للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

السبت، 29 يونيو 2013

مصر: ثورة جديدة.. أم "حرب أهلية"؟

مقال اليوم

- I -
ثمة حقيقة كبرى كشفت عنها أعمال العنف الأخيرة في مصر:
الدولة المصرية، بمؤسساتها، وهيبتها، وأدوارها، ناهيك بشرعيتها، انهارت أو تكاد؛ والمجتمع المصري بطبقاته الوسطى والفقيرة وطفرة الشباب الديمغرافية الكاسحة فيه (أي الغالبية الكاسحة من الـ90 مليون مصري)، لم يعد قابلاً للحكم لاوفق صيغ الجمهوريات السابقة ولا الملكية، ولا الآن مع صيغة سلطة الإخوان المسلمين.
فهذا المجتمع أسقط حاجز الخوف من الفرعون، المُتجسِّد رمزياً في مراكز الأمن والشرطة التي تُحرق مع كل مظاهرة، وأسقط معه إمكانية تعايشه مع المفهوم القديم للدولة، حتى ولو أضفى عليه الإخوان كل تلاوين الشرع وأحكام الشريعة وبريق "الاسلام هو الحل".
كتب مايكل حنا، من مركز الأبحاث الأميركي "سينتشري فاونداشن"(فايننشال تايمز/27-1-2013): "بعد الثورة، كان ثمة فرصة لإصلاح النظام، الأمر الذي تطلّب تضامناً سياسياً. بيد أن مثل هذا التضامن سرعان ما تفكك بعد سقوط مبارك. والآن ثمة أزمة سياسية وشرعية الدولة تلاشت".
هذه، من أسف، كانت حصيلة السنة الأولى لحكم الرئيس محمد مرسي: عجز مطبق عن بلورة إجماع وطني حول برنامج نهوض اقتصادي وسياسي ودستوري؛ فشل في التخلص من عقلية المعارضة السرية التي عاشها الإخوان طويلاً، والتي جعلت مرسي يشك في وجود مؤامرة ومتآمرين خلف كل زاوية في البلد؛ وتحويل مؤسسة الرئاسة إلى قيادة وطنية من خلال مواصلة الاعتماد على "الحكومة الخفية" لجماعة الإخوان.
- II -
إن الإشارة إلى فرضية أن المجتمع في وادٍ والدولة في وادٍ آخر، قد توحي بشىء من التبرير والتبرئة للأخوان المسلمين، لأنها تعني أن هؤلاء ليسوا هم من خلق هذه الأزمة- الفجوة الخطيرة. لكن الواقع ليس على هذا النحو، إذ أن هذه الجماعة لم تدرك حجم ومدى الزلزال الذي حدث في ثورة 25 يناير، واعتقدت (ولاتزال) أن في وسعها نقل البلاد من الثورة إلى الاستقرار عبر  إعادة انتاج الدولة نفسها مع تعديلات "إخوانية" عليها.
بيد أن هذا يثبت الآن أنه هدف مستحيل. فالخيار الحقيقي في مصر هو الآن بين أحد أمرين: إما إقامة دولة جديدة وعادلة وتنموية-انتاجية تلبي مطالب وتطلعات الغالبية الكاسحة من الناس، أو اللادولة والفوضى والحرب الأهلية. إما وفاق وطني يستند إلى تسوية تاريخية وعقد اجتماعي جديدين بين كل مكونات المجتمع المصري، أو الدخول رسمياً في مرحلة الدولة الفاشلة والانهيار الاجتماعي.
بالطبع، هناك دوماً الخيار الثالث المُتمثِّل في انقضاض القوات المسلحة على السلطة مجددا، تحت شعار انقاذ البلاد من الفوضى. بيد أن هذا الاحتمال القوي لن يسوي الأمور، لأن القيادة العسكرية ستقع هي الاخرى في فخ الحقيقة التي أشرنا إليها أعلاه: انهيار صيغة الدولة المصرية القديمة، واستحالة إعادة البناء على أساسها.
لكن، إذا ماواصلت جماعة الإخوان المسلمين تخبطها الذي يشبه السباحة في حوض لاماء فيه، وإذا ما استمرت المعارضة في التركيز على مطالب "انتهازية" (تتعلق أساساً بحصتها من مقاعد البرلمان) بدل طرح برنامج إعادة بناء وطني شامل، فمن يمكنه القيام بمهمة بناء دولة جديدة قادرة وحدها على انقاذ البلاد، عبر برنامج انتاجي اقتصادي يركّز على الصناعة والزراعة، وبيروقراطية نظيفة وكفؤة وفعّالة، ودستور وطني جامع؟
لايبدو، من أسف، أن مثل هذه القوى متوافرة حاليا. وهي إن كانت موجودة فبصوت ضعيف يكاد لايسمع، وبتأثير محدود للغاية على ديناميكيات التغيير الراهنة في البلاد.
وهذا الآن ماسيضع عملية الانتقال إلى الديمقراطية في مهب الريح، ويشرع الأبواب والنوافذ أمام احتمال اندلاع ثورة جديدة، أو حتى سلسلة ثورات في داخل ثورة واحدة، تتسم بالعنف الطبقي والفوضى الاجتماعية وحتى بالنزاعات المسلحة (السلاح يتدفق الآن على مصر من كل حدب وصوب).
والأرجح أن هذا ماسيحدث حتماً إذا ما فشلت نخب الموالاة والمعارضة في صك العقد الاجتماعي الجديد وفي تحديد ملامح الدولة الجديدة. وحينها، سيكون عنف الشارع هو القابلة القانونية الوحيدة لدولة مصرية جديدة.
والاختبار الأول لهذا الاحتمال سيحدث بعد غد (الأحد)، حين سيتضح ما إذا ماكان فرار الآلاف من المصريين الموسرين خلال الأيام القليلة الماضية من البلا\ عبر مطار القاهرة، هو نذير بأن ماتخوّف منه الأزهر من اندلاع الحرب الأهلية (أو على الأقل شكل مصري مميز منها) سينقلب أم لا إلى حقيقة واقعة.

سعد محيو



الاثنين، 17 يونيو 2013

أوباما وبوتين على ضفاف نهر الروبيكون




- I -
حين عبر يوليوس قيصر نهر الروبيكون (وهو نهر ضحل شمال شرق إيطاليا) العام 49 قبل الميلاد، تحتم عليه المضي قدماً للزحف على روما. ومن حينها بات تعبير "عبور الروبيكون" يعني نقطة اللاعودة.

شبح بوتين خلال مداولات البيت الأبيض (الصورة المركبة من غوغل

فهل عبر الرئيس أوباما نهر الروبيكون بقراره تسليح المعارضة السورية، وبات عليه المضي قدماً حتى النهاية في الانغماس في هذه الأزمة؟
السؤال يبدو منطقياً للغاية، لأن هذا الرئيس بذل جهوداً مضنية طيلة السنتين الماضيتين لتجنب أي تورط في هذه الحرب. وهذا شمل ليس فقط التشكيك بالتقارير الغربية والدولية المقنعة عن استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، بل أيضاً "استجداء" موسكو للعمل على إيجاد حل سياسي للأزمة.
بيد أن كل هذه الجهود ذهبت هباء منثوراً. والسبب الرئيس لم يكن تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية التي أكدت استخدام النظام السوري لغاز السيرين "في العديد من الحالات"، بل الاندفاعة الكبرى التي قامت بها إيران وحليفها حزب الله في العمليات العسكرية في سورية، والتي وصفتها "فايننشال تايمز" عن حق أنها كانت بمثابة خرق "الخط الاحمر" الثاني الذي رسمته واشنطن بعد الخط الأحمر الكيميائي.
والآن، وبعد أن وُضع التدخل الأميركي في سورية أخيراً على نار حامية، هل سيكون أوباما مجبراً على السير قدماً نحو روما (إقرأ دمشق)؟
- II -

ليس بعد.
إذ لايزال في كم أوباما ورقة لما يلعبها بعد: الضغط على الرئيس الروسي بوتين خلال قمتهما في شمال إيرلندا الأسبوع المقبل لدفع التسوية السياسية قدما، وإلا فإن الولايات المتحدة ستكون مضطرة إلى تصعيد تدخلها في سورية.
الكرة الآن ستكون في ملعب بوتين، الذي سيكون عليه أن يقرر ما إذا كان الرئيس الأميركي جاد في  تهديداته الخاصة بالانغماس في الأزمة السورية، أم أنه يستخدمها كمجرد ورقة لممارسة الضغط عليه.
والحال أن قرار بوتين لن يكون سهلا. فهو، من جهة، يبدو سعيداً بالانجازات العسكرية الأخيرة التي حققها النظام السوري بدعم قوي ومباشر من إيران وحزب الله، ويتمنى بالطبع أن تتوافر الفرص لمواصلة هذا التقدم وصولاً إلى إعادة السيطرة على مدينة حلب. وهو، من جهة أخرى،  يخشى بالفعل أن يكون تقدّم أوباما المتردد نحو التدخل، بداية لسلسلة مضاعفات غير مقصودة تدفع واشنطن في النهاية إلى التورط الكامل .
الخيط الأبيض من الأسود سيبين خلال قمة مجموعة الثماني الكبار الحالية، التي تحتل فيها الأزمة السورية مركز الصدارة، خاصة وأن بريطانيا وفرنسا ستجدان في القرار الأميركي بتسليح المعارضة السورية دفعة قوية لجهودهما لتدخل غربي أكثر فعالية في الحرب.
وهذا لن يجعل بوتين وحده محاصراً هذه المرة بموقف غربي شبه موحّد، بل سيسفر أيضاً عن محاصرة أوباما نفسه لمنعه من التراجع عن خطوة التدخل. فـ"دخول حمام" الأزمة السورية ليس كالخروج منه، كما يقول المثل الشعبي.
- III -
لكن، إلى أين الأزمة السورية في حال لم يستجب بوتين لضغط أوباما، أو أنه لن يكون قادراً على كبح جماح حلفائه السوريين والإيرانيين؟
إلى أحد سيناريوهين:
إما إلى أفغنة مديدة لسورية تتوزع فيها نحو 300 ميليشيا ( بما فيها ميليشيات النظام ووحدات حزبي الله اللبناني والعراقي) من مختلف الأصناف والأنواع السيطرة على أجزاء من البلاد على أسس مذهبية وطائفية وعرقية، وتكون كلٌ منها تابعة إلى قوة إقليمية ودولية.
أو امتداد الصراع ليصبح إقليمياً على طراز ماجرى في الهند الصينية في ستينيات القرن العشرين، حين تمددت الحرب الفيتنامية لتبتلع كمبوديا ولاوس. وحينها، سيتحوّل الهلال الخصيب برمته إلى مرتع لحروب دولية- إقليمية سيكون الهدف الحقيقي منها التأثير على تشكيل النظام العالمي الجديد.
أما التسوية السياسية الداخلية فهي، من أسف، لاتبدو في الأفق القريب، لأنه لا النظام ولا الجزء الأكبر من المعارضة ولا القوى الإقليمية النافذة تبدو مقتنعة بأن الحل السلمي هو المخرج الوحيد من الكارثة الراهنة.
على أي حال، الكثير سيعتمد على نتائج اجتماع أوباما- بوتين اليوم، لنرى ما إذا كان الأول عبر نهر الروبيكون بالفعل في مجال الانغماس في لجج الأزمة السورية، أم أنه أنه لايزال ينتظر الثاني على ضفة النهر!

سعد محيو






الخميس، 13 يونيو 2013

من القصير إلى حتلة: الحريق المذهبي يلفح وجه لبنان



- I -
السؤال الذي يقضّ مضاجع كل اللبنانيين هذه الأيام هو بالطبع: هل التحق لبنان أخيراً بالحريق الهائل السوري (وربما قريباً العراقي)؟
قبل محاولة الإجابة، ملاحظة تاريخية سريعة، لكنها ملفتة: هذا الوطن الصغير كان طيلة زهاء قرن ونصف القرن، أي منذ حربه الأهلية الأولى العام 1840، الساحة الرئيس التي جرى فيها خوض الصراعات الدولية- الإقليمية إما لنسف النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، أو لإقامة نظام جديد مكانه.
وحين كانت "حروب الأخرين" هذه تنفجر على أرض لبنان، كانت توفّر على بقية البلدان المجاورة مؤونة دفع أثمان بروز الامبراطوريات أو زوالها، فتهنأ هي بالهدوء فيما لبنان يشتعل بالحروب والأزمات (ذات الطابع الخارجي أساسا) كل عشر سنوات تقريبا. وهذا مادفع  رجل الدولة النمساوي الشهير ميترنيخ إلى وصف لبنان بأنه "هذا البلد صغير، لكنه عظيم الأهمية".
حسنا. الصورة انقلبت الآن للمرة الأولى منذ 173 سنة. فلبنان هاديء نسبياً حتى الآن، والعديد من دول المنطقة إما انفجرت (سوريا) أو هي في طريقها إلى الانفجار (العراق، مصر، إيران، الأردن.. ألخ). وهذا بالتحديد مايجعل اللحظة التاريخية الراهنة في بلاد الأرز مدهشة، ولكن مثيرة للقلق أيضا: هل يمكن لهذا الاستثناء التاريخي أن يستمر؟
- II -
ثمة نظريتان متناقضتان هنا:
الأولى تقول أن النيران الإقليمية المشتعلة لابد أن تصل في النهاية إلى لبنان. فما يجري الآن في المنطقة لايقل عن كونه ليس فقط نسفاً لأنظمة مابعد الحربين العالميتين الأولى والثانية الثانية، بل ربما أيضاً إعادة رسم للخرائط ولطبيعة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.
فضلاً عن ذلك: المجابهات من البحرين والمنطقة الشرقية السعودية واليمن، إلى العراق وسورية، تدور كلها في إطار ما أسماه البعض "الفتنة الكبرى-2" بين السنّة والشيعة، بعد أن وصل هؤلاء الأخيرين إلى السلطة في دولتين عربيتين (العراق ولبنان) للمرة الأولى منذ سقوط الخلافة الفاطمية العام 1173، أو في سياق مايسميه البعض الأخر "حروب الهلالين السنّي والشيعي" في الشرق الأوسط.
وهنا قد يفيد تذكُّر ما نُقِل عن السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله"  قبل سنوات قليلة من أن الاميركيين وغيرهم عرضوا عليه قبل فترة شيئاً شبيهاً بـ "الهلال الشيعي"؛ وأن رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري أبلغه  أنه تلقى هو الأخر عرضاً بإقامة "هلال سنّي " ينطلق من وسط العراق ليضم  الأردن ومعظم سوريا وأجزاء كبيرة من لبنان.
النظرية الثانية تعتقد أن لبنان لايزال قادراً على تجنّب الحريق الإقليمي الراهن. فهو قد يشهد اضطرابات أمنية، لكنها لن تصل إلى مستوى الحرب الأهلية.
لماذا؟
لأن الأطراف السياسية الرئيسة فيه، من حزب الله إلى تيار المستقبل، لامصلحة لها في خوض حرب أهلية في لبنان لن تسفر عن أي تغيير جذري في موازين القوى. ولذا فهي تبدو قانعة بخوض حروب بالواسطة (  Proxy wars) في سورية، وبمنع تمدد هذه الحرب إلى لبنان.
هذا العامل الذاتي الداخلي الرافض للتفجير يتقاطع، برأي أصحاب هذه النظرية، مع عامل دولي يتمثّل في منع تحوّل الحرب السورية إلى حريق إقليمي شامل لايمكن ضبطه أو التحكُّم بأبعاده، الأمر الذي قد يفرض مخاطر جمة على الأمن الإسرائيلي كما على المصالح الغربية.
لابل يقول هؤلاء أن اكتشاف الغاز والنفط بكميات ضخمة في لبنان، هو أيضاً من العوامل التي تحصّنه دولياً ضد الانفجار.
- III -

أي النظرتين الأقرب إلى الصحة؟
النظرية الثانية، لكن حتى الآن على الأقل.
إذ في حال تفجّر العراق مجدداً وانهار الوطن السوري ككيان سياسي موحّد، سيكون هذا بمثابة عاصفة كاملة لن يستطيع لبنان مهما فعل تجنُّب الوقوع في أتونها.
هذا إضافة إلى أن التورط الكامل لحزب الله في الحرب السورية، دشّن مرحلة تاريخية جديدة في الشرق الأوسط باتت فيها الأقليات الشيعية في مواجهة مباشرة مع الأكثريات السنّية. والمذبحة التي ارتكبت في قرية حتلة الشيعية شرق سورية، والتي يبدو أنها كانت رداً على مشاركة الحزب في إسقاط بلدة القصير، قد تكون أحد معالم البدايات الخطيرة الأولى  لصدام مروِّع بين السنًة والشيعة سرعان سيمتد لهيبه إلى لبنان.
سعد محيو

الأربعاء، 12 يونيو 2013

حلب، حلب، حلب



- I -
حلب ستصبح "عاصمة" الشرق الأوسط الكبير ومابعده أيضا.
هذا ماستكون عليه الأمور خلال أيام أو حتى ساعات. والسبب لايعود بالطبع إلى أن هذه المدينة الأقدم في العالم والتي يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل المسيح، والتب تعتبر الأكبر في المنطقة بعد اسطنبول والقاهرة، ستستعيد مجدها الغابر الذي ساد قبل فتح قناة السويس في القرن التاسع عشر وقبل أن تسيطر تركيا الأتاتوركية على ثغورها على البحر المتوسط، بل لأن الحرب (من أسف) ستجعلها محور صراع إقليمي- دولي يُتوقع له أن يكون عنيفاً وطاحناً وضروسا.
فإيران، التي وضعت كل ثقلها مؤخراً في الحرب الأهلية السورية، قاذفة إلى أتونها أهم ورقة استراتيجية لها (حزب الله) في موازين القوى مع إسرائيل، ستحاول الآن نقل استراتيجية اقتحام القصير الناجحة في القصير إلى حلب. وهذا واضح من خلال ماقاله قائد عسكري من حزب الله لـ"فايننشال تايمز" اليوم من أن هذا الأخير جاهز للمشاركة في "عاصفة الشمال" التي ينوي النظام السوري شنّها على المدينة.
والغرب سيكون عليه ان يقرر سريعاً ما إذا كان سيواصل ممارسة الصمت على التدخل الإيراني الكثيف في سورية، أم سيتحرك بسرعة لدعم المعارضة المسلحة في حلب. وهذا قد يتوضح اليوم بعد أن ينجز البيت الأبيض مشاوراته المكثفة حول مسألة تسليح المعارضة، أو فرض منطقة حظر جوي في شمال سورية، أو العودة إلى "استجداء" موسكو للاسراع في عقد مؤتمر دولي لا أمل له لا في النجاح ولاحتى في فرص الولادة بعد التطورات العسكرية الأخيرة.
كما قد تتضح الأمور أكثر حين تبرز حصيلة المحادثات المهمة التي جرت أمس بين القادة الفرنسيين والسعوديين، والتي ألمح بعدها وزير الخارجية الفرنسي فابيوس أنه "لايمكن السماح لإيران بالانتصار".
إلى ذلك، ينبغي أيضاً انتظار الموقف الذي ستتخذه روسيا، في حال قررت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والدول الخليجية وتركيا الرد على الانتصارات الاخيرة التي حققتها إيران في وسط سورية، عبر إلقاء ثقلها إلى جانب المعارضة المسلحة.
- II -
حلب، إذا، مرشحة لأن تكون النقطة التي ستتكثف فيها كل الصراعات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. وعامل الوقت هنا سيكون حاسما.
فإذا ما تلكأ الغرب، كما كان يفعل حتى الآن، في موازنة الانحياز الإيراني- الروسي التام إلى جانب النظام السوري، فإن إيران وحلفاءها الشيعة اللبنانيين والعراقيين قد يجدون الفرصة مؤاتية للانقاض السريع على حلب.
وعلى رغم أن هذه المدينة الكبيرة، التي كان يقطنها قبل الحرب 2،5 مليون نسمة والتي كانت تقع في نهاية طريق الحرير الشهير بين آسيا الوسطى وبين بلاد مابين النهرين، لن تسقط خلال أسبوعين او ثلاثة كما حدث لبلدة القصير، إلا أن صمود المعارضة فيها في وجه التكنولوجيا الروسية والإيرانية الحديثة التي يستخدمها النظام السوري وحزب الله (الطائرات من دون طيار، المدافع الموجّهة بالرادار، القذائف الذكية، الخبرات العسكرية المستقاة من حربي الخليج ولبنان.. ألخ)، سيكون أكثر صعوبة من ذي قبل.
أما إذا ماوصلت المساعدات العسكرية الغربية والخليجية بالسرعة اللازمة، ستتعرض إيران وحزب الله إلى حرب استنزاف منهكة للغاية، يتوقع أن يدفع هذا الأخير (الحزب) أثمانها الفادحة بسبب محدودية عديده البشري مقارنة بعديد الجيش السوري الحر وسنّة البلاد.
وهذا يعني أن مصير حلب، ومعه مصير النفوذ الإيراني في سورية وباقي أرجاء الهلال الخصيب، بات متعلقاً إلى حد كبير على عامل الزمن، وعلى سرعة اتخاذ القرارات الحاسمة. والأمر الأخير يتعلّق بالدول الغربية وحدها، لأن إيران اتخذت قرارها الاستراتيجي في الغوص حتى النهاية في لجج الحرب السورية تحت الشعار الشهير "ياقاتل يا مقتول".
الأمر منوط بنوع لون الدخان الذي سيخرج اليوم من مداخن البيت الأبيض، وما إذا كانت سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي الجديدة، ستنجح في إقناع الرئيس أوباما المتردد بأنه مالم يتحرك سريعاً للحد من التقدم الإيراني في سورية، فإنه سيخاطر بخسارة النفوذ الأميركي ليس فقط في سورية والهلال الخصيب بل أولاً وأساساً لدى دول الخليج العربية. إذ أن هذه الأخيرة ستكون حينذاك محقة بأن تشعر بالقلق على وجود أنظمتها من جراء ضعف المظلة الأميركية التي تحميها من النفوذ الإيراني، وأن تبدأ البحث لدى الدول الكبرى الأخرى عن مظلات أخرى أكثر أمنا.
وفي حال حدوث ذلك، ستكون الصين وروسيا والهند وبقية منظومة مجموعة العشرين أكثر من مستعدة لملء الفراغ الأميركي المحتمل.
- III -

كل الأنظار إلى حلب.

سعد محيو




الثلاثاء، 11 يونيو 2013

الشيعة والسنّة في لبنان: تكفير ثنائي ومذبحة واحدة


- I -
هل اكتمل نصاب الحرب الأهلية السنّية- الشيعية في لبنان؟ وإذا ماكان الأمر كذلك، فما طبيعة الحلّة الدموية التي سترتدي؟
الجواب على الشق الأول من السؤال هو نعم سريعة. والسبب يتبدى ليس فقط في الانخراط الكامل لحزب الله ولبعض الفصائل السنّية في لجج الحرب الأهلية السورية، ولا حتى في احتفالات الابتهاج الشيعي بسقوط القصير، بل أولاً وأساساً في التعبئة الإديولوجية والسايكولوجية التي سبقن المعارك العسكرية.
ولاعجب. فالحروب العسكرية تبدأ أولاً بكلمة وبـ"طلقة فكرية".
البداية الرئيس دشّنها حزب الله، حين أسبغ نعت "التكفيريين" على كل مقاتلي الانتفاضة السورية التي يناهز عددهم المئة ألف، وحين اعتبر نفسه في حرب شاملة ضدهم. وهكذا، أصبح "الآخر" بالنسبة له ليس جبهة النصرة وبعض الفصائل السلفية الصغيرة الأخرى التي تكفّر الشيعة  (ونسبة هؤلاء لاتتجاوز الـ10 في المئة)، بل إجمالي مقاتلي المعارضة.
هذا التعميم التكفيري، الذي عززته أجهزة إعلام الحزب بتكرار الصور المروّعة لجرائم ارتكبها  أفراد من المعارضة وهم يأكلون الأعضاء الداخلية لقتلى، أدى وظيفته على أكمل وجه وأقنع جمهور الشيعة بأن حرب كربلاء استؤنفت من جديد ضد "الظلمة السنّة" برمتهم. وهكذا أدى هذا التعميم إلى شبه إجماع كامل بين هذا الجمهور على ضرورة الاصطفاف وراء حرب الحزب في سورية باعتبار دفاعاً عن النفس.
"ذهبنا إليهم (في سورية) كي لايأتوا إلينا (في لبنان) لقتلنا". هذا ماكان الحزب يقوله للشيعة. وهذا مااقتنع به غالبية هؤلاء، على رغم أن هذا كان يجب أن يعني أيضاً منطقياً أنه يتوجب على الحزب أن يجتاح كذلك إسرائيل التي ستأتي فعلاً إلى معاقله لتدمر منازل الشيعة واللبنانيين إن عاجلاً أو آجلا.
- II -

التعبئة الشيعية إذا نجحت نجاحاً باهرا في استخدام شعار التكفير، الذي هو المقدمة البديهية لشرعية القتل. وهذا أيضاً مايحدث الآن في أوساط الشارع السني.
فشيوخ الوهابية السعوديين كانوا السباقين في تكفير حزب الله (فيما يهدد مجلس التعاون الخليجي الاقتصاص من جمهور الحزب في دول المجلس) وفي تسميته "حزب الشيطان" أو "حزب اللات". وبعدها كرّت السبحة:
فقد اعتذر الشيخ القرضاوي من الشيوخ الوهابيين لدفاعه عن الحزب العام 2006، وانضم إليهم في تكفيره ومعه مجمل الشيعة والعلويين. وأعتبرت جماعة الإخوان المسلمين في سورية أن "وطننا واقع تحت الغزو والاستباحة من أتباع ولي الفقيه ومن مقاتلين طائفيين لبنانيين وعراقيين"، ودعت السنّة إلى "الوقوف صفاً واحدا للدفاع عن العقيدة" واعتبار ذلك "أولوية الأولويات الشرعية والوطنية والسياسية". هذا في حين كان الشيخ داعي الإسلام الشهال، مؤسس التيار السلفي في لبنان يدعو " كل فرد سنّي وعائلة سنّية وجماعة سنّية إلى حمل السلاح استعداداً لمواجهة المرحلة المقبلة(ضد حزب الله").
والآن، وقد اكتملت ملامح التعبئة الإيديولوجية- السايكولوجية لدى الطرفين، إلى أين المسير؟
ستكفي شرارة هنا، وبعدها يندلع اللهيب الذي كان نائماً منذ ألف عام حين سقطت الخلافة الفاطمية العام 1171.
والشرارة قد تكون سيارة ملغومة في الضاحية الجنوبية الشيعة أو عملية انتحارية فيها ضد شخصية شيعية بارزة، يرد بعدها غلاة الشيعة بعمليات مماثلة في بيروت الغربية، فتتم "عرقنة" (من عراق) لبنان بسرعة قصوى. وعلى رغم أن أحداً لايتوقع (حتى الآن على الأقل) نشوب حرب خطوط التماس وفق نمط حرب 1975، إلا أن احتمال انقسام لبنان إلى خط تماس كبير بين جنوب شيعي وشمال سنّي، أمر وارد بقوة.
كذلك، لايستبعد أن تنتقل الشرارة إلى الجبل الدرزي، إذا مافشل وليد جنبلاط في إقناع حزب الله في تحييد منطقته عن الصراع (كما يحاول الآن)، بسبب حاجة الحزب الأمنية إليها لوصل مناطقه في الجنوب والضاحية جغرافياً بمواقعه في البقاع وصولاً إلى القصير وجبال العلويين. كما ليس عسيراً أن يتمدد اللهيب إلى الجبل المسيحي، إذا ما قرر حزب الله والعماد ميشال عون "تنظيفه" بقوة السلاح أو الترهيب من القوات اللبنانية.
علاوة على كل ذلك، لايجب أن ننسى الضغط الديموغرافي الكبير الذي يمارسه الآن مليون لاجيء سوري (معظمهم من السنّة)على الصيغة اللبنانية، وكذا الأمر بالنسبة إلىى صعود التيارات الأصولية السنّية في المخيمات الفلسطينية.
- III -

هل ثمة فرصة بعد لتجنّب هذا السيناريو الكارثي؟
التفكير الرغائبي قد يدفعنا إلى البحث عن إجابات إيجابية ما. لكن المستوى الهائل الذي وصلت إليه عمليات التعبئة والتكفير الثنائية بين الطرفين، إضافة إلى اندلاع الصدام الشيعي - السني في كل القوس الممتد من العراق وسورية إلى الخليج وإيران (وصولاً حتى إلى باكستان)، تشي من أسف بأن اليد العليا هي لمخاطر المذبحة المتبادلة.
إنه تاريخ الفتنة الكبرى بين السنّة والشيعة وهو يعيد إنتاج نفسه بلا كلل أو ملل!
سعد محيو


الاثنين، 10 يونيو 2013

كيف ستغيّر "الصقرتان" رايس وباور سياسة أوباما في سورية؟


- I -
ثمة شبه إجماع بين المحللين الأميركيين بأت تعيين سوزان رايس مستشارة للأمن القومي الأميركي وسامنثا باور سفيرة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، لن يؤدِ إلى تغيير فوري أو واسع في السياسة الأميركية إزاء سورية.
هذا على رغم أن كلا هاتين الأمرأتين تنتميان إلى جناح "الصقور الجارحة" في مايتعلق بمبدأ التدخل الإنساني. فالأولى اشتهرت بقولها خلال عهد كلينتون  العام 1994:" بعد فظائع رواندا، أقسمت بأني إذا ماواجهت مثل هذه الأزمة ثانية سأنحاز بقوة إلى العمل الدراماتيكي وأن أشتعل لهباً إذا ما اقتضى الأمر". والثانية وضعت هي الأخرى كتاباً مجلجلاً عن جرائم الحرب بعنوان "المشكلة من جهنم"، دعت فيه بقوة إلى تطبيق مبدأ التدخل الإنساني.
حسنا. الفظائع وجرائم الحرب تجري على قدم وساق الآن في سورية، من قتل نحو 100 ألف شخص وجرح 500 ألف آخرين، إلى تشريد ربع الشعب السوري سواء داخل البلاد أو خارجها، مروراً باستخدام الأسلحة الكميائية.
فهل ستقبل رايس وباور أن تتنكرا لقسمهما ومواقفهما العلنية هذه لمجرد إرضاء غرائز رئيسهما أوباما المغالية في حذرها؟.
- II -
معلومات واشنطن تشير إلى أنهما تتفقان في الرأي مع أوباما على أن كل خيارات التدخل الأميركي في سورية ليست مغرية، وقد لاتؤثر على مجرى النزاع. هذا ناهيك عن أنها قد تورّط الولايات المتحدة في حرب أهلية فيما هي تبدو سعيدة لرؤية إيران وروسيا تغرقان في رمالها المتحركة.
وهذا صحيح.
لكن الصحيح أيضاً أن رايس، على وجه الخصوص، تدرك أن المسألة في سورية بدأت تتخطى حدود المواقف الإنسانية لترقى إلى مستوى الصراع الدولي والإقليمي الخطير، مع اندفاع موسكو وطهران الجامح لمحاولة قمع الانتفاضة السورية بالقوة العارية.
ففي حال نجح النظام السوري، بدعم روسي وإيراني كبير، في استعادة مدينة حلب وتطويق المعارضة المسلحة في أرياف شمال سورية وجنوبها وصولاً إلى الشرق في الرقة، ستكون موسكو وطهران في موقع يمكنهما من المطالبة بأن يكون لهما القول الفصل في كل تركيبة "الشرق الأوسط الجديد". هذا علاوة على أن الصين ستعتبر هذا التطور بمثابة بداية لانحسار أميركي في العالم، فتتشجع أكثر في المضي قدماً في مشاريعها القومية المتأججة في منطقة آسيا/الباسيفيك.
كما أن رايس تدرك على الأرجح أن سياسة الاستدارة شرقاً نحو آسيا التي طبقها أوباما، والتي هدفت إلى كبح جماح الصين، انقلبت إلى عكسها. فبيجينغ أستنفرت قواها وباتت أكثر اندفاعاً لتحدي النفوذ الاميركي في آسيا. وهذا أمر برز بوضوح خلال القمة الصينية- الأميركية أمس والتي قال فيها الرئيس الصيني كسي جينبيغ بصراحة عنيفة ومباشرة: " يتعيّن على الصين والولايات المتحدة أن تعثرا على طريق جديد. طريق مختلف عن المجابهة والنزاع اللذين كان لامفر منهما بين الدول الكبرى في الماضي".
بكلمات أخرى، كان كسي يبلغ أوبما بأن سياسة الاستدارة شرقاً لم تنجح في ردع الصين، ولا في منعها من المطالبة بالشراكة مع الولايات المتحدة في إدارة شؤون آسيا/الباسيفيك بـ"التي هي أحسن"، أي عبر التركيز على التعاون وتقاسم النفوذ بدل المجابهة والصراع.
- III -
هذا الموقف الصيني الحاد والمُنذر، سيدفع رايس وباور إلى مطالبة أوباما بأمرين إثنين متلازمين: الأول، العمل على تخفيف مخاوف الصين من استراتيجية الاستدارة شرقاً، من خلال تطوير ماوصفه هنري كيسينجر بـ"حوار جدي يؤدي إلى تغيير كل العلاقات الدولية". والثاني، إعادة فرض الهيبة الأميركية في العالم، كوسيلة لتعزيز المواقع التفاوضية للولايات المتحدة مع الصين وغيرها.
فرض الهيبة على من؟
بالدرجة الأولى على روسيا وإيران اللتين تتحديان الآن النفوذ الأميركي  في الشرق الأوسط، على نحو بات يهدد بفرط عقد (أو على الأقل إضعاف) التحالفات الأميركية مع دول الخليج وتركيا. وعلى رغم أن هذا لن يعني  بالضرورة انغماس أميركا في الحرب الاهلية السورية، إلا أنه لن يعني أيضاً النأي بالنفس الكامل عنها كما كان يحدث حتى الآن. وهنا قد تعثر رايس وباور على منزلة ما بين منزلتي الانغماس الكامل أو النأي بالنفس الكامل عن الأزمة السورية، بما يؤدي إلى إطلاق الرسائل المناسبة ليس فقط إلى روسيا وإيران بل أيضاً للصين.
هل ستقوم رايس وباور بهذه المهمة من داخل البيت الأبيض، وهل ستنجحان في إقناع أوباما بممارسة نبرة أقوى مع روسيا؟
فننتظر قليلاً لنرى. لكن هذا الانتظار لن يطول، إذ سيظهر الخيط الأبيض من الأسود في التغييرات التي يمكن أن تدخلها رايس وباور على السياسة الأميركية خلال قمة بوتين- أوباما هذا الشهر.
لكن، يمكن القول من الآن أن شيئاً من التغيير سيحدث حتما، وإلا لماذا قرر أوباما إدخال هاتين "الصقرتين" إلى عرينه في البيت الأبيض؟

سعد محيو

الأحد، 9 يونيو 2013

أوباما "الاستنكافي" يقترب من "الهاوية"

   
- I -
باراك أوباما يبدو هذه الأيام كفارس منفرد يحاصر وحده قلعة محصنة. وهو يقاوم منذ سنتين كل الضغوط الهائلة التي تمارس عليه للتدخل في الأزمة السورية، من الداخل كما من الحلفاء في الخارج.

ففي سابقة برزت قبل أشهر، أسقط الرئيس الأميركي اقتراحاً مشتركاً وقّعه وزيرا الخارجية والدفاع ومدير "السي. أي. آي"(أي عملياً كل جهاز الأمن القومي الأميركي) يدعو إلى دعم المعارضة المسلحة السورية. وبعدها بقليل، كان يدحرج رأس اقتراح آخر من جنرالات البنتاغون لإقامة منظمة عازلة وحظر طيران في جنوب سورية أو شمالها.
وحتى حين خرق الرئيس السوري الأسد "الخط الأحمر" الذي رسمه أوباما بخط يده من خلال استخدام الأسلحة الكيمائية، لم يعمد هذا الأخير سوى إلى المراوغة وطلب "الأدلة الدامغة" على ذلك. ثم أنه توّج كل هذه التراجعات بسكوته على الإهانة التي تعرّض إليها وزير خارجيته كيري، حين جعله الرئيس بوتين ينتظر ثلاث ساعات قبل أن يلتقيه ويوافق معه على مؤتمر دولي للسلام في سورية بشروط روسية شبه كاملة.
وفي الوقت نفسه، كان أوبما يضرب عرض الحائط بكل المناشدات، وحتى"الاستغاثات"، التي انطلقت من حناجر العديد من الأنظمة العربية الحليفة له وتركيا، على الأقل لمجابهة التدخلات الإيرانية الفاقعة في سورية.
- II -
ما هذا الذي يجري؟ ما تفسيره أو تبريره؟
الاجتهادات هنا تكاد لاتُحصى.
فالبعض يقول إن أوباما سئم من حروب جورج بوش في الشرق الأوسط، إلى درجة أصابته بحساسية شخصية من فكرة أي تدخل عسكري جديد، في وقت سحب فيه قواته برمتها من العراق ويتأهب لسحب من تبقى من وحدات في أفغانستان العام 2014. أما تدخله المتأخر في ليبيا، فقد قام به مكرهاً، بعد أن تبيّن أن حلفاءه الفرنسيين والبريطانيين يتعثرون على نحو خطر في عملياتهم العسكرية ضد قوات العقيد معمر القذافي.
والبعض الأخر يُنحي باللائمة على كلٍ من الأزمة الاقتصادية الاميركية (التي دفعت أوباما إلى رفع شعار "بناء الأمة الأميركية" أولاً) واستراتيجية التوجه شرقاً (Pivot ) نحو آسيا- الباسيفيك، لتفسير سياسة النأي بالنفس الأميركية في سورية.
وثمة طرف ثالث يقول أن أوباما مرتاح لموقف اللاموقف هذا، طالما أن إسرائيل لاتزال تدعم بقاء نظام الرئيس الأسد في السلطة. إذ أن هذا الموقف الإسرائيلي يحيّد عنه سهام الكونغرس الأميركي الذي يدين بالولاء الكامل لأي موقف يتخذه اللوبي اليهودي- الإسرائيلي.
وماذا أيضا؟
هناك من يرى أن أوباما لايريد أن يخوض حرباً باردة أو ساخنة مع روسيا في سورية، لأنه يحتاج إليها في معركته ضد الإرهاب، وكذلك لأنه لايريد أن يرمي بوتين في أحضان الصين بالكامل.
كلٌ من هذه المبررات يمتلك شيئاً من المنطق. لكن الحصيلة في خاتمة المطاف واحدة: أوباما يطلق في كل الاتجاهات إشارات خطرة توحي بأن الولايات المتحدة في حالة انحسار حقيقي، ليس فقط في الشرق الأوسط بل في كل أنحاء العالم، بما في ذلك حتى في آسيا/ الباسيفيك التي يفترض أن الولايات المتحدة تركّز جل مواردها فيها الآن.
فالانكفاء الأميركي في سورية جعل إيران جريئة للغاية إلى درجة زج نخبة وحداتها العسكرية، من مقاتلي حزب الله إلى ضباط وخبراء الحرس الثوري، في معارك علنية ومباشرة إلى جانب النظام السوري، من دون أن تخشى ردة فعل أميركية وأطلسية.
وروسيا اشتمت هي الأخرى رائحة الدم الأميركية، فضربت عرض الحائط بكل المناشدات الأميركية بوقف تسليح النظام السوري، وأعلنت انها ستزوده أيضاً بصواريخ أرض- جو "أس-300 المتطورة، موحية بذلك هي الأخرى بأن باتت متأكدة بأن النمر الأميركي فقد الكثير من مخالبه وأنيابه.
وحتى الصين، التي لم تدعم الموقف الروسي ضد الغرب في مجلس الأمن حيال سورية سوى من باب الابتزاز لواشنطن، رأت في التراجع الأميركي في الشرق الأوسط مناسبة لها للتقدم في العديد من نقاط الصراع الجيو سياسي مع الدول الحليفة أو الصديقة لأميركا في الباسيفيك.
وليس من الضروري بالطبع التذكير بأن الدول العربية وتركيا الحليفة للولايات المتحدة بدأت بالتفكير الآن بما تعنيه هذه السلوكيات الأميركية بالنسبة إلى أمنها القومي الخاص. وليس مستغرباً بعد ذلك أن نسمع عما قريب  أن بعضها ربما يبدأ الاستدارة شرقاً هو الأخر، بحثاً عن الأمن والأمان في كنف دول كبرى أخرى مستعدة لتوفيرهما.
ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني، ببساطة، أن سياسات الفارس الأميركي المنفرد أوباما، بدأت تأكل من هيبة القوى العظمى الوحيدة في العالم. وهذا لن يؤثر فقط في نهاية المطاف على المواقع الاستراتيجية الأميركية في العالم، بل أيضاً على مصالح واشنطن الاقتصادية والتجارية.
لماذا؟
لأنه منذ أن توقفت الولايات المتحدة قبل عقدين أو ثلاثة عن كونها الموتور الاقتصادي والصناعي الأول في العالم في ظل العولمة، بات دورها كشرطي العالم المحافظ على أمنه هو الضمانة الوحيدة لتدفق الاستثمارات الخارجية عليها وللحفاظ على موقع الدولار كعملة الاحتياط الأولى.
وبالتالي، إذا ماواصل هذا الشرطي استنكافه عن القيام بالدور المنوط بها، لن يتأخر الوقت قبل أن  يبدأ الدولار، ومعه موقع أميركا كدولة عظمى، رحلته إلى الهاوية.
- III -
هل تعيين أوباما لسوزان رايس "المُتفجٍّرة" (كما توصف) مديرة لمجلس الأمن القومي الأميركي، مؤشر على أن أوباما بدأ يدرك مخاطر سياسته الاستنكافية هذه؟

(غدا نتابع)
سعد محيو

الاثنين، 3 يونيو 2013

حزب الله في حلب، ستعني حرباً في بيروت


- I -
هل كان زعيم حزب الله السيد حسن نصرالله "يمزح" حين دعا الأطراف اللبنانية المتنازعة إلى "القتال في ما بينها على الأرض السورية"؟ 
تشييع مقاتل لحزب الله سقط في القصير(الصورة من غوغل
.
لايبدو الأمر كذلك. ليس الآن على الأقل، بعد أن تكشَّف المدى الضخم لانغماس حزب الله بكليته في الحرب السورية.
حتى قبل أسابيع قليلة كان العديد من المحللين، ونحن منهم، يعتقدون أن ثمة تبريراً عسكرياً- استراتيجياً لقيام حزب الله بزج آلاف من مقاتليه في معركة القصير. فهذه المنطقة تعتبر شرياناً لوجستياً حيوياً له، وعمقاً استراتيجيا لمواقعه وقواعده في البقاع الشمالي وصولاً إلى الجنوب.
بيد أن إرسال الحزب ألفين من مقاتليه إلى مدينة حلب، أثبت أن هذا الاعتقاد مخطيء من ألفه إلى الياء. فالحزب لم يعد يقاتل من أجل نفسه أو لتحصين مواقعه، بل بات جزءاً لايتجزأ من حرب النظام السوري ضد المعارضة بكل ألوانها وأطيافها الإسلامية المعتدلة والمتشددة، والعلمانية والوطنية. بات فصيلاً في الجيش السوري النظامي، وانفصل نهائياً عن دوره كمقاوم لأسرائيل وكمدافع عن المصلحة الوطنية اللبنانية، كما كان يُعلن.
"حملة حلب" أسقطت أيضاً وهماً نجح الحزب في إقناع قواعده الشعبية به، وهو أنه يقاتل "التكفيريين" (بعد ان وضع 120 ألف مقاتل سوري معارض في هذه الخانة) داخل الأراضي السورية، كحرب وقائية لمنعهم من الهجوم لاحقاً على شيعة لبنان. "ذهبنا إليهم، كي لايأتوا إلينا".
هذا ماقاله الحزب لمناصريه.
لكن هذا المنطق يثبت الآن أنه لامنطق. إذ لو كان صحيحاً، لتعيّن على قوات الحزب أن تذهب أيضاً إلى الإسرائيليين داخل فلسطين المحتلة، لأن هؤلاء سيأتون بالفعل إلى لبنان إن عاجلاً أو آجلاً، أو حتى إلى الولايات المتحدة التي تشن حرباً شعواء على الحزب في كل أنحاء العالم.
- II -
الألفا مقاتل الذين توجهوا إلى حلب لـ"قلب المعادلات فيها"، كما قال أحد قادة حزب الله العسكريين، لن يوصفوا بما وُصف به زملاؤهم في القصير، أي على أنهم مقاتلون من حزب الله (أو حتى "حزب الشيطان" كما تنعته الآن فصائل المعارضة السورية)، بل سيُقال الآن أنهم غزاة شيعة مسلحون جاءوا لمهاجمة واحدة من أعرق المدن السنّية في التاريخ. وهذا سيفتح جرحاً سنياً- شيعياً عمره 1300 سنة ونيف، ليس فقط في سورية بل في كل المنطقة العربية.
تداعيات هذا الحدث بدأت بالفعل. فدول الخليج تتأهب لمعاقبة كل عامل أو موظف عربي شيعي يعمل لديها وتشتم (مجرد اشتمام) أنه  يميل إلى حزب الله.  وهيئة علماء المسلمين في لبنان أصدرت أمس فتوى تنضح بالخوف الوجودي "على الدم والعرض" من جراء "الهجمة الصفوية على سورية"، وتنذر السنّة الذي يتخلفون عن نصرة أخوتهم فيها بـ"غضب الله" . ومحاولة اغتيال الشيخ ماهر حمود في صيدا صباح اليوم تُنذر بأن ستكون بداية لانهاية لمسلسل تفجيرات واغتيالات جديدة. والحبل لايزال على الجرار.
لكن الأهم هم ماسيجري في لبنان.
فتطور حلب، إضافة إلى ماتردد عن إرسال مقاتلين من الحزب إلى دمشق وريفها، يعني عملياً أن حزب الله زج لبنان كله في أتون الحرب السورية وانقضى الأمر. و"رغبة" نصر الله في أن يتم التقاتل بين اللبنانيين على الأرض السورية بدل الأرض اللبنانية، لن تلق آذاناً صاغية من أحد، لا من معارضيه اللبنانيين ولا بالتأكيد من المعارضة السورية التي هددت مراراً (وآخرها أمس) بنقل الحرب إلى معاقل حزب الله في لبنان.
الخطر في هذا الموضوع أن الحزب كان يتوقع على الأرجح هذا التطور ويعد العدة له من فترة غير قصيرة، أي حتى قبل زج عديده وعتاده في الحرب السورية. فحالة الاستنفار على أقصاها في الضاحية الجنوبية، كما في بعض مناطق الجنوب والبقاع. والتقرير الاستخباري الذي نشرته صحيفة الأخبار قبل أيام  واتهمت فيه "الأصولية الدزرية" (بزعامة أكرم شهيب على الأرجح)  بالوقوف وراء قصف الضاحية بصواريخ غراد، وجد ترجمته الفعلية في ما تردد عن أن الحزب أرسل وحدات استطلاع إلى منطقة عيتات- عاليه لـ"تحصين" الضاحية الجنوبية من أي هجوم صاروخي آخر". فهل يكون هذا "الاستطلاع" تمهيداً لاجتياح لاحق للمنطقة الدرزية، التي تشكّل مساحة عازلة بين الجنوب والضاحية وبين البقاع وصولاً إلى مثلث القصير وحمص وطرطوس؟
- III -
بكلمات أوضح: يبدو أن حزب الله كان يتوقع وهو يضع خطط التدخل في سورية، أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب أهلية، أو شبه أهلية، في لبنان، وأنه مستعد بالفعل لها.
بقي أن نعلم ما إذا كان الحزب سيتحرك في إطار دفاعي في مثل هذه الحرب الجديدة المحتملة، أم أنه سينتقل إلى الهجوم ليغيّر المعادلات العسكرية والسياسية الراهنة في لبنان، تماماً كما يحاول أن يفعل الآن في سورية بالاشتراك مع النظامين الإيراني والسوري.
فللنتظر لنر.
 لكن الأرجح أن انتظارنا لن يطول!

سعد محيو