السياسات الأميركية، بعد انفتاح أبواب واشنطن ونوافذها أمام حليفته إيران. وهذا كان أمراً ضرورياً لصدقية الحزب، لأنه أمضى أكثر من 30 سنة وهو يعبيء قواعده على ضرورة التصدي لأميركا بصفتها "شيطاناً أكبر".
بيد أنه لم يفعل أيضا. بل قفز على التقارب الإيراني- الأميركي السري والعلني، تاركاً للخصم السعودي (وحتى الإسرائيلي) لعب دور "الممانع" ضد هذا الشيطان. وهذا من شأنه أن يترك ندوباً لا شفاء منها في بنية مصداقيته المعنوية وصورته الإديولوجية.
وأخيراً، جاءت كارثة تدخل الحزب في الحرب الأهلية السورية التي ستُثبت أنها الطامة الكبرى التي حلّت به حاضراً ومستقبلا، خاصة وأنه يثبت يوماً بعد يوم أنه  لايزال يُطل على هذه الحرب تماماً كما يفعل النظام السوري، أي بصفتها حدثاً أمنياً سيتم حلّه بالقوة العسكرية. وهذا فهم تجلى بوضوح حين دفع الحزب أنصاره إلى الاحتفال في الشوارع بالنصر العسكري الذي حققه في القصير، وبعده قبل يومين في يبرود.
- II -

لماذا هذا التطور طامة كبرى على الحزب؟
لجملة أسباب:
فالحزب، كما النظام السوري، يبدو واهماً للغاية إن هو اعتقد أن يبرود أو القصير أو حتى حلب نفسها، ستكون خاتمة الأحزان بالنسبة إليهما. فهذه حرب باتت بلا نهاية تقريبا. وهذه النهاية ستدخل إلى قعر آخر سحيق قريباً، حين يتحوّل الصراع على أوكرانيا بين روسيا وأميركا إلى مايشبه الحرب الباردة الجديدة، والتي ستنعكس حتماً حرباً ساخنة بينهما على الأرض السورية.
هناك في سورية الآن مئة ألف مقاتل معارض تكمن قوتهم الأساسية في ضعفهم، لأنهم لايملكون مثل الجيوش هيكلاً تنظيمياً واحدا يكفي لإلحاق الهزيمة به كي يتحقق النصر. وهذا يعني أن حزب الله سيكون مضطراً، إذا ما قرر مواصلة دعم النظام السوري الذي فقد كل زخمه القتالي وتماسكه المؤسساتي العسكري (ماعدا أجهزة مخابراته) ، أن يخوض بامكاناته البشرية المتواضعة حرب المئة عام في بلاد الشام. الحزب يربح في سورية بعض المعارك العسكرية، لكن هذا يتم في إطار حرب ستكون خاسرة حتماً بالنسبة إليه.
فهل هو يضع هذه الحقيقة بعين الاعتبار؟
لايبدو ذلك، لأنه غارق على مايبدو في وهم القدرة على النصر، إن لم يكن في كل سورية، فعلى الأقل في المناطق الممتدة من القلمون إلى حمص والسواحل العلوية.
- III -
بيد أن كل هذه المخاطر، على رغم هولها، لاتقارن بشيء مع المضاعفات التاريخية والاستراتيجية الخطيرة الناجمة عن عدم تكيّف حزب الله مع تغيّر المعطيات التي أحاطت ببروز مفهومي المقاومة والممانعة، والتي أدت في نهاية المطاف، مع التدخل في سورية، إلى تحوُّل الحزب من حركة مقاومة باسم الأمة، إلى تنظيم مذهبي شيعي يخوض إلى جانب الشيعة العراقيين والعلويين في سورية حرباً ضد السنّة بشتى تلاوينهم ومشاربهم.
فهذا التطور في سورية، وأكثر حتى من المجابهة الشاملة بين إيران والسعودية في كل من العراق واليمن والبحرين ولبنان وغيرها، سيؤسس للفتنة الكبرى-2 بين السنة والشيعة والتي قد تدوم كما الحرب السورية مئة عام.
وهذا بات الآن خطراً داهماً بعد أن دخلت باكستان على خط دعم الانتفاضة السورية بالسلاح، وربما قريباً بالرجال، بطلب من السعودية. ومثل هذا التطور لن يؤثر على طبيعة الحرب السورية وحسب، بل ربما يشعل أيضاً إوار حرب أخرى تأخل الأخضر الشيعي في باكستان (نحو 20 في المئة من السكان) واليابس الشيعي في أفغانستان (10 في المئة)، وقد تتطور لتصبح حرباً مباشرة باكستانية- إيرانية سبق أن تراقص البلدان على حافتها في ثمانينيات القرن العشرين.
هل كان المتظاهرون الشيعة في الضاحية الجنوبية وكورنيش المزرعة في بيروت يدركون هذه الحقائق- المخاطر في طول المنطقة الإسلامية وعرضها حين احتفلوا بسقوط يبرود؟
بالطبع لا، لأن ليس ثمة في حزب الله أحد من القيادات مستعد لإطلاع القواعد على حسابات الربح والخسارة في "المغطس" السوري، وربما قريباً في المغطس اللبناني إذا ما ادى سقوط يبرود  إلى انفجار عرسال وبقية البقاع اللبناني.
وهذا في حد ذاته مايضفي على النقد الضروري، والموضوعي، للحزب طابعاً حزينا، لأنه يكشف بشطحة قلم كم هو مؤلم أن تتحوَّل ظاهرة مقاومة نبيلة تجسّد روح الأمة، إلى تظاهرة مذهبية مغلقة تمعن في تفتيت روح الأمة وجسدها.

سعد محيو


السبت، 15 مارس 2014

معركة دمشق باتت قريبة؟



طيلة الأشهر القليلة الماضية، كانت الأنباء تتواتر باستمرار عن قرب فتح جبهة العاصمة دمشق، إنطلاقاً من درعا والحدود الجنوبية لسورية مع الأردن التي يبلغ طولها نحو 375 كيلومتر.


بيد أن شيئاً من هذا لم يتحقق، عدا المكاسب الجغرافية المحدودة التي حصدتها قوى المعارضة المسلحة، وبشكل متواصل أسبوعياً تقريباً، في منطقتي الجولان ودرعا ومؤخراً في السويداء. هذا في حين كان جل تركيز المعارضة والقوى الدولية والإقليمية المعارضة للنظام السوري الحالي، منصباً على الجبهة الشمالية المتاخمة للحدود التركية، لا الجبهة في الجنوب.
مؤشرات جديدة
لكن يبدو أن الأمور مقبلة على تغييرات كاسحة في الآتي من الأيام.
المؤشر؟ ثمة مؤشرات عدة لا واحدا:
المؤشر الأول: الانهيار شبه الكامل لأي فرصة للوفاق الأميركي- الروسي حول التسوية السياسية في سورية، في أعقاب كلٍ من فشل مؤتمر جنيف 2 الذي أنحى  المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي بلائمته (الفشل) على النظام السوري، وانفجار الأزمة الأوكرانية ومعها شبح عودة شكل من أشكال الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
ويجمع العديد من المحللين الغربيين على توقع قيام الولايات المتحدة الآن برمي بعض ثقلها وراء المعارضة المسلحة في جنوب سورية، من جهة بهدف تمديد خطوط المجابهة مع روسيا (التي يستنزفها، كما إيران، الدعم الكثيف للنظام السوري المُفلس) إلى الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى لتعديل موازين القوى في بلاد الشام إلى درجة تكفي لإقناع الرئيس بشار الأسد بالعودة إلى طاولة مفاوضات، لكن هذه المرة مع استعداد للتوصل إلى تسوية ما.
 المؤشر الثاني: تأكيد ديفيد أغناتيوس، الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" المُقرّب من دوائر البنتاغون، قيل أيام، أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي. أي. آي) تدرب وتخرّج 250 عنصراً من المعارضة السورية شهرياً، يتوجهون بعدها إلى القتال في الجبهة الجنوبية. هذا في حين سرت أنباء غير مؤكدة بأن القوات الخاصة الأميركية تدرّب أيضاً العديد من كوادر المعارضة المسلحة السورية على الحرب ضد الإرهاب في قاعدة عسكرية خليجية.
وتشير تقارير نشرتها صحف أميركية عدة أن المعارضة السورية في الجنوب طالبت (وحصلت على) مدفع رشاشة ثقيلة ستمكّنها قريباً من إسقاط طائرات الهليوكوبتر، هذا في حين كان أغناتيوس يؤكد أن المملكة السعودية أرسلت بالفعل إلى الأردن صواريخ مضادة للطائرات، لكن هذه الدفعة لم تُسلَّم إلى المعارضة بانتظار الضوء الأخضر الأميركي.
المؤشر الثالث: القرارات التنظيمية الأخيرة التي اتخذها الإئتلاف الوطني السوري، والتي انتقلت بموجبها القيادة العسكرية للمعارضة من الحدود التركية إلى مدينة الرمثا على الحدود الأردنية، عبر تعيين عبد الإله البشير النعيمي قائداً والعقيد المنشق هيثم نفيسي (وهو أحد قادة جبهة ثوار سورية التي يتزعمها جمال معروف، النجم الصاعد في المعارضة المسلحة السورية) نائباً له.
هذه الخطوة التنظيمية، التي أسفرت عن تشكيل "غرفة عمليات" واحدة للجبهة الجنوبية بدعم من الأجهزة الأمنية الأميركية والاوروبية والعربية، بقيادة النعيمي، والتي ستنسِّق نشاطات نحو 30 ألف مسلح ينتمون إلى تنظيمات رئيسة، وينشطون في منطقة شاسعة تمتد من ضواحي دمشق شمالاً إلى الحدود الجنوبية لسورية ومرتفعات الجولان.
إلى دمشق
"يتم التحضير الآن لحملة عنيفة للغاية ضد النظام. الطرق نحو دمشق والمناطق المحاصرة ستُفتح قريبا. لقد تم إحراز الكثير من التقدم مؤخراً في جبهة الجنوب، وستسمعون قريباً عن المزيد من المناطق المحررة".
هكذا تحدث ليث حوران، الناطق باسم كتائب اليرموك، وهي إحدى الفرق العاملة في الجنوب. وهو رأي يبدو أن محللي صحيفة "فاينناشال تايمز" الرزينة يتبنونه. إذ ذكروا (6 مارس/ آذار الحالي) أن "مقاتلي المعارضة السوريين وداعميهم الدوليين يعدون العدة لهجوم على دمشق انطلاقاً من الجنوب، في ما يمكن أن يكون تحولاً دراماتيكياً في استراتيجيات الحرب السورية".
لقد بات واضحاً الآن أن الجهود الغربية والعربية لدعم المعارضة "المعتدلة"، تتركز الآن على بناء هيكلية واستراتيجية لـ"جبهة جنوبية" يُعاد تعريفها من جديد، ولها شبكة قوات تنتشر من الحدود الأردنية إلى الريف المحيط بدمشق. وبالتالي، لم يعد اهتمام هذه الجهود ينصب على من سيزوّد بالسلاح، بل على البنى التنظيمية والتخطيط العسكري.
ويقول هنا تشارلز ليستر، المتخصص في شؤون تنظيمات المعارضة السورية في مؤسسة بروكينغز، أن " ثمة إدراكاً في الولايات المتحدة والغرب بأن شمال سورية أصبح معقداً للغاية في هذه المرحلة، حيث أنه لم يعد محتملاً أن تسيطر القوى المعتدلة على المنطقة ضد المتطرفين أو أن تحقق مكاسب ضد نظام الأسد. وهذا أدى إلى فهم آخر بأن الجنوب مفتاح أكثر واقعية لتحقيق نجاحات عسكرية يقودها معتدلون".
يضيف أن دمشق تبعد 500 كيلومتر عن أقرب نقطة في جبهة الشمال، في ما لاتبعد دمشق سوى 120 كيلومتراً عن جبهة الجنوب. والهدف الرئيس من وراء الاندفاعة المتوقعة للمعارضة المسلحة نحو دمشق هو السيطرة على الطريقين الرئيسيين اللذين يربطان العاصمة بالجنوب على طول طوبوغرافيا مسطحة.
علاوة على ذلك، فتح جبهة الجنوب، سيخفف الضغط كثيراً على جبهة الشمال، الأمر الذي سيمكّن قوى المعارضة المعتدلة هناك من تصفية الحسابات مع "داعش" وبعض أجنحة جبهة النصرة.
كيف سيرد النظام السوري على هذه الخطط التي باتت علنية؟
الرد بدأ بالفعل. وهذا تجسد في انتقال حملة البراميل المتفجرة من حلب ومناطق الشمال إلى مناطق الجنوب. كما يجب ألا ننسى هنا أن النظام حشد منذ بداية الانتفاضة السورية قبل سنوات ثلاث زهاء 40 في المئة من وحداته المقاتلة في دمشق، لإدراكه أن بقاءه يعتمد أولاً وأخيراً على سيطرته على العاصمة.
وهذا ماسيجعل المعركة المقبلة في الجنوب- دمشق من أشرس المعارك وأقساها، وأيضاً من أكثرها قدرة على تغيير المعادلات وقلب الاستراتيجيات كافة.

سعد محيو


الخميس، 13 مارس 2014

السعودية تعلنها "حرباً وجودية" على قطر




I -  -
لم يحدث قبل الآن في التاريخ الحديث لدول الخليج أن انفجرت الخلافات بينها بشكل علني على هذا النوع من الحدة.
صحيح أن هذه الخلافات قديمة ومتستوطنة وحادة، سواء في مجال الصراعات الحدودية (حتى بين الحليفتين الوثيقتين حالياً السعودية ودولة الإمارات) أو في العلاقات المتوترة دوماً بين الدول الخليجية الصغيرة الساعية إلى الاستقلال وبين المملكة السعودية المندفعة إلى هيمنة "الأخ الأكبر"، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن الجميع كان يحرص على "سرية" هذه الصراعات وعلى إبقائها في حرز حريز.
لكن شيئاً جديداً اقتحم الساحة الخليجية مؤخرا وفجّر الأوضاع علناً فيها: شعور مملكة الوهابيين بالخطر على الوجود، وأكثر من أي وقت مضى، بفعل عوامل غاية في التعقيد.
بالطبع، "الخطر الفارسي" وارد ومطروح على المملكة التي  تشعر أن إيران تريد حصارها وتطويقها من البحرين إلى اليمن ومن العراق الشيعي إلى شيعة شرق السعودية، لكن ثمة ما قد يكون أخطر بالنسبة إليها: انحياز الحليف الأميركي إلى الإسلام السياسي المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي دق أجراس إنذار عاتية لديها.
لماذا؟
لأنها اعتبرت أن الأميركيين بهذه الخطوة تنكروا للصفقة السرية التي أبرمتها الملك عبد العزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت في شباط فبراير العام 1945 على متن بارجة حربية في البحيرات المرة في مصر، والتي ولد من رحمها التحالف التاريخي بين الديمقراطية الأميركية والثيوقراطية الإسلامية السعودية. وهو تحالف تواصل بلا انقطاع حتى أحداث 11 سبتمبر 2001.
الرياض فسّرت (وكانت على حق في تفسيرها) التنكر الأميركي لهذا التحالف، عبر الانحياز إلى جماعة الإخوان، بأنه تمهيد في الواقع لتغيير النظام في السعودية نفسها. إذ أن نجاح الإخوان في الوصول إلى الحكم في مصر وتونس (ولاحقاً في بقية الدول العربية)  بدعم أميركي، سيعني سيطرة نوع جديد من الإسلام المتصالح مع الديمقراطية في المنطقة، على حساب الإسلام السعودي القائم على الطاعة لولي الأمر.
وهكذا شنّت المملكة ثورة مضادة في طول المنطقة وعرضها، ساهمت إلى حد كبير في إسقاط حكم الإخوان في مصر، وتقليم أظفارهم في تونس، وتوجيه ضربات قوية لهم في المغرب وسورية والأردن. ولم يبق الآن لتتويج هذا "النصر" سوى إغلاق الرئة الإعلامية التي لايزال يتنفس منها الإخوان ويعتاشون منها مالياً : قطر.
هذا يفسّر إلى حد كبير أسباب الضغط الدبلوماسي الكثيف والعنف السياسي الأكثف اللذين تمارسهما السعودية الآن ضد قطر. إذ من غير المعقول بالنسبة إلى الرياض أن تشن هي الحرب  الضروس على الإخوان بنجاح في كل أرجاء الشرق الأوسط، فيما حديقتها الخلفية في قطر تصدح بالبيانات "الثورية الإخوانية"، وبحملات الشيخ القرضاوي "ضد من يقاتلون كل ما هو إسلامي" (على حد تعبيره). وهو هنا كان يشير إلى دولة الإمارات لكنه كان يقصد في الواقع السعودية أساسا.
II -  -
الملك عبد الله أبلغ أمير قطر الشاب تميم بن حمد آل ثاني هذا الموقف بجلاء خلال اجتماعهما في الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والذي تضمن أيضاً المطالبة، بالإضافة إلى وقف دعم الإخوان، منع انتقاد فضائية الجزيرة للدول الخليجية، وحظر دعم بعض المنظمات الجهادية في سورية، وقطع العلاقات القطرية مع حزب الله اللبناني.
لكن يبدو أن أمير قطر اعتبر أن هذه المطالب، التي تفترض في الواقع تغيير جل السياسة الخارجية القطرية، مجرد اختبار له ولمدى إمساكه بالسلطة. وهو تصرف على هذا الأساس: فواصل دعم الإخوان في مصر، وجبهة النصرة في سورية، والأهم أنه ترك العنان للشيخ القرضاوي ليواصل حملته العلنية على الإمارات والضمنية على السعودية.
الرد السعودي كان تحذيرات سرية في البداية. لكنه انقلب في الأيام القليلة الماضية إلى إشهار حرب سياسية علنية مع سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من الدوحة. وبالتالي، لم يعد مستبعداً الآن أن تنفذ السعودية تهديدات سرية أخرى بفرض الحصار البري والجوي على قطر، جنباً إلى جنب مع عزلها في منطقة الخليج والمنطقة العربية، ومع فرض المزيد من الشروط عليها (مثل إغلاق مراكز الأبحاث الأميركية وغيرها فيها).
III -  -
بكلمات أوضح: السعودية تبدو مستعدة، وبسبب "قلقها الوجودي" الحقيقي، للذهاب في رحلة الصدام مع قطر إلى أبعد الحدود. فهل التقط أمير قطر هذه الرسالة، وكيف سيرد عليها؟
الإجابة تعتمد ثلاثة أمور: أولها مصير الوساطة الكويتية لمحاولة نزع فتيل الأزمة. وثانيها، السؤال عما إذا كانت أميركا ستترك الحوت السعودي يبتلع السمكة القطرية. وثالثها مدى استعداد النخبة القطرية لخوض "حرب استقلال" جديدة وخطرة مع الأخ الكبير السعودي الغاضب والقلق والملتاع.
أي السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟
فلننتظر قليلاً لنر.

سعد محيو




الأربعاء، 12 مارس 2014

قَطَرْ: آفاق ومحصلات "المقامرة الكبرى"




عمد مئات من القراء الأعزاء مشكورين إلى المقالات التي نشرها موقع "اليوم، غداً" عن قطر العام 2013، ريما كخلفية لإلقاء الأضواء على الأزمة القطرية- السعودية الراهنة.
نعيد هنا نشر هذه المقالات الثلاث، على أن نعود بعدها إلى مقاربة النتائج والمحصلات المحتملة للأزمة الراهنة.                        
                                                                سعد محيو

من مكّة والشارقة إلى دبي وعُمان وقَطَرْ: مفاجآت لاتتوقف
(11-2-2013)
- I -
منطقة الخليج هي حقاً أرض المفاجآت، كما كان يردد الراحل الكبير عبد الرحمن منيف.
فمن قلب صحرائها القاحلة، انطلقت فجأة ثورة حوّلت قبائل وعشائر متنازعة على الماء والكلأ إلى أمة مقاتلة، نجحت في إلحاق الهزيمة بأكبر قوتين عظميين( البيرنظية والفارسية) في القرن السابع الميلادي ، وقلبت منذ ذلك الحين موازين القوى الدولية رأساً على عقب.
وبعد مفاجأة الأسلام، جاءت مفاجأة النفط في أوائل القرن العشرين، فتبيّن أن شبه الجزيرة الصحراوية تسبح فوق بحيرة هائلة من وقود الحضارة الحديثة. وهكذا خرجت المنطقة من سبات حضاري دام نيفاً و1300 سنة،  وقُذِف بها مباشرة من ظهر الجمل والمجتمع التقليدي المستند إلى الكفاف وشظف العيش، إلى قمرة صاروخ الحداثة وثروات ألف ليلة وليلة.
لكن قصة المفاجآت لاتتوقف هنا.
إذ كيف لنا أن نفهم انبثاق دولة- مدينة كدبي، بنت نفسها كمعقل لليبرالية الاجتماعية (حيث النساء يتجولن في الشوارع بالشورت، وحيث الحانات والكحول في كل مكان)، على بعد رمية حجر من مجتمع سعودي يعيش في حالة خنق  لاليبرالي اجتماعي كامل؟
وكيف نفسر وجود إمارة، كالشارقة، على بعد كيلومتر واحد من دبي، اختارت الثقافة عنواناً لتبرير الوجود (على رغم ان غابات الأسمنت التجارية اجتاحتها أخيرا)، وبنت أسواقها وفق التراث، وباتت أحد مراكز الانتاج الفكري والثقافي، فدمجت عبر ذلك بنجاح بين الحداثة وبين المفهوم الحضاري للإسلام؟
لا بل قبل ذلك، في أي أي إطار يجب أن نضع حركة القرامطة في شبه الجزيرة، التي قد تكون أول حركة اشتراكية واعية لذاتها في التاريخ، ومعها الآن انتفاضتها الشعبية التي أذهلت الجميع بمدى ديمومتها وإصرارها؟
وماذا عن عُمان التي تفردت عن باقي شبه الجزيرة في كون نحو 75 في المئة من سكانها من المذهب الأباضي، الذي هو بالفعل بمثابة وثيقة تاريخية حيّة تدين الحرب الأهلية السنّية- الشيعية المستعرة منذ نيف و1300 عام، والذي بنى دولاً عدة، ولايزال له وجود الآن في جبل نفوسة في ليبيا، ووادي ميزاب في الجزائر، وبعض المناطق في شمال أفريقيا.
بالطبع، العديد من الفرق الإسلامية تطلق على الأباضية نعت الخوارج. لكن، وعلى رغم أن الأباضيين يتقاطعون مع الخوارج في رفض التحكيم بين علي ومعاوية، إلا أنهم يعتبرون أنفسهم هم "أهل الحق والاستقامة" في الإسلام وليس من يتهمونهم بالخروج. وهذا مايعطيهم حقاً لونهم التاريخي والتراثي الخاص المهم والمميز للغاية. إذ أنهم، كما أشرنا، بمثابة نافذة جميلة للاطلالة على كل التاريخ الإسلامي بأشكاله السياسية والإديولوجية والثقافية كافة من زاوية مختلفة تماما.
وقل الأمر نفسه عن اليمن، الذي يخترن في جوفه ليس فقط معظم أصول الشعوب العربية الحالية في المشرق والمغرب، بل أيضاً ربما أصول التوراة التي جاءت منه ومن السعودية، كما يقول المؤرخ كمال الصليبي، والتي كانت بداية الأديان التوحيدية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.
- II -
كل هذه كانت محطات مفاجئة في التاريخ البشري، وهي أشبه بالعواصف الصحراوية التي تنطلق دونما سابق إنذار.
لكن، ثمة مفاجأة أخرى لاتقل أهمية عن كل ما ذُكر: إنه قطر التي حوّلت نفسها هي الأخرى وبين ليلة وضحاها من رقعة صحراوية هامشية إلى قوة إقليمية كبرى، على رغم أن سكانها الإصليين لايتجاوزون عدد سكان حي صغير في الدول التي يتدخل فيها الآن قادة قطر.
وبسبب حداثة وراهنية هذا البروز القطري غير المتوقع، فهي تحتاج إلى وقفة خاصة.
(غدا نتابع)

                                  ___________
قطر الماكافيلية تُقاتل وتُغامر.. وتُقامر
(الحلقة- 2 من "مفاجآت شبه الجزيرة العربية")
(12-2-2013)
- I -
حين سُئِل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق  الحريري عن أسباب انغماسه في العمل السياسي، أجاب بصراحة:" اكتشفت فجأة أن الأموال الطائلة التي راكمت لامعنى لها في حد ذاتها، ولذا قررت أن أعطيها معنى عبر السياسة".
وحين سُئِل هنري كيسينجر عن الأسباب التي تجعل السياسيين يعشقون العمل السياسي إلى حد الهوس، قال:"هذا لأن السياسة تأتي بالسلطة. والسلطة هي أهم "منشِّط جنسي" على الأطلاق(...)".
هل هذه المعطيات هي التي تُملي أيضاً دوافع تحوّل قطر إلى آخر مفاجأة من المفاجآت المتصلة لشبه الجزيرة العربية التي تحدثنا عنها بالأمس؟ (راجع "اليوم، غدا" - 11-2-2013).
الأرجح أن الأمر كذلك، لكن ليس فقط لأن الأمير حمد بن خليفة ورئيس وزرائه حمد بن جاسم وبقية حلفائهما في أسرة آل ثاني الحاكمة، يريدون منح أموالهم الطائلة معنى ما أو التمتع بمزايا السلطة فقط، بل لأنهم يعتقدون أيضاً أن تحويل دولة قطر الصغيرة إلى فكرة كبيرة إقليمياً ودوليا، يوفّر لها الأستقرار في الداخل ويفتح أمامها أبواب ونوافذ جديدة لمصالحها المالية والتجارية في الخارج.
من رحم هذه المفاهيم وُلدت العام 1995، حين انتزع حمد السلطة من والده، النزعة البراغماتية القطرية المتطرفة التي تطبِّق حرفاً بحرف تعاليم نيقولو ماكيافيلي، أبو علم السياسة الحديث، التي تستند أساساً إلى مقولة الغاية تبرر الوسيلة.
- II -

غاية القيادة القطرية متعددة الرؤوس: العظمة الشخصية؛ القيادة الإقليمية والتواجد في كل أنحاء المنطقة؛ البروز كلاعب دولي، وتوسيع آفاق الفرص الاقتصادية والتجارية القطرية إلى مالانهاية عبر ممارسة دور سياسي نشط وقوي في المنطقة والعالم.
أما الوسيلة، فهي وسائل:
- وضع ثروات البلاد الطائلة، ومعها فضائية الجزيرة، في خدمة السياسة الخارجية، لكن بشرط أن يؤدي الاستثمار في هذه الأخيرة في نهاية المطاف إلى خدمة ثروات الأسرة. وهذا تحقق بنجاح، على سبيل المثال، في ليبيا، حيث عملت قطر جنباً إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا وحلف الأطلسي على تمويل وتدريب الثوار هناك، وهي تقطف الآن الثمار في شكل حصولها على أفضليات اقتصادية.
- عدم التردد في إبرام تحالفات مع دول وقوى متناقضة للغاية في مابينها: وهكذا، كانت قطر تدعم حركة حماس، وتقيم في الوقت نفسه علاقات وثيقة مع إسرائيل؛ وتستقبل قاعدة عسكرية أميركية ضخمة، فيما هي تنسج علاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع إيران؛ وتستقطب بأموالها مروحة واسعة من القوميين العرب واليساريين والعلمانيين في المنطقة، فيما تشرع كل أبوابها أمام جماعات الإخوان المسلمين، من مصر إلى تونس مروراً بسورية.
- على رغم أن الدوحة مهجوسة بفكرة الاستقلال عن الجار السعودي الكبير المهمين على مجلس التعاون الخليجي، وتجد نفسها في حالة تنافس معه على كسب قلوب وعقول مختلف أنواع الحركات الإسلامية، إلا أنها تمكّنت في الآونة الأخيرة من إيجاد بعض القواسم المشتركة معها، كمعارضة النظام السوري مثلا.
- وأخيرا،  جاء الدعم (بل والتزعم الإعلامي) القطري لثورات الربيع العربي، ليكون النموذج الفاقع والصارخ عن النزعة البراغماتية القطرية المطلقة. فهذه الإمارة الوهابية المغرقة في نزعة المحافظة، والتي يحكمها أمير بشكل أوتوقراطي فردي مع حفنة من أقاربه، تحوّلت فجأة (ولكن في الخارج فقط) إلى بطل الديمقراطية والحريات في المنطقة العربية، وأصبح الأمير الأوتوقراطي المحافظ زعيم الثورات والانتفاضات والانقلابات. بكلمات أخرى: قطر كانت تتزعم ثورات الربيع العربي في الخارج، وتشن ثورات مضادة ضد هذا الربيع في الداخل.
صحيح أنها تتحدث منذ العام 2008 عن مجلس شورى يجري انتخاب ثلثيه بالاقتراع المباشر، وأن ثمة وعداً الآن بأن تجري هذه الانتخابات هذه السنة، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن الأمير حمد لايوحي لأحد بأنه ينوي في أي وقت قريب التخلي ولو عن جزء من صلاحياته  المطلقة، أو حتى عن حصانته ضد أي نقد. ومن يعتقد غير ذلك، يجب أن يتذكّر مصير الشاعر منكود الحظ محمد بن الذيب العجمي الذي اعتقد أن تزعم قطر للربيع في مصر وتونس وليبيا، يعني ربيعاً أيضاً في قطر.
- III -

الآن، وقد أوردنا مختلف المعطيات التي خلقت التجربة القطرية المفاجئة، والتي هي في الواقع مغامرة أو حتى مقامرة من الطراز الأول، نأتي إلى سؤالين حاسمين:  علامَ تستند القيادة القطرية، في إطار لعبة موازنين القوى، في مضيها قدماً في هذه المغامرة؟ وماطبيعة المخاطر الجمة التي ستتعرض لها وهي تخوض غمار هذه اللعبة الخطرة؟
(غداً حلقة أخيرة)
_____________

هل يخسر المُقامر القَطَري كل شيء؟
(الحلقة- 3 من "مفاجآت شبه الجزيرة العربية")
(13-2-2013)
- I -
تساءلنا في مقال الأمس (راجع "اليوم، غدا"- 12-2-2013): علامَ تستند القيادة القطرية في مغامرتها الكبرى للتحوّل إلى قوة إقليمية كبرى؟ وماطبيعة المخاطر الجمة التي ستتعرض إليها وهي تخوض غمار هذه اللعبة الخطرة؟
حتماً هي لا تستند إلى تعداد شعبها، الذي بات على نحو خطر أقلية مهددة بـ"الانقراض" بفعل الخلل الهائل في التركيبة السكانية (سكان قطر 1،7 مليون جلّهم  الأعظم من الأجانب)؛ ولا إلى طبيعة نظامها السياسي الذي لايختلف بشىء عن باقي مشيخات الخليج (عدا الكويت) من حيث غياب الديمقراطية، وسيادة القانون، والمشاركة الشعبية في صنع القرار.
الشيخان، حمد بن خليفة وحمد بن جاسم، ينطلقان في هذه المغامرة من عاملين إثنين:
الأول، وهو الذي وصفناها أمس بأنه البراغماتية الماكيافيلية المطلقة، التي دفعت الدوحة إلى دعم ثورات الربيع العربي، ليس بالطبع حباً بالثورات والنزعة الثورية، بل لأنها اشتمت رائحة الدم الدولية (الأميركية أساساً) الداعمة لهذه الانتفاضات، فقررت ببساطة الوقوف إلى جانب المنتصرين والابتعاد عن المهزومين.
والسبب الثاني، الأخطر، قد يكمن في رهان الدوحة الضمني على أن الخريطة الشرق أوسطية الجديدة، التي بدأت معالمها تتضح رويداً رويداً بعد تقسيم السودان والتفتيت الواقعي للعراق (وقريباً لسورية وغيرها)، ستتكوّن من دول صغيرة أو دويلات أصغر. وهذا ما سيقلب السلبية المطلقة لصغر حجم الدولة القطرية إلى إيجابية مطلقة، حيث أنها ستتحوّل (بفضل ثروتها الأسطورية والدعم الأميركي لها) إلى درجة تاج هذه الدويلات والطرف الأقوى والأكثر جاذبية وتأثيراً بينها.
تخيّلوا، مثلاً، كيف سيكون موقع قطر ودورها إذا ماتحققت نبوءات المتنبئين بأن السعودية قد تنقسم قريباً إلى ثلاث أو أربع أو حتى خمس دول صغيرة. ألن يكون ذلك انتصاراً مجلجلاً للشعار "الصغير هو الجميل"؟
- II -
المغامرة القطرية، إذا، لاتنطلق من فراغ أو من رهانات فارغة. لكن، هل هذا يعني أن مشروعها سائر حتماً نحو النجاح؟
كلا.
فالعقبات كبيرة، والمخاطر أكبر.
أولى هذه العقبات والمخاطر هي احتمال تحوّل هذا البلد إلى هدف مفضل للأرهاب. وهذا ليس  احتمالاً افتراضيا. فلو أن معمر القذافي نجا بجلده من المقصلة الأطلسية بفعل صفقة في اللحظة الأخيرة، لكان الآن يعيث فساداً وتخريباً داخل الدولة القطرية.
وبالمثل، في حال توصل نظام بشار الأسد، ومعه داعموه الإيرانيون، إلى أن الحل الوحيد لوقف الدعم اللوجستي المالي والعسكري القطري للمعارضة السورية، فهم قد يفتحون النار في كل مكان، ومن أي مكان، على آل خليفة.
لا بل أكثر: في لحظة ما، قد تتقاطع مصالح السعودية مع مصالح إيران على ضرورة رحيل هذا الفرع من آل خليفة. وحينها، ستكون الدوحة هي ساحة الصراع الإقليمي بدل أن تكون بطلته.
علاوة على ذلك، لايجب أن نسقط من الاعتبار أن الصراع السياسي في قطر لايجري بين الحاكم والمحكومين، ولابين  السلطة والشعب، بل بين آل خليفة وآل خليفة، أي داخل الأسرة الحاكمة نفسها، حيث التنافس على أشده على الثروة والسلطة. وبالتالي، أي نكسة في السياسة الخارجية، قد تعكس نفسها مباشرة أزمة في الداخل القطري بين كتل الأسرة المتنافسة.
رب قائل هنا أن الثروة الأسطورية، الناجمة عن كون قطر أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي في العالم (تنتج 77 مليون طن سنويا، أي 30 في المئة من الطلب العالمي) وعن توافر صندوق ثروة سيادية يبلغ 80 مليار دولار وأسهم في كبريات الشركات العالمية، ستحصّن الحمدين ضد أي هزات سياسية أو أمنية.
لكن حتى هنا الأمر غير مؤكد. وهذا ليس فقط لأن نمو الناتج المحلي الإجمالي القطري انخفض على نحو كبير العام 2012، كما انخفض معه النشاط الاقتصادي بنحو 40 في المئة، بل لأن الانقلاب الذي أحدثه التطور التكنولوجي الأميركي في مجال استخراج الغاز الطبيعي والنفطي الحجري ( Shale) بدأ يغيّر موازين قوى الغاز في العالم.
فقد قفز انتاج الغاز الحجري في أميركا من 15 مليار قدم مكعب يومياً العام 2010 إلى 25 مليار قدم مكعب الآن.  ويتوقع أن تصبح الولايات المتحدة مكتفية ذاتياً من الغاز الطبيعي العام 2015 ومصدّرة أولى له العام 2020.
المسؤولون القطريون، وعلى رغم اعترافهم بأنهم فوجئوا بهذا التطور، إلا أنهم قالوا أن هذا لن يشكل خطراً على ثروة الغاز القطرية. لماذا؟ لأن الدول الأخرى المرشحة لأن تحذو حذو الولايات المتحدة في مجال الغاز الحجري، وهي الصين والأرجنتين وبولندا، ستواجه عقبات كأداء منها نقص المياه (التي تستخدم بكثافة لتفتيت الغاز الحجري)، ونقص البنى التحتية اللازمة لذلك خاصة المواصلات، وتركُّز السكان في أماكن الانتاج، ونقص العمالة المتخصصة.
كل هذا قد يكون صحيحا. لكن الصحيح أيضاً أن التكنولوجيا الأميركية فتحت باباً لن يغلق، في عالم يتخوّف من وصول وقود القرنين العشرين والحادي والعشرين (النفط والغاز) إلى ذورة انتاجه فيبدأ بالتالي رحلته الانحدارية نحو النضوب. وهذا ماسيدفع الدول الصناعية الظمئى إلى الطاقة إلى العمل على تخطي كل العقبات للإفادة من هذا المورد الجديد.
وهذا سيعني ماسيعنيه على مستوى أسعار الغاز وامداداته في العالم، الأمر الذي سيضع الانفاق القطري الراهن على السياسة الخارجية في موقف حرج.
- III -

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: في لحظة ما، أو بعد تطور ما، سيكون على القيادة القطرية الحالية أن تعيد تقنين طموحاتها الشخصية والاستراتيجية كي تتواءم مع إمكاناتها الحقيقية أو الثابتة.
وما لم تفعل ذلك، ستتحوّل المغامرة القطرية المثيرة الراهنة إلى مقامرة خطرة.
وكما هو معروف، المقامر قد يربح كل شيء، لكنه قد يخسر كل شيء أيضا.
سعد محيو  
_____________________________________