للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

ماذا ينتظر الشرق الأوسط والعالم في 2014؟


ماذا ينتظرنا في العام الجديد 2014؟
الكثير، الكثير.
 ولنبدأ بالعالم.
السنة الجديدة ستشكّل اختباراً حقيقياً لإدارة أوباما حول قدرتها، أو لاقدرتها، على الحفاظ على موقع الزعامة العالمية. وهو تحدٍ كبير في الواقع. فالتحالف الروسي- الصيني أثبت في العام المنصرم 2013 أنه قادر على تحويل الأقوال إلى أفعال.
فروسيا حققت خلال الاشهر الأخيرة تقدماً واضحاً على حساب الغربين الأوروبي والأميركي في أوكرانيا المهمة استراتيجياً، حين عرضت مبالغ طائلة على هذه الأخيرة لانقاذ اقتصادها، في مقابل وقف مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كما أنها حققت مزيداً من التقدم في مجال إعادة بسط نفوذها في دول البلطيك، وآسيا الوسطى، ناهيك بالشرق الأوسط عبر دعمها الكثيف لنظام بشار الأسد، وغزلها مع النظام العسكري الجديد في مصر، ومع السعودية ودول الخليج الأخرى.
والصين، بدورها، كانت تأكل هي الأخرى من الرصيد الأميركي في شرق آسيا، عبر فرض نطاقات بحرية وجوية جديدة لها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، في إطار ما أسماه مفكر هندي "استراتيجية الملفوف" الصينية، حيث تقوم بجينغ بتسوير نفسها بالتدريج بطبقات (كالملفوف) من الإجراءات الأمنية، من دون أن تدفع الولايات المتحدة إلى الاستنفار الحاد ضدها. هذا إضافة إلى تمديد النفوذ الصيني في كل الطرق والمناطق التي توفّر لها إمدادات الطاقة.
حتى نهاية 2013، كانت إدارة أوباما "مسترخية" للفكرة التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة بأنه لاتوجد قوة أو مجموعة قوى على وجه البسيطة، مهما علا كعبها، قادرة على الحلول مكان "الباكس أميركانا" في العالم. وهذا ينطبق على روسيا والصين وأي دول أخرى في مجموعة البريكس الصاعدة.
بيد أن الأصوات بدأت تتعالى في الولايات المتحدة مُحذرة من أن هذه المقاربة ستسفر في نهاية المطاف عن قضم الزعامة الأميركية في العالم، ومُطالبة إدارة أوباما بالعودة إلى المقاربة الجيو- استراتيجية، والتي تفرض بالضرورة تقليم أظافر روسيا والصين في كل مكان. فهل سيكون أوباما قادراً في العام الجديد على تجاهل هذه الأصوات، كما فعل العام المنصرم؟
لايبدو أن الأمر سيكون كذلك.
ماذا أيضاً على الصعيد العالمي؟
هناك تطوران يجب الانتباه الشديد لهما:
الأول، هو احتمال اندلاع انتفاضات للطبقات الوسطى في القارة الاوروبية، بعد أن قطعت قوى السوق الرأسمالية شوطاً بعيداً في توجيه الضربات القاسية لدولة الرفاه الاوروبية، من خلال تقليص التقديمات الاجتماعية التي حصل عليها المواطنون عبر 200 سنة من النضالات. كما لايستبعد البتة أن تلجأ هذه القوى إلى دعم القوى الفاشية والقومية المتطرفة (كما فعلت في فترة مابين الحربين العالميتين الأولى والثانية) بهدف التصدي لهذه الانتفاضات المحتملة.
والتطور الثاني هو دخول الرأسمالية بقوة في مرحلة تاريخية جديدة سمتها الرئيس سيطرة الرأسمالية الرقمية على ثورة المعلومات والداتا، الأمر الذي بات يهدد (كما كشفت فضائح وكالة الأمن القومي الاميركي) بنشوء ديكتاتوري أورويلية جديدة في العالم تقوض بشطحة قلم كل الفلسفة الديمقراطية.
ماذا الآن عن الشرق الأوسط؟
بالطبع، الحدث الأبرز في 2014، سيكون مصير المفاوضات الإيرانية- الأميركية، السري منها والعلني، والتي ستحدد مصير كلٍ من إدارة أوباما والشرق الأوسط برمته.
ثمة هنا ثلاثة سيناريوهات: 1- تكلل المفاوضات بالنجاح خلال الأشهر الخمسة المقبلة في التوصل إلى صفقة كبرى. 2- تعثر الصفقة الكبرى، وتمديد الصفقات الصغرى إلى مابعد نهاية ولاية أوباما.3- الفشل التام وانهيار المفاوضات.
كلٌ من هذه السيناريوهات يحمل في طياته أبعاداً تاريخية كبرى. فالتسوية الكبرى ستؤدي إلى ولادة شرق أوسط جديد، وربما أيضاً تجديد للحلف الأميركي- الإيراني الذي كان في عهد الشاه. والصفقات الصغرى ستهديء المجابهات الأميركية- الإيرانية، لكنها قد تشعل صدامات إقليمية واسعة بسبب تخوّف الدول الإقليمية الرئيس (إسرائيل، تركيا، السعودية ومصر) من محصلاتها. هذا في حين ان الفشل التام سيفتح الأبواب على مصراعيها أمام الحرب.
كان من الصعب في أواخر 2013 التكهن بمن ستكون له اليد العليا في هذه السيناريوهات. لكن من الواضح أن المفاوضات ستكون شاقة ومحفوفة بالكثير من المخاطر، ليس فقط لأن إسرائيل والكونغرس الأميركي والسعودية يعارضون أي تسوية نووية لاتتضمن تقليم الأظافر الإقليمية لإيران، بل لأن الشكوك بين الطرفين المتفاوضين هائلة وتكاد تصل إلى مرحلة البارانويا المرضية.
وفي انتظار جلاء الغبار في معركة المفاوضات حول مستقبل السياسة الإيرانية، ستواصل سورية غرقها المرعب في لجج الحرب الأهلية المدمرة، وسيستمر الرقص المصري على حافة الانفجار المجتمعي، إن لم يكن الحرب الأهلية، وستتابع ليبيا انحدارها إلى التفتت القبلي والعشائري، وقد يكون العراق على موعد هو الآخر في 2014 مع احتمال نشوب ثورة مسلحة في مناطقه الغربية تدخل بلاد الرافدين رسمياً في أتون الحرب الأهلية في بلاد الشام.
أما دول الخليج، فسيكون عليها في السنة الجديدة إعادة النظر في طبيعة تحالفاتها الدولية، بعد أن شعرت بأن الضمانات الأمنية الأميركية قد تصبح قريباً عرضة إلى الخطر بفعل سياسة الانكفاء الأوبامية ودعم واشنطن لجماعات الإخوان المسلمين في المنطقة العربية.
السعودية خطت في أواخر 2013 خطوة اولى في هذا الاتجاه، حين أبرمت صفقة أسلحة بقيمة 3 مليارات دولار لصالح الجيش اللبناني مع فرنسا. والأرجح أن يشهد العام المقبل صفقات أخرى من هذا النوع مع بعض الدول الأوروبية وروسيا والصين، إذا ماشعرت الرياض بأن أوباما مستمر في "غيّه" الإيراني.
* * *
كل عام وأنتم "سالمين".
سعد محيو 
ماذا ينتظر الشرق الأوسط والعالم في 2014؟
ماذا ينتظرنا في العام الجديد 2014؟
الكثير، الكثير.
 ولنبدأ بالعالم.
السنة الجديدة ستشكّل اختباراً حقيقياً لإدارة أوباما حول قدرتها، أو لاقدرتها، على الحفاظ على موقع الزعامة العالمية. وهو تحدٍ كبير في الواقع. فالتحالف الروسي- الصيني أثبت في العام المنصرم 2013 أنه قادر على تحويل الأقوال إلى أفعال.
فروسيا حققت خلال الاشهر الأخيرة تقدماً واضحاً على حساب الغربين الأوروبي والأميركي في أوكرانيا المهمة استراتيجياً، حين عرضت مبالغ طائلة على هذه الأخيرة لانقاذ اقتصادها، في مقابل وقف مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كما أنها حققت مزيداً من التقدم في مجال إعادة بسط نفوذها في دول البلطيك، وآسيا الوسطى، ناهيك بالشرق الأوسط عبر دعمها الكثيف لنظام بشار الأسد، وغزلها مع النظام العسكري الجديد في مصر، ومع السعودية ودول الخليج الأخرى.
والصين، بدورها، كانت تأكل هي الأخرى من الرصيد الأميركي في شرق آسيا، عبر فرض نطاقات بحرية وجوية جديدة لها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، في إطار ما أسماه مفكر هندي "استراتيجية الملفوف" الصينية، حيث تقوم بجينغ بتسوير نفسها بالتدريج بطبقات (كالملفوف) من الإجراءات الأمنية، من دون أن تدفع الولايات المتحدة إلى الاستنفار الحاد ضدها. هذا إضافة إلى تمديد النفوذ الصيني في كل الطرق والمناطق التي توفّر لها إمدادات الطاقة.
حتى نهاية 2013، كانت إدارة أوباما "مسترخية" للفكرة التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة بأنه لاتوجد قوة أو مجموعة قوى على وجه البسيطة، مهما علا كعبها، قادرة على الحلول مكان "الباكس أميركانا" في العالم. وهذا ينطبق على روسيا والصين وأي دول أخرى في مجموعة البريكس الصاعدة.
بيد أن الأصوات بدأت تتعالى في الولايات المتحدة مُحذرة من أن هذه المقاربة ستسفر في نهاية المطاف عن قضم الزعامة الأميركية في العالم، ومُطالبة إدارة أوباما بالعودة إلى المقاربة الجيو- استراتيجية، والتي تفرض بالضرورة تقليم أظافر روسيا والصين في كل مكان. فهل سيكون أوباما قادراً في العام الجديد على تجاهل هذه الأصوات، كما فعل العام المنصرم؟
لايبدو أن الأمر سيكون كذلك.
ماذا أيضاً على الصعيد العالمي؟
هناك تطوران يجب الانتباه الشديد لهما:
الأول، هو احتمال اندلاع انتفاضات للطبقات الوسطى في القارة الاوروبية، بعد أن قطعت قوى السوق الرأسمالية شوطاً بعيداً في توجيه الضربات القاسية لدولة الرفاه الاوروبية، من خلال تقليص التقديمات الاجتماعية التي حصل عليها المواطنون عبر 200 سنة من النضالات. كما لايستبعد البتة أن تلجأ هذه القوى إلى دعم القوى الفاشية والقومية المتطرفة (كما فعلت في فترة مابين الحربين العالميتين الأولى والثانية) بهدف التصدي لهذه الانتفاضات المحتملة.
والتطور الثاني هو دخول الرأسمالية بقوة في مرحلة تاريخية جديدة سمتها الرئيس سيطرة الرأسمالية الرقمية على ثورة المعلومات والداتا، الأمر الذي بات يهدد (كما كشفت فضائح وكالة الأمن القومي الاميركي) بنشوء ديكتاتوري أورويلية جديدة في العالم تقوض بشطحة قلم كل الفلسفة الديمقراطية.
ماذا الآن عن الشرق الأوسط؟
بالطبع، الحدث الأبرز في 2014، سيكون مصير المفاوضات الإيرانية- الأميركية، السري منها والعلني، والتي ستحدد مصير كلٍ من إدارة أوباما والشرق الأوسط برمته.
ثمة هنا ثلاثة سيناريوهات: 1- تكلل المفاوضات بالنجاح خلال الأشهر الخمسة المقبلة في التوصل إلى صفقة كبرى. 2- تعثر الصفقة الكبرى، وتمديد الصفقات الصغرى إلى مابعد نهاية ولاية أوباما.3- الفشل التام وانهيار المفاوضات.
كلٌ من هذه السيناريوهات يحمل في طياته أبعاداً تاريخية كبرى. فالتسوية الكبرى ستؤدي إلى ولادة شرق أوسط جديد، وربما أيضاً تجديد للحلف الأميركي- الإيراني الذي كان في عهد الشاه. والصفقات الصغرى ستهديء المجابهات الأميركية- الإيرانية، لكنها قد تشعل صدامات إقليمية واسعة بسبب تخوّف الدول الإقليمية الرئيس (إسرائيل، تركيا، السعودية ومصر) من محصلاتها. هذا في حين ان الفشل التام سيفتح الأبواب على مصراعيها أمام الحرب.
كان من الصعب في أواخر 2013 التكهن بمن ستكون له اليد العليا في هذه السيناريوهات. لكن من الواضح أن المفاوضات ستكون شاقة ومحفوفة بالكثير من المخاطر، ليس فقط لأن إسرائيل والكونغرس الأميركي والسعودية يعارضون أي تسوية نووية لاتتضمن تقليم الأظافر الإقليمية لإيران، بل لأن الشكوك بين الطرفين المتفاوضين هائلة وتكاد تصل إلى مرحلة البارانويا المرضية.
وفي انتظار جلاء الغبار في معركة المفاوضات حول مستقبل السياسة الإيرانية، ستواصل سورية غرقها المرعب في لجج الحرب الأهلية المدمرة، وسيستمر الرقص المصري على حافة الانفجار المجتمعي، إن لم يكن الحرب الأهلية، وستتابع ليبيا انحدارها إلى التفتت القبلي والعشائري، وقد يكون العراق على موعد هو الآخر في 2014 مع احتمال نشوب ثورة مسلحة في مناطقه الغربية تدخل بلاد الرافدين رسمياً في أتون الحرب الأهلية في بلاد الشام.
أما دول الخليج، فسيكون عليها في السنة الجديدة إعادة النظر في طبيعة تحالفاتها الدولية، بعد أن شعرت بأن الضمانات الأمنية الأميركية قد تصبح قريباً عرضة إلى الخطر بفعل سياسة الانكفاء الأوبامية ودعم واشنطن لجماعات الإخوان المسلمين في المنطقة العربية.
السعودية خطت في أواخر 2013 خطوة اولى في هذا الاتجاه، حين أبرمت صفقة أسلحة بقيمة 3 مليارات دولار لصالح الجيش اللبناني مع فرنسا. والأرجح أن يشهد العام المقبل صفقات أخرى من هذا النوع مع بعض الدول الأوروبية وروسيا والصين، إذا ماشعرت الرياض بأن أوباما مستمر في "غيّه" الإيراني.
* * *
كل عام وأنتم "سالمين".
سعد محيو- بيروت

الاثنين، 30 ديسمبر 2013

السعودية والجيش اللبناني: "ضربة معلّم" سياسية، ولكن؟



- I -
أقل ماقد يقال عن الهبة السعودية الضخمة للجيش اللبناني، والتي ناهزت الثلاثة مليارات دولار، أنها "ضربة معلّم" سياسية- دبلوماسية، على رغم أن نتائجها أو حتى مآلها لايزالان في علم الغيب، كما سنرى بعد قليل.
لماذا هي ضربة معلّم؟
عبد الله وهولاند: رسائل برسم واشنطن(الصورة من غوغل

لأنها أصابت جملة عصافير بحجر واحد:
- فهي أطلقت رسالة مدوّية إلى الولايات المتحدة بأنها تعني ماتقول حين تفصح عن نيتها تنويع مصادر ضماناتها الأمنية. صحيح أن المملكة لم تتجه هي نفسها إلى استبدال السلاح (والضمانات الأمنية) الأميركية بالسلاح والضمانات الفرنسية، إلا أن اشتراطها على لبنان أن يشتري عتاداً فرنسياً بهذا المبلغ الضخم، هي رسالة من تحت الماء ومن فوقها أيضاً ستفهم واشنطن مغزاها سريعا.
- وهي (الهبة) أطلقت في وجه طهران، التي تتمتع بنفوذ أمني هائل في لبنان عبر حزب الله، مايشبه البطاقة الحمراء في كرة القدم، مفادها انها على استعداد لتمديد حرب الاستنزاف التي تعاني منها طهران في سورية بسبب الأكلاف الباهظة لدعم نظام الأسد، إلى لبنان. وهذه أيضاً رسالة ستعيها إيران سريعا.
- وفوق هذا وذاك، سيكون الهبة مضاعفات كبيرة ومؤثرة على موازين القوى المحلية اللبنانية.
وعلى سبيل المثال، سيشعر العماد ميشال عون، الحليف المسيحي الوحيد لحزب الله، بحرج شديد إن هو تحرّك لاعتراض طريق هذا الدعم لجيش يعتبره عون بمثابة "ابنه المدلل" ويعتبر نفسه المدافع السياسي الأول عنه. هذا علاوة على أن مسيحيي لبنان، الذين يقيمون علاقات عاطفية تاريخية مع الجيش، لم يعد لديهم الآن سوى هذا الأخير لحمايتهم بعد أن تخلوا (رسمياً على الأقل) عن امتشاق السلاح. وبالتالي، إذا ما حاول الجنرال عون اعتراض هذه الصفقة، سيجد أن رصيده الشعبي المسيحي سيتبخر  بسرعة الضوء، خاصة وأن السلاح سيأتي من "الأم الحنون" فرنسا.
وقل الأمر نفسه عن حزب الله. فمبرر بقاء هذا الحزب كقوة مسلحة لم يعد المقاومة، بعد أن توقفت عملياته العسكرية ضد إسرائيل منذ حرب 2006، بل القول أن هذه القوة ضرورية لأن الجيش اللبناني ضعيف ولم يستطع مرة طيلة السنوات الخمسين الماضية ردع إسرائيل ومنعها من الاعتدء عليه.
بيد أن تدفق الأسلحة الفرنسية، في حال تدفقت، والتي يتوقع أن تتضمن عتاداً جوياً وصاروخياً متطورا، سيمكّن هذا الجيش الذي يبلغ عديده الـ 60 أو 70 ألف جندي من التحوّل إلى قوة ضاربة حقيقية. كما سيجبر إسرائيل على أخذ قدراته بعين الاعتبار في أي تخطيط لمواجهات جديدة.
بيد أن حزب الله لن يقرأ خلفيات هذه الصفقة في كتاب "قوة لبنان في قوته" لا في ضعفه، بل في الكتب التحليلية الإيرانية التي ستعتبرها خطراً عليه وعلى النفوذ الإيراني، وتعزيزاً لدور السعودية وحلفائها في 14آذار/مايو. ولذا، سيبذل جل طاقته، وإن بطرق ملتوية، لاعتراض سبيلها.
- II -
الآن، وبعد قول كل شيء عن "ضربة المعلّم" السعودية هذه، نأتي إلى ما أشرنا إليه في البداية حول غموض مصير هذه الصفقة التي تبلغ قيمتها ضعف كل ميزانية الجيش اللبناني.
سبب هذا الغموض يتمحور في الدرجة الأولى حول موقف واشنطن وتب أبيب منها:
هل ستكون الولايات المتحدة، التي تسلّح وتدرّب الجيش اللبناني منذ عشرات السنين وتعتبره حصنها السياسي الرئيس في لبنان، في وارد التخلي عن هذا الدور لفرنسا؟
وهل ستقبل إسرائيل، التي لطالما رفضت كل المحاولات الاميركية لتسليم الجيش اللبناني أسلحة متطورة، أن تقوم فرنسا الآن بتحويل هذا الجيش إلى قوة      ضاربة؟
في الرد على السؤال الأول، لا بد من الانتظار قليلاً لمعرفة ما إذا كانت سياسة الانكفاء التي تمارسها إدارة أوباما في الشرق الأوسط، تتضمن السماح لحلفائها الإوروبيين بوراثة "تركتها" في المنطقة.
أما عن السؤال الثاني فالجواب سيأتي سريعا: تل أبيب ربما تتحرك بقوة، خاصة في كواليس البيت الأبيض ودهاليز الكونغرس لإجهاض هذه الخطوة، وهي قد تتحدث عن خطر وقوع الأسلحة الفرنسية المتطورة في يد حزب الله. وهذا ماقد يضعها في موقف حرج مع فرنسا التي تحتاج هذه الأيام بشدة إلى كل دولار استثماري لانقاذ اقتصادها المتعثر.
بيد أن المفارقة الكبرى ستكون في احتمال تقاطع الموقف الإسرائيلي العلني  مع الموقف الضمني لحزب الله المتوجس من الصفقة.
وفي حال حدث ذلك، ستكون ضرية المعلم السياسية السعودية قد اكتملت فصولاً ووصلت إلى ذروة نجاحها، حتى ولو فشلت الصفقة في التحقق.


سعد محيو

الأحد، 29 ديسمبر 2013

تركيا: الإسلاميون "يلتهمون" بعضهم البعض




 غولن ضد أردوغان.. والجيش العلماني سعيد بـ"ضلال الإسلاميين"
     - I -
هل هناك حقاً "مؤامرة كبرى"، كما يقول رجب طيب أردوغان، تستهدفه ومعه سلطة حزب العدالة والتنمية؟
أردوغان وغولن: من التحالف إلى الحرب(الصورة من غوغل)


إذا ماكان ثمة مؤامرة حقاً، فهي لم تأت (هذه المرة) من المعسكر العلماني- الكمالي الذي أطلق ضد أردوغان ثورة عارمة قبل أسابيع انطلاقاَ من أحد حدائق اسطنبول، بل من قلب معسكره الإسلامي نفسه.
قال فتح الله غولن، في شريط فيديو وزّع على نطاق واسع في تركيا قبل أيام رداً على اتهامات أردوغان له بأنه وراء حملة الفساد الراهنة ضد حكومته، :" أولئك الذين لايرون اللص بل يلاحقون من يحاول القبض عليه؛ أولئك الذين لايرون الجريمة بل يحاولون التشهير بالآخرين عبر اتهامهم أناساً أبرياء، أدعو الله أن يشعل النار في منازلهم، ويهدم بيوتهم، ويشتت صفوفهم".
لكن، من هو فتح الله غولن هذا؟
أنه ببساطة أقوى شخصية بما لايقارع، ليس في تركيا وحسب، بل في كل العالم الإسلامي.
فهذا الرجل، الذي يقيم في منفى ذاتي منذ التسعينيات في ولاية بنسلفانيا الأميركية، على رغم العفو عنه في تركيا  العام 2006 من تهم محاولة قلب نظام الحكم، يمتلك منظمة هائلة لها أكثر من 1000 مدرسة وجامعة في 150 دولة، ويبلغ عدد اتباعه زهاء خمسة ملايين عضو، وتتبع إليه مئات الشركات الكبيرة في تركيا وكل أنحاء العالم برأسمال يقدّر بنحو 25 مليار دولار.
وفي الداخل التركي نفسه، بات معروفاً أن أنصار غولن متغلغلون بكثافة في سلك الشرطة، وأجهزة المخابرات والقوات المسلحة، والقضاء، والإعلام (يمتلك جريدة الزمان اليوم الأولى في تركيا، وعشرات الشبكات التلفزيونية والصحافية الأخرى)، ناهيك عن مئات المدارس والجامعات الخاصة والشركات الصناعية والتجارية.
منظمة غولن ليس لها اسم، لكن يطلق عليها في تركيا "حزمت"، أي "الخدمة" بالعربية. وهي تدّعي أنها تيار إسلامي يتبع تعاليم الفيلسوف الصوفي جلال الدين الرومي، وترفع شعارات الاسلام المعتدل المنفتح على العلم والتكنولوجيا والديمقراطية، وتدعو إلى الحوار مع الدينين المسيحي واليهودي (ولكن ليس مع الأديان والفلسفات الآسيوية)، وإلى العمل على تحسين وضعية البشر أينما كانوا.
بيد أن الشكوك تحوم حول أهداف منظمة غولن، خاصة وأنها تدّعي أنها لاتعمل في السياسة، فيما هي تسيطر على العديد من السياسيين والإعلاميين والأجندات السياسية. وثمة وثيقة شهيرة منسوبة إلى غولن يدعو فيها انصاره إلى التغلغل في كل أجهزة الدولة، لكن من دون القيام بأي نشاط قبل أن يحين الوقت المناسب للتحرك.
هل هدف غولن إقامة دولة إسلامية في تركيا؟
كلا. أو ليس في هذه المرحلة على الأقل. الهدف الأهم هو السيطرة الكاملة على كل مفاصل المجتمعين المدني والسياسي في البلاد. وحينها لن تكون سلطة الدولة سوى مجرد تحصيل حاصل بالنسبة إليه.
إلى جانب هذا النشاط المعروف، ثمة نظريات مؤامرة كثيفة تربط ربطاً وثيقاً بين كلٍ من "حزمت" وبين السي. أي. آي والحركة الماسونية العالمية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة حيث قال العميل السابق في السي.أي آي فولر أن واشنطن اكتشفت في هذه المنظمة كنوزاً فكرية وتنظيمية ثمينة لمحاربة الإرهاب الإسلامي.

- II -
رجب طيب أردوغان لم يكن عضواً في "حزمت". لكن حزبه أقام على مدى سنين طويلة تحالفاً متيناً معها في مواجهة خصمهما المشترك العسكر الأتاتوركي. وقد وقف غولن بقوة إلى جانب أردوغان وهو يخوض المعركة تلو المعركة لتقليص هيمنة الجيش على السلطتين التنفيذية والتشريعية، ووفّر له دعماً إعلامياً وشعبياً واسعا.
بيد أن الأمور تدهورت بينهما في الآونة الاخيرة. البعض يعتقد أن السبب هو توجّه أردوغان إلى إلغاء المدارس الخاصة التي يعتمد عليها غولن كثيراً لنشر مبادئه وتعاليمه. وعلى رغم أن هذا صحيح، إلا أنه لايبدو كافياً لتفسير الخلافات الواسعة بين هذين الحليفين التاريخيين. وهنا تبرز فكرة أردوغان عن وجود "مؤامرة آتية من وراء البحار" (أي من بنسلفانيا) تستهدفه هو شخصيا، الأمر الذي قد يشي بأن تركيا قد تكون مقبلة على  انقلاب في التحالفات قد تغيّر وجه الحياة السياسية فيها.
وهذا سيكون تطوراً محتماً إذا ما عجز أركان المعسكر الإسلامي، أردوغان وغولن، عن وقف تدهور العلاقات بينهما. إذ حينها سيكون مصير النهوض الاقتصادي (وهو درة تاج انجازات أردوغان وغولن معاً) في خطر، وسيطل الجيش التركي حينذاك برأسه بوصفه "المنقذ من ضلال الإسلاميين"!

سعد محيو


السبت، 28 ديسمبر 2013

لهذه الأسباب اغتيل الوزير شطح..


- I -
لماذا اغتيل الوزير اللبناني السابق محمد شطح؟

للأسباب نفسها، على الأرجح، التي اغتيل بسببها الرئيس الراحل رفيق الحريري: تجاوز خطوط دولية تعتبرها بعض الأطراف اللبنانية (وغير اللبنانية) حمراء قانية.
الحريري، كما هو معروف، ذهب أساساً ضحية اتهامات سورية له بأنه "تواطأ" مع صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي "تواطأ" بدوره مع الرئيس الأميركي بوش، لإخراج القوات السورية من لبنان بموجب قرار تم إصداره من مجلس الأمن حمل الرقم 1559 .
آنذاك، أي حين صدور القرار في 2 أيلول/سبتمبر 2004، لم يكن أحد ليتوقع أن يدفع الحريري الثمن على هذا النحو المفجع. فهو كان يقيم علاقات ودية ومفتوحة مع حليف سورية الرئيس في لبنان، حزب الله. كما كان يطرح نفسه كقوة اعتدال في الوسط السياسي والسنّي، ويجهد لإرضاء القيادة السورية عبر العمل لها كوزير خارجية غير معيّن لدى القوى الغربية.
بيد أن مسألة الخطوط الحمر طرحت نفسها بقوة بعد القرار 1559 لدى النظام السوري، مادفع هذا الأخير إلى أن يتخطى بدوره الخطوط الحمر السعودية والأميركية والفرنسية ويوعز بعملية الاغتيال الضخمة.
- II -

الأمر نفسه يبدو انه انسحب على محمد شطح.
فالرجل من دون أن يدري، في الغالب، كان يدوس على بعض الخطوط الحمر التي رسمها حزب الله، حين انطلق لتنفيذ مشروع يقضي ببلورة إجماع غربي- دولي - حول إعلان حياد لبنان في الصراع السوري، ثم دعم هذا الحياد بقرار من مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.
شطح دخل المرحلة التنفيذية لهذا المشروع، حين خطط للقاءات عدة مع مسؤولين أوروبيين، ثم أميركيين، تمهيداً لتتويج كل ذلك بمؤتمر يتنبى رسمياً فكرة الحياد هذه.
بيد أن حزب الله، الذي تورط بقرار إيراني مباشر  في الحرب الأهلية السوريةـ، اعتبر، وعن حق، أن مثل هذه الخطوة ستكون شبيهة كل الشبه بالقرار 1559، لكن هذه المرة ضده وليس ضد سورية. إذ أن أي قرار أو إجماع دولي في هذا الشأن، لن يفرض عليه ضغوطاً دولية لاتطاق وحسب، بل هو أيضاً سيفرض "القضية اللبنانية" (كما كان شطح يسميها) على المفاوضات الإيرانية- الأميركية، حيث سيكون على طهران تقديم تنازلات ما في لبنان لغير صالح دورها ودور حزب الله الراهن في سورية وبلاد الأرز.
علاوة على ذلك، كانت تتواتر أنباء أخرى عن أن شطح كان مرشحاً لرئاسة حكومة "معتدلة" قد يفرضها الرئيسان سليمان وسلام بقوة صلاحياتهما الدستورية. وهذا تطور يعتبره حزب الله من "المحرمات" التي لايجوز ولايمكن التغاضي عنها، لأنه سيعرّض كل استراتيجيته التدخلية الراهنة في سورية إلى المساءلة والانكشاف.
- III -
هل ثمة مبالغات ما في هذا التقييم؟
كلا.
لماذا؟
لأنه في لبنان، ليس هناك شيء لبناني. فكل مايجري فيه تعبير عن توجهات خارجية، إقليمية ودولية، لادور فيها للعوامل المحلية سوى كانعكاسات وتجليات لهذا الخارج.
وبما أن شطح وضع نفسه على خط تماس مع بعض التوجهات الخارجية، تماماً كما فعل قبله الرئيس رفيق الحريري، جاءت الترجمة المحلية على هذا النحو المفجع.
إنه لبنان "الساحة" وهو يعيد انتاج دوره "الخدماتي" من دون ملل أو كلل، منذ أيام الفينيقيين قبل ثلاثة آلاف سنة وحتى الآن!

سعد محيو

الخميس، 26 ديسمبر 2013

السعودية وإيران وثالثهما "الشيطان الأكبر"



كيف يمكن أن تقرأ السعودية وإيران مطالبة الولايات المتحدة قادة الشرق الأوسط بوقف دعم داعش والنصرة وبقية الفصائل السلفية السنّية؟
الأرجح أن الصورة على هذا النحو: الرياض ستفسرها على أنها دليل آخر على انحياز الولايات المتحدة إلى الشيعة، في الصراع المذهبي الذي يدور رحاه الآن في كل المنطقة. وهذا سيزيد القلق والهواجس السعودية من أبعاد ومضاعفات الصفقة النووية المؤقتة بين إيران والغرب.
وطهران، من جهتها، سترى في البيان الأميركي إطلاقاً ليدها في سورية، وتعزيزاً لموقف الإصلاحيين في الداخل الإيراني الذين يؤيدون انحياز إيران إلى "الشيطان الأكبر"، في إطار انتقالها من الثورة إلى الدولة وتحوّلها إلى دولة "عادية" ضمن النظام الرأسمالي العالمي.
بيد أن كلا المقاربتين ناقصتين.
صحيح أن الولايات المتحدة تعتبر القاعدة واخواتها الخطر الإرهابي الأكبر عليها وعلى الأمن الدولي، إلا أن ملفات الكونغرس وووزارتي الخارجية والدفاع تعج بالوثائق والقرارات التي تعتبر إيران دولة إرهابية وتصنّف حليفها الرئيس في المشرق (حزب الله) في الخانة نفسها.
وبالتالي، الحديث عن انحياز أميركا إلى الشيعة في الصراع المذهبي الراهن في الشرق الأوسط ليس دقيقاً تماما. ما هو دقيق هو أن الولايات المتحدة، بعد الانفتاح الإيراني عليها مع وصول (أو بالأحرى تسهيل الأمام خامنئي لوصول) حسن روحاني إلى سدة الرئاسة، اعتبرت أنها في موقع يمكّنها من ممارسة سياسة توازن القوى في المنطقة، بعد 30 سنة من حالة العداء المطلق مع إيران.
ماذا يعني توازن القوى هذا، في المرحلة الراهنة؟
إنه يعني أن الولايات المتحدة ستكون في يوم إلى جانب السعودية، وفي يوم آخر إلى جانب إيران، تبعاً لكل حالة أو تطور على حدة.
وهذا يترجم نفسه في سورية، على سبيل المثال، في وقوف واشنطن إلى جانب إيران وحزب الله اللبناني في المعركة ضد داعش والنصرة، تماماً كما جاء في "مناشدة" البيت الأبيض لقادة المنطقة لوقف دعم هذين التنظيمين. بيد أن هذا لن يكون سوى انحياز مؤقت. إذ بعد حين قد تنقلب الولايات المتحدة ضد إيران وحزب الله في سورية، عبر دعم قوى إسلامية سنّية أكثر اعتدالاً، سوى تمثلت هذه في الجبهة الإسلامية أو الجيش الحر بعد إعادة إحيائه.
اللعب على الحبلين، ستكون هي السياسة الأميركية الجديدة في سورية والمنطقة. وهو توجّه بات ممكناً بعد إعادة النظر الاستراتيجية الشاملة التي قامت بها إدارة الرئيس أوباما في توجهات السياسة الخارجية الأميركية. في المحافل الدولية، عُرفت إعادة التقييم هذه بـ"الاستدارة" ( Pivot) شرقاً نحو آسيا- حوض الباسيفيك ونحو إصلاح الداخل الأميركي، ويالتالي تقليص الاعباء والالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط وأوروبا.
أما في الداخل الأميركي، فيجري الحديث أكثر عن تخلي إدارة أوباما عن "مبدأ كارتر" الذي صاغه (كما هو معروف) الرئيس الأسبق جيمي كارتر العام 1980، والذي رمى فيها بالثقل العسكري الأميركي في منطقة الخليج، غداة "خسارة" الولايات المتحدة لإيران بعد ثورتها العام 1979 والغزو السوفييتي لأفغانستان.
وهذا عنى بالنسبة إلى أوباما رفض الانجرار إلى أي حروب أخرى في منطقة الشرق الأوسط الكبير، من سوريا إلى إفريقيا الشمالية، واستبدال "مبدأ كارتر" الذي وضع الأمن الخليجي مباشرة في أيدي القوات الأميركية عبر سياسة الاحتواء المزدوج آنذاك، بـ"مبدأ أوباما" الداعي إلى أن تلعب الولايات المتحدة دور"المدوزن" لموازين القوى في المنطقة، من خلال استراتيجية الإشراف بحراً من بعيد على التطورات فيها، تماماً كما فعلت القوة الامبراطورية البحرية البريطانية طيلة ثلاثة قرون.
لكن، هل ينجح مثل هذا التوجُّه الجديد؟
لا ونعم.
لا، لأنه لن يحقق الاستقرار في الشرق الأوسط، بل "سينظم" و"يدير" الحروب المذهبية والطائفية المستعرة أصلاً، طالما أن الولايات المتحدة لاتبدو مهتمة (حتى الآن) في إقامة نظام أمن إقليمي جديد يحل مكان الفوضى غير الخلاقة الراهنة في المنطقة.
ونعم، لأنه سيمكِّن أميركا من تجديد سيطرتها (ومعه إسرائيل) على الشرق الأوسط عبر سياسة فرّق تسد، بأقل التكاليف الممكنة، الأمر الذي سيساعدها على الاستدارة شرقاً نحو آسيا- الباسيفيك والداخل الأميركي.
هل ثمة ضرورة للتساؤل عمن سيكون الضحية الكبرى في لعبة موازين القوى الجديدة هذه؟
إسألوا شعوب المنطقة.
 (*) نشر هذا المقال أولاً في صحيفة "المدن" الالكترونية

________________________________

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

هل ينتهي "شهر العسل" الروسي- الأميركي؟



- I -

هل كانت ثورة أوكرانيا الجديدة "مؤامرة" أميركية- أوروبية جديدة ضد روسيا؟
بوتين وأوباما: مرحلة جديدة من الصراعات؟

الرئيس بوتين لايتردد في الإجابة بنعم سريعة. فهو مقتنع أن الغرب لم يتخلّ عن مخططه لتقسيم الاتحاد الروسي بعد أن نجح في تدمير الاتحاد السوفييتي. ولذا فهو يعتبر أن استراتيجيته الهجومية الجيو- استراتيجية لاستعادة النفوذ الروسي في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق، بطاقة ضمانته لمنع محاصرة "الأم روسيا" ثم خنقها.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية.
بوتين أشتم أصلاً رائحة الدم حين شعر (ثم تأكد) أن إدارة أوباما تسعى حقاً إلى تقليص الانغماس الأميركي في العالم، بهدف إعادة بناء الاقتصاد الأميركي، في الداخل، والاستدارة نحو آسيا- الباسيفيك لمواجهة الصين، في الخارج. وهذا ماجعله أكثر جرأة في تحدي السياسة الأميركية في كل مكان تقريبا: من مجلس الأمن الدولي، إلى جورجيا حيث خاص حرباً ناجحة هناك، وصولاً إلى سورية والشرق الأوسط. وكل ذلك بالتعاون والتنسيق مع الصين.
الآن، وطالما أن الأمر على هذا النحو، كيف سيكون مآل الصراع في أوكرانيا، التي تعتبر بحق رأس تاج كل النفوذ الروسي في قارة أوراسيا؟
- II -

قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال،  فنحاول الإجابة أولاً على سؤال آخر: ما الموقف الحقيقي لإدارة أوباما من روسيا- بوتين.
يمكن القول هنا أن قوتين غابتا عن شاشة رادار الرئيس الأميركي  في ولايته الثانية: أوروبا  والعالم الإسلامي.
أوروبا اختفت لأن الاتحاد الأوروبي كشف خلال الأعوام الماضية عن هشاشة لاسابق لها في مجالي السياسة الخارجية والامن، على الأقل بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فهو تلكأ إلى درجة خطيرة (عدا بريطانيا) في الوقوف في وجه الدب الروسي في جورجيا بسبب اعتماده الكبير على النفط والغاز الروسيين. وهو أثبت مجدداً أنه قزم أمني حين عجز عن توفير القوة العسكرية اللازمة لحلف الأطلسي لحسم الأمور في أفغانستان. ثم أنه لايزال يفتقد إلى أي بنية من بنى القوى، عدا اليورو، بسبب حاجته إلى إجماع 25 دولة عضو فيه على أي قرار يتخذه.
أما العالم الإسلامي فقد بقيت ظلاله على شاشات الرادار، لكن كظلال فقط، بعد أن تأكد الجميع خلال السنوات الثماني الماضية أن أقاويل المحافظين الجدد عن "الخطر الإسلامي الكبير" ليست أكثر من ذلك: أي مجرد أقاويل لاأساس لها من الصحة. هذا لن يعني أن الإدارة الأميركية طوت الصفحة الإيديولوجية الخاصة بـ"الإرهاب الإسلامي" او فزاعة المتطرفين الإسلاميين، فهذه مادة دسمة ضرورية للحفاظ على تماسك المجتمع الأميركي عبر توجيه عدوانيته إلى عدو مفترض. لكن في السياسات كان من الصعوبة بمكان أن يحيي الرئيس الجديد شعار الرئيس السابق بوش حول الإمبراطورية المفترضة لـ"الشر الإسلامي".
ماذا إذاً؟ من سيكون  بعد حين الهدف المفضل لسيد البيت الأبيض؟
إنها روسيا.
فهذا الدب القطبي التي استفاق مجدداً من سباته الشتوي الطويل الذي استمر زهاء 21 عاماً، عادت ليطالب بحصة كبيرة في النظام العالمي. وهو نجح حتى الأن في تقليص أنياب أميركا في القوقاز، وفي وقف تمدد أصابعها في آسيا الوسطى، وهو يهدد الأن بقلب الشرق الأوسط على رأس واشنطن في حال لم تستجب هذه لرغبتها في استعادة نفوذها في الاتحاد السوفياتي القديم.
حتى الآن لم تعلن روسيا الحرب الباردة على أميركا. والأرجح أنها لاتنوي فعل ذلك لأنها لاتريد الغوص مجدداً في سباق تسلح قد يدمّرها من جديد. لكنها قادرة على التسبب بأوجاع رأس كبيرة للولايات المتحدة في حال قررت الإدارة الجديدة المضي قدماً في المجابهة معها، مثل تزويد إيران  بمنظومة صواريخ متطورة مضادة للطائرات، أو إقامة قواعد عسكرية في العديد من موانيء البحر المتوسط، او حتى في تقديم دعم مباشر للقوى المسلحة المعادية لواشنطن في الشرق الأوسط.
فهل تضع الإدارة الجديدة أعصابها في الثلاجة وهي ترقب عودة الدب الروسي إلى الساح الدولية، فتقدم له كل أو على الأقل بعض ما يشتهي، أم تختار نهج القتل والمجابهة الشاملة؟
- III -

هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه الآن على صناع القرار في واشنطن، خاصة بعد أن اتضح لهم أن بوتين نجح في تخطي مخاوفه من العملاق الصيني الصاعد ونسج معه سياسات مشتركة ضد الولايات المتحدة بالتحديد، الأمر الذي يهدد بولادة كتلة تاريخية جديدة وخطيرة في قلب قارة أوراسيا.
والأرجح أن تأتي الإجابة من واشنطن بعد حين بما يتطابق مع مخاوف بوتين حول مخططات الغرب لمحاصرة روسيا وخنقها.
وهذا قد يتأكد إذا ما تواصل تفاقم الأزمة الداخلية الأوكرانية، وإذا ما أصبح الاتحاد الأوروبي أكثر جرأة في دعم ثلاثة أرباع الأوكرانيين الذين يؤيدون توقيع اتفاقات التعاون مع الاتحاد الأوروبي ويرفضون الوحدة الجمركية التي أبرامتها روسيا مع كازاخستان وروسيا البيضاء والآن تريد فرضها على أوكرانيا.

إذ حينها، قد ينتهي "شهر العسل الراهن" بين موسكو وإدارة أوباما، وتبدأ شهور جديدة من الصراعات والمجابهات.
سعد محيو

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

من السعودية إلى إيران مروراً بالمقاومة والممانعة: 3 مفارقات "ساخرة"



ثلاث مفارقات ساخرة (وطريفة إذا ماكان في التاريخ البشري شيء "طريف") في شرق أوسط جديد يوشك أن يولد الآن.
المفارقة الأولى:
المملكة العربية السعودية، التي تنفق مئات ملايين الدولارات سنوياً للتبشير بالإسلام في كل العالمين المسيحي و"الوثني"، تجد نفسها في تحالف استراتيجي مع روسيا الأرثوذكسية "الكافرة" ضد الإسلام السياسي في المنطقة العربية.
هذه قد تكون الحصيلة الأولى للزيارة الثانية التي يقوم بها الأمير السعودي بندر بن سلطان إلى موسكو خلال شهر واحد، والتي يبدو فيها التفاهم واضحاً بين الطرفين حول ضرورة دعم النظام المصري ضد جماعته الإخوانية، وحول التصدي للجماعات الإسلامية السياسية الأخرى التي يناصبها النظام السعودي العداء، والتي يضع النظام الروسي عملية المجابهة معها على رأس أولويات استراتيجية أمنه القومي، من شمال القوقاز وآسيا الوسطى إلى سوريا وكل غرب المتوسط.
هذا الحلف الجديد لما يولد بعد. لكن معالمه قد تتضح قريباً بكل تلاوينها الاقتصادية والمالية والتسلحية، في حال توصل بندر والرئيس بوتين إلى اتفاق على رأس الرئيس الأسد، بعد ان اتفقا على مايبدو على رأس الرئيس مرسي. ويبقى أن نعرف في وقت لاحق كيف ستتموضع الإديولوجيا الوهابية السعودية مع النزعة المسيحية الأرثوذكسية المنبعثة حديثاً في روسيا في هذا الحلف "الطريف" الجديد ضد الإسلام السياسي.
المفارقة الثانية:
طيلة نيف وثلاثين عاماً، كانت الثورة الإسلامية في إيران تبني جيلين جديدين كاملين من مواطنيها عبر التعبئة ضد مؤامرات "الشيطان الأكبر" الأميركي، الذي حلّ في الذاكرة الجماعية الإيرانية محل "الشيطانين الأكبرين" السابقين الروسي والبريطاني اللذين اقتسما إيران، نفوذاً وهيمنة، طيلة ثلاثة أرباع القرن العشرين.
الآن، وبعد الصفقة النووية المرحلية بين طهران وواشنطن، والتي وُلدت من رحم مفاوضات سرية بين "الملائكة الإيرانيين" و"الشياطين الأميركيين"، سيكون على السلطة الإيرانية أن تُقنع جمهورها بأن الشيطان لم يعد فجأة شيطاناً، أو أنه لم يكن في الواقع شيطاناً بل ملاكاً في لباس تنكّري.
طهران بدأت بالفعل هذا المسعى. فتعابير الشيطان الأكبر بدأت تختفي من شوارع طهران بالتدريج، وشعار "الموت لأميركا" الشهير تراجع نسبياً في أدبيات الثورة الإسلامية. هذا في حين أن زعيم حزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله، والذي كان يُغدق بسخاء طيلة عقدين اتهامات العمالة ضد حلفاء أميركا العرب، لم يجد مايقوله حول هذا التقارب المفاجيء مع الشيطان الأكبر سوى التنديد بالقوى الإقليمية المتوجسة منه.
وقريباً على الأرجح ربما نسمع فتاوى دينية في طهران وحارة حريك تقول بأن نصراً إلهياً خفياً هو الذي جعل "الشيطان الأكبر" الأميركي يتوب عن موبقاته، ويثوب إلى رشده، فيتحوّل إلى مشروع ملاك جديد، أو على الأقل إلى شيطان بلا قرون.
المفارقة الثالثة:
حتى ماقبل أيام قليلة، أي قبل ولادة الصفقة الأميركية- الإيرانية، كانت صورة الاستقطاب واضحة في الشرق الأوسط: إيران وسورية وحزب الله اللبناني يقودون جبهة المقاومة والممانعة ضد الامبريالية الأميركية وربيبتها الصهيونية ومعهما جبهة الاستسلام والتبعية بقيادة السعودية ومصر وتركيا.
الآن ربما حان الوقت لتبادل التسميات والأدوار. فالسعودية وإسرائيل هما الآن اللتان تمانعان التوجهات الأميركية في الشرق الأوسط، و"تقاومان" أي محاولة أميركية لإعادة رسم المنطقة على صورة أميركا الأوبامية الجديدة. هذا في حين أن سورية وإيران تبديان كل استعداد للاستسلام الكامل لإملاءات" الامبريالية الأميركية" وشروطها. (بما في ذلك خلع كل الأثواب الكيميائية والنووية).
* * *
ماتفسير هذه المفارقات الغريبة؟
هناك تفسيران ممكنان، لاتفسير واحد:
الأول، أن "الضرورات تبيح المحظورات" في عرف البراغماتيين الإسلاميين.
والثاني، أن "الخيانة مسألة تواريخ"، كما كان يردد دائماً هنري كيسينجر.
وكلا التفسيرين يصبان في حصيلة واحدة: سخرية التاريخ.

سعد محيو

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

الاسم الحقيقي للعبة: تغيير النظام الإيراني !


- I -
ثمة حقيقة كادت تغيب في خضم الضجيج الهائل الذي  رافق الصفقة النووية الإيرانية- الغربية: إيران بدأت رحلتها نحو الغورباتشوفية. إنها لم تصل إليها بعد، لكنها تحث الخطى نحوها.
للتذكير: الغورباتشوفية كانت المرحلة الانتقالية المؤلمة التي شهدت تحوّل الاتحاد السوفييتي إلى دولة روسية "عادية" (أي غير ثورية وغير مراجعة)، تجهد لمغادرة ملكوت الإديولوجيا إلى مملكة النظام الرأسمالي العالمي.
الرئيس حسن روحاني هو الآن مشروع غورباتشوف الإيراني. لكنه ليس وحده. معه مرشد الثورة خامنئي، الذي قرر هو الآخر أن الوقت حان للمصالحة مع "الشيطان الأكبر". وهذا لسببين:
الأول، أن العقوبات الدولية، ومعها سياسات الرئيس أحمدي نجاد الاقتصادية الشعبوية، والأكلاف الباهظة للسياسة الخارجية الإيرانية في سورية وبقية المنطقة، دفعت الاقتصاد الإيراني إلى شفير الهاوية، ماهدد بإشعال ثورة اجتماعية- سياسية كبرى إذا ما استمر حبل البطالة والتضخم والركود على الغارب.
والثاني، أنه حدث بالفعل تغيّر حقيقي في عهد إدارة أوباما في التوجهات الأميركية في الشرق الأوسط: من التورط المباشر لأميركا في صراعات المنطقة كقوة إقليمية عظمى مثلها مثل أي قوة إقليمية أخرى، كما كان الأمر منذ عهد الرئيس كارتر ومابعده، إلى إعادة التموضع الاستراتيجي بهدف التركيز على الوضع الداخلي الأميركي ومنطقة آسيا- الباسيفيك.
هذان العاملان تقاطعا بشكل نادر في التاريخ، ودفعا خامنئي إلى "تجرُع سم" الدعوة إلى وقف إطلاق النار مع الشيطان الأكبر، تماماً كما تجرّع قبله الإمام الخميني سم قبول وقف إطلاق النار مع عراق- صدام حسين.
لكن، هل تنجح الغورباتشوفية في شق طريقها في إيران، عبر انتقال النظام إلى عملية إصلاحات اقتصادية وسياسية داخلية بدل استنزاف الموارد في السياسة الخارجية؟
- II -
ثمة أمور كثيرة يجب أن تحدث هنا، قبل أن ترى الغورباتشوفية الإيرانية النور، أبرزها "استسلام" غلاة الحرس الثوري وباقي المتشددين الإديولوجيين لفكرة تحوّل إيران إلى دولة "عادية" تقبل كل شروط العولمة الأميركية ومستلزماتها. وهذا يعني في الواقع تغيير النظام الإيراني بالتدريج عبر الطرق السلمية الناعمة، لا بوسائل الحرب الصلبة. وجنباً إلى جنب مع هذا الاستسلام، سيكون على الملالي، بالتدريج أيضاً، تقبّل الفكرة بأن ما يمكن أن يقبل به الأميركيون من نفوذ إيراني في الشرق الأوسط، يجب أن يكون مقنناً للغاية ويأخذ في الاعتبار الحصص الكبرى للقوى الإقليمية الأساسية الأخرى كإسرائيل والسعودية وتركيا وإلى حد ما مصر، ناهيك بالطبع عن الحصة الكبرى الأميركية.
أميركا- أوباما تبدو مستعدة لاسقاط شعار تغيير النظام الإيراني بقوة العقوبات الاقتصادية والحصار الدبلوماسي والتهديد بالتدخل العسكري. لكن سيكون على إيران- خامنئي أن تكتفي بهذا القدر من التنازلات الأميركية وتعمل على تغيير نظامها بنفسها في الداخل والخارج. في الداخل: عبر منح الأولوية للبناء الاقتصادي الداخلي وفق قوانين منظمة التجارة العالمية و"إجماع واشنطن". وفي الخارج: من خلال التخلي عن الطموحات الامبراطورية الفارسية التي اثبتت تجارب العقود الثلاثة الماضية أنها لم تؤد سوى إلى استنزاف الموارد الإيرانية المحدودة (موازنة "السي. أي. آي" تفوق كل موازنة الحكومة الإيرانية، أي نحو 75 مليار دولار)، وإلى التمدد الاستراتيجي الإيراني الزائد.
وبالمناسبة، هذا بالتحديد مافعلته دولة كبرى كالصين، حين قبلت الشرط الأميركي الرئيس لإدماجها في النظام الرأسمالي العالمي، وهو التركيز على الشأن الاقتصادي وتناسي النفوذ الإقليمي والدولي.
والآن جاء الدور على إيران وعليها أن تختار وسريعا. فالمهلة المحددة لها لتحقيق التغيير في نهجها الخارجي، وليس فقط النووي، لاتتجاوز الأشهر الستة، كما توضح بجلاء مواقف إسرائيل ومعها حليفها الأكبر الكونغرس.
فهل ستكون طهران قادرة على تحقيق إجماع قومي على بدء رحلة تنازلات لاتنتهي للولايات المتحدة، كي تغادر سجن الحصار والعقوبات؟
هذا هو السؤال الأهم الذي يجب أن يجيب عليه الداخل الإيراني خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة. فلكي تنجح العلاقات الثنائية الإيرانية- الأميركية وربما تتحوّل أيضاً إلى حلف جديد بين الطرفين، يجب أن تقبل طهران بوجود إسرائيل كأمر واقع، وتتوقف عن استخدام حزب الله كورقة ضغط عسكرية على هذه الأخيرة. كما يجب عليها أن تبدأ رحلة التخلي عن الرئيس السوري بشار الأسد في مقابل بروز نظام جديد يتضمن الاعتراف بـ"مصالح" إسرائيل والسعودية وتركيا في بلاد الشام، إلى جانب مصالحها. وأخيراً، سيتعيّن عليها أن تقبل إعادة النظر في وضعية النظام العراقي الراهن، بما يكفل أيضاً مصالح السعودية وتركيا (وإسرائيل في شمال العراق).
كل هذه ستكون خطوات لامهرب منها لانجاح "الصفقة الكبرى" مع الشيطان الأكبر بعد ستة أشهر أو سنة من الآن، علاوة على نجاح المفاوضات النووية. وكلٌ من هذه الخطوات تعني أمراً واحداً: خلع إيران ردائها الإديولوجي، كما فعلت روسية حين تخلت عن صبغتها الإديولوجية الشيوعية، وكما فعلت الصين حين اسقطت الماوية لصالح الدنغية، وبدء العمل على تغيير نظامها بنفسها كي تكون "جديرة" بالدخول إلى نادي النظام الرأسمالي العالمي.
- III -
هذا قد يكون المضمون الحقيقي للصفقة النووية الإيرانية- الغربية.  أما الباقي فتفاصيل، على رغم كل الصرخات المدوية عن كوندومينيوم (حكم مشترك) إيراني- أميركي زاحف في المنطقة. وهذا بالتحديد ما فهمته مؤسسة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي عارضت كلياً موقف نتنياهو الرافض للصفقة النووية، واعتبرت هذه الأخيرة "خطوة إيجابية ومفيدة".
وسيكون علينا في مقبل الأيام أن نراقب كيف ستقوم إيران بهذه النقلة الصعبة والمريرة، وبأية تكاليف؟ وهل ستكون قادرة على الحفاظ على تماسكها الداخلي، أم تؤدي الصراعات حول شروط الشيطان الأكبر إلى تصدُّع النظام من داخله، أو حتى ربما إلى تصدع إيران نفسها (كما حدث في الاتحاد السوفييتي) تحت وطأة ضغوط الخيارات التاريخية الصعبة.

سعد محيو




الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

انتفاضة "ربيعية" واحدة لمجابهة "الشتاء النووي السوري"

انتفاضة "ربيعية" واحدة لمجابهة "الشتاء النووي السوري"

I
""لدينا كم هائل من الأدلة على ارتكاب جرائم خطيرة للغاية. جرائم حرب ضد الإنسانية، وعلى أن مسؤولين سوريين على أعلى المستويات، متورطون في هذه الجرائم.
"كما ثمة أدلة على أن قوات المعارضة المسلحة في سورية ارتكبت انتهاكات ضد حقوق الإنسان. وعلى أي حال، مدى الانتهاكات التي ارتكبها الجانبان تفوق التصوّر".
هكذا تحدثت أمس نافي ببلاي، المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الامم المتحدة في تقريرها الجديد والأخير حول الأوضاع الإنسانية في سورية. وعلى رغم أن هذه لم تكن المرة الاولى (بل ربما العاشرة) التي تحذِّر فيها لجنة حقوق الإنسان الدولية من الكارثة الإنسانية الزاحفة في بلاد الشام، إلا أنها كانت المرة الأولى التي تتهم فيها الرئيس بشار الأسد بالتورط في هذه الجرائم.
لكن، لماذا الآن؟
II

نسارع إلى القول أننا لانشكك لحظة بنزاهة هذه اللجنة ولابصدقيتها. فهي مشهود لها بالأمانة المهنية والحيادية السياسية. لكن، مع ذلك، قد يكون وارء الأكمة ماوراءها من مناورات غربية، تنوي استخدام التقرير الجديد للضغط على موسكو وطهران بهدف استبعاد الأسد عن المحصلات المنتظرة لمحادثات مؤتمر جنيف-2 (في حال انعقاده).
وهذا ليس أمراً مضراً في حد ذاته. فالرجل أثبت بالفعل أنه شخصية سايكوباثية لاتتأثر لحظة بالمعاناة الأسطورية شعبه، ولاحتى هو يذكرها أو يتذكرها خلال لقاءاته "الباسمة" و"الواثقة بالنصر" مع زواره ومريديه.
مانخشاه هو ان يتم التركيز على الأسد ويتم تناسي الكارثة الإنسانية الكبرى، تماماً كما تناست أميركا كل جرائم الحرب في سورية حين حصلت (لإسرائيل) من النظام السوري على ورقة تدمير الأسلحة الكيمائية.
وهاكم، في هذا السياق، مثالاً سريعاً على مايمكن أن يكون بالفعل "سقوطاً" أخلاقياً فاقعاً وشاملاً في المقاربة الدولية للمأساة السورية:
في 4 آب/أغسطس 2011، قال الرئيس أوباما في توجيه رئاسي:" إن منع الفظائع (في سورية) هو في جوهر المصلحة القومية الأميركية وفي جوهر المسؤولية الأخلاقية".
وفي 13 أيلول/سبتمبر 2013، قال أوباما في مقابلة تلفزيونية: " أعتقد أن سلوكيات الأسد أشعلت خرباً أهلية أدت إلى مقتل أكثر من 100 ألف شخص وتشريد ست ملايين آخرين، لكن الولايات المتحدة لاتستطيع أن تدخل وسط حرب أهلية يخوضها طرف آخر. أنا كنت مهتماً بالاسلحة الكيمائية لأنها تتعلق مباشرة بالمصلحة القومية الأميركية. وإذا ما تحقق هدف إزالة هذه الأسلحة نكون قد فعلنا أمراً صحيحا"!.
بين 4 آب/أغسطس و13أيلول/سبتمبر، كان أوباما يتنقل من موقع اعتبار الفظاِئع خطراُ عل الأمن االقومي، إلى اعتبارها شأناً لاعلاقة له البتة لا بالمصلحة القومية الأميركية بل بالولايات المتحدة نفسها بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم.
وهذا الانقلاب يفسّر بشطحة قلم كل أسباب استمرار الكارثة الإنسانية في سورية: فأميركا ومعها المجتمع الدولي أعطيا النظام السوري كل الأضواء الخضراء الضرورية لمواصلة المذبحة (والمذبحة المضادة من قِبَل غلاة المعارضة) في البلاد.
III

إن الشتاء بدأ يطرق الأبواب. وكل الدلائل تشير إلى أن مئات آلاف السوريين في داخل سورية وخارجها، لن يستطعوا الصمود وهم عراة في وجه البرد والصقيع والعواصف.
فماذا نحن الشعوب العربية العادية فاعلون؟
هل سنستمر في صمتنا القاتل وكأن مايجري مجرد ملاكمة عسكرية وسياسية عادية وليس انهياراً شاملاً لكل معاني الحضارة الإنسانية ولمبررات وجودها؟ هل سنواصل الرهان على مواقف أميركية ودولية لن تأتِ، فيما عدّاد الموت والدمار يسير بسرعة مجنونة لاسابق لها في التاريخ الحديث؟
آن الأوان كي نتحرك جميعاً، ليس لمناشدة القوى الدولية والإقليمية العمل على وقف أضخم مذابح القرن العشرين، بل للضغط عليها بكل الوسائل كي توقف مؤامرة الصمت عن عملية اغتيال وإبادة شعب بأكمله.
تجربة الربيع العربي أثبتت ان الشعوب العربية "تستطيع". وحان الوقت الآن لاستخدام هذا السلاح الربيعي لاسقاط مؤامرة الشتاء السوري الطويل، الذي بات يشبه بالفعل الشتاء النووي المدمّر  للحضارات الإنسانية. لكل الحضارات.

سعد محيو