للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الاثنين، 31 ديسمبر 2012

أين أخطأ محمد بن راشد؟





- I -
دبي تنهض ثانية؟
هذا ماتوحي به المشاريع العقارية الجديدة التي أطلقتها الشركات العملاقة نخيل (التي كانت في قلب الأزمة المالية الكبرى العام 2008) وإعمار، ودبي هولدينغ. كما يوحي به أيضاً تدفق الأموال الآتية من رأسماليي الربيع العربي الهاربين، والتجارة، والسياحة، إلى شرايين اقتصاد هذه المدينة- الدولة.

محمد بن راشد: إعادة النظر بمفهوم الحداثة؟ - الصورة من غوغل

 على رأس هذه المشاريع بالطبع مدينة محمد بن راشد الذي يُراد لها أن تكون "مدينة العالم"، والتي ستضم حديقة استوديوهات يونيفيرسال.
وعلى رغم الشكوك التي لاتزال تحوم حول المستقبل الاقتصادي لدبي، حيث أن جبل الدين باقٍ على ذروة الـ 110 مليار دولار (نصف الديون سيستحق عامي 2014 و2016) وأن المشاريع العقارية القديمة لما تنجز بعد فيما تجري الاستعدادات لأخرى جديدة، إلا أن المستشارين السابقين لحكومة دبي (والذين عادوا إلى مواقعهم الآن) واثقون أن "النهضة الثالثة" لدبي لن تخرجها من ورطتها المالية وحسب، بل ستكرّس صعودها العالمي مجددا.
قد يكون هؤلاء مخطئون (مجدداً) في تقديراتهم. لكن المرء لايستطيع إلا أن يُدهش من هذه الروح  التجارية المغامرة التي نجحت، أصلاً، خلال عقود قليلة في تحويل مرفأ صغير كان يعتاش على التجارة والتهريب وحوله حفنة مبانٍ بدائية، إلى نيويورك جديدة تعج بناطحات السحاب، وأساطير ألف ليلة وليلة، وخيالات سندباد كما مغامرات علي بابا ومعه الأربعين حرامي. هذا فضلاً عن المناخات الليبرالية الاجتماعية التي أشاعتها دبي في قلب شبه جزيرة صحراوية تقليدية ومحافظة.
- II -
بيد  أن مثل هذه الدهشة، لايجب أن تُلغي التفكير العقلاني والأسئلة الهادئة:
- لِمَن تُقيم دبي كل هذه المباني والمدن الضخمة؟
- شعار مدينة العالم جميل. لكن، كل المدن الكوزموبوليتية في العالم حرصت على أن يكون هناك توازن دقيق بين سكانها الأصليين وبين الوافدين في مجالات التعداد السكاني، وحقوق الملكية، وربما لاحقاً حقوق المواطنة. العالمية هنا، حتى في إطار العولمة، يجب أن تعني تعزيز المحلية الوطنية لاتحويلها إلى مجرد ذكرى جميلة في متحف التاريخ. وهنا شعار البنك البريطاني قد يكون مفيدا: "بنك العالم المحلي".
- ومع هذا التوازن الدقيق المطلوب في الحياة المادية، يبرز توازن ضروري أكثر إلحاحاً على صعيد الهوية والثقافة والفكر. فطالما أن العولمة لما تنتج بعد المواطن العالمي والحكومة العالمية، ستبقى الهويات والقوميات والأديان الهندية والصينية والبنغالية وغيرها عناصر رئيسة وفاعلة (وأحياناً مدمِّرة للثقافات المحلية) في أي مدينة عالمية. وهكذا، يمكن أن يكون القيمون على دبي بالفعل عالميي النزعة وحتى الانتماء، لكن هذا لن يسري بالتأكيد على أصحاب الثقافات الأخرى فيها. ليس في المستقبل القريب على الأقل.
-هل ثمة حاجة بالفعل إلى كل هذه الغابات الإسمنتية في بلد صحراوي شاسع؟ وهل الهندسة المعمارية الحالية، مهما تطورت تقنياً وعلا شأوها، تتلاءم على المدى الطويل مع البيئة والظروف المناخية الصحراوية القاسية؟
- III -

الأرجح أن الدافع الرئيس لدى محمد بن راشد وصحبه في كل مشاريعهم، هو هوى صاخب بالحداثة بكل ألوانها وصورها. هوى يرقى إلى مستوى الهوس، وهو نابع في الغالب من ردة فعل على الذاكرة الجماعية التي احتضنت صوراً من الماضي كان فيها إنسان شبه الجزيرة العربية أسير قوانين البيئة الصحراوية القاسية، والمُفقرة، وحتى الظالمة.
كل مبنى "حديث" في دبي وبقية مدن الخليج، هو محاولة للانتقام من ماضٍ سقيم. هو تمرد على ظلم الطبيعة وعواصف غبارها وشمسها اللاظية والحارقة. وهذه نزعة سايكولوجية عميقة تقاطعت في لحظة تاريخية معينة مع هيمنة أنماط الحداثة الغربية على كل أنحاء العالم، فولدت من هذين العاملين "الحداثة المكتومية" (من آل متكوم) في حلتها المتطرفة الراهنة.
هل كان في وسع محمد بن راشد ابتداع حداثة أقل تطرفاً وأكثر توازناً وحكمة، كما حاولت إمارة الشارقة أن تفعل حين ضخت الثقافة إلى مشروعها الحداثي (قبل أن تجتاحها هي الأخرى الغابات الإسمنتية التجارية)؟
لو أن حاكم دبي حمل هذا السؤال معه إلى خلوة هادئة في الصحراء وفكّر فيه ملياً، لربما خرج بنظرية حداثة أكثر جمالاً.. وأكثر ديمومة.

سعد  






الأحد، 30 ديسمبر 2012

البشر بين خيارين: الإنسان القرد.. أو السوبرمان


الانسان المنتصب: هل سيكون ماضي الإنسان أم.. مستقبله؟! (اللوحة من غوغل


- I -
اكتشاف ورواية يفصل بينهما 1،8 مليون سنة.
الاكتشاف تم مؤخراً في جمهورية جورجيا، حين عثر العلماء على  هياكل عظمية لثلاثة رجال وإمرأتين ينتمون إلى جنس "الإنسان القرد المُنتصب"(HOMO ERECTUS)، الذي يعتقد أنه قطن الأرض قبل ظهور الجنس البشري بنحو مليوني سنة.
يبلغ طول كل من هذه المخلوقات نحو 1،50 متراً، وحجم أدمغتهم نصف حجم أدمغتنا.  وفي حين أن أقدامهم قصيرة، إلا أنهم كانوا يسيرون على قدمين ويتمتعون بليونة في استخدام اليدين. ويُستدل من الأدوات الحجرية المسنونة وبقايا عظام الحيوانات في الكهف الذي عُثر فيه عليهم، أنهم كانوا يعيشون وسط وحوش ربما افترستهم.
هذا كان قبل 8،1 مليون سنة.
أما الرواية فأحداثها تجري هنا والآن في القرن الحادي والعشرين. والراوي ليس سوى العالم الفيزيائي الأميركي البارز البروفسور دايسون الذي يجاور مكتبه مكتب ألبرت أينشتاين، والذي يتصّور في كتابه "عوالم متخيلة" كيف سيكون عليه مصير الجنس البشري بعد ألف أو عشرة آلاف سنة.
فهو يرى أن البشر سيتطورون قريباً، بفعل علوم البيوتكنولوجيا، ليصبحوا قادرين ليس على التواصل بين بعضهم البعض بأسلوب "التخاطر عن بعد"(RADIOTELEPATHY) وحسب، بل سيعيشون أيضاً في كل كواكب المجموعة الشمسية، بما في ذلك حتى فوق الشهب والمذنبات.
كيف؟
عبر تطوير أشجار "فضائية" قادرة على مقاومة الأشعة فوق البنفسجية والحفاظ على الماء في عروقها. وهذا ماسيمكّنها من كسر قيد الجاذبية والنمو إلى ارتفاعات شاهقة في الشهب والمذنبات، كما في الكواكب.
دايسون يرى أيضاً أنه سيكون بالمستطاع  في وقت غير بعيد تحويل الخيال العلمي لأولاف ستابلدون (العام 1931) إلى حقيقة علمية. وكان هذا الأخير تخيّل المخلوقات المريخية كغيوم خضراء صغيرة تتكون من قطرات دقيقة. وهذه القطرات هي كناية عن وحدات حيوية تخدم كعضلات ووصلات عصبية، تمكّن الغيوم من التصرّف ككيانات فردية مستقلة. ويؤكد دايسون أن الجينوم والبيوتكنولوجيا باتا قادرتين الآن على تحويل هذا الحلم إلى حقيقة.

- II -

ما الرابط بين إكتشاف الـ 1،8مليون سنة وبين رؤى دايسون؟
إنه رابط مزدوج:
فهو، من ناحية، يذكّرنا بالقفزة الكبيرة التي حققها البشر من الحجر المُسنّن والدماغ الصغير إلى سفن الفضاء والكومبيوتر، وقريباً إلى التخاطر عن بعد عبر الزواج السعيد بين الخلايا الحية للدماغ وبين خلايا سيليكون الكومبيوتر.
وهو، من ناحية أخرى، يحذّرنا من أن هذه القفزة قد تكون نحو هاوية الانقراض (كما حدث لجنس "الإنسان المُنتصب") في حال واصل البشر الدوس على البيئة، وقوانين الطبيعة، والعلاقات التضامنية في ما بينهم.
دايسون انتبه إلى هذه النقطة الأخيرة، فخصص فصلاً كاملاً للحديث عن القيم الأخلاقية والوعي العقلاني. كتب يقول: " لكي يستطيع الجنس البشري البقاء والتطور، عليه أن يتمتع بـ"الصحة العقلية" التي يمكن تعريفها بأنها القدرة على العيش بتناغم واتساق مع قوانين الطبيعة".
لكن، هل هذه "الصحة العقلية" متوفّرة الآن؟
- III -

كلا، ولاحتى نسبياً، كما تدل على ذلك طريقة تعاطي أميركا وبقية الدول الكبرى والصاعدة مع مناخ أُمّنا الأرض السقيم.
لكن، يبقى الأمل في يقظة كبرى جديدة في الوعي البشري. يقظة أخلاقية روحية بالتحديد، بمقدورها وحدها  دفعنا إلى إلى الأمام نحو مستقبل "العوالم المتخيّلة"، بدل إعادتنا إلى الخلف 1،8 مليون سنة!

                                                                                سعد




السبت، 29 ديسمبر 2012

سورية والعراق: هل أزفّ زمن الدويلات المذهبية؟

الانبار: سورية والعراق في زورق واحد- الصورة من غوغل





- I -
يبدو أن تهديد الرئيس بشار الأسد في المراحل المبكرة الأولى من الانتفاضة السورية بأنه سيفجّر المنطقة، سيثبت أنه كان نبوءة ذاتية التحقق، ولكن بشكل معكوس:
بدل أن يفجَّر هو سورية المنطقة طائفيا لصالحه، تتفجّر المنطقة الآن في وجهه.
الدليل؟
إنه موجود وفاقع الوجود هذه الأيام في العراق. فما يسميه الآن المنتفضون في محافظة الأنبار العراقية "الثورة ضد تهميش السنّة"، هو في واقعه سبب محلي ونتيجة إقليمية في آن: سبب محلي، لأن السياسات الطائفية والمذهبية التي أرساها الاحتلال الأميركي في عراق مابعد الغزو وواصلها المالكي، حوّلت السنّة من مجموعة تنتمي إلى أمة عربية إلى جماعة تنزوي في حضن الطائفة- العشيرة. وهو نتيجة إقليمية، لأن سنّة العراق، الممتعضين أصلاً من دعم حكومة بغداد لنظام الأسد مالياً ونفطياً وإعلاميا، شعروا بالقوة والتمكين بعد المكاسب العسكرية على الأرض التي حققها، ولايزال يحققها، جيرانهم من الأغلبية السنيّة السورية طيلة الشهرين المنصرمين.
وهكذا، تقاطعت الأزمة الطائفية العراقية مع الحرب الأهلية السورية لتخلق كوكتيلاً خطراً قد يثبت بعد حين أنه متفجر إلى أبعد الحدود، في حال لم تحدث انشقاقات كبرى في الطائفة العلوية السورية تُنهي حال الاستقطاب الطائفي الحاد الراهنة، وأيضاً في حال ركبت حكومة المالكي رأسها وقررت مواجهة العين الطائفية بالعين الطائفية، والسن المذهبية بالسن المذهبية.
وإذا ماحدث ذلك، ستفتح مشاريع إعادة رسم خريطة المشرق العربي على مصراعيها على الأسس الطائفية والمذهبية والعرقية التي باتت أكثر من معروفة. فسنّة سورية والعراق قد يشكّلون اتحاداّ قوياً تعززه الروابط القبلية والمذهبية وتسنده حقيقة الجوار الجغرافي. وسيكون للعلويين دولة، وسيحاولوا أن يخلقوا لها امتداداً في سهل البقاع الشيعي اللبناني (وإن كان هذا يبدو أمراً صعب المنال بسبب مصالح شيعة لبنان المحلية والعربية والإيرانية الخاصة)، كما سيكون للدروز وأكراد سورية والعراق دويلاتهم الخاصة.
- II -

هل وصلنا بالفعل إلى هذه المرحلة الخطرة؟
ليس بعد، أو ليس تماماً.
لكن استمرار تمسك "الأصوليين العلويين" بالسلطة ، ومعه تواصل الحرب الأهلية الاستقطابية في سورية، واستمرار السياسات الطائفية في العراق، سيكون وصفة ممتازة لجعل تهديدات الأسد بالفعل نبوءة ذاتية التحقق، وإن على عكس ما اشتهت سفنه.

سعد

الجمعة، 28 ديسمبر 2012

"أنت أنا يا أخي"



االكل في الحزء، والجزء في الكل - الصورة من غوغل

- I -
أخبار سعيدة تلك التي نقلتها إلينا قبل أيام جامعتا هارفرد وكاليفورنيا: السعادة، كالفيروسة، مُعدية وتتنقل ليس فقط داخل المنزل العائلي أو بيت العائلة الأوسع بل حتى بين أناس لايعرفون بعضهم البعض.
الدراسة المشتركة كانت حصيلة 20 سنة من الأبحاث التي شملت 4739 مشتركاً. وهي خرجت بالخلاصات التالية:
-       السعادة تنتشر من خلال الشبكات الاجتماعية، الأمر الذي يعني أن سعادتك قد تؤثر إيجاباً على أشخاص لم تقابلهم في حياتك.
-       ثمة علاقة إحصائية ليس فقط بين سعادتك وسعادة أصدقائك، بل أيضاً بين سعادتك وسعادة أصدقاء أصدقاء أصدقائك.
-       الحزن أيضاً معدٍ لكن بدرجة أقل من السعادة التي يبدو أنها تخلق بين الأفراد ما يشبه شبكة العنكبوت الإلكترونية.
الدراسة اكتشفت أيضاً أن البدانة كما التدخين تنتقل بالعدوى. وهكذا إذا كان جيرانك على بعد كيلومتر أو كيلومترين شرهين في تناول الطعام أومدمنين على التدخين، فهذا سيزيد من احتمال وقوعك بين براثن البدانة أوكارثة السجائر بنسبة مرتفعة تتراوح بين 10 وحتى 20 في المائة.
- II -

اكتشافات مذهلة؟
بالتأكيد, لكنها ناقصة. فالدراسة تؤكد لنا ان السعادة معدية، لكنها لم تقل لنا لماذا، أوما التفسير العلمي لذلك. كيف يمكن لأحاسيس فردية خاصة، لها حتماً معطياتها الذاتية وأسبابها الشخصية، أن تصبح جماعية أوشبه جماعية على هذا النحو؟.
في الاحوال العادية التي يكون فيها الاتصال بين الأشخاص، حتى ولو لايعرفون بعضهم البعض، مباشراً قد يكون الأمر مفهوماً، لأن المرء يشعر فوراً بما يشبه التيار الكهربائي ينساب إلى كل جسده. لكن أن يحدث ذلك بين بشر لم يلتقوا في حياتهم، فهذا مدعاة إلى كثير من الاستغراب والدهشة.
التفسير الوحيد المعقول هو ذلك الذي يقدمه أرباب التأمل التجاوزي والصوفيين وأنصار وحدة الوجود: البشر في الواقع، كما كل المخلوقات والموجودات، كيان مشترك أشبه بجسم واحد يتكوّن من مليارات الخلايا التي قد تكون مختلفة الاختصاصات لكنها تتشاطر وجوداً واحداً. هذه الحقيقة لانستطيع نحن البشر العاديين أن ندرك كنهها لأننا نعيش في سجن خاص اسمه الوعي الفردي أو الاناني الذي يصوّر لنا أننا منفصلون عن باقي جنسنا وعن باقي المخلوقات وعن كل الطبيعة، فيما الواقع ان الكل متصل بالكل: من أصغر فراشة إلى أضخم الديناصورات، ومن أدق ذرة إلى أعظم المجرات.
وهذا أمر يثبته العلم الأن بجلاء بحيث بات في الإمكان التحدث عن عقل جماعي بشري واحد، وعن روح جماعية مشتركة، والأن عن انفعالات جماعية واحدة كما تثبت دراسة هارفارد وكاليفورنيا.
كم كان الأديب الكبير ميخائل نعيمة محقاً حين كان يكرر باستمرار القول، مستشهداً بفلاسفة وحدة الوجود: "أنت أنا يا أخي".
حقاً أنت أنا يا أخي، في السراء كما الضراء، في السعادة كما في الشقاء. شئنا ذلك أم أـبينا!

سعد                                                                            _____________________________________________




الخميس، 27 ديسمبر 2012

السعودية: اعتقال تركي الحمد تهديد.. للاسلام نفسه





- I -
"إعلم أن لك مع الأمراء والظَلَمَة ثلاث أحوال: الحالة الأولى، وهي شرُّها، أن تدخل عليهم، والثانية، وهي دونها، أن يدخلوا عليك، والثالثة، وهي الأسلم، أن تعتزلهم فلاتراهم ولايروك".
                                                (الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين)

المفكر والروائي السعودي تركي الحمد لم يفعل شيئاً طيلة مسيرته الفكرية المديدة سوى الالتزام بالنصيحة الثالثة للإمام الغزالي.



 فهو "لم يدخل" على الأمراء، ولاقبل أن يدخلوا عليه بإغراءاتهم الدنيوية، وأغرق نفسه في "عزلة إبداعية" منوعة أنتجت حصاداً ثقافياً وفيراً شمل:

 الثلاثية الشهيرة "أطياف الأزقة المهجورة، والحركات الثورية المقارنة، ودراسات أيديولوجية في الحالة العربية (1992)، وكتاب الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (1993)، ثم كتاب عن الإنسان أتحدث (1995)، والثقافة العربية في عصر العولمة، ثم عاد إلى الكتابة الروائية، مصدرا روايتين هما شرق الوادي ثم جروح الذاكرة، وعملين غير روائيين، هما على التوالي: ويبقى التاريخ مفتوح،ا ومن هنا يبدأ التغيير. أما آخر أعمال الكاتب فهو رواية ريح الجنة الصادرة العام 2004.

هذه الأعمال محضت الفكر والأدب السعوديين مكانة مرموقة في المنطقة، وكان يُفترض بالتالي أن تحظى بالعرفان والتقدير الرسميين، بغض النظر عن تباين وجهات النظر حيالها بين المؤسسة الملكية- الكهنوتية الحاكمة وبين المؤلف.

- II -

 

لكن هذا لم يحدث. العكس هو ماحدث.

فقد تم اعتقال الحمد قبل أيام، ووجهت إليه اتهامات ترقى تقريباً إلى مستوى التكفير، ليس لإصداره كتاباً جديداً لم يعجب هذه المؤسسة، بل لأنه اطلق بعض تغريدات سريعة على تويتر جاء فيها: "خدعونا فقالوا شرع الله، وما هو في النهاية إلا بنات أفكارهم. سيد الخلق  جاء بعقيدة الإنسان، فحوّلها البعض إلى عقيدة بغضاء الإنسان”. كل الأديان تدعو إلى الحب.. فمن وجد في قلبه ذرة من كره فهو ليس على شيء.. وإن صام وصلى.. الممارسات والشعائر لا تعني ما يعتمل في القلب“..

ماذا في هذا النص مايستدعي الاعتقال والتحقيق والاستجواب، وصولاً إلى الرمي بالكفر كما فعلت المؤسسة الملكية-  الكهنوتية الوهابية، التي تكرر الآن حرفياً ما كان يفعله تحالف القياصرة والبابوات في أوروبا القروسطية: مصادرة كل حرية فكر، واعتبار الحكم المطلق للأسر الحاكمة "حقاً إلهياً". وهكذا، كان الملوك والأمراء يطلقون يد رجال الدين في فرض أقسى أنواع الاضطهاد الفكري والنفسي على الناس، وينالون منهم "شرعية الحكم الإلهي" الذي يعتبر أي اعتراض عليه خروجاً على شرع الله.

حصيلة هذا الزواج غير المقدس بين الملكية والكهنوت معروفة: تدمير الدين نفسه في أوروبا الغربية إلى درجة الانقراض، بعد أن بات الناس في القارة العجوز يعتبرون الاضطهاد والدين وجهين لعملة واحدة. ولم تبدأ الكنائس باستعادة دورها في الشأن العام، إلا بعد أن تخلّت الكنيسة الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينيات عن فكرة الهيمنة الكاملة على أرواح الناس وعقولهم وسلوكياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وتوقفت عن دعم الطغيان السياسي.

كتب خوسيه كازانوفا، في مؤلفه المهم "الأديان العامة في العالم الحديث،: " لعل الاتحاد القيصرو-بابوي بين العرش والمذبح في ظل نظام الحكم المطلق، هو الذي حدد، وأكثر من أي عامل آخر، أفول الدين في أوروبا".

بكلمات أوضح: أدى إدعاء الحلف الملكي- الكهنوتي أنه يدافع عن الدين، من خلال مصادرته لكل الحريات والحقوق، إلى إجهاض هذا الدين نفسه على يد الثورات الشعبية- النخبوية، وإلى إخراجه كلياً من دائرة الشأن العام أولاً ثم حتى من دائرة الفضاءات الخاصة في المجتمعات الأوروبية.

فهل يتكرر هذا الأمر أيضاً الآن في السعودية، وأيضاً في جمهورية الملالي في إيران، حيث تصادر السياسة في كلا البلدين الدين وتضع المشيئة الالهية في خدمة أنظمة زمنية قمعية وقروسطية؟

ربما. ومن يدري؟ قد لايتوقف الأمر عند اعتقال تركي الحمد وغيره من أصحاب العقائد الحرة، بل حتى قد يطال في نهاية المطاف حتى الإمام الغزالي المحافظ لمجرد أنه عنون كتابه بكلمات "إحياء علوم الدين"!

سعد

 

 

 


الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

القمة الخليجية: جنسية لامواطنة، ورعايا لا مواطنون





قمة البحرين: الاولوية لأجهزة الأمن- الصورة من غوغل


- I -
الصدف وحدها شاءت أن يتزامن اعتقال المفكر والروائي السعودي البارز تركي الحمد، مع انعقاد القمة الخليجية في البحرين تحت العنوان البارز(والثابت): تحقيق المواطنة الخليجية الواحدة، عبر اتحاد سياسي واحد.
وهذا مايطرح السؤال فوراً: أي مواطنة يعنيها قادة دول الخليج؟ هل هي تلك المواطنة المعروفة في شتى الأعراف الدستورية الدولية، التي يتساوى فيها المواطنون، والحكام والمحكومون، أمام القانون، وبالتالي يتمتعون بكل مانصّت عليه شرعات حقوق الإنسان والواثيق الدولية، أم أن المقصود فيها فقط هو منح جنسية مشتركة لـ"رعايا" (لامواطنين) خليجيين؟
اعتقال الحمد لمجرد أنهم غرّد ببعض الإفكار على تويتر(وهذا ماسنتطرق إليه في مقال الغد)، وقبله وبعده فرض حظر على كل حريات التعبير والرأي والفكر في دول الخليج (ماعدا الكويت)، تشي بأن الأسر الخليجية الحاكمة لاتعني بالمواطنة سوى الجنسية، ولاتنظر إلى المواطنين سوى على أنهم مخلوقات إقتصادية بحتة تعيش بالخبز وحده، تماماً مثل الطيور في أقفاص ذهبية.
وهذا ليس مجرد استنتاج تمليه ممارسات هذه الأنظمة على أرض الواقع، بل هو يستند أيضاَ إلى ركيزتين نظريتين:
الأولى، عبّر عنها أمير سعودي رفيع مؤخراً في مجلس خاص، حين تساءل: ماهدف الديمقراطية؟ أليس هو تحقيق العدالة الاجتماعية؟ إن هذا بالتحديد ما تفعله أنظمتنا حين توزّع العطايا والهبات على المواطنين.
هذا المنطق يفسِّر بشطحة قلم طبيعة النظرة البطريركية المتعالية التي تُطل من خلالها الأسر الحاكمة على مواطنيها: إذ هي لاتمنحهم حقاً من حقوقهم في ثروات وطنهم، بل تمن عليهم بـ"الإحسان وعمل الخير". ثم أن هذه النظرة تُسقط عن هؤلاء المواطنين أهم مايجعلهم بشرا: الحرية، بكل أبعادها الوجودية والفكرية والثقافية والسياسية، وحقوق الأنسان والمواطنة الحقة. ولانريد أن نقول هنا أكثر من ذلك.
الركيزة الثانية هي مصادرة الأسر الحاكمة للاجتهاد في الإسلام، ولمعنى الإسلام في العصور الحديثة، ولدور الإسلام في المجتمع. وهكذا، أي اجتهاد لا يصب في صالح تأبيد السيطرة السياسية والهيمنة الفكرية للأسر الحاكمة، يعتبر لاإسلامياً، لا بل حتى كفرا. وهذا يشمل كل شيء تقريباً في حياة المجتمع المدني: من حق التظاهر والتجمع وتشكيل الأحزاب، وإصدار الصحف والمطبوعات غير التابعة للأسر الحاكمة، وإنشاء المسارح ودور السينما، إلى حقوق المرأة كإنسان وحرياتها كمواطن.

- II -

هذه المواقف تأتي في وقت يشهد فيه كل العالم صعوداً جديداً للدين في النطاق العام لحياة المجتمعات بعد انحسار دام قرنين ونيف، لكن ليس استناداً إلى القمع والاضطهاد الفكريين القروسطيين، بل إلى تبني الإديان لمطالب الشعوب في التحرر والحداثة والهوية الإنسانية الجديدة.
وهذا مايجعل البون شاسعاً للغاية بين الإسلام الخليجي(إذا جاز التعبير)  الجامد، وبين الإديان الرئيسة النشطة في العالم التي تبلور الآن حداثة، وحتى علمانية، من نوع جديد.
أهم علائم هذا الجمود الخليجي ماجاء في البيان الختامي  للقمة في البحرين، من تركيز شديد على دور أجهزة الأمن والمخابرات في كل دول مجلس التعاون. قال:" أقر المجلس الأعلى الاتفاقية الأمنية لدول المجلس، مؤكداً على أهمية تكثيف التعاون سيما في مايتعلق بتبادل المعلومات (الاستخبارية) بين الاجهزة الأمنية في الدول الأعضاء". كما أشاد المجلس بـ" قدرة الاجهزة الامنية البحرينية وتعاملها مع الاحداث".
وكلا هذين الموقفين يعنيان بوضوح أن دول المجلس حسمت أمرها: فهي قررت فرض الحلول الأمنية- الاستخبارية على كل أنواع المعارضة الفكرية والسياسية في مجتمعاتها.
وهذا، بالمناسبة، دليل  على ضعف الشرعية لا على قوتها.
***
ماذا الآن عن تركي الحمد؟
 (غدا نتابع)
سعد





.

الثلاثاء، 25 ديسمبر 2012

ربنا لا نسألك رد القضاء..


- I -
دراسات السياسة عبر تشابكها مع علوم الحياة،  هي فرع جديد من فروع العلوم، يستهدف تعميق فهمنا لتأثيرات ما يسمى " السلوكيات البيولوجية " البشرية والعوامل البيئية على مستقبل المجتمعات وتطورها .

مصير الحياة على الأرض بات متعلقاً بقرارات الانسان- الصورة من غوغل

أحد قباطنة هذا الفرع الجديد، البروفسور لينوتن كيث كالدويل، يرى أن المجتمعات البشرية الحديثة، وفي خضم إعادة تشكيلها للبيئة الطبيعية، فشلت في الأخذ بعين الإعتبار الاهمية الهائلة لمضاعفات عمليات التغيير هذه على ظروف الحياة على الأرض.
كتب، في دورية " السياسة وعلوم الحياة" : " البشر الحديثون حققوا بمساعدة العلم (والتكنولوجيا المستندة إلى هذا العلم) قدراً هائلاً من النجاح. لكنهم في الوقت نفسه، جعلوا الحياة نفسها مكشوفة أمام مخاطر ضخمة، وأحاطوا المستقبل بعلامات إستفهام وتعجب أضخم. وهكذا، فإن السلوكيات والإفتراضات التي خدمت الإنسانية لقرون طويلة، لم تعد مناسبة الان".
علماء إجتماع آخرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك. قالوا أن الفتوحات العلمية والتكنولوجية التي مكنّت البشر من إعادة تشكيل الطبيعة وتحقيق المستوى الراهن من الحضارة، لن تكون مجدية لأنقاذ الإنسانية. لماذا؟ لأن هذه الفتوحات دفعت هذه الأخيرة إلى القفز فوق المخاطر العميقة الكامنة في تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها قوانين الطبيعة حول حدود إستخداماتنا للبيئة.

- II -

طيلة عهود سحيقة في التاريخ، عاش البشر داخل الأطر الطبيعية لتوازنات البيئة، مستفيدين من كرمها، ومتناغمين مع إيقاعاتها، ومتأقلمين مع سلبياتها. بيد أن البشر المحدثين يعيشون الأن في بيئة إصطناعية مخترعة، تطورت بأسرع مما تستطيع القدرات البيو- إنسانية  التأقلم معها. وهذا ما تسبب بالتوترات الشديدة التي يعيشها البشر الان على الصعد النفسية والإجتماعية والجسدية كافة.
 لقد أطاحت هذه التطورات بالمفاهيم والسلوكيات القديمة، وبات من الحاسم لبقاء الحياة والبشرية تطوير سلوكيات جديدة تستند إلى الآتي:
1- إعادة تكييف المعطيات السايكولوجية- البيولوجية البشرية ، ومعها البيئة الإصطناعية التي خلقها البشر، مع البيئة الطبيعية.
2- الإدراك بأن وضع النفس في مواجهة الديناميكيات الأساسية للطبيعة الكونية، لعبة خاسرة سلفاً. وكما قال فرانسيس بيكون عن حق: " لكي نستطيع إدارة الطبيعة، يجب أولاً إطاعتها".
3- ثم اخيراً الوعي بمسألة أخرى لا تقل أهمية: إذا أراد البشر ضمان مستقبل مستدام لحياتهم على هذا الكوكب، فعليهم وقف إندفاعهم نحو نمو اقتصادي لا محدود يجري في بيئة طبيعية محدودة، وأيضاً وقف إستخدام إنشطارات الذرة ليس فقط كأسلحة دمار شامل، بل حتى أيضاً كطاقة سلمية .

- III -

أين نحن من كل هذه التحديدات والتعريفات التي إستحدثتها دراسات " السياسة وعلوم الحياة "؟
في لا مكان!
فلا قوانين الطبيعة في مجال المناخ( على سبيل المثال) تحترم، على رغم كل التحذيرات من كوارث إحترار المناخ الذي يتسبّب به البشر. ولا الدعوات إلى وقف التلاعب بنوات الذرات تستجاب. العكس يحدث، وعلى كل المستويات، خاصة منها الان إندفاع 40 دولة لحيازة الأسلحة النووية بوصفها " أسلحة عادية أو تقليدية".
إنه الجنون وقد بدأ يدّمر صاحبه، والأنانية وقد باشرت قضم " أناها". إنه خطر " التدمير الذاتي" نفسه الذي وقع على رأٍس كل الحضارات البشرية السابقة في التاريخ، والتي نسفت نفسها عبر نسفها البيئة التي منها تعيش.
هل أمامنا مخرج ما من هذه المصير "غير المشرق"؟
أمر وحيد على ما يبدو: التضّرع إلى الله تعالى، لا  لنسأله رد القضاء بل  اللطف به.. بقدر الإمكان!
                                                                                سعد 

الاثنين، 24 ديسمبر 2012

سورية: لماذا أفلت العنف الدموي من عقاله؟





- I -
ثمة تفسيران للعنف الوحشي المنفلت من عقاله هذه الأيام في سورية، والذي كانت مجزرة الخبز في حلفايا تجسيداً فاقعا له: الأول سياسي، والثاني ثقافي.
التفسير السياسي يجب أن يكون واضحا: صقور النظام السوري سيلجأون إلى المذابح والمجازر في كل مرة يلوح فيه أفق تسوية سياسية ما، لأن مصيرهم بات مرتبطاً بكسب الحرب بأي ثمن، لابدفع أثمان مقابل تسوية ستكون حتماً على حسابهم.
وهكذا، كان متوقعاً أن يترافق وصول الأخضر الإبراهيمي، الذي يقال أنه يحمل إلى الأسد مشروع تسوية روسية- أميركية مشتركة، مع مجازر ما، كوسيلة "مثالية" لاطلاق رسائل رفضية مخضّبة بالخبز والدم برسم كل الأطراف الدولية المعنية.
هذا الموقف الصقوري في الداخل السوري، يتقاطع مع موقف إقليمي قد لايقل صقورية تتزعمه إيران، التي يبدو أنها تجد نفسها الخاسر الأكبر في أي صفقة دولية لحل الأزمة السورية، ومعها أطراف قومية روسية تحبذ مواصلة منازلة الغرب على الأرض السورية حتى الرمق الأخير. هذا إضافة بالطبع إلى إسرائيل التي ستخدم الحرب الأهلية السورية المديدة استراتيجيتها لترميم صرح إمبراطوريتها الصغيرة في المشرق العربي.
- II -


كل هذه المعطيات تشي بمدى تعقيد الأزمة السورية، بعد أن تدوّلت هذه الأزمة إلى حد بعيد، وبات أي اقتراح تسوية فيها يحتاج إلى أن يدور على كل عواصم الشرق الاوسط وأميركا وأوروبا وروسيا، قبل يحط الرحال دمشق.
بيد أن هذا التدويل الحاد لم يكن ليبرز لولا أن ثمة عوامل احتضان محلية سورية توافرت له. وهنا يبرز التفسير الثاني للعنف السوري: الإرث الثقافي اذلي يمكن تلخيصه بثلاثة عوامل متقاطعة:
الأول، العنف الهائل الكامن في سيكولوجيا الطائفة الجَبَلِية العلوية، الناجم أساساً على الاضطهاد والنبذ التاريخيين اللذين تعرضت لهما على مدى أكثر من ألف عام. وهذا ماعبّر عنه رحالة فرنسي زار جبال العلويين في أواخر القرن التاسع عشر :" مناطق هذه الطائفة هي جهنم حقيقية على الأرض، حيث يسود الفقر والأمراض والغضب والخوف من الاضطهاد الأكثري. والحال أن ماحدث في هذا الجبال هو أن الإنسان لم يؤنسن الطبيعة، بل الطبيعة هي التي "وحشنت" الإنسان".
صحيح أن الانتداب الفرنسي، وإعادة توحيد الدولة العلوية التي قامت في العشرينيات مع الوطن السوري، ومن بعدهما الاستقلال، ومن ثَمَ بروز حزب البعث العربي الاشتراكي، أخرجا العلويين من عزلتهم التاريخية القاتلة ودفعت بهم إلى مدينتي اللاذقية وطرطوس أولاً ثم لاحقاً إلى مدن دمشق وحمص وحماه، إلا أن ثقافة العنف- الخوف بقيت ماثلة، وعززها انخراط العلويين الكثيف كمقاتلين في الجيش منذ الانتداب، كما في حزب البعث الذي حمل أساساً فكراً شمولياً، وفاشياً في بعض الأحيان، مناهضاً للديمقراطية الليبرالية.
وهكذا اقتصر تمدين الريف العلوي على نخبة متنورة قدمت اسهامات كبرى في الثقافة والفن والمسرح والفكر، فيما بقيت السطوة الرئيس للمخزون العنفي في مؤسستي الجيش وحزب البعث. وقد كان الأمر يحتاج إلى ثورة ليبرالية حقيقية كي يتحوّل اندماج العلويين في المجتمع والدولة والسياسة العامة من حركة مفروضة بالقوة، إلى توحّد مستند إلى المقبولية المشتركة. وهذا أمر كان ممكناً بعد أن عمد حافظ الأسد إلى إ    ضعاف الدين العلوي وألحقه بالتيار الإسلامي الشيعي العام. بيد أن هذا الممكن بقي مشروعاً على الورق.
العامل الثاني للعنف سنّي هذه المرة، وهو ينبع من الحقيقة بأن الثورة السورية الراهنة بقضها وقضيضها هي ثورة الريف السنّي على المدينة العلوية- السنية التي نشأت من صفقة ضباط العلويين مع تجار المدن. وبما أن أي ريف فقير هو بالضرورة البيئية والجغرافية ريف عنفي، كان طبيعياً أن تكون المجابهة مع السلطة العلوية عنيفة هي الأخرى.
العامل الثالث للعنف هو الثورة الديمغرافية التي شهدتها سورية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي برزت فيها "طفرة شباب"  (Youth bulg ) كانت كثرة منهم عاطلة عن العمل، ومحرومة، وتحمل إديولوجيات دينية متطرفة، ساهم في بروزها الفشل المريع للقومية العربية العلمانية في تحقيق تحقيق نهضة حداثية ووطنية حقيقية تشمل كل فئات المجتمع، ناهيك بفشل المشروع القومي نفسه (وحدة، حرية، اشتراكية).
- III -
هذه، على مانرى، بعض أسباب العنف الحاد في سورية. وبالطبع، ثمة أسباب أخرى تتعدد بتعدد فروع العلوم الإجتماعية والتاريخية والسيكولوجية والسياسية.
وأي تسوية لاتأخذ في الاعتبار معالجة مسألة جذور العنف وأسبابه، ستكون قاصرة عن تحقيق النجاح أو الديمومة لنفسها.
فالتسوية في أي مجتمع تعددي يجب أن تكون ثقافية بقدر ماهي سياسية.

سعد




السبت، 22 ديسمبر 2012

سورية بين تباطؤ واشنطن وعجلة موسكو




إلى أن تصل واشنطن وموسكو إلى اتفاق على ضبط توقيت ساعتيهما على إيقاع الحل المشترك( وهو حل آتٍ لامحالة)، سيكون ثمة فسحة قليلة أخرى من الوقت أمام عائلة الأسد لمواصلة مسلسل الدمار، وفي الوقت نفسه لحزم أمتعها استعداداً للرحيل.
اوباما- بوتين: ضبط الساعات السورية- الصورة من غوغل


- I -
لم يعد ثمة شك (كما أشرنا في مقال أمس) أن روسيا باتت جاهزة لإبرام صفقة حول سورية تتضمن، في محصلاتها النهائية، وضع حد لحكم عائلة الأسد المستمر منذ 40 سنة. لكن، هل الولايات المتحدة مستعدة لملاقاتها في منتصف الطريق؟
ضع جانباً البيانات الدبلوماسية الأميركية، التي تلهج بالحديث عن ضرورات التسوية السياسية وعن مامعاناة الشعب السوري، فتكتشف فوراً أن ماتريده واشنطن غير ماتقوله. إذ يبدو أن ذلك الجناح في الإدارة الأميركية الداعي إلى مواصلة القتال حتى سقوط النظام, لاتزال له اليد العليا في البيت الأبيض.
ويبقى الانتظار لمعرفة ما إذا كان ترشيح جون كيري كوزير للخارجية، بما عُرف عنه من اتصالات وثيقة مع الروس وتمسّك بالحلول الدبلوماسية (كان أول من وصف حرب فيتنام العام 1960 بأنها "خطأ")، قد يغيِّر مواقف البيت الأبيض.
لكن، حتى الآن، تبدو واشنطن سعيدة بغرق أيران في الوحول السورية، الأمر الذي يستنزف اقتصادها على نحو خطير (مليار دولار شهرياً لدفع رواتب موظفي الدولة السورية)، ويدمّر ماتبقى من نفوذ سياسي- إديولوجي لها في الشرق العربي. كما أنها (واشنطن) تشعر الراحة لتآكل مواقع موسكو الأخلاقية في العالم، بسبب دعمها لرئيس سوري يصفه المسؤولون الروس أنفسهم في مجالسهم الخاصة بأنه "جزار". (وفق معلومات نيويورك تايمز).
وفوق هذا وذاك، يشكّل تقدُّم المعارضة المسلحة السورية مؤخراً على جبهات قتال عدة، مبرراً لواشنطن كي تقول أن التدخل العسكري الغربي في سورية، لم يعد ضرورياً، ولتروِّج أيضاً (وإن كجزء من الحرب السايكولوجية) أن سقوط النظام بات وشيكا.
- II -

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: واشنطن تحبذ تسوية مع موسكو لحل الأزمة السورية، كما دلّت على ذلك المفاوضات الخاصة الروسية- الأميركية الأخيرة، لكنها ليست مستعجلة لإبرامها بسرعة. فيما موسكو باتت الآن تريد هذه التسوية بسرعة، بعد أن بدا واضحاً أن كل وعود النظام السوري بحسم الأمور عسكرياً باءت بالفشل وأن سيطرته على البلاد تتآكل ببطء ولكن بثبات.
وهكذا، تبادل الطرفان المواقف، بعد أن كانت واشنطن هي التي على عجلة من أمرها، فيما كانت موسكو قبل أشهر غير مستعجلة البتة لاعتقادها أن الأسد سيفوز.
وإلى أن يصل الطرفان إلى اتفاق على ضبط توقيت ساعتيهما على إيقاع الحل المشترك( وهو حل آتٍ لامحالة)، سيكون ثمة فسحة قليلة أخرى من الوقت أمام عائلة الأسد لمواصلة مسلسل الدمار، وفي الوقت نفسه لحزم أمتعها استعداداً للرحيل.

سعد




الجمعة، 21 ديسمبر 2012

باي باي عائلة الأسد؟


عائلة الأسد قبل العام 1994- الصورة من غوغل

أربع مبادرات تؤكد أن الحل الدولي وضع على نار حامية
بوتين: "باي باي" عائلة الأسد
- I -
أربع مبادرات خلال أسبوع واحد، تشي بأن طبخة الحل الدولي في سورية قد وضعت على نار حامية: إثنتان منها روسيتان، والثالثة سورية، والرابعة أميركية.
المبادرتان الروسيتان جاءتا على لسان كلٍ من الرئيس الروسي بوتين ونائب وزير خارجيته بوغدانوف. وكلتاهما بدتا مكملة للأخرى. فالأول أعلن للمرة الأولى أن "شغل روسيا الشاغل هو مصير روسيا وليس مصير الأسد". لكن الأهم (وسنرى لماذا بعد قليل) هو قوله أنه يكفي سيطرة عائلة الأسد على السلطة طيلة 40 عاما. أما الثاني، فقد اعترف بأن انتصار المعارضة العسكرية ليس مستبعدا.
وقد أطلقت موسكو كل هذه المبادرات القوية، فيما كانت قطع البحرية الروسية تبحر نحو طرطوس ربما لإجلاء أكثر من 50 ألف مواطن روسي يقيمون في البلاد.
المبادرة السورية كانت للصامت الأكبر في قمة النظام السوري فاروق الشرع، نائب الرئيس، الذي أفصح علناً، وللمرة الأولى أيضاً، عما كان يُسر به بصوت خافت في مجالسه الخاصة طيلة نيف وسنة: الحل العسكري- الأمني خيار فاشل، ولابد من تسوية محلية- إقليمية- دولية على نمط اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الأهلية اللبنانية.
أما المبادرة الأميركية فقد تمثَّلت في وضع جبهة النصرة على لائحة الإرهاب. وهذه الخطوة لم تثر الاهتمام الإعلامي والسياسي المناسب على رغم أهمتيها الفائقة، إذ أنها في العمق كانت "بيعة" أميركية واضحة لروسيا قوامها التالي: إذا ما كنتم (الروس) قلقون من سيطرة الإسلاميين الجهاديين على بلاد الشام، فنحن مستعدون لإبرام صفقة معكم تقوم على ضرب هذه السيطرة ومنعها من أن تكون جزءا من التسوية.
ويبدو واضحاً الآن أن هذه "البيعة" دشّنت مفاوضات فعلية بين واشنطن وموسكو بهدف التوصل إلى اتفاق بينهما أولاً على مرحلة مابعد الأسد، يبنى على رفات جبهة النصرة وزملائها من التنظيمات الجهادية القريبة من تنظيم القاعدة.
- II -

أين إيران؟
هنا، في هذه النقطة الأخيرة، قد نفهم البيان الغريب الذي أطلقه قبل أيام السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، الذي حذّر فيه القاعدة (التي تكفّر الشيعة!) من "كمين ينصبه لها الأميركيون والأوروبيون في سورية". إذ ربما عكس هذا البيان رفض إيران للتسوية الأميركية- الروسية التي تطبخ الآن، والتي يبدو انها ستأتي على عكس ما تشتهي السفن الإيرانية.
فهل ستكون إيران العقبة الكأداء الكبرى أمام أي تسوية دولية للحرب الأهلية السورية؟
الأمر سيعتمد على موازين القوى داخل النخبة العلوية بين روسيا وإيران.
فإذا ما أبرمت موسكو صفقة مع موسكو ورفضها الأسد وكبار جنرالاته المتصلبين، فهذا يعني أنهم مستعدون للمغامرة في مواجهة مع مجلس الأمن الدولي الذي سيتحرك حينذاك لفرض الحل الروسي- الأميركي. وهم لن يستطيعوا فعل ذلك، إلا من خلال تأسيس "دولة علوية" في اللاذقية وطرطوس وجبال العلويين بمساندة إيران. وهو تطور سيعني استمرار الحرب الأهلية السورية لعقود عدة، مع امتدادها إلى محافظتي البقاع والشمال في لبنان.
أما إذا كان النفوذ الروسي أقوى من السطوة الإيرانية في دمشق، فقد يؤدي ذلك إلى انقسام النخبة العلوية العسكرية- الأمنية، وبالتالي إلى تحرّك المنشقين الجدد ضد الأسد وعائلته لتمهيد الطريق أمام تنفيذ الصفقة الدولية.
- III -

"باي باي"
نعود الآن إلى ملاحظتنا الأولى لنقول أن إعلان بوتين بأن عائلة الأسد حكمت سورية بما فيه الكفاية، هو الأهم في الموقف الروسي الجديد، لأنه يعني أن الحل الدولي قد تقدّم بالفعل خطوات بارزة إلى الأمام، وأن روسيا تفاوض الآن على الأرجح العديد من القيادات العسكرية العلوية لدفعها إلى التضحية بعائلة الأسد (وليس فقط الأسد وحده)، مقابل الاحتفاظ للعلويين بحصة محترمة أو على الأقل معقولة في سورية الغد، جنباً إلى جنب مع المسيحيين والدورز.
والحصيلة؟
إنها واضحة: المبادرات الأربع التي أشرنا إليها في البداية، تؤكد أن موسم اصطياد رؤوس عائلة الأسد قد بدأ، وأن الأيام والأسابيع المقبلة ستشهد مفاجآت كبرى في دمشق. مفاجآت يمكن أن تقلب المشهد السوري رأساً على عقب.
سعد