للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الاثنين، 23 يونيو 2014

ندوة مصر في مركز الإمارات للسياسات: "انفجار" لم يقع.. وتوقُّع انفجارات لاحقة


أبو ظبي- سعد محيو

لم يكن ثمة شيء يوحي بأن الحوار بين المصريين والخليجيين، خاصة في ضوء التقارب التحالفي الوثيق بين الطرفين راهنا، يمكن أن يصل إلى درجة الانفجار.
لكن هذا ماحدث بالفعل، أو بالاحرى تراقص على شفير هذا الحدث، في ندوة النقاشات المغلقة التي عقدها مركز الإمارات للدراسات في أبوظبي يومي 15 و16 يونيو/حزيران الحالي بعنوان "مصر: الواقع الراهن واستشراف التحولات المستقبلية". وقد تضمنت هذه الندوة مروحة واسعة من المحاور شملت تحولات المشهد السياسي المصري، وأولويات النظام السياسي الحالي، وسيناريوهات المستقبل بين المصالحة والعنف، وآفاق الأزمة الاقتصادية المصرية، والمجتمع المدني والملف الديني، وأخيرا السياسات الخارجية المصرية التي خُصِصَت فيها الجلسة الأخيرة لآفاق العلاقات المصرية- الخليجية.
في هذه الجلسة الأخيرة بالتحديد، برزت الفقاعات الأولى لاحتمال "الانفجار". فقد انبرى بعض المشاركين الخليجيين إلى طرح تساؤلات موضوعية حول"ماذا تريد مصر حقاُ من دول الخليج"، بيد أن هذه التساؤلات صيغت بأسلوب بدا استفزازيا بشكل حاد للمصريين. لا بل وصل الأمر بأحد الباحثين الخليجيين إلى حد مطالبة السيسي بـ"تقديم أوراق أعتماده لديهم". وهذا أشعل بعض ردود الفعل المصرية الحادة، وإن بذل بعض الموفدين المصريين جهوداً لاستيعاب التوتر، قائلين أن المقصود هنا هو أن يقدم السيسي خطة وبرنامج عمل واضحين حول مستقبل العلاقات بين الطرفين.
بيد أن أجواء التشنج استمرت، ولم تبدأ بالانحسار إلا بعد تدخل ضيفة الندوة وزيرة الدولة لشؤون الإعلام البحرينية سميرة رجب، التي شددت على "دور مصر الكبير في حماية الهوية والانتماء العروبيين"، ثم تدخل مديرة مركز الإمارات للسياسات د. ابتسام الكتبي التي أفاضت في الحديث العاطفي عن مصر ودورها الثقافي والاستراتيجي في المنطقة.
أسباب هذا "الانفجار" لم تكن واضحة تماما، خاصة وأن "شهر العسل" بين "الجمهورية الثالثة" المصرية التي عاد أمر تأسيسها إلى كنف المؤسسة العسكرية المصرية وبين حكومات الخليج  لايزال في بداياته الأولى، وهو يتمثّل بالدعم المالي الخليجي الكثيف لمصر في مقابل إعلان التزام القاهرة بدعم أمن المنطقة واستقرارها.
الأرجح أن "سوء التفاهم" أو التواصل بين المصريين والخليجيين له سببان مترابطان:
الأول، الغياب، أو التغييب، الكامل  لأسس استراتيجية الأمن القومي العربي المشترك؛ تلك الاستراتيجية التي بُنِي فوقها طيلة زهاء نصف قرن (منذ الخمسينيات وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين) صرح النظام الإقليمي العربي، قبل أن يبدأ هذا النظام بالتآكل بالتدريج منذ الغزو العراقي للكويت ثم مع الاحتلال الاميركي للعراق.
والثاني، أن مصر ودول الخليج معاً غارقة حتى أذنيها في مواجهة تحديات داخلية جسيمة تصل في بعض الدول إلى درجة التهديد الوجودي للكيان. وهذا مايطلي إلى حد بعيد طبيعة إطلالتها على السياسات الخارجية بلون الحذر والشك حتى من أقرب الحلفاء، وينطب أكثر ما يصح على بعض الاوضاع الخليجية الراهنة(في الكويت مثلا).
مصير الإخوان
بيد أن كل هذه التشنجات لم تؤثر على محصلات هذه الندوة، وهي الثالثة التي يقيمها مركز الإمارات حديث العهد بعد ندوتي إيران وتركيا، والتي غلبت عليها النقاشات المكثفة حول دور جماعة الإخوان المسلمين ومستقبل دورهم في السياسات المصرية.
هنا كان ثمة أقلية في الندوة تدعو إلى فتح الأبواب والنوافذ أمام فرص المصالحة بين الدولة
(وليس فقط النظام) وبين الإخوان، فيما الأغلبية الكاسحة في الوفد المصري كانت تتخذ مواقف حادة ضد أي حوار مع الإخوان، كجماعة ومؤسسة سياسية.
منطق الأقلية كان معروفاً سلفا: الأخوان ارتكبوا في السلطة أخطاء فادحة استعدت عليهم قطاعات واسعة في الدولة والمجتمع، لكن الحل لايكون بالقمع والعنف الذي خبرته الجماعة طيلة 80 عاماً ونجحت في التأقلم معه والبقاء على قيد الحياة، بل في تشجيع العناصر المعتدلة في داخلها على إعادة النظر في تجربتها وبث الروح مجددا في شعارها الشهير "المشاركة لا المغالبة". وما لم يتحقق ذلك، فقد تسير مصر برأيها في تجاه "الجزأرة" (من الجزائر) أو حتى نحو ثورة دينية على النمط الأيراني.
أما الأغلبية فقد كانت ترسم صورة أولا قاتمة عن أهداف الإخوان، ثم ثانياً عن رؤيتها  لطبيعة الحل معهم.
فقد أعاد أنصار هذا الرأي إلى الأذهان "حالة العداء الدائمة بين الإخوان وبين الدولة المصرية منذ أيام العهد الملكي وحتى الآن"، مشددين على أن المشكلة تكمن في مواصلة تبعية الجماعة إلى تنظيمها الدولي الذي يرفض الأنتماء الوطني المصري، وبالتالي يرفض الدولة المصرية، ويعتبر الكيان المصري "مجرد عقار في أوقاف الأمة الإسلامية".
ويضيف هؤلاء أن الجماعة الآن تتكون من أربعة مجموعات: الكوادر التي تم اعتقالها وأودعت السجون (ويتراوح عددها بين 15 إلى 20 ألفا)، وعناصر الجماعة الموجودة في الخارح، والقيادات السرية في الداخل، والكوادر الطلابية الدافعة في اتجاه العنف. ويدّعي أنصار هذا الرأي أن ثمة أكاديميين في صفوف الإخوان يعملون الآن على "تعبئة المجتمع تمهيداً لثورة جديدة". وهذا، برأيهم، ما عبّرت عنه وثيقة أخيرة للجماعة بعنوان "وثيقة القاهرة" التي دعت إلى مواجهة ثورة 30 يونيو بثورة 25 يناير.
وقال أحد المؤتمرين أن الإخوان ربما يتقدمون قريباً بمبادرة سياسية جديدة، لكنها لن تكون موجهة إلى الرئيس السيسي بل إلى مؤسسة الجيش، لأنهم لم يتخلوا بعد عن تمسكهم بمحمد مرسي  كرئيس للبلاد. هذا في حين أن السيسي كان أبلغ وفداً من مجلس العموم البريطاني مؤخراً أنه مستعد للمصالحة مع الأخوان كأفراد، لكنه يرفض التعاطي معهم كجماعة لأنه يعتبر هذه الأخيرة "تنظيماً إرهابيا". هذا علاوة على أن الجيش والأجهزة الأمنية يقفون بـ"الاجماع" ضد الإخوان.
أما السيناريوهات التي اقترحها هؤلاء حول مآل العلاقات مع الإخوان، فهي تندرج في أحد سيناريوهين إثنين:
1- سيناريو المواجهة المفتوحة والشاملة، وربط الصراع مع الإخوان في مصر بالمعركة الإقليمية مع الإرهاب ككل في الشرق الأوسط.
2- قيام الجماعة بإعادة النظر باستراتيجيتهم وتكتيكاتهم، وصولاً إلى تخليهم عن برنامج التنظيم الدولي وبالتالي "تمصُّرهم"، ثم إبرام مصالحة مع النظام بمساعدة طرف ثالث.
كل أصحاب هذا الرأي أجمعوا على القول أن اليد العليا ستكون للخيار الأول، أي للصدام العنيف، إلى أن يشعر أحد الطرفين بالتعب والإرهاق. والأرجح برأيهم أن يكون الطرف الذي سيصرخ اولاً هم الإخوان وليس النظام، بسبب اختلال موازين القوى بشدة لصالح هذا الأخير.
لابل وصل الأمر ببعض أحد أنصار هذا الرأي، وهو من قادرة الإخوان السابقين، إلى حد قول أن 50 ألفاً من جماعة الإخوان استقالوا من التنظيم ولزموا منازلهم، وأن الجماعة نفسها "ستنهار خلال أسابيع قليلة".
بالطبع، لم يحظ هذا الرأي بحماسة حتى من تيار خصوم الإخوان، الذين أعادوا إلى الأذهان أن الجماعة نجحت في البقاء، وإن تحت الأرض، على مدى ثمانية عقود، وأن الحل الأمني وحده لن يكون كافياً البتة، بل يجب أن يترافق ليس فقط مع حلول سياسية بل أولاً وأساساً مع تجديد الخطاب الديني.
مستقبل النظام
أما بالنسبة إلى مستقبل النظام السياسي المصري الجديد، فقد أجمعت الآراء تقريباً على القول أن النجاح أو الفشل سيرتبطان في الدرجة الأولى بقدرة النظام على تحقيق إقلاع إقتصادي - اجتماعي، من خلال إعادة بث الروح في القطاعات الأنتاجية (الصناعة، الزراعة، والتكنولوجيا) القادرة وحدها على توفير العمل لنحو مليون شاب مصري ينضمون سنوياً إلى سوق العمل. بيد أن مثل هذا الإقلاع لن يكون ممكناً ما يتم استئصال شأفة الفساد المستشري في أجهزة الدولة، والذي يمتص نسباً مرتفعة من المداخيل وفرص النمو. وهذه لن تكون مهمة سهلة بالنسبة إلى النظام، لأن معظم الستة ملايين موظف رسمي في قطاعات الدولة (أو مايسميه بعض المحللين المصريين "إقطاعات الدولة")، كانوا من أبرز داعمي هذا النظام السياسيين والانتخابيين.
* * *
ندوة مصر مرّت، إذا بسلام. لكنها في الوقت نفسه أطلقت أكثر من صفارة إنذار، سواء من ناحية ضرورة التدقيق في طبيعة التحالف الخليجي- المصري الجديد، أو من حيث مآل العلاقة بين النظام المصري وبين جماعة الإخوان.
وهذه الصفارات بالذات هي في الواقع التي أسبغت هذا النجاح على ندوة مركز الإمارات للسياسات. لماذا؟ لأن هذا بالتحديد هو الدور الدقيق لمراكز الأبحاث: إطلاق الحوار الحر من كل عقال، حتى ولو اقتصر الأمر على الاتفاق حول الاختلاف.



الخميس، 12 يونيو 2014

هل يُنهي هجوم داعش عهد المالكي؟



(ينشر هذا المقال في "سويس إنفو")
أسئلة كثيفة أطلقتها التطورات الضخمة المتلاحقة في العراق:
- كيف ولماذا انهارت وحدات القوات المسلحة العراقية (الجيش وقوى وأجهزة الأمن) على هذا النحو السريع والمدهش في الموصل؟
- كيف تسنى لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) أن يتحوّل خلال فترة قصيرة من تنظيم يعتمد أساساً حرب الغوار، إلى تشكيل عسكري أشبه بالجيوش التي تعمل أساساً على احتلال الأراضي والسيطرة عليها؟ وما الأهداف التالية للتنظيم، وهل بغداد من ضمنها؟
- مامضاعفات هذه الأحداث المتلاحقة على مواقع كل من رئيس الوزراء نوري المالكي والجيش العراقي والموازين السياسية العامة في البلاد بين السنّة والشيعة وفي داخل البيت الشيعي السياسي نفسه؟
- وأخيراً، ما تأثير هذه التطورات على القوى الإقليمية المعنية بالأزمة العراقية، خاصة إيران التي تتمتع (أو كانت تتمتع قبل الأحداث الأخيرة) بالنفوذ الأقوى والأول في بلاد الرافدين؟
لنبدأ مع مسألة الجيش العراقي.

لماذا الانهيار؟
يُجمع معظم المحللين الغربيين والشرقيين على حد سواء، على أن انهيار وحدات الجيش العراقي في مدينة الموصل، حيث تخلى آلاف الجنود والضباط عن أسلحتهم وعتادهم وحتى زيّهم العسكري لمجرد انتشار الشائعات بأن مقاتلي داعش يقتربون من المدينة، كان مدهشاً لكنه لم يكن مفاجئا.
لماذا؟
لأن معظم وحدات هذا الجيش الذي يناهز تعداده (مع قوى الأمن الأخرى) المليون عسكري والذي أنفق الأميركيون زهاء 15 مليار دولار على بنائه وتدريبه، أقرب إلى الميليشيا منه إلى الجيش النظامي. فعناصره إما جاءت إليه من ميليشيات شيعية تشكّلت مع بداية الغزو الاميركي العام ،2003 أو من شبان عاطلين عن العمل مهتمين أصلاً بالحصول على راتب ثابت ويفتقدون إلى أي انتماء وطني عراقي عام. والتالي، ماتهتم به هذه العناصر ليس كسب المعارك بل الحصول على المغانم والمكاسب.
يقول أحمد العطار، من مؤسسة دلما للأبحاث في أبوظبي:" الجيش العراقي يمثِّل في الواقع ميليشيا سيئة القيادة، ويهتم أكثر بحماية مصالحه الخاصة كمنظمة وليس بالقتال من أجل فكرة مجردة هي العراق".
ويضيف فنار حداد، وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط في الجامعة الوطنية في سنغافورة:" الأميركيون ركَّزوا (في عملية بناء الجيش العراقي) على الكمية لا النوعية، وعلى التدريبات العاجلة وغير المناسبة إلى حد كبير، ما ترك المجندين من دون انضباط ونظام، وجعلهم عُرضة إلى الذعر بسرعة، إضافة إلى التهرُّب الدائم من الخدمة العسكرية".
وقد فاقم المالكي كل هذه المشاكل بلجوئه إلى تغيير قادة الجيش باستمرار، ربما خوفاً من قيامهم بانقلاب عسكري، وأيضاً لأنه أمضى الشهور الماضية وهو يضخم من خطر داعش بهدف تعبئة أصوات انتخابية شيعية، ما جعل الجنود في حالة ترقب وقلق سرعان ما تحوّلا إلى ذعر وهرب مع اقتراب مقاتلي داعش من الموصل والمدن الأخرى.
والآن، وبعد معركة الموصل، التي وصفها المحللون العراقيون بأنه "فضيحة"، سيكون السباق واضحاً بين المالكي، بوصفه قائداً أعلى للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع والداخلية، وبين قادة الجيش على إنحاء اللائمة على بعضهم البعض: الاول من خلال اتهام الضباط بالاهمال والوهن والعمل (كالعادة) على عزل بعضهم ومحاكمتهم، والضباط ربما عبر تحرك ما ضد المالكي نفسه. هذا بالطبع إضافة إلى تحرّك القادة الشيعة المناوئين للمالكي ضده، وإن لاحقاً بعد جلاء الصورة العسكرية.في كل من الموصل وبغداد.
بيد أن الخطر الأساسي بالطبع هو أن تؤدي الصراعات الداخلية إلى تكريس تحوّل العراق إلى "دولة فاشلة" أخرى في الشرق الأوسط بعد الدول الفاشلة في سورية وليبيا واليمن.
نشوء داعش
هذا عن الجيش. أما بالنسبة إلى السؤال عن داعش، فالأمر قد يتطلب بعض التفاصيل التاريخية أولا.
تأسس هذا التنظيم في أوائل الحرب العراقية باسم "جماعة التوحيد والجهاد"، وأعلن ولاءه للقاعدة وأسامة بن لادن العام 2004. وقد تكوّن من العديد من الفصائل المسلحة الصغيرة في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، الذي عمد لاحقاً إلى تغيير اسم مجموعته ليصبح "تنظيم قيادة الجهاد في بلاد الرافدين" أو، كما عُرِف في الإعلام، "القاعدة في العراق". وفي كانون الثاني/يناير العام 2006، اندمج هذا التنظيم مع مجموعات عدة أصغر وشكل معها مجلس شورى المجاهدين، ثم أعلن هذا التنظيم في تشرين الأول/أوكتوبر 2006 عن تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق" التي تسعى إلى بسط سيطرتها على بغداد والأنبار وديالا وصلاح الدين ونينوى وأجزاء من بابل. وبعد توسعه في سورية العالم 2013، تغيّر الاسم مرة أخرى ليصبح الاسم الحالي: الدولة الإسلامية في العراق والشام، التي أدعت سيطرتها على 16 "ولاية" في العراق وسورية.
أما أهداف داعش الاستراتيجية، علاوة على إقامة دولة إسلامية في العراق وسورية ولبنان (أساساً في المناطق السنيّة من هذه الدول التي يطلق عليها اسم "بادية الشام" الممتدة من صحراء النفوذ في شمال شبه الجزيرة العربية إلى الفرات )، فهو إعادة  الخلافة الإسلامية، وانهاء تقسيمات سايكس بيكو الفرنسية- البريطانية التي قسمت المشرق العربي في أوائل القرن العشرين إلى الدول الراهنة، وفرض صيغة متشددة للغاية من الشريعة تقترب من صيغة طالبان الأفغانية.
خطط داعش
على الصعيد العملاني، توضح "مؤسسة دراسات الحرب" الغربية الخطط العسكرية الراهنة لداعش على النحو الآتي:
- الهجوم على الموصل هو جزء من حملة شاملة في كل منطقة الشمال العراقية بدأت معالمها تتضح في العام 2013 حين هاجمت داعش منطقتي أبو غريب وزيدان غرب بغداد.
- العمليات حول مدينة سامراء ستكون مؤشراً مهماً للغاية حول الأهداف النهائية لداعش. فإذا ما أرادت مواصلة هجومها الخاطف للوصول إلى بغداد، فسيكون عليها تجاوز سامراء للحفاظ على زخم الهجوم.  لكن سامراء مهمة بحد ذاتها، لأن داعش نجحت العام 2006 في إشعال أتون الحرب الأهلية السنّية- الشيعية انطلاقا منها حين دمّرت ضريح الإمام العسكري، ولأنه يعتقد أن هناك قوات إيرانية ترابط قرب الضريح.
- يبدو واضحاً أن داعش، التي يُقال أنها تتضمن أكثر من 15 ألف مقاتل من العراق والعديد من دول العالم ويبلغ دخلها الشهري 50 مليون دولار من الخوات وبيع نفط دير الزور والتبرعات (أساساً من أفراد خليجيين)، لديها قيادة ميدانية منظّمة وقادرة على التخطيط الدقيق، وأسلحة يتفوق بعضها تقنياً على أسلحة الجيش العراقي (مثل الصواريخ الأوكرانية المضادة للدبابات، والتي لاتباع في السوق السوداء).
- لم يسبق لداعش أن شنّت قبل الآن مثل هذا الهجوم الكاسح، والناجح، في العراق. ولذلك يُحتمل أن يسقط التنظيم ضحية التمدد الاستراتيجي الزائد إذا ماواصل هجماته، الأمر الذي سيجعله عرضة إلى هجمات مضادة سريعة، أو  حتى إلى تمردات في المناطق التي سيطر عليها. هذا ناهيك عن أنه من المشكوك به أن تتمكن داعش من مواصلة السيطرة على الموصل، التي هي ثاني أكبر مدينة في العراق بتعداد مليوني نسمة (نزح منهم حتى الآن نحو نصف مليون)، أو على بعض أحياء بغداد.
معضلة إيران
نأتي الآن إلى المضاعفات الإقليمية.
ضربة الموصل دقّت أجراس الإنذار في كل الشرق الأوسط والعالم: من أنقرة وظهران ودمشق إلى واشنطن وبروكسل. لكن صوت الأجراس كان يصم الآذان في إيران التي سارعت إلى حشد قواتها على الحدود العراقية، وبدت متأهبة للتدخل لانقاذ النظام المدعوم شيعياً في بغداد.
بيد أن أي تدخل إيراني كثيف في العراق سيكون كارثة محققة لإيران، التي تعاني الآن من استنزاف مالي واقتصادي مريع في سورية بسبب تمويلها الكامل لحرب النظام السوري بمبالغ بات مؤكداً أنها تتراوح بين 15 إلى 20 مليار دولار سنويا. والآن، إذا ماتطلبت "معركة العراق"، التي هي أكثر أهمية بكثير من معركة سورية بالنسبة إلى طهران، أموالاً أخرى فإن الاستنزاف الإيراني سيتحوّل إلى عاصفة كاملة ومطلقة من المستبعد أن يستطيع الاقتصاد الإيراني المنهك تحملها.
ولعل هذه الحقيقة ترسم الآن على شفاه المسؤولين السعوديين ابتسامة رضى، وهم يرون خصومهم الفرس يغرقون في مستقع تلو الآخر في المشرق العربي. وهي (بالمناسبة) ابتسامة قد تلقي بعض الأضواء على الابعاد الإقليمية بعيدة المدى لهذه التطورات الدراماتيكية في بلاد العباسيين.
* * *
إلى أين الآن من هنا؟
انتصار داعش ليس وارداً، ولا مسموح به. لكن هذا التنظيم قد ينجح حتى ولو فشل هجومه الحالي، إذا ماتمكّن من إعادة إشعال الحرب الأهلية في العراق. وهو احتمال وارد بعد أن أدت سياسات المالكي الاقصائية إلى وضع تحويل المناطق السنّية العراقية إلى بيئة حاضنة، أو على الأقل قابلة تكتيكيا، لوجود داعش بين ظهرانيها.
وهذا أمر كان واضحاً في الموصل وتكريت، حين وافق "جيش الطريقة النقشبندية" الذي يقوده القائد البعثي عزة الدوري على خوض المعارك بشكل مشترك مع داعش، وحين لم تحرّك العشائر السنّية، التي سبق لها أن طردت القاعدة من مناطقها، حين دخلت داعش هذه المناطق الآن.
وبالتالي، أي مشروع حل للأزمة الطاحنة الراهنة لايتضمن إنهاء سياسات المالكي الإقصائية وإبرام عقد تاريخي- اجتماعي وطني جديد بين مكونات الشعب العراقي، سيكون هدية ممتازة لحرب داعش ومشروعها في كل المشرق العربي المتفجِّر.

سعد محيو- بيروت





الثلاثاء، 10 يونيو 2014

السيسي رئيسا: شروط النجاح، أو الفشل؟


- I -
لا أحد على الأرجح داخل مصر وخارجها يدرك فداحة المسؤوليات الملقاة على عاتق الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، أكثر من عبد الفتاح السيسي نفسه.

وهذه الواقعة كانت واضحة في خطاب قسم اليمين الذي، وعلى رغم أنه جاء بمثابة برنامج عمل كاملاً وشاملاً لكل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسات الخارجية، إلا أنه تضمن أيضاَ غير إشارة حول إدراك السيسي بأنه يخوض بالفعل مغامرة كبرى (محلية وخارجية) ليس في وسع أحد التنبؤ من الآن بمآلها.
أهم هذه الإشارات:" لم أسع يوماً وراء منصب سياسي، وأنا استخرت الله متوكلاً عليه (أي بعد تردد كبير حيال الترشح) وحزمت أمري منحازاً إلى إرادة الشعب"؛ و"اتفقنا (الرئيس والشعب) أن نبقى واضحين وعلى تواصل مستمر للاطلاع على حقيقة الأوضاع"(أي على حقيقة الأزمات الكبرى التي تغشى مصر)؛ و"أعينوني بقوة لبناء وطننا الذي نحلم به، واعلموا أن سفينة الوطن واحدة، أن نجت نجونا جميعا".(أي: إما العمل المشترك للانقاذ، أو الغرق المشترك للجميع).
والآن، وقد أصبح المشير السيسي رئيساً مدنياً رسمياً، سيكون وجهاً لوجه أمام جملة قضايا وأولويات مدوّخة في مدى تناقضاتها وصعوباتها، إلى درجة لن يحسده فيها إنسان قط على تسنمه عرش مصر:
- فهو يريد أن يبني اقتصاداً منتجاً يعيد الاعتبار إلى دور الانتاج في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا لأنها الطريقة الوحيدة لتوفير فرص العمل لنحو مليون شاب مصري ينضمون سنوياً إلى سوق العمل. هذا في حين أن الهيكلية الاقتصادية والطبقية التي ترسخت طيلة نيف و40 عاماً، تستند إلى طبقة رجال أعمال جدد راكموا الثروات الطائلة من قطاع الخدمات على أنواعها إلى المضاربات العقارية والمالية. وخطورة هذه الطبقة أنها تحظى بدعم قوى العولمة النيوليبرالية وإسرائيل.
وهو يسعى إلى "شن حرب لاهوادة فيها على الفساد في الدولة"، على حد تعبيره. لكنه سيكون مضطراً في الوقت نفسه ألا يستعدي زهاء 6 ملايين موظف رسمي لعبوا دوراً كبيراً في توفير جزء وافر من قاعدته الشعبية والانتخابية، ويتوزعون على "إقطاعات" في الدولة تتنازع في ما بينها مغانم سلطة الفساد.
- وسيواجه الرئيس السيسي معضلة الترابط الوثيق بين الاستقرار الأمني والسياسي وبين النمو والتنمية الاقتصادي، خاصة في قطاع الخدمات الذي يتأثر بشدة بأي توترات أمنية. وهذا قد يخلق اضطراباً في الأولويات يسفر عن إعاقة كل مشاريع التطوير والنهوض. كما أنه قد يستنفر ضده، في حال تعثر برامج النهوض، ما أسماه زبغنيو بريجنسكي "يقظة الشارع السياسي" في العالم. وهو أمر أشار إليه الرئيس المصري نفسه حين قال مخاطباً المصريين:" لقد برهنتم أن قدرتكم لن تتوقف عن إسقاط أنظمة مستبدة أو فاشلة".
- ثم أن الرئيس السيسي يجب أن يجد حلاً لمشكلة جماعة الإخوان المسلمين كمدخل لابد منه لتحقيق استقرار سياسي بعيد المدى، وللتفرغ لتصفية موجة التطرف الأصولي المنتشرة في سيناء على نطاق واسع، سواء جاء هذا الحل بالترهيب أو الترغيب أو بالعمل على تقسيم تنظيم الجماعة بين معتدلين ومتطرفين.
- وسيكون على الرئيس الجديد أن يقنع الإدارة الأميركية بأن مشروعه، وليس مشروع الإسلام السياسي، هو القادر على مقارعة "الإرهاب الإسلامي". هذا في وقت يبدو فيه أن واشنطن لاتزال تعتقد أن للإخوان دوراً هاماً في هذا المجال على رغم إطاحتهم الطائشة لفرصة الحكم التي منحتهم إياها.
- وأخيرا، ستيعيَّن على الرئيس الجديد أن يمارس لعبة توازن دقيقة وصعبة في المجالين الدولي والإقليمي. إذ سيكون عليه مواصلة التقارب مع روسيا (والصين) من دون إثارة مخاوف الولايات المتحدة أو ريبتها. وهذا بات يبدو الآن أمراً صعباً، بعد أن أصبح الصدام واضحاً في أوكرانيا بين روسيا مصممة على إعادة بناء الاتحاد السوفييتي السابق (في صيغة الاتحاد الأوراسي) وبين أميركا ترفض بقوة عودة نفوذ روسيا إلى سابق عهده من خلال نسفها تريبات مابعد الحرب الباردة.
والأمر نفسه سينطبق على المجال الإقليمي، حيث سيكون أيضاً على السيسي، في ضوء التحالف الكبير الذي نشأ مؤخراً بينه وبين دول الخليج العربية، لعب دور الموازن للقوة الإيرانية في المنطقة تحت شعار حماية الأمن القومي العربي، لكن من دون الوصول إلى نقطة الصدام مع دولة الخميني وقورش كما فعل صدام حسين. ولعل موقف السيسي من الصراع في سورية ولبنان سيكشف عما قريب عن طبيعة لعبة التوازن هذه ومداها.
- II -
هذه، إذاً، بعض العقبات الكأداء التي ستعترض سبيل ثنائية الاستقرار - النهضة التي يسعى السيسي إلى تحقيقها، والتي كانت أصلاً هي مبرر صعود شعبيته الكاسحة. فهل سيكون في مقدوره مجابهتها؟
في خطاب القسم، نستطيع (كما أشرنا أعلاه) تلمُّس خطط عمل شاملة قد تساعد السيسي في  ركوب ظهر النمر الجامح.
فهو اعترف بوجود أزمات اقتصادية واجتماعية أمنية طاحنة، وبتفاقم الاستقطاب الديني الحاد بين المسلمين والمسيحيين وبين أبناء الدين الواحد من خلال دعاوى التكفير، لكنه وعد بإعادة الهيبة إلى الدولة المصرية وتوفير الأمن كأولوية قصوى وكمدخل لـ"تنمية شاملة".
وهو قال أن مصر ستكون مقبلة على مرحلة التنمية الصناعية والزراعة "اللذين هما جناحا التنمية الاقتصادية وعصب الاقتصاد والسبيل إلى خلق فرص العمل وتشغيل الشباب"، كما قال. وفي الوقت نفسه العمل على محورين: تدشين المشاريع المشروعات الوطنية العملاقة (تنمية قناة السويس والطاقتين النووية والشمسية) والمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تخدم المناطق المهملة والأكثر فقرا.
التنمية الانتاجية هذه يجب أن تترافق برأيه مع تنمية اجتماعية - ثقافية، تتضمن من ضمن ماتتضمن "تجديد الخطاب الديني" وبث الروح في القيم الأخلاقية المصرية والإسلامية.
وكان ملفتاً في هذه الإطار أن يشدد السيسي، في سياق حديثه عن تطوير مؤسسات الدولة المصرية، على أن "مواجهة الفساد بكل أشكاله ستكون شاملة، ولن يكون هناك ليس فقط لاتهاون مع الفاسدين بل أيضاً لارحمة مع أي من يثبت تورطه في أي قضية فساد مهما كان حجمها".
كما كان ملفتاً أن يحدد السيسي الهوية المصرية كالتالي:" مصر فرعونية ميلاداً وحضارة، وعربية لغة وثقافة، وإفريقية جذوراً ووجودا، ومتوسطية طابعاً وروحا". وهذا، كما هو واضح، تحديد يقفز فوق كل تجاذبات الهوية بين الأطراف الإسلامية والعلمانية والدينية المتنازعة على طبيعة هوية مصر. الوطنية المصرية هنا هي الأساس، ومفهوم المواطنة "سيكون هو المبدأ الحاكم، فلا فرق بين مواطن وآخر في الحقوق والواجبات ولا في قناعاته السياسية طالما أنها سلمية".
الإشارات في الخطاب حول مشكلة الإخوان كانت جلية. فالرئيس المصري رفع شعار "التصالح والتسامح من أجل الوطن بين كل أبناء الوطن، باستثناء من أتخذوا من العنف منهجا".
وهذا يعني أن الحوار لاحقاً مع الأجنحة التي تبنذ العنف في الجماعة أمر وارد، على رغم أن ملامح مثل هذه الأجنحة لم تظهر بعد بسبب التشنجات الراهنة في صفوف الإخوان الذين يبدو أنهم لما يستفيقوا بعد من صدمة الخروج المفاجيء من جنَة الحكم.
أما في مجال السياسة الخارجية، فقد كان السيسي جريئاً للغاية حين أعلن بكلمات مجلجلة أن "عهد تبعية مصر في العلاقات الخارجية قد ولى"، وأن هذه العلاقات ستُحدد من الآن فصاعدا طبقاً لمدى استعداد الأصدقاء للتعاون وتحقيق مصالح الشعب المصري".
- -III
كما هو واضح، مشروع السيسي متكامل وطموح. لكن ما فرص نجاحه أو فشله؟
لا ريب أن الرئيس الجديد يمتلك نقاط قوة واضحة.
 فهو يأتي إلى السلطة على صهوة موجة وطنية مصرية جامحة تتمحور حول مؤسسة الدولة المصرية (مهما كان شكلها) أملاها عاملان: الأول، تجربة الإخوان الفاشلة في الحكم على صعد الهوية الوطنية الجامعة، والتنمية الاقتصادية، والإجماع السياسي الضروري للغاية في المراحل الانتقالية التأسيسية في حياة الأمم. والثاني تعب المواطنين المصريين من ثورات متصلة خلال ثلاث سنوات اضطرب فيها حبل الأمن وتوقفت خلالها الدورة الاقتصادية.
السيسي يمتلك أيضاً ورقة الدعم الكامل الذي تبديه كل مؤسسات الدولة المصرية تقريباً، من الجيش (طبعاً) وأجهزة الأمن إلى المحكمة الدستورية العليا والقضاء، مروراً بالسلطتين التنفيذية والإدارية. وهذا ما فشل الرئيس السابق مرسي في تحقيقه.
ثم أنه حائز على دعم مالي خليجي يبدو بلاحدود. الأمر الذي سيعطيه فرصة تنفس ثمينة لأعادة ترتيب البيت المصري الداخلي، بتكلفة اجتماعية وسياسية أقل.
بيد أن نقاط الضعف لاتقل أهمية عن نقاط القوة كما أشرنا أعلاه، لكن أهمها وأولها وأبرزها هو عامل الوقت الذي سيكون السيف الحاسم والحد القاطع بين النجاح والفشل في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ومن ثم السياسية. لابل يمكن القول أن "فترة السماح" الداخلي (يقظة الشارع السياسي) والخارجي (أساساً العلاقة مع الولايات المتحدة) قد لاتتجاوز السنتين أو حتى سنة واحدة، كي يبان الخيط الأبيض من الأسود في مشروع السيسي، الذي يجب أن يتضمن أيضاً عاجلاً أو عاجلاً استئناف مسيرة المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية التي بدأت مع ثورة يناير قبل أن تتوقف.
مسألة الوقت هذه تتطلب في الدرجة الأولى أن يثبت الرئيس الجديد أنه "رجل دولة" (كمحمد على باشا وجمال عبد الناصر مثلاً) لا رجل رئاسة وسياسة كما كان الرئيسان السابقان مرسي ومبارك. فهذا، إضافة إلى عامل الوقت الحاسم، هو ماتحتاجه الآن مهام عملية الانقاذ الضخمة والتاريخية والصعبة في مصر.

سعد محيو







-


الأحد، 8 يونيو 2014

العالم ينفجر (الحلقة الأخيرة): حذار احتراق العنقاء.. هذه المرة


- I -
تحدثنا في حلقة الأمس عن رأس العنقاء البيضاء، أي عن الوعي الكوني الجديد. ماذا الآن عن جناحيها: البيئة والنظام الاجتماعي- الاقتصادي الجديد.
في الجناح الأيمن، أي البيئة، سيكون الوعي الجديد على موعد مع انتفاضة شاملة تعيد النظر في كل مايحدث الآن في أربع صقع الأرض من تدمير منهجي للبيئة. هي انتفاضة على الحرب الذي يشنها الإنسان على الطبيعة ليس الآن بل حتى منذ بداية الحضارات البشرية المنظمة مع الثورة الزراعية قبل نحو عشرة آلاف سنة. فكما هو معلوم، أدت الثورة الزراعية إلى بدء اجتثات الغابات، وهي الرئة الرئيس التي تتنفس منها الحياة على الأرض، وضربت نظم وتوازنات بيئية احتاجت الطبيعة إلى مئات ملايين السنين لإيجادها.
ثم جاءت الثورة الصناعية لتدفع هذا اللامنطق البيئي إلى نهاياته الكارثية الحالية، حيث باتت الفلاحة غير العضوية من أكبر القطاعات التي تسهم في عملية الاحتباس الحراري. إذ تنبعث كمية غازات دفيئة أكثر من مجموع ماتطلقه السيارات والشاحنات والقطارات والطائرات مجتمعة من غازات الميثان، المنبعث من الماشية ومزارع الأرز، وأوكسيد النيتروس المنطلق من الحقول المسّمدة، وثاني أوكسيد الكربون الناتج عن إزالة الغابات المطرية لتحويلها إلى أراض زارعية أو مزارع لتربية الماشية. ثم أن الفلاحة غير العضوية هي أكبر مستنزف للموارد المائية العذبة التي باتت شحيحة على كوكب الأرض والتي هي مصدر رئيس للتلوث بسبب تصريف سوائل الأسمدة الطبيعية والسماد الطبيعي في البحيرات والوديان وسائر النظم البيئة الساحلبة الهشة في العالم.(راجع هنا العديد الأخير من "ناشنال جيوغرافيك"). 
والآن، سيصل الضغط على البيئة إلى نقطة الانفجار بسبب الحاجة إلى مضاعفة الانتاج الزراعي أضعاف أضعاف ماهو حالياً، لأن ملياري إنسان سينضمون إلى ركب الأفواه المحتاجة إلى الطعام في أفق العام 2050، ومعهم مليارات المواشي والدواجن التي تحتاج هي الأخرى إلى الغذاء وكميات هائلة من الماء. وهذا سيعني اجتثاث ماتبقى من الغابات، بعد أن أباد الجنس البشري غطاءات نباتية تناهز مساحة أميركا اللاتينية وقارة إفريقيا برمتهما ومعهما مروج أميركا اللاتينية والغابة الأطلسية في البرازيل، فيما يستمر التعدي على الغابات الاستوائية بمعدلات تنذر بالخطر الشديد. ولو أن هذا الجنون الجماعي البيئي يؤدي إلى إطعام نحو مليار جائع في العالم يترنحون الآن على شفا الموت لوُجد لهذا الجنون شيء من المبرر النسبي، لكن الحقيقة أن 50 في المئة فقط من السعرات الحرارية للمحاصيل توجُّه لإطعام الناس في الوقت الراهن، في مايوجّه الباقي إلى إطعام الماشية (نحو 36 في المئة) أو يحوّل إلى وقود حيوي ومنتجات صناعية (نحو 9 في المئة). وفي الوقت نفسه، 25 في المئة من السعرات الحرارية الغذائية في العالم ومايصل إلى 50 في المئة من الوزن الإجمالي للأغذية تضيع أو تفسد أو تُهدر قبل أن تبلغ المستهللك في البلدان الغربية. يحدث جل هذا الهدر في البيوت والمطاعم والأسواق التجارية الكبرى. وفي البلدان الفقيرة يضيع الغذاء في الغالب في مرحلة ما بين المزارع والسوق بسبب سوء وسائل التخزين والنقل.(مرجع ناشنال جيوغرافيك نفسه)
- II -
لم يصدقّ أحد العالم الاميركي جاك هول ، حين أعلن ان مناخ الارض بدأ يتغيّر بالفعل ، وأن قدر الكوارث الكبرى بدأ يطرق أبواب البشرية . بيد أن هول نفسه لم يكن يعتقد ان هذه الكوارث ستكون آنية الى هذا الحد. لكن هذا ما حدث بالفعل. فقد إرتفعت  فجأة حرارة الارض نصف درجة، وتسارع ذوبان مجالد العالم ( الكتل الضخمة من الجليد الدائم ) ، وإختل توازن تيارات المحيط. وما لبثت الامواج البحرية العملاقة (التسونامي)  ان إجتاحت كل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الشمالية، ثم تلاها سريعا عصر جليدي جديد قضى على الحضارة الغربية في نصف الكرة الشمالي، ودفع من نجا من الغربيين للجوء الى أميركا اللاتينية وباقي أنحاء العالم الثالث.
قصة خرافية علمية  أخرى ؟.
أجل. وهي صيغت ، كما هو معروف ، في الفيلم السينمائي " اليوم الذي سيلي الغد " الذي احدث ضجة كبرى في أميركا والعالم. لكن هذا لم يكن كل شيء. فقد برز علماء آخرون غير جاك هول ،( ليس في فيلم سينمائي بل في "فيلم حقيقي") ، ليؤكدوا  علمياً ما ساقه هول كخيال علمي. قال هؤلاء ، في دراسة نشرتها هيئة دراسات القطب الجنوبي البريطانية والمؤسسة الجيولوجية الأميركية:  "معظم مجالد شبه جزيرة القطب الجنوبي، إنحسرت بشدة خلال السنوات الخمسين الماضية بسبب إرتفاع حرارة الأرض. كما أن المجالد الداخلية تذوب بسرعة قياسية وتنحدر بوتائر خطرة نحو المحيط".
وهذا يعني، بكلمات أخرى، أنه لن يطول الوقت قبل ان يتحوّل " اليوم الذي يلي الغد" من شريط سينمائي إلى شريط واقعي.   كما هو يعني ، بكلمات أكثر وضوحاً،  صحة تحذيرات البروفسور البريطاني جيمس لافلوك المتكررة من أن كوكب الارض الغاضب  (الذي يسميه  الام " غايا " لانه يتصرف كمخلوق عضوي واحد) سيحاول قريباً  إعادة التوازن الى الطبيعة عبر تدمير الحضارة ومعظم الجنس البشري.
لماذا يحدث كل ذلك؟ لأن  جنسنا وضع نفسه في حال حرب مع الارض نفسها. ووحدها الكوارث الآن يمكن أن توقف هذه الحرب، التي يُذيب  فيها التلوث الصناعي والزراعي  البشري الاعمى المجالد، ويدّمر المناخ وتوازنات الرياح والمحيطات. العلماء البريطانيون والأميركيون يقولون الآن ان المجالد بدأت تذوب بالفعل، وأنه لن يطول الوقت قبل أن يؤدي إختلاط مياه الجليد العذبة مع مياه البحار المالحة إلى إضطراب تيارات المحيط. والحصيلة؟ إنها قد تفوق كل خيال: بريطانيا قد تتحول إلى سيبيريا جديدة. وهولندا ( أو معظمها ) ستصبح عصفاً صرصراً . وكاليفورنيا ستغدو ملعباً لأعاصير مدمّرة لن تكون امامها تسوناميات آسيا أكثر من ألعاب اطفال. وهذا كله مجرد غيض من فيض، قبل مجيء  عصر جليدي جديد.
- III -

 هذه الحرب العمياء لها جذر واضح: الأنا الأنانية البشرية، والتي تحوّلت عبر التاريخ من منظومة أنانية فكرية فردية إلى منظومات أنانية جماعية في شكل قبائل وطوائف وامم تتسابق على نهش جسد الطبيعة وتمزيقه. هذه الأنا هي التي فصلت الفرد الإنسان عن الكل الحياتي والكوني، واستندت إلى الثنائية الديكارتية القاتلة لوضع هذا الإنسان في حالة حرب دائمة مع أمه الطبيعة. وبالتالي، سيكون هناك من الآن فصاعداً سباق محموم بين بروز الوعي الصافي الجديد الذي سيعلن الصلح والسلام النهائيين مع البيئة، من خلال وضع العلم والتكنولوجيا والانتاج الصناعي والزراعي في خدمة الأولوية القصوى لتوازنات البيئة، وبين الكوارث الطبيعية الزاحفة التي ستُنهي حتماً هذه الحرب لصالح أمنا غايا. هذه الكوارث لن تدمّر الأرض بما هي كوكب آخر من كواكب المجموعة الشمسية، بل ستقضي فقط على قشرة الحياة الرقيقة التي تغطي هذا الكوكب فتجعله أرضاً قفراً مثله مثل الزهرة وعطارد والمريخ وباقي المجموعة الشمسية.
الانتفاضة على الحرب ضد الطبيعة، بهذا المعنى، هي انتفاضة على الذات الإنسانية الحالية أولاً وأخيراً. كتبت ناشنال جيوغرافيك:" الحلول (لأزمة البيئة والغذاء) لن تكون سهلة لأنها تحتاج إلى ثورة في طريقة تفكيرنا. عبر تاريخنا البشري، كثيراً ماكانت أبصارنا وبصائرنا تعمى بسبب رغبتنا الجامحة في الاستزادة من المنتجات الفلاحية بتخصيص المزيد من الأراضي للزراعة وإنتاج المزيد من المحاصيل واستهلاك المزيد من الموارد، في حين أن مانحتاجه هو إيجاد توازن بين انتاج المزيد من الأغذية وبين استدامة الكوكب (أو بالأحرى الحياة على الكوكب) للأجيال المقبلة". وهذا لايمكن أن يتم من دون انتفاضة أولاً ضد الأنا الأنانية الانفصالية، الفردية والجماعية.
من دون جناح هكذا انتفاضة على الوعي القديم التدميري، لن يكون بمقدور العنقاء البيضاء الإقلاع والولادة من جديد، وستكون اليد العليا لجماعات البيئة المتطرفين الذين يدعون إلى تدمير الجنس البشري( مرجع وهوامش وأسماء).
ماذا الأن عن الجناح الثاني للعنقاء البيضاء: النظام الاقتصادي- الاجتماعي الجديد المطلوب بإلحاح؟
يجب القول، أولاً، أن التجارب التاريخية مع الحلول الأنجع للمعضلات البشرية، الفردية منها والجماعية، والتي انتجت كل هذه الجهنمات على الأرض، كانت تتعثر لأنها كانت في الدرجة الأولى نتاج فكر متعثر ومجزأ ومقسَّم. فالمثاليون حاولوا حصر الحلول على المستوى الفكري منذ الفلسفة الإغريقية إلى هيغل، أو الروحية البحت ( الفلسفات الشرقية والصوفية والأديان على أنواعها) أو السايكولوجية (علم النفس الغربي الحديث، ماعدا علم النفس النقدي). والماديون حصروا الحلول على المستوى السياسي (التيارات الماكيافيلية) أو الاقتصادي (الرأسمالية والاشتراكية الستالينية)، فأسقطوا من الاعتبار المهمة الحاسمة المتعلقة بتطوير الوعي والروح الكُليين لدى الفرد والجماعات في كل المجالات الثقافية والتعليمية والفكرية والسايكولوجية.
كما أن كلا الطرفين معاً (ماعدا التيارات الأدبية الرومانسية) أسقطت من هذه الحلول ضرورة إعادة النظر بعلاقة البشر مع أمنا الطبيعة، وبالتالي ساهمت تطبيقاتهما العملية في الدمار الراهن والشامل الذي لحق بالبيئة.
لكن يتبين الآن في ضوء مرحلة الأزمة الوجودية الكبرى التي تعيشها البشرية أن الاعتماد على الحلول الفردية وحدها من دون تغيير البنى والهياكل الاقتصادية- الاجتماعية التي تستند إليها الأنا الأنانية وتترعرع فيها، هو حرث في البحر ويحتاج إلى آلاف السنين كي يؤت ثمره، هذا إذا ما آتى ثماره على الإطلاق. وبالمثل، فأن تغيير البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية من دون تطوير الوعي وإطلاق القوى الروحية لدى الفرد والجماعات، لن يؤدي سوى إلى الاستبداد على أنواعه الاشتراكي كما الرأسمالي وسوى إلى مواصلة الحرب البشرية الانتحارية على البيئة.
وبالتالي، إنتفاضة العنقاء البيضاء على الأنا الأنانية ودمار البيئة، يجب أن تترافق وتُستكمل مع انتفاضة على الهياكل الاقتصادية- الاجتماعية الراهنة التي تتغذى منها الأنا الانانية.
وفي حال تكامل بناء رأس العتقاء البيضاء مع تشكيل جناحيها: الثورتان البيئية والاقتصادية - الاجتماعية، فسيتمكن هذا الطائر الأسطوري من التحليق لينقذ الجنس البشري والحياة على الأرض. اما إذا فشلت عملية البناء، فستحترق العنقاء، لكن هذه المرة من دون ولادة جديدة.
(انتهى)
سعد محيو

الجمعة، 6 يونيو 2014

العالم ينفجر(الحلقة-4): ولادة "العنقاء البيضاء"



- I -
قلنا بالأمس أنه لايزال ثمة أمل في إنقاذ الجنس البشري، ومعه الحياة برمتها على كوكب الأرض، من الانقراض والدمار. وهذا يعتمد أولاً وأخيراً على ولادة وعي جديد بدأت تتبلور معالمه الرئيسة في أجزاء عديدة من العالم.
يمكن تشبيه الوعي الجديد الناشيء بطائر العنقاء أو الفينيق. وهو تشبيه له معانٍ وأبعاد عميقة. الوعي القديم (السائد حاليا) المستند إلى الأنا الأنانية (Ego )، والمآسي والحروب، والانفصال الكارثي عن والكون والطبيعة، يجب أن يحترق قبل أن يولد الوعي الجديد. الديالكتيك هنا واضح للغاية، لأن الوعي الجديد يشكِّل بالفعل نقيض أو نفي الوعي القديم.
 كل ألف عام، كما ورد في الأساطير،  تريد العنقاء أن تولد ثانية، فتترك موطنها وتسعى صوب فينيقيا وتختار نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى عنان السماء، فتبتني لها عشاً هناك. بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد: دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي، وتحمل كل بقايا جسدها القديم إلى مذبح الشمس في هليوبوليس بمصر. ويُحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب، قبل أن يعود إلى بلده في الشرق.
هذه هي أسطورة العنقاء كما ذكرها المؤرخ هيرودوت، واختلفت الروايات التي تسرد هذه الأسطورة. العنقاء أو الفينكس، هو طائر طويل العنق لذا سماه العرب "عنقاء". أما كلمة الفينيق (الفينكس) فهي يونانية الأصل وتعني نوعا معينا من النخيل. وبعض الروايات ترجع تسمية الطائر الأسطوري إلى مدينة فينيقية، حيث أن المصريين القدماء اخذوا الأسطورة عنهم فسموا الطائر باسم المدينة.
نشيد الإله رع التالي (حسب معتقدات المصريين القدماء) يدعم هذه الفكرة، حيث يقول: "المجد له في الهيكل عندما ينهض من بيت النار. الآلهة كلُّها تحبُّ أريجه عندما يقترب من بلاد العرب. هو ربُّ الندى عندما يأتي من ماتان. هاهو يدنو بجماله اللامع من فينيقية محفوفًا بالآلهة". والقدماء، مع محافظتهم على الفينكس كطائر يحيا فردًا ويجدِّد ذاته بذاته، ابتدعوا أساطير مختلفة لموته وللمدَّة التي يحياها بين التجدُّيد والتجدُّد.
بعض الروايات أشار إلى البلد السعيد في الشرق على أنه في الجزيرة العربية وبالتحديد اليمن، وأن عمر الطائر خمسمائة عام، حيث يعيش سعيدا إلى أن يحين وقت التغيير والتجديد، حينها وبدون تردد يتجه الطائر مباشرة إلى معبد إله الشمس (رع) في مدينة هليوبوليس، وفي هيكل رَعْ، ينتصب الفينكس أو العنقاء رافعًا جناحيه إلى أعلى ثم يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا. وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان وكأنهما مروحة من نار. ومن وسط الرماد الذي يتخلف يخرج طائر جديد فائق الشبه بالقديم يعود من فوره لمكانه الأصلي في بلد الشرق البعيد.
- II -
لقد ضاعت مصادر الرواية الأصلية في زمن لا يأبه سوى بالحقائق والثوابت، ولكن الثابت في القصة هو وجود هذا الطائر العجيب الذي يجدد نفسه ذاتياً.
عنقاء وعينا الجديد تحمل كل مواصفات الخلق الجديد. فهي بيضاء اللون لأنها تحمل إلى كوكب الأرض أخيراً معاني السلام الداخلي لكل إنسان والسلام الخارجي لكل البشر والمخلوقات. وهي بتجددها يتجدد الوعي الكوني الذي يجب أن ينشر الحِكمة، حتى قبل المعرفة، والذكاء الخلاق قبل الذكاء النفعي، والحياة التي تتفتح فيها كل أنواع الورود في كل الكون.
رأس العنقاء البيضاء هو الأنا الجديدة، الحقيقية، الحاملة للوعي الصافي. أحد جناحي العنقاء هو بُعْدُ الانتفاضة البيئية التي ستوقف حرب البشر الانتحارية ضد الأم غايا، والجناح الآخر هو الانتفاضة الاجتماعية- الاقتصادية التي ستعمل على بناء مجتمع متحرر من الجنون الرأسمالي الجامح ومستند إلى التعاون الخلاق. أما جسم العنقاء فهي جماعات الوعي الكوني الجديد التي بدأت تولد في كل أصقاع الأرض.
رأس العنقاء، أي وعي الأنا الصافية سيعيد هرم الذكاء الإنساني المقلوب على رأسه إلى وضعه الطبيعي بعد أن يحرره من هيمنة الوعي الأناني. حتى الآن هذا الذكاء، الذي ليس أكثر من كونه نقطة صغيرة في بحر الذكاء الكلي، كان عُرضة إلى التشويه على يد الأنا الأنانية. إيكهارت تول يدعو ذلك "الذكاء في خدمة الجنون"، ويعطي مثلاً على ذلك عملية فلق الذرة. هذه العملية تتطلب ذكاء فائقاً، لكن استخدام هذا الذكاء لبناء وتخزين القنابل النووية هو عمل جنوني لايمت للذكاء بصلة. وهذا يدل على أن الذكاء يمكن أن يبني حضارات معقدة ومتطورة، لكنه غير قادر وحده على الحفاظ على هذه الحضارات من التدمير الذاتي والاندثار. الأمر في حاجة إلى حكمة ورحمة ورعاية الوعي الصافي. الذكاء يمكن أن تقوم به مخلوقات غير واعية أو شبه واعية، كما هو واضح في ذكاء الغرائز لدى الحيوانات والتفاعلات الكيميائية- المعلوماتية لدى النباتات. لكن الوعي وحده هو القادر على جعل الذكاء يعي ذاته، فيعطيه بالتالي معنى وهدفاً، ويجعله أكثر اهتماماً بما لايقاس بمعرفة الحقيقة الكلية لا الحقائق الجزئية المتبدلة المادية، وحتى النظرية.
كثيرة هي الكتب التي تطرقت إلى كيفية تحرير الوعي الصافي من الوعي الأناني، لكنها كلها تتقاطع حول الأفكار الرئيسة التالية:
- الإدراك بأن الوضعية الراهنة للعقل البشري تتضمن مايمكن أن يوصف بأنه "خلل" أو حتى "جنون" أو بالأحرى مرض عقلي جماعي. الفلسفة الهندية تطلق على هذا المرض اسم "مايا" أي قناع الوهم، والبوذية "دوكا" أي الشقاء والمعاناة، والمسيحية "الخطيئة الأولى"، أي عدم فهم طبيعة الوجود الإنساني، والاسلام... وكل هذا سبَّب الحروب والدمار طيلة جل التاريخ البشري. وبالتالي، الخطوة الأولى للخلاص من هذا المرض هو التخلص من سببه الرئيس: الأنا الانانية (التي سماها اينشتاين "الوهم البصري للوعي") والتي تتغذى من الحقد والكراهية والقلق والتوتر والتعلّق بالأشكال المادية المتغيرة باستمرار، من عبادة جسد لايلبث أن تتدهور وضعته وقدراته إلى التمسك بوهم ملكية خاصة أو عمليات استهلاك لا ديمومة لها ولن توفّر لا الخلود بالطبع ولا السعادة للإنسان.
- السبيل إلى تدمير هذه الأنا الأنانية يكمن أولاً وأساساً  في وعيها وإدراك الاشكال المختلفة التي تتخذ، من التعلّق بذكريات الماضي المؤلمة إلى القلق المرضي من المستقبل؛  واستبدال هذا النمط من التفكير الأنوي  والانفعالات الصاخبة بيقظة "مباركة" (عبر ممارسة التأمل بكل أنواعه، خاصة يوغا التنفس- هامش) تؤدي إلى تهدئة العقل وسلامه الداخلي.
- ثمة تطور موضوعي سيحدث آجلاً أو عاجلاً، ولن يحتاج إلى تدخل عامل إنساني لتحقيقه، وهو أن كل بنى وهياكل الأنا الأنانية المتكلسة، من المؤسسات والحركات الدينية المغلقة، والشركات الكبرى متعددة الجنسيات، والحكومات، ستتحلل بالتدريج من داخلها مهما كانت تبدو الآن متجذرة وقوية. وهذا سيحدث لها كما حدث من كل لكل المؤسسات التوتاليتارية المتمحورة حول الأنا الأنانية الفردية والجماعية في التاريخ. لماذا؟ لأن هذه البنى والهياكل لم تعد قادرة على معالجة أو حتى التعايش مع الأزمات الوجودية الكبرى الراهنة التي يواجهها العالم، والتي تهدد الآن بدفع كلٍ من الجنس البشري إلى الانقراض والحياة برمتهاعلى الأرض إلى الاندثار. أحد القوانين الذهبية للتطور تثبت ذلك. فحين يكون البقاء على قيد الحياة مهددا، سيكون على الفرد أو الجنس إما التطور وتجاوز حدود ظروفه الراهنة، أو الفناء والانقراض.
- الوعي الجديد لن يكون ديناً جديداً، أو إيديولوجيا أو أسطورة جديدتين، بل هو تبلور لعقل جماعي وثقافة جماعية ستخلقها كل الهيئات والتيارات التي تعمل الآن في كل أنحاء العالم للانتقال بالتطور البشري إلى مرحلة جديدة. هذا العقل وتلك الثقافة ستكونا متحررتين من كل موبقات الوعي القديم من اندفاع الأنا الأنانية إلى احتكار الحقيقة المطلقة وبالتالي تكفير أو تهميش الآخرين عبر الصراعات والحروب، إلى الانفصال عن الكل والكون والطبيعة. وبالتالي، لن يكون ممكناً تحوُّل تيار الوعي الجديد إلى دين مغلق آخر، أو إيديولوجيا تدميرية أخرى، أو انظمة اعتقاد إقصائية أخرى. العكس سيكون صحيحاً، حيث سيؤدي التحرر من الأنا الأنانية إلى تفتح ملايين ورود وأزهار الحب الجماعي، والحكمة، والتعاون الجماعي في مجال البحث المتجرد عن الحقيقة وحل ألغاز الوجود.
- III -

هذا إذاً عن رأس العنقاء البيضاء. ماذا الآن عن جناحيها: البيئة والنظام الاجتماعي- الاقتصادي الجديد.
(غدا الحلقة الأخيرة).

سعد محيو

الخميس، 5 يونيو 2014

العالم ينفجر (الحلقة3): الصين وأميركا تقرران مصير العالم



- I -
قلنا في الحلقة الثانية أمس أن العالم يستعد لولادة المرحلة السادسة من السلطة العالمية خلال قرن واحد، والتي سيكون فيها للتطورات الداخلية في كل من الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة النظام العالمي الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
لكن كيف؟
كما أن الدول الكبرى كالصين وروسيا والهند وأوروبا تشهد صعوداً خطراً للقوميات المستندة في غالب الأحيان إلى الإديولوجيات الدينية، كذلك سيكون الحال في القوة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة، التي تمر هي الأخرى بمرحلة اختبار عصيبة في علاقتها مع العولمة، على رغم أنها زعيمتها وملهمتها التجارية والثقافية والتكنولوجية.
فإذا تمكنت أميركا من تجديد بناها التحتية المتهالكة، وإعادة شحن بطاريات قدراتها الإبداعية التكنولوجية، واستعادة تفاؤلها التاريخي الشهير من خلال مايقترحه بريزينسكي من "تحويل الحلم الأميركي الفردي إلى حلم وطني جماعي"، والتغلب على شلل نظامها السياسي وجشع رأسماليتها المالية، فإنها ستمتلك مايكفي من الثقة بالنفس كي تتأقلم مع صعود الصين إلى سدنة القيادة العالمية، وكي تقبل المشاركة في نظام عالمي تعددي جديد تكون فيه هي فقط الأول بين متساوين لا أكثر.
أما إذا مافشلت في تحقيق نهضتها هذه، فإنها ستتجه إلى التقوقع على نفسها وإلى إطلاق العنان للقومية الأميركية التي ستعيد حينذاك قسمة العالم، الذي وحدته العولمة في سوق واحد، بين "نحن وهم" و"انا والآخر". وهذا قد يتجلى في نسف ترتيبات كل من مرحلتي نهايات الحربين العالمية الثانية والباردة، ثم في إقامة نظام غربي جديد منغلق على ذاته وفي حالة حرب شاملة مع "الآخر" الأسيوي والإسلامي.
- II -
الأمور ستعتمد أيضاً على التطوارت الداخلية في الصين. فطيلة القرنين الماضيين، شهدت هذه الأخيرة اضطرابات محلية عنيفة تضمنت حروباً محلية وخارجية عنيفة، وهي لم تستقر إلا خلال السنوات الثلاثين الماضية. فالقرن التاسع عشر كان بالنسبة إليها حقبة من التفجرات والتآكل والتدخلات الأجنبية السافرة التي ترافقت مع تنازلات مذلة من جانبها. والقرن العشرون شهد صراعات وحروباً أهلية متواصلة تقريباً في سياق يقظة الصين السياسية، من ثورات صن يات صن وتشين كاي تشيك اللذين فشلا في تحديث الصين، إلى ماوتسي تونغ الذي أغرق البلاد في حمأة اضطرابات على النمط الستاليني الوحشي. وقد تطلب الأمر انتظار انتصار تنغ هسياو بنغ على خصومه في الحزب الشيوعي كي تنهض الصين اقتصادياً على إيقاع رأسمالية الدولة، فكانت بذلك أول دولة في التاريخ يبني فيها حزب شيوعي رأسمالية.
والآن، تقف الصين الصاعدة على مفترق طرق بين خيارين  إثنين: الأول، خطر وهو أن تصبح قوة قومية على النمط الأوروبي في القرن العشرين، فلا تتمتع بالصبر التاريخي (كما هي الآن)، ويسيطر عليها الجيش الصيني العملاق ذو الطموحات الإقليمية والجيوسياسية الواسعة. وهذا سيدفع العالم، أو على الأقل قارة آسيا- الباسيفيك، إلى شفير الظروف الخطرة والمدمرة التي سادت عشية الحرب العالمية الأولى.
أما الخيار الثاني فهو يتضمن نجاح الحزب الشيوعي الصيني في تزويج الديمقراطية التعددية على النمط الغربي في نهاية المطاف مع الفلسفتين الكونفيشيوسية والبوذية، وذلك في إطار مبدأ "التناغم" الذي تطرحه الصين الآن على العالم والذي بلورته من خلال هاتين الفلسفتين. ومثل هذا التطور سيسمح بادماج القوة الصينية الصاعدة في نظام عالمي جديد بسلام.
- III -
أي من هذه الخيارات الأقرب إلى التحقق في أميركا والصين؟
من الصعب الجزم الآن. لكن، إذا ماتذكرنا أن المستوى الراهن من الوعي البشري لايزال يستند، كما كان منذ عهد البشرية بحياة الكهوف، إلى مبدأ صراع البقاء وحروبه المتصلة، فإننا قد نغلّب خيارات الصراعات والحروب والتنافس القاتل على الموارد والأسواق على سيناريوهات الوئام والتناغم.
فأميركا لن تتنازل بسهولة عن زعامتها العالمية، التي بات رخاؤها ودولارها القوي يعتمدان كلياً عليها، إلا إذا ماحدث لها كما حدث للاتحاد السوفيتي الذي لم يفكك امبراطوريته العالمية سوى بعد تحلله هو نفسه. والواقع أن العديد من المحللين  بدأوا في الآونة الأخيرة في رسم خطوط التشابه بين المراحل الأخيرة من نهايات الاتحاد السوفييتي وبين الأزمات الراهنة التي تغشى الولايات المتحدة.
والصين أيضاً قد تنسج على منوال الصراعات والمجابهات نفسه، لأن التحديات الكبرى التي تواجهها في الداخل (من الفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء، وبين الريف والمدينة، إلى الفساد والتلوث وصعود طبقة وسطى ضخمة (300 مليون نسمة) تطالب بالمشاركة في صنع القرار)، قد يدفع الحزب الشيوعي، أو الجيش الصيني، إلى تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج من خلال النزعة القومية المتصلبة.
لاأحد بالطبع يتمنى تحقق هذه السيناريوهات المدمرة. بيد أن عجز البشر (حتى الآن على الأقل) عن تطوير وعي جديد يستبدل صراع البقاء (الرأسمالي) الراهن الذي فقد في الواقع مبررات وجوده، وعن إبرام صلح تاريخي مع أمنا الطبيعة ومع أنفسنا، سيجعل من هذه الخيارات نبؤءة ذاتية التحقق.
دققوا قليلاً بمايجري حولنا، من صعود القوميات الفاشية في أوروبا، (غربها كما شرقها)، وفي آسيا (الصين، اليابان، الهند، دول جنوب شرق آسيا)، وفي الشرق الأوسط (تنافس القوميات التركية والإيرانية واليهودية)، والتي تتزاوج كلها في غالب الاحيان مع الأصوليات الدينية المتطرفة، فماذا ستستنتجون؟
أليس الإنسان لايزال حقاً العدو الأول لنفسه؟.
لكن مع ذلك، لايزال ثمة أمل في مستقبل مغاير.
كيف؟
(غدا الحلقة الأخيرة).
سعد محيو







العالم ينفجر (الحلقة 2): "الذئاب" يتسابقون على "الفرائس"


اتصلت د. لطيفة محمدية  والعديد من القراء وأبلغوا كاتب هذه السطور أن المقال الثاني من سلسلة "العالم ينفجر" غير ممكن التحميل. ولذلك نعيد هنا نشر هذه الحلقة:



- I -
أشرنا في الحلقة الأولى أمس إلى أن فشل بوش الأبن في تحقيق مشروع النظام العالمي الجديد وعجز أوباما عن بلورة مشروع بديل، قد تركا أميركا، ومعها العالم، معلقين بخيط رفيع في الهواء، ماجعل "ذئاب مقاطعات "الامبراطورية الأميركية تشتم رائحة الدم وتبدأ البحث عن فرائسها الخاصة في محيطها الإقليمي المباشر.
هذه الواقعة أكدها زبغنيو بريزينسكي، في كتابه الأخير "رؤية استراتيجية"(*)، حين أشار (ص77) إلى "أن الأرجح أن  قادة قوى المرتبة الثانية في العالم، على غرار اليابان والهند وروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، بدأوا بالفعل في تقدير تأثيرات التراجع الأميركي على مصالح كل منهم القومية. لا بل أكثر: هذه التأثيرات بدأت أصلاً في تشكيل أجندات التخطيط لدى الدول الكبرى الرئيسة، وحتى في إملاء سياساتها عليها".
آثار أقدام هذه الفرضية منتشرة في كل مكان تقريبا: فاليابان، مثلاً، التي تخشى بشدة من هيمنة الصين على البر الآسيوي، ربما تفكر الآن بإقامة علاقات وثيقة مع أوروبا. كما ان قادة اليابان والهند الحاليين ربما هم منهكون حالياً في دراسة آفاق تعاون سياسي وحتى عسكري بينهم كبوليصة تأمين في حال تعثرت أميركا وصعدت الصين. أما روسيا- بوتين، وعلى رغم أنها منهمكة في تفكير رغائبي (أو حتى في نزعة شماتة) حيال مستقبل الولايات المتحدة الغامض، إلا أنها توجه كل اهتمامها إلى الهيمنة على دول الاتحاد السوفيتي السابق كأهداف اولية لطموحاتها الجيو- استراتيجية الأعم.
نأتي الآن إلى الاتحاد الأوروبي. فشبه القارة هذه، تبدو متجاذبة في اتجاهات مختلفة بسبب عجزها عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متجانسة. فألمانيا وإيطاليا تيممان وجهيهما إلى روسيا لأهداف اقتصادية وتجارية. وفرنسا التي تغار من قوة الاقتصاد الألماني، تبحث عن موازن له مرة في أميركا ومرة أخرى في روسيا. ودول وسط أوروبا التي لاتشعر بالطمأنينة تحبذ اتحاداً أوروبياً أقوى لمجابهة روسيا. هذا في حين تجهد بريطانيا، كعادتها، لإقامة توازانات دقيقة في القارة الأوروبية، فيما تواصل الحفاظ على علاقات خاصة مع الولايات المتحدة "المنحدرة".
ويشدد بريجنسكي هنا على أن الأمر نفسه ينطبق على القوى الإقليمية. فالبرازيل تنشط لاقتطاع مناطق نفوذ لها في نصف الكرة الجنوبي. وجنوب إفريقيا ونيجيريا تتنافسان على مناطق السيطرة في القارة الإفريقية. أما في الشرق الأوسط، فالسباق على أشده بين كلٍ من تركيا وإيران وإسرائيل للسيطرة على (أو اقتسام) تركة النظام الإقليمي العربي المريض.
- II -
هذه المعطيات تعني شيئاً واحدا: ثمة مرحلة انتهت في النظام الدولي الراهن الذي أقامته الولايات المتحدة غداة انتصارها في الحرب العالمية الثانية، والكل يستعد الآن للانضمام إلى المرحلة السادسة من تغيرات السلطة العالمية.
لماذا المرحلة السادسة؟
 لأن العالم شهد قبلها في الفترة بين 1910 و2010 خمس مراحل في عمليات انتقال هذه السلطة. فعشية الحرب العالمية الأولى، كانت الامبرطوريتان البريطانية والفرنسية تسيطران عالمياً وكانتا متحالفتين مع روسيا القيصرية الضعيفة التي تعرضت إلى هزيمة على يد اليابان العام 1905. المعارضة لنظامهما العالمي جاءت من ألمانيا الصاعدة المتحالفة مع الامبراطوريتين المتهالكتين العثمانية والمجرية- النمساوية. وقد لعبت أميركا ذات الحيوية الصناعية آنذاك دوراً حاسماً في تحقيق فرنسا وبريطانيا النصر على ألمانيا.
في المرحلة الثانية، في حقبة مابين الحربين العالميتين، بدت بريطانيا مهيمنة عالمياً، لكن مع صعود مميز لأميركا. لكن في أوائل الثلاثينيات، كانت ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية تتحركان بقوة لنسف النظام العالمي القائم. في المرحلة الثالثة تمزقت أوروبا شر تمزيق في الحرب العالمية الثانية، ما انتج حرباً باردة دامت أربعين عاماً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. في المرحلة الرابعة، أسفرت هزيمة الاتحاد السوفيتي عن حقبة قطبية انفرادية أميركية قصيرة، ثم ما لبثت أن بدأت منذ العام 2010 المرحلة الخامسة التي لاتزال فيها أميركا مهيمنة، لكن مع صعود كوكبة من القوى الجديدة، لآسيا فيها دور كبير.
والآن، يستعد العالم لولادة المرحلة السادسة، والتي سيكون فيها للتطورات الداخلية في كل  من الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة النظام العالمي الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
كيف.
(غدا نتابع)
(* ) Strategic review: America and the crisis of global power.
Zbigniew Brezinski. Basic books, 2012.

سعد محيو

الأربعاء، 4 يونيو 2014

المواطن السوري بين وحشية الأسد ووحشية الحرب


- I -
ثمة حقيقة ليس في وسع لا المعارضة السورية ولا خصوم النظام السوري القفز فوقها: صحيح أن الانتخابات الرئاسية "التعددية" كانت "عاراً" ديمقراطياً وأخلاقيا، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن مأزق الخيارات المخيفة الذي يعيشها 22 مليون سوري بين وحشية الأسد أو وحشية الحرب الأهلية. بين الأمن داخل قفص الديكتاتورية الأمنية والعسكرية، وبين غابة اللاأمن خارج القفص.

هذا مادفع العديد من السوريين إلى الاقتراع لصالح تمديد رئاسة الأسد كي تصل إلى 21 سنة متصلة، إضافة بالطبع إلى اقتراع الأقليات العلوية والمسيحية له، التي تؤمن  بالفعل أن نظام الأسد هو ضمانتها في صراع البقاء الجديد.
أجل. النظام مارس التهديد والوعيد لحمل الناخبين إلى صناديق الاقتراع، إما عبر الترويج بأن من يرفض الانتخاب سيخسر وظيفته العامة أو حياته الخاصة. لكن أجل أيضا: كثرة من السوريين التي وقفت بقوة إلى جانب الانتفاضة قبل ثلاث سنوات، ربما باتت مستعدة الآن لقبول بقاء عائلة الأسد في السلطة، إذا ماكان ذلك سيعني انتهاء مأساة التهجير والقتل والتدمير.
ومن يستطيع أن يلوم المواطن السوري إن هو انحاز إلى هذا الخيار، فيما هو يرى بدائل النظام إما في داعش أو النصرة اللتين فتحتا على حسابهما حربهما الاهلية الخاصة، أو في معارضة إسلامية مسلحة "معتدلة" تعتاش على التنفس الاصطناعي المالي الخليجي، أو في معارضة سياسية خارجية "تعاني" التشرد في فنادق الخمسة نجوم في أوروبا وتركيا.
من يستطيع أن يلوم هذا المواطن، وهو يرى المجتمع الدولي وقد أدار ظهره لأخطر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية (وفق توصيف الأمم المتحدة)، على رغم الأسلحة الكيميائية، والبراميل المتفجرة، والتدمير المنهجي لأكثر من نصف البنيان السوري ومعه أكثر من مليون قتيل وجريح؟
"نظرية المؤامرة" المنتشرة على نطاق واسع الآن تقول ن إدارة أوباما تراجعت عن كل خطوطها الحمر في سورية، ليس لأنها لاتريد الانجرار إلى حروب جديدة في العالم الإسلامي، كما تقول، فيما هي تنسحب من أفغانستان وقبله العراق، بل بالدرجة الأولى لأن إسرائيل لاتزال تتمسك بما أعلنه رامي مخلوف منذ بداية الحرب الاهلية: "أمن إسرائيل من أمن النظام السوري الحالي".
لكن، وحتى لو كانت نظرية المؤامرة هذه غير صحيحة، إلا أن الوقائع تشير إلى أن الولايات المتحدة وبقية السرب الغربي "اقترعت" هي الأخرى إلى جانب خيار إشاحة النظر عن المأساة السورية المروعة، والتركيز بدلاً من ذلك على الأرباح الاستراتيجية التي قد تحصدها في حال استمرت الحرب، أو بالأحرى، الحروب الداخلية وحروب الآخرين على الأرض السورية.
كيف ؟
- II -

الإجابة تكمن في معادلة بسيطة: كل شهر يمر في هذه الحرب، يكلّف إيران ما بين 600 مليون إلى مليار دولار شهرياً (طهران تدفع رواتب كل موظفي الدولة السورية). وإذا ما أضفنا إلى ذلك التمويل الإيراني الكثيف لمقاتلي حزب الله اللبناني في سورية (خمسة آلاف كما يشاع) وميليشيات أبو الفضل العباس الشيعية العراقية والعناصر الشيعية الباكستانية(عشرة آلاف كما يقال)، فإن الكلفة الإيرانية السنوية قد تصل بالفعل إلى مايتراوح بين 15 إلى 20 مليار دولار. وهذا استنزاف مريع لبلد مثل إيران يعاني شبابه من 30 بالمئة من البطالة، فيما40 في المئة من السكان تحت خط الفقر ويحتاجون الدعم الحكومي المباشر في طعامهم اليومي. ولذلك، لم يكن غريباً أن يصف الغربيون حرب سورية بأنها "فيتنام أو أفغانستان الإيرانية".
إلى جانب إيران، هناك الورطة الروسية، الأخلاقية والدبلوماسية والمالية بل وحتى الاستراتيجية، في سورية. فموسكو تخسر كل يوم من رصيدها المعنوي العالمي، الذي راكمه الاتحاد السوفييتي السابق على مدى 70 عاماً بوصفه الأخ الحاني على العالم الثالث. وعلى رغم أن الرئيس بوتين يستمتع الآن بكونه لاعباً كبيراً على الشواطيء المتوسطية الدافئة بعد غياب روسي دام نيفاً وربع قرن، إلا أن الرضى الذاتي هو في الواقع وهم ذاتي، لأنه حتى لو بقي حليفه الأسد في السلطة، إلا أنه لن يبق هناك شيء اسمه سورية كدولة يرتع فيها النفوذ الروسي. لن يكون هناك سوى ملايين الأفواه الجائعة وملايين أخرى من المنازل والمدارس والمستشفيات والبنى التحتية التي ستحتاج إلى مئات مليارات الدولارات لإعادة بنائها.
ثم هناك أيضاً إسرائيل، التي تفيق كل صباح لترك يديها فرحاً وهي ترى سورية، ومعها "التوازن الاستراتيجي" الذي سعى إليه الرئيس حافظ الأسد يتمزقان إلى أشلاء، فيما خصمها حزب الله يغرق أكثر فأكثر في وحول مستنقعات ليس لها قرار.
- III -

لاأحد، إذا، في الغرب على عجلة من أمره لإنهاء المأساة السورية المروعة. لكن لا أحد أيضاً (غير ربما الرئيس الأسد نفسه وحاشيته) يعتقد أن الرئيس السوري في وسعه، بسبب، ذلك استعادة السيطرة على البلاد أو إعادة بناء نظامه حتى ولو معدلا. فالنظام انتهى منذ أمد غير قصير. وأنانيب التنفس الاصطناعي التي يمده بها النظام الإيراني، عرضة في أي لحظة إلى السحب، إما بفعل صفقة سرية أميركية- إيرانية، أو لأن إيران ستكون عما قريب بين خيار وقف دعم الأـسد (أو حتى ربما إغتياله) أو إفلاسها هي.
صور الأسد وقرينته أسمى، وهما يبتسمان خلال الاقتراع، ربما تعكس موازين القوى الراهنة في سورية بعد المكاسب على الأرض التي حققها النظام وحلفاؤه الإيرانيون. لكن هذه بالتأكيد ستكون لحظة عابرة. فالآتي بعد التمديد للأسد سيكون أعظم، لأن هذا التمديد عنى في الواقع تمديداً رسمياً للحروب فوق أرض سورية.
وإذا ما كان الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى الأسد، فإنه سيكون على هذا النحو أيضاً للمواطنين السوريين حين تتغير موازين القوى (وهي ستتغير حتماً) وتصبح فرص مستقبل بديل خارج وحشية الأسد ووحشية الحرب أكثر وضوحا.

سعد محيو
(ملاحظة: غدا نتابع حلقات "العالم ينفجر)