للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الجمعة، 30 نوفمبر 2012

بين الله والعلم.. وآلهة الإغريق


- I -
ماذا إذا؟
هل حان الوقت كي يُعلن الفلاسفة الماديون، انتصارهم النهائي على الفلاسفة المثاليين ومعهم الأديان السماوية وغير السماوية كافة؟

الصراع مستمر بين المادة والروح. لكن أين المادة؟- اللوحة من غوغل

هذا مايعتقده كلٌ من كريغ فينتور وفرانسيس كريك، اللذان أشرفا على تطوير أول حياة اصطناعية غير موجودة في الطبيعة من مواد كيمائية صرف. فالأول قال أن "البكتيريا التي تم تركيبها ونجحت في التكاثر كمادة حية لتصبح بالبلايين، ستغيّر نظرتنا إلى الوجود ونظرياتنا حول الحياة، وقد تكون لها منافع بيئية واقتصادية كاسحة" . والثاني، الذي سبق له أن رفض التعليم في جامعة كامبردج إذا ما كان فيها كنيسة، كرّس كل نشاطه العلمي لإثبات مادية الوجود عبر هذه التجربة.
حسناً. الانتصار العلمي واضح هنا ولايحتاج إلى إثبات. وكذا الأمر إذا ما ثبّت أن هذا النوع الاصطناعي من البكتيريا، أو غيرها من الأنواع التي سيتم تطويرها، ستكون قادرة على تحويل التلوّث إلى طاقة، وعلى امتصاص ثاني أوكسيد الكربون من الجو لصنع الوقود الحيوي وحتى الأدوية.
وكل هذا بالطبع إذا لم "تفلت" البكتيريا الجديدة من المختبر لتتكاثر في الطبيعة بشكل مُرَضِي، فتقضي على الحياة على الأرض كما نعرفها.

- II -
الآن، وبعد قول كل شيء عن الانجاز، نأتي إلى الإعجاز.
فما عقّب به  بعض المُعلقين على هذا الحدث بأنه سيحوّل البشر إلى آلهة إغريق حقيقيين، لا أساس له من الصحة. فلا البشر سيصبحون آلهة، ولا الفكر المادي سينتصر.
وهذا لمبرر مُقنع: ففينتور وكريك وبقية العلماء العشرين الذين شاركوا في هذا المشروع الذي كلّف 40 مليون دولار على مدى عشر سنين، لم يستخدموا أربع قوارير من المواد الكيمائية وحسب بل أيضاً (لابل أولاً وأساساً)  شيفرة المعلومات الموجودة في الخريطة الجينية الوراثية.
فمن أين جاءت هذه المعلومات؟
إنها حتماً ليس عنديات العلماء، كما انها حتماً ليس من الأمور العادية في الطبيعة. ففرص تكوّن هذه الخريطة عشوائياً او بالصدفة يكاد يكون مستحيلاً.
لقد اعترف العالِم فينتر بأن "الحياة هي أساساً عملية معلومات". بيد أن هذه المعلومات التي تُخلق عبرها المادة ليست هي نفسها مادية، ولاتخضع إلى قوانين الطبيعة. ثم أن كوناً من دون معلومات لايستطيع الوجود، وبالطبع من المستحيل أن يكون فيه علماء كفينتور وكريغ.
هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لاتُقل أهمية.
في الوقت الذي يُصِر فيه العلماء الماديون على عدم وجود تخطيط إلهي، لازالوا يُطلّون على هذا الموضوع من زاوية تاريخية قديمة، حين كان القدماء يتخيلون الله إما صنماً أو قمراً أو في أحسن الاحوال متجسداً في صورة رجل جليل له ذقن بيضاء طويلة ويقطن في غرفة في السماء. هذا في حين أن العديد من الفلاسفة وكل المتصوفة، من شوبنهور، واسبينوزا، الإيليين، وبروفو، وأفلوطين، وأفلاطون، والصوفيين الإسلاميين، والفيديين والبوذيين،  ثبتّوا فكرة انتشار  الوعي في كل الكون: من أصغر نواة ذرة إلى أضخم المجرات، مروراً بالطبع بكل أشكال الحياة البيولوجية وغير البيولوجية. وهذا الوعي في نهاية المطاف ليس سوى "معلومات" غير مادية.

- III -

أجل. العلم يحقق كل يوم انجازات كاسحة. لكن العلم من دون فلسفة الوجود، هو وصفة للقفز نحو المجهول. فالعلم، كما يقول ويل ديورانت، يعطينا معرفة، فيما الفلسفة وحدها تعطينا الحكمة. العلم يعلمنا كيف نشفي وكيف نقتل، فهو يخفض من نسبة الوفيات، لكنه أيضاً يقتل بالجملة في الحرب.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية قد تكون أهم: من قال أصلاً أن المادة والحياة (أو الروح) أمران متناقضان؟ لا بل من قال أن المادة نفسها موجودة حقا؟ الفيزياء الحديثة تقول الآن أن المادة ليست أكثر من موجات احتمالية لاتننثق إلى الوجود إلا حين تتم "مشاهدتها". وفيلسوف العلم برتراند رسل قال أنه
"لولا الهوى والعادة، لقلت أن هذا العالم غير موجود".
كل هذا يجب أن يعني أمراً واحدا: كلما تقَّدم العلم، كلما تعيّن على العلماء أن يتواضعوا أمام لغز الوجود. وهذا لايعني إعلان العجز أو وقف طموحات المعرفة، بل هو على العكس يدفع إلى المزيد من المعرفة والتطويرات، ولكن من دون ذلك الاعتقاد المتهور والنرجسي بأن الإنسان (المحدود بأبعاده الثلاثة والمحصور عقله في جمجمته) هو مركز الكون.                                                                                                                   سعد  


الخميس، 29 نوفمبر 2012

الإخوان والليبراليون المصريون: "من حفر حفرة لأخيه.."











كما أن اليساريين والليبراليين دفعوا الإخوان إلى أحضان السلفيين في معركة الجمعية التأسيسية، قام الأخوان بدفع اليساريين والليبراليين إلى أحضان "الدولة العميقة" المباركية.

- I -
هل باتت المرحلة الإنتقالية إلى الديمقراطية في مصر في خطر؟

الثورة تأكل أبناءها: استباكات الاخوان والليبراليين- الصورة من غوغل-

يبدو، من أسف، أن الأمر كذلك، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع: الأخوان كنا السلفيون، والليبراليون كما اليساريون والمسيحيون، إضافة بالطبع إلى "الدولة العميقة" (الجهاز المخابراتي- العسكري) لعهد مبارك.
الليبراليون واليساريون مسؤولون، لأنهم لم يأخذوا في عين الاعتبار حملات التشهير العنيفة التي يشنّها السلفيون على الإخوان، بدعم على الأرجح من قوى خليجية، من خلال اتهامهم بالتخلي عن أحكام الشريعة لصالح شرائع السياسة. وهذا مادفع الإخوان إلى التفكير بالأرقام لا بالأوطان. فطالما أن الليبراليين أقلية فيما السلفيون يملكون 25 في المئة من الأصوات، لاضرر ولاضرار من أرضائهم وأغضاب الليبراليين.
ولو أن تحالف اليسار- الوسط أخذ اللعبة السلفية في حساباته, مشفوعة بالدور الذي تلعبه مؤسسات الدولة الأخرى التابعة للنظام القديم، من جيش ومخابرات وقضاء وصحافة وأجهزة بيروقراطية، لكان أمكن لهم التوصُّل إلى اتفاق ما مع الأخوان ولو لتقطيع المرحلة الصعبة الراهنة بأقل الخسائر الممكنة.
- II -
بيد أن النقد لليسار والليبراليين هذا لايلغي البتة مسوؤلية الإخوان عن الأزمة الخطيرة الراهنة. لا بل هم الآن على رأس قائمة المسؤولين، ببساطة لأنهم يمسكون حالياً بكل تلابيب السلطات التشريعية والتنفيذية (والآن القضائية مع الإعلان الدستوري للرئيس مرسي). ولأن الأمر على هذا النحو، كانت أخطاؤهم كبيرة.
فالرئيس مرسي أثبت بالفعل افتقاره إلى الخبرة في السياسة والسلطة، حين تسرّع في إصدار إعلان دستوري  يعطيه مطلق الصلاحيات، استعدى عليه حتى حلفائه؛ وأيضاً حين نزل إلى الشارع لدعم هذا الإعلان بين المتظاهرين الإخوانيين بدل أن يتصرّف كرئيس لكل المصريين.
كما أنه تسرّع حين اعتقد أن التصفيق الحماسي الأميركي له لدوره في حرب غزة-2 كوسيط (كما نظام مبارك) مع إسرائيل، سيسهّل له سيطرته على الفوضى السياسية في الداخل. والأرجح أن الرئيس المصري فوجىء بقدرة اليساريين والليبراليين على القيام برد فعل جماهيري واسع ضد "ضربته الاستباقية".
وهنا أيضاً، أفرز سوء الحسابات محصلات خطيرة: فكما أن اليساريين والليبراليين دفعوا الإخوان إلى أحضان السلفيين في معركة الجمعية التأسيسية، قام الأخوان بدفع اليساريين والليبراليين إلى أحضان "الدولة العميقة" المباركية.
- III -

لقد حاول الرئيس مرسي الأربعاء الماضي حصر الخسائر وحفظ ماء الوجه، عبر تسريع تصويت الجمعية التأسيسية على مسودة الدستور، وعبر الدعوة إلى استفتاء عليه قريباً ، بهدف تقليص فترة الصلاحيات المطلقة التي أسبغها على نفسه. لكن الأرجح أن هذه الخطوة لن تطفىء النار بل ستزيدها اشتعالا.
إذ أن اليساريين والليبراليين والمسحييين، ومعهم قوى النظام السابق الخفية، سيقاطعون على الأرجح هذا الاستفتاء. وهذا سيعني أن أكثر من نصف المصريين سيرفضون الدستور الجديد. فهل سيكون في مقدور الإخوان بعد ذلك الادعاء بأنهم يحكمون باسم كل الشعب؟
إن استفتاءات الدساتير لاتشبه بشيء الانتخابات النيابية في الحياة الديمقراطية. فالثانية مُمكنة بأغلبية النصف زائد واحد، فيما الإجماع الوطني الشامل هو المطلوب الأولى، والذي من دونه ستكون الشرعية الشعبية منقوصة وعرجاء.
وهنا سيرتكب الأخوان الخطيئة الكبرى إذا ما اعتقدوا بأن لعبة الانتخابات النيابية هي نفسها لعبة المعطيات الدستورية. إذ حينذاك سيشرعون كل الأبواب والنوافذ إما أمام ديكتاتورية مدنية دينية، أو أمام عودة الديكتاتورية العسكرية. وفي كلا الحالين، ستكون المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية هي الضحية الأولى.

سعد  

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

تحولات متسارعة في مجرى الحرب السورية





سرعة تساقط القواعد العسكرية، وامتلاك الثوار لصواريخ حرارية مضادة للطائرات، قد يشيان بأن الحرب في سورية دخلت منعطفاً جديدا

- I -
طفت على السطح خلال الأسابيع القليلة الماضية تطورات متلاحقة على الساحة السورية، تشي بأن قدرة النظام على تحقيق هدفه في حسم الأمور عسكرياً لصالحه قد تضعضعت إلى حد كبير (أو حتى تلاشت)، الأمر الذي يفسح في المجال أمام مفاجآت قد تقع في أي لحظة في بلاد الأمويين.

أول، وأهم المؤشرات، على هذا التطور، كان نجاح الثوار السوريين في الاستيلاء على نحو ست قواعد عسكرية دفعة واحدة في طول البلاد وعرضها خلال الأسبوع الماضي وحده. هذا فضلاً عن القاعدة الجوية 666 جنوب دمشق، وقاعدة جوية أخرى جنوب غرب حلب يوم الثلاثاء الماضي.
وفي الوقت الذي كانت فيه هذه التطورات تأخذ بعضها بخناق بعض، أسقط الثوار السوريون طائرة هليكوبتر عسكرية بصاروخ أرض- جو خارج مدينة حلب الثلاثاء الماضي أيضا. وكان هذا تأكيداً على أن الثوار حصلوا بالفعل على صواريخ حرارية مضادة للطائرات، إما من مخازن الجيش النظامي الضخمة التي استولوا عليها، أو من عمليات تهريب الأسلحة التي تجري على قدم وساق من ليبيا إلى سورية على الأرجح عبر قطر.
وهذا على مايبدو مكَّنهم من تشكيل أول كتيبة صواريخ مضادة للطائرات الشهر الماضي، تتكوّن من طيارين وعسكريين جويين منشقين. ويقول مقاتل في دمشق هو محمد معاذ أن "الطيارين المنشقين يدربون الآن الثوار المدنيين. هذه قفزة نوعية في مسار الحرب، وعما قريب ستسمعون أخباراً عن إسقاط طائرات الميغ في العاصمة".

- II -
عامل حاسم
بالطبع، حصول الثوار على ترسانة صواريخ محمولة من هذا النوع، تعتبر حدثاً جللا. وللتذكير: كان قرار الولايات المتحدة بتزويد المجاهدين الأفغان بمثل هذه الصواريخ خلال حقبة الثمانينيات، العامل الأبرز الذي حسم وجهة الحرب ضد الأتحاد السوفييتي.
ويقول هنا أندرو تابلر، محلل للشؤون السورية في مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أن استخدام الثوار للصواريخ المضادة للطائرات، "حدث كبير، لكنه ليس مفاجئا". لماذا ؟ لأنه برأيه يؤكد أمرين إثنين: الأول، أن الأسلحة التي تم الاستيلاء عليها من القواعد العسكرية فعّالة وجاهزة للاستخدام، والثاني أن ثمة صحة للأنباء بأنه بعد توحيد شعث المعارضة السورية في الدوحة، بدأت بعض الدول بتزويد الثوار بأسلحة متطورة.
هذه النقطة الأخيرة، أي بدء توريد الأسلحة المتطورة من الخارج، أثارت بالفعل قلقاً شديداً في إيران، ودفعت رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني إلى الإدلاء بتصريح غاضب ينتقد فيه هذا الأمر ويعتبر أنه "يمثّل مشكلة للسوريين" (يقصد النظام).

- III -
أي معنويات؟
بيد أن التقدم الذي أحزره الثوار على العديد من الجبهات، وعلى رغم أنه كبير ومحسوس "وقد يكسر الطريق المسدود الذي ساد الحرب طيلة الاسابيع الماضية" (على حد تعبير "واشنطن بوست- 27-11-2012)، إلا أنه لايعني أن الأمور حسمت نهائياً لصالح الثوار.
فقوات النظام حققت هي الأخرى تقدماً مؤخراً في مناطق مناطق في شرق سورية  وقرب مدينة حلب، ولاتزال تحتفظ بقوات ضاربة قوية في دمشق (الحرس الجمهوري).
لكن السرعة التي تتساقط فيها القواعد العسكرية، واعتماد النظام الكبير الآن على سلاح الجو، تدفع إلى الاعتقاد بأن النواة المقاتلة في جيش النظام، والتي تتكوّن في معظمها من العلويين، إما أنها باتت مُنهكة، لأنها مضطرة على رغم محدودية عديدها للقتال على جبهات تمتد على 180 ألف كيلومتر مربع، أو أن معنوياتها تدنّت بسبب ارتفاع عدد قتلاها وفشلها في تحقيق الحسم العسكري.
وإذا ما كان هذا الافتراض صحيحا (والأرجح أنه كذلك)، فهذا قد يشرع الأبواب أمام سيناريوهات جديدة تطال هذه المرة بنية النظام السوري، ومدى قدرته على مواصلة التماسك والإمساك بمختلف وحداته العسكرية، كما المدنية.
سعد

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

الشمس "واعية"، والكون فكرة، لا آلة، عظيمة






الكون: ذرات "واعية"؟ - الصورة من غوغل


معنى الحقيقة التي يبحث عنها البشر منذ آلاف السنين قد ينقلب رأساً على عقب، بعد أن اكتشف علماء الفيزياء أن الذرات تتمتع بـ"إرادة حرة" وتتخذ خيارات غريبة.
- I -

-       هل يستطيع الفكر تغيير المادة، وبالتالي خلق الواقع والتأثير على كل مسار الكون ؟
-       هل المُثُل الأفلاطونية اللامادية موجودة حقاً، جنباً إلى جنب عالم المادة؟
-       أيُعقل أن تمتلك الشمس وبقية النجوم وعياً، كما الوعي الإنساني، وأن تستخدمه في المعركة من أجل البقاء؟
-       إذا لم تكن الذرات، كما اكتشف العلماء، شبيهة بكرات البلياردو، فهل يمكن أن تكون حقاً مجرد موجات احتمالية تبثها أوتار فائقة الصغر(Superstrings) تشكّل هي المكونات الأساسية للكون؟
-       وإذا ما كانت نظرية الأوتار الفائقة صحيحة، فهل هذا يعني أن ما تتحدث عنه هذه النظرية عن وجود تسعة أبعاد (لا ثلاثة كما نتصوّر الآن) مضافاً إليها بعد الزمن، وعن وجود عدد كبير من الأكوان المتوازية إلى جانب كوننا المرئي، صحيحاً؟
هذه الأسئلة ليست من بنات أفكار الخيال العلمي، ولا هي من خيالات الفلاسفة المثاليين. إنها قضايا تطرحها فيزياء الكم على أنه فرضيات قائمة سيكون في المستطاع إثباتها تجريبياً لاحقاً.
صحيح أنها تبدو أغرب من الخيال، لكنها مع ذلك هي التحديات الكبرى التي سيكون العلم مُجبراً على مجابهتها طيلة القرن الحادي والعشرين. وعلى سبيل المثال، مسألة قدرة الفكر على خلق الواقع، تنبع مباشرة من قلب الأبحاث التجريبية في فيزياء الكم التي أثبتت أن مراقبة العقل البشري لسلوك الجزيئيات الدقيقة وهي في خضم سباحتها في وجود يتضمن شتى الإحتمالات، يجبرها على التحدّد في "الزمكان" ( الزمان- المكان)، وبالتالي الخروج إلى الوجود.
- II -
حقيقة غريبة؟
بالتأكيد. لكنها ليست أقل غرابة مما يقول به العديد من العلماء الآن عن أننا نرى الحقيقة على هذا النحو لأننا نعتقد أن الكون يتشكّل من ثلاثة أبعاد. لكن، وبما أن نظرية الأوتار الفائقة تتحدث عن وجود تسعة أبعاد "ملفوفة " في ثنايا الكون، فإن أي مخلوقات قد تعيش في هذه الأبعاد سترى الحقيقة بشكل مُغاير تماماً. إنها قد تراه على "حقيقته" حيث لا أثر لأشياء مثل الجسم والصلابة والكتلة، بل مجرد موجات تبثها أوتار فائقة في إطار سيمفونية كونية هائلة.
أما الحديث عن احتمال كون الشمس مخلوقاً واعياً، فهي تستند إلى أن الذرات لاتتصرف كمادة خاملة بل كقوة فاعلة ونشطة، وهي تتخذ خيارات غريبة  بين البدائل الاحتمالية وفق لقوانين ميكانيكا الكم، لا بل تتمتع أيضاً بإرادة حرة. وبما أن الشمس تتكوّن من هذه الذرات، فالاحتمال كبير بأنها تتصرف أيضاً كقوة فاعلة وواعية.
وفي هذا الأطار، يعتقد بعض  العلماء بأنه لايعقل أن تُبدد الشمس مادتها عبر الانفجارات النووية الهائلة من دون أن تحصل على مقابل، أو من دون هدف ما. وهم هنا يطرحون الفكرة العجيبة بأن الشمس الذكية أو الواعية ربما تحرق كل هذه المادة وتقذفها إلى الخارج بهدف تبريد جوفها الداخلي. وقد وضع علماء معادلات رياضية  وحسابية للإثبات بأن هذا الاحتمال وارد وممكن.
- III -
قد يبادر العديدون هنا إلى القول بأن كل هذه تبقى فرضيات جامحة، إلى أن تُثبت اختبارياً. وهذا صحيح بالتأكيد.
لكن الصحيح أيضاً أن العلم سيرقص في القرن الحادي والعشرين على إيقاع حقيقة واحدة: الكون ليس آلة عظيمة. إنه في الواقع فكرة عظيمة!

                                                                                سعد




-        

الاثنين، 26 نوفمبر 2012

سورية: هل حان وقت الانقلاب العسكري؟



- I -
الآن، وقد بات يبدو واضحاً من التقدّم الملموس لقوات المعارضة المسلحة في سورية على كل الجبهات تقريبا، أن النظام بدأ يتداعى بالفعل أو على الأقل أن حلوله العسكرية- الأمنية باءت بالفشل، فإن السؤال الكبير الذي سيفرض نفسه من الآن فصاعداً هو: هل سيواصل كبار الضباط العلويين السير في ركاب آل الأسد؟.
هذا السؤال له تبريراته التاريخية والمنطقية. فالضباط العلويون، الذين يقال أنهم يشكِّلون 60 في المئة من ذوي الرتب العالية في الجيش النظامي، كانوا يُعتبرون من أكثر العناصر ولاءً لنظام عائلة الأسد، إنطلاقاً من روابط القرابة، والزيجات، والمنافع الريعية.

الجيش النظامي السوري: هل حانت اللحظة الحاسمة؟ - الصورة من غوغل- 

لكن في المقابل، ليست هذه الكتلة من الضباط متجانسة، لأن الرئيس السابق حافظ الأسد، وفي سبيل التحوُّط من مكائد ومؤامرات هذه الفئة،  عمد إلى تقسيم قوات النخبة الرئيسة فيها إلى مجموعات متنافسة مع بعضها البعض.
وبالتالي، إذا ما استمر تدهور الوضع العسكري على النحو الذي يجري اليوم، حيث المعارضة المسلحة تحقق مكاسب واضحة(كما أشار إلى ذلك أمس تقرير مهم لـ"واشنطن بوست") حتى من دون تدخل دولي مباشر، فقد تؤدي التنافسات بين الضباط العلويين إلى تمايزات في المواقف إزاء حكم عائلة الأسد.
- II -
وإذا ماحدث ذلك، سيعود سيناريو الإنقلاب العسكري الذي توقعه الكثيرون منذ أشهر عدة، ولم يتحقق بسبب استمرار "ثقة" أركان النظام بقدرتهم على الحسم، إلى الواجهة.
وهو قد يسير على النحو التالي:
- تنشق مجموعات بارزة من هؤلاء الضباط. لكنها لاتنضم إلى الجيش الحر، بل تشكّل مع الضباط والجنود السنّة الذين لازالوا في الجيش النظامي (والذين يقدَّر عددهم بنحو 120 ألف عسكري)، قيادة عسكرية مشتركة.
- تعمل هذه القيادة على إطاحة حكم عائلة الأسد، سواء سلماً إذا ما قبلت العائلة باللجوء إلى المنافي، أو بالقوة من خلال الاصطدام مع القوات التي ستواصل دعم الأسد.
- في حال نجح هذا الانقلاب، تشرف القيادة الجديدة، بالتعاون على الأرجح مع قيادات الجيش الحر، على مرحلة انتقالية برعاية روسية - أميركية، وإقليمية، يُعاد فيها بناء الدولة السورية على أسس حديثة على أساس المواطنة، لا وفق المحاصصة الطائفية كما في لبنان والعراق، وهي المحاصصة التي ثبُت أنها وصفة ممتازة لحروب أهلية دائمة.
- III -
لكن، ماذا لو لم يحدث هذا الانقلاب، وواصل الضباط العلويون ربط مصيرهم بمصير عائلة الاسد؟
حسناً، حينها لن يكون في وسع الضباط والجنود السنّة في الجيش النظامي البقاء على الحياد، خاصة وأن التقدم السريع لقوات المعارضة المسلحة سيقوّض كل جهود النظام لإبقائهم خارج معادلة الصراع. وهذا سيؤدي إلى خلل كبير في موازين القوى العسكرية، وقد يدفع قوات الأسد إلى التراجع إلى المناطق الساحلية ذات الأغلبية العلوية.
بيد أن ذلك لن يؤدي في الواقع سوى إلى نقل المعركة إلى قلب الجغرافية العلوية، بكل مايعنيه ذلك من ضغوط هائلة على سكان هذه المناطق، من دون أي أمل لا في تحقيق النصر ولا في إقامة دولة علوية مستقلة، لأن ظروف إقامة مثل هذه الدولة تبدو صعبة محلياً وإقليميا ودوليا.
أي السيناريوهين الأكثر قدرة على التحقق؟
من الصعب الجزم. لكن ثمة عاملان يصبان في مصلحة السيناريو الانقلابي: الأول، أن الدول الكبرى لاتبدو مستعدة لتكرار التجربة العراقية في سورية، حيث أدى حل الجيش إلى نشوب ثورات واضطرابات لم تتوقف حتى الآن. والثاني، أن الوطنية السورية (وعلى رغم الشحن الطائفي الحاد الراهن) هي حقيقة حية وتركل، بسبب ارتباط السوريين بالأرض عبر الزارعة، على عكس الوطنية اللبنانية (مثلا)،  التي كانت دوماً هشَّة لاعتماد النظام السياسي- الاقتصادي على الخدمات والتجارة والسمسرة.
لكن، إذا لم تبرز تجليات هذه الوطنية الآن، عبر الانقلاب العسكري، فستكون سورية أمام التفتت على يد الهويات المذهبية والإثنية القاتلة. وهذا خيار لا يريد محبو هذا الشعب النبيل والخلاّق حتى التفكير، مجرد التفكير، به.

سعد

الأحد، 25 نوفمبر 2012

مرسي: "مُستبد عادل" أم وطني ديموقراطي؟





جماعة الأخوان المسلمين وصلت إلى مفترق طرق خطر: فإما أن تختار الإجماع الوطني لبناء الدولة الديمقراطية الدستورية، أو تعود إلى عزلتها التاريخية في الحياة السياسية. وحينها سيكون الجيش- المخابرات بانتظارها.

 الممثلة بسمة تتظاهر ضد مرسي: هل يعود الإخوان إلى العزلة؟ - الصورة من غوغل- 

- I -
الرئيس محمد مرسي على حق حين يقول إن الجهاز القضائي في مصر، الذي عيّنه الرئيس السابق مبارك، يعيق العملية الدستورية- الديمقراطية.
فهذا الجهاز، الذي حلّ قبل ذلك مجلس الشعب والجمعية التأسيسية الأولى للدستور، يعمل كردع الحماية الأخير لـ"الدولة العيمقة" الاستخباربة- العسكرية المصرية. وهو كان ينشط مؤخراً لحل الجمعية التأسيسية الثانية.
لكن الرئيس مرسي لم يكن على حق حين أراد، ضمناً، أن يقيم مكان سلطة القضاء القديم سلطة الإخوان المسلمين المنفردة. وهذا تجلى بوضوح حين نفَّر القوى المدنية والعلمانية والقبطية الأعضاء في الجمعية التأسيسية ودفعهم إلى الاستقالة، الأمر الذي خلق تحالفاً مصلحياً جديداً غير معلن بين المعارضة المدنية وبين أنصار النظام االسابق.
وللتذكير، هؤلاء أنصار النظام يضمّون قوى مادية هائلة تتمثّل ليس فقط في جهاز القضاء، بل أيضاً في المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات والبيروقراطية التي خرجت متماسكة وسليمة من أتون الثورة المصرية. هذا فضلاً عن أن الأنصار حصدوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة نحو 49 في المئة من أصوات المصريين.
والآن، يقوم الرئيس مرسي، عبر إعلانه الدستوري الذي يبدو نسخة مطابقة للمبدأ الإسلامي السياسي الشهير في التاريخ "المستبد العادل"، بإضافة جماهير المعارضة المدنية التي أطلقت شرارة ثورة يناير إلى جماهير النظام السابق. وهذا سيؤدي إلى عزل جماعة الإخوان مرة أخرى في الحياة السياسية المصرية، وسيلقي بظلال قاتمة على مستقبل تيار الإسلام السياسي في كل المنطقة العربية.
لماذا؟
- II -
لأنه مالم يستطع هذا التيار ممارسة السلطة السياسية عبر الإجماع والوفاق الوطني مع كل فئات المجتمع، خاصة المدنية منها، سيتحوّل شاء أم أبى إلى سلطة استبدادية لن تجد طريقة لشق طريقها نحو الشرعية سوى القمع ومصادرة الحريات، وصولاً إلى مرحلة الاستبداد.
لكن، حتى مثل هذا الخيار الأخير لايبدو في متناول يدها.
فأجهزة "الدولة العميقة"، من جيش ومخابرات، تترصد هذا التيار الآن وتنتظر أن يرتكب "خطئيته النهاية" من خلال إعادة نفسه إلى قفص العزلة. وحينها، لن تتردد فب القفز على السلطة وتمزيق الإخوان، لكن هذه المرة تحت شعار "حماية الثورة المصرية".
- III -
ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني أن جماعة الأخوان المصرية وصلت إلى مفترق طرق خطر:
 فإما أن تلجم شهوتها للانفراد في السلطة، وتدرك أن بناء دولة دستورية ديمقراطية أمر يختلف تماما عن الفوز بأكثرية الأصوات النيابية، لأنه يتطلب اجماعاً وطنياً لا إخضاع الأقلية إلى الأكثرية. وهذا يعني العودة إلى شعار الإخوان قبل الثورة: "المشاركة لا المغالبة".
وإما أن تخضع الجماعة إلى  شهوة السلطة المطلقة، فتفقد القدرة على لم الشمل الوطني حولها، وتُفشل بالتالي أول تجربة لها في السلطة السياسية. والجيش- المخابرات أكثر من جاهزين للقيام بهذه المهمة.
فماذا ستختار؟
لانريد أن نصدّق أن بيان رئيس الوزراء قنديل الذي خيَّر فيه المصريين بين البناء وإراقة الدماء، هو الموقف النهائي لجماعة الأخوان. لأنه إذا ما كان كذلك، ستكون الجماعة في الواقع قد "كفرّت" المجتمع (مجددا) و"هجرت" الإجماع الوطني الذي كان وراء انتصار ثورة يناير ووراء وصولها إلى الحكم.

سعد

السبت، 24 نوفمبر 2012

استراتيجية عربية- إيرانية- تركية لمواجهة الامبراطورية الإسرائيلية؟




- I -
 تساءلنا بالأمس (راجع "اليوم،غدا" - 23-11-2012): هل يجب أن نستسلم لواقع استمرار سيطرة "الأمبراطورية الإسرائيلية" الكامل تقريباً على جداول أعمال الشرق الأوسط، على رغم  ما أحدثته ثورات الربيع العربي من تغييرات؟
ونقول اليوم لا، مستندين إلى المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي بلاشار: إذا ما التشاؤم معرفة، فالتفاؤل إرادة.
بكلمات أخرى: إذا ما اعترفنا بواقع سيطرة  إسرائيل وهيمنتها على هذه المنطقة العربية- الإسلامية، وعلى قرب استكمال تحقيق مشروعها المئوي القديم بتقسيم كل دول المنطقة (ليس فقط العراق والسودان واليمن، واليوم سورية وربما غداً الأردن والسعودية، بل أيضاً تركيا وإيران)، إلا أن هذا لايجب أن يعني بالضرورة قبول هذا الواقع.
لكن، كيف يتم التصدي لهذا المشروع الزاحف الذي يسجّل الآن انتصارات في كل مكان؟
- II -
لقد حاولت الأنظمة العربية التقليدية وقف هذا المشروع في حرب 1948 وفشلت. ثم حاولت الأنظمة "الثورية" القومية العربية ذلك، فأصيبت بهزيمة مجلجلة في حرب 1967، وبنصر غير استراتيجي العام 1973تتوَّج بهزيمة سياسية مُروِّعة. وبعدها استلمت إيران الراية، وبدا لوهلة أنها أوقفت بالفعل تقدّم الامبراطورية الإسرائيلية، أولاً خلال حرب تحرير جنوب لبنان ثم في حرب 2006. لكن يتبيّن الآن أن هذا الجهد الإيراني كان محدوداً بشن حروب الواسطة (Proxy wars ) التي يبدو أنها وصلت إلى خواتيمها مع القرار 1701 في لبنان والآن مع "إتفاق التهدئة" في غزة.
دول الربيع العربي كانت المرشح الرابع لاستكمال عملية التصدي. لكن، بعد الأداء البراغماتي المصري المفاجىء في حرب غزة، والذي جاء طبق الأصل عن أداء نظام مبارك (في مجال الوساطة لصالح واشنطن وتل أبيب)، فقد تم إغلاق باب هذا الاحتمال حتى قبل أن يُفتح.
كل هذه المعطيات تفرض على كل نخب المنطقة وشعوبها البحث عن "أنموذج" ( Paradigm) فكري- استراتيجي جديد، ليس فقط لمواجهة الخطط الإسرائيلية، بل أيضاً لطرح تصوُّر جديد لمستقبل المنطقة.
والمقصود هنا بـ" الكل" هو الكل: أي النخب والشعوب العربية والإيرانية والتركية معا، وهذا لسبب مصلحي: طالما أن تل أبيب تستهدفهم جميعاً تفتيتاً وتقسيما وتدميرا، لامناص أمامهم من بلورة استراتيجية مشتركة باتت ممكنة الآن بعد أن سقطت فارسية الشاه في إيران، وأنهت تركيا عزلتها الأتاتوركية المديدة عن الشرق الأوسط، واستعادت الشعوب العربية حقها في المشاركة في القرار.
لكن، أي استراتيجية ممكنة التحقيق والنجاح، في ظل سيطرة إسرائيل على القرار الأميركي الشرق أوسطي، الذي يُسيطر بدوره على معظم قرارات المنطقة؟
إنها تلك التي لاتستطيع الولايات المتحدة رفضها صراحة، والتي تستند إلى دعامتين: دعامة التعاون والتكامل الاقتصاديين اللذان يسمحا بتخطي الفيتو الإسرائيلي على أي خطط إنتاجية- تكنولوجية في المنطقة؛ ودعامة أمنية تستند ليس إلى الدفاع المشترك (فهذا شبه مستحيل في الظروف الدولية الراهنة)، بل إلى "التطمينات الامنية المشتركة" بعدم التدخل في شوؤن الدول الأخرى.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا التوجّه مجرد تفكير رغائبي غير قابل للتحقق.
 لكنه ليس كذلك.
فإيران الصفوية وتركيا العثمانية نجحتا في السابق في إنهاء حروب دموية بينهما، وأبرمتا "وقف إطلاق نار" دام قروناً عدة. وحين وصل الرئيسان رفسنجاني وخاتمي إلى السلطة في طهران، انقلبت الأمور رأساً على عقب في العلاقات الأيرانية- العربية وتحوّلت من المجابهة إلى التعاون (الاقتصادي كما الأمني).
فضلاً عن ذلك، قد لاتكون القنبلة النووية الإيرانية سيفاً مصلتاً على رقاب العرب والأتراك، بل فقط على رقبة إسرائيل، إذا ماخطا العرب والإيرانيون والأتراك الخطوة الأولى نحو التعاون الاقتصادي والأمني المقترح. لا بل أكثر: هذا التقارب بين الأمم الثلاث قادر على اقتلاع التشنجات الشيعية- السنّية من جذورها، طالما أن الجميع يتفق على القول أن هدف مثل هذه التوترات ليس حسم معركة انتهت قبل 1300 عام بين الإمام الحسين والأمويين، بل تحقيق مكاسب "دنيوية" وقومية واستراتيجية.
- III -
قد يقول قائل أن هذا الاقتراح يعتمد على الإرادة لا على المعطيات الموضوعية.
وهذا صحيح تماما. فالإرادة الذاتية هي المطلوبة هنا لمواجهة هذه الظروف الموضوعية.
وعلى أي حال، أليست الإرادة هي التفاؤل الذي يجب أن يتصدى.. لتشاؤم المعرفة؟

سعد



الجمعة، 23 نوفمبر 2012

الامبراطورية الإسرائيلية "تعتقل" الربيع العربي





وضوح استراتيجي إسرائيلي وضياع استراتيجي عربي- إسلامي (الصوة من غوغل


دول الربيع العربي، ومعها تركيا وقوى "الممانعة والمقاومة"، أثبتت أنها خالية الوفاض من أي استراتيجية يُعتد بها في الشرق الأوسط، في مواجهة استراتيجية إسرائيل الواضحة، والمُحددة، و"القاطعة".
- I -
أغمض عينيك. اترك لخيالك أن يسرح ويمرح قليلا في طول الشرق الأوسط وعرضه، فماذا ستجد؟
ستجد، للأسف، إسرائيل في كل مكان، ولن تجد الربيع العربي، الذي عُلِّقت عليه كبار الآمال بإحياء الكرامة والحقوق العربية، في أي مكان.
هذه هي الحقيقة الحزينة التي تكرّست على نحو اكثر حزناً في حرب غزة-2 الأخيرة.
فعلى رغم صيحات النصر التي خرجت من حناجر حركة حماس وأنصارها حتى قبل أن يجلو غبار المعارك العسكرية، كانت محاولة لأضفاء غلالة النصر السياسي على عجز عسكري. وهو نصر سيتبيّن سريعاً أنه مطابق تماماً للقرار 1701 في لبنان الذي حوّل حزب الله منذ 2006 إلى حركة مقاومين من دون مقاومة.
أجل. حماس أطلقت صواريخ باتجاه تل أبيب والقدس. لكنها تعلم قبل غيرها أن هذه الخطوة لن تقدِّم أو تؤخر في شيء في مجال الاستراتيجيات العسكرية، خاصة مع النجاح النسبي للقبة الحديدية الإسرائيلية. أما حديث حماس عن توازن الرعب، فهو قد يبقى تحليلاً من جانب واحد طالما أن الجانب الإسرائيلي لم يشعر بعد بالرعب.
الأمر نفسه ينطبق على إخوان مسلمي مصر. فهم أيضاً أعلنوا النصر السياسي وقالوا أنهم أعادوا إلى أرض الكنانة دورها الإقليمي القيادة والمركزي القديم. لكنه نسوا أن هذا النصر تم في إحضان إسرائيل لا خارجه، وبمباركة أميركا لا غصباً عنها. وهذا ماجعل مصرهم نسخة غير منقَّحة من مصر مبارك، وقد يجعلهم قريباً (بعد أن ضمنوا اتفاق وقف النار) حرس حدود جدد لإسرائيل.
- II -
من أيضا؟
هناك إيران، زعيمة الممناعة والمقاومة في الشرق الأوسط، التي كان في وسعها أن تحرّك حزب الله في لبنان لـ"فتح أبواب جهنم" إقليمياً على إسرائيل دعماً للمقاومة في فلسطين. لكنها لم تفعل، والأسباب واضحة: هدفها الاستراتيجي الأول هو الحفاظ على نظامها وأوراق ضغطها اللبنانية، أما محو إسرائيل من الخريطة فيمكن أن ينتظر نصراً إلهياً مهدياً سينبثق من أحد آبار  المساجد القريبة من طهران.
ثم هناك بالطبع النظام السوري المُمانع الذي بدل أن يخلق أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، يهدد الآن بتقسيم سورية إلى دولتين أو ثلاث، ومن ثَمَ سيطلب على الأرجح الحماية الإسرائيلية لإحدى هذه الدول، كما فعل بعض السوريين في أوائل القرن العشرين حين رفضوا الوحدة السورية وناشدوا الاستعمار الفرنسي وضعهم تحت وصايته وحمابته.
هذه هي الخلفية الحقيقية للصورة في الشرق الأوسط الجديد. وهي، كما هو واضح، صورة  نجح فيها الربيع العربي في استنهاض إرادة الشعوب العربية، لكن النخب الحاكمة فيه فشلت حتى الآن في بلورة أي استراتيجية لتحويل هذه الإرادة في الداخل إلى مشروع نهضة إقليمية ودولية في الخارج، على رغم كل أحاديث الإخوان عن أولوية الأمة العربية- الإسلامية على كل ماعداها.
وهذا ما جعل من السهل للغاية على إسرائيل أن تستعيد خلال ثمانية أيام فقط من الحرب، صورة دورها المركزي والمُهمين والمُسيطر في الشرق الأوسط.
سيكون في وسع الدولة العبرية الأن، وبعد حرب غزة، الإشراف على تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية فلسطينيين، عبر دعم صعود حماس على حساب فتح، وبالتالي كسب خمس إلى عشر سنوات أخرى إلى أن تبدأ هذه الحركة الإسلامية رحلتها البطيئة للاعتراف بإسرائيل. وخلال هذه المرحلة، ستُكمل تل أبيب ابتلاع الضفة الغربية، وستنشط لتدمير المملكة الأردنية لتحويلها إلى "دولة فلسطينية ثالثة".
كما ستشرف إسرائيل على تقسيم سورية و"رعاية" إحدى دويلاتها، وستعمل على إعادة تفجير العراق، وستنشط بقوة لتحريك الأكراد والعلوييين في تركيا، لحمل هذه الأخيرة على طي حلم العثمانية الجديدة على الأقل داخل أراضي "الامبراطورية الإسرائيلية" في المشرق العربي.
لقد أشار تقرير أخير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي تحت عنوان "ميزان القوى العسكرية العربي- الإسرائيلي"، إلى أن إسرائيل تتفوّق على كل الدول العربية مجتمعة في مجالات النمو الاقتصادي، والقوة التكنولوجية، والجهوزية العسكرية المتطورة، والأسلحة النووية والتقليدية، وامتلاك أكبر جيش حديث في المنطقة (على رغم صغر عدد سكانها). هذا فضلاً عن تمتعها بالدعم الكامل والمطلق للدولة العظمى الوحيدة في العالم.
كل هذه العوامل تجعل من السهل على الدولة العبرية فرض جدول أعمالها الخاص على كل دول الشرق الأوسط، والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة ممنوعات وثلاث مسموحات: ممنوع قيام أي دولة قوية في المنطقة، ناهيك بالطبع عن أي وحدة عربية أو إسلامية. ممنوع التقدم الاقتصادي الانتاجي في أي منها. ممنوع التطور التكنولوجي بكل أشكاله. أما المسموحات فهي: قيام دوليات إثنية وطائفية في كل مكان؛ وإقامة اقتصادات خدماتية وسياحية؛ وتبعية كل الدويلات للقوة الإسرائيلية.
- III -

هذا، بالمناسبة، هو الشرق الأوسط الجديد الذي خطّه شيمون بيريز وغيره من المخططين الإسرائيليين، والذي يفرض وجوده الآن على شرق أوسط الربيع العربي، بدعم (أو رضوخ لافرق) من الولايات المتحدة.
لكن،  وطالما أن الصورة على هذا النحو، هل هذه الكلمات هي دعوة إلى الاستسلام أو قبول هذا السلام الإسرائيلي الكارثي؟
كلا. إطلاقا.
(غدا نتابع)

سعد

الخميس، 22 نوفمبر 2012

حرب غزة: إخوان مصر ربحوا أميركا .. لكنهم سيخسرون أنفسهم




"وسام" اميركي لمرسي والاخوان- الصورة من غوغل- 


واشنطن أُعجِبت أيما إعجاب بأداء الإخوان المسلمين المصريين في غزة، وهذا ستكون له مضاعفات كبرى ليس فقط على حماس بل ربما أيضاً على الأردن، وكذلك على الصراع العام بين السلفيين بزعامة السعودية وبين جماعات الإخوان.

- I -
"مرسي كان بناءً وبراغماتياً بشكل لايُصدَّق. وهو اتّخذ موقفاً شجاعاً بموافقته على التفاوض مع إسرائيل، كما لعب دوراً رئيساً وفعل شيئاً لم يكن من السهل عليه القيام به".
هكذا تحدث أمس (12-11-2012) مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية لـ"واشنطن بوست".
" مرسي قام بخطوات سريعة الأسبوع الماضي لإدانة الهجوم الإسرائيلي، فاشترى بذلك وقتاً مع شعبه ليتمكَّن من العمل في الأقنية الدبلوماسية لإنهاء العداوات. فهو استدعى سفيره من تل أبيب وأرسل رئيس وزرائه إلى غزة في خضم القتال، لكنه في الوقت نفسه أوفد مدراء مخابراته إلى إسرائيل للتوسط في وقف القتال".
وهكذا تحدثت نيويورك تايمز أمس أيضا. هذا في حين كانت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تتحدث بإطناب وطلاقة عن "استعادة مصر لدورها الإقليمي المركزي "من أجل السلام" في الشرق الأوسط".
- II -
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنها تعني، بوضوح، أن الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين المصرية اجتازتا امتحاناً أميركياً- إسرائيلياً قاسياً، وخرجتا منه بأوسمة أميركية رفيعة المستوى، وبثقة لاتقل رفعة من إسرائيل.
وهذا أمر ستكون له مضاعفات بالغة الأهمية على طبيعة الصراع العام في الشرق الأوسط الإسلامي، الذي يشهد هذه الأيام تنافساً مستتراً وعلنياً في آن بين الانظمة الملكية العربية بزعامة السعودية ومعها حلفاؤها السلفيون، وبين جماعات الإخوان المسلمين الحاكمين في مصر وتونس، والذين يتطلعون الآن إلى الحكم في الأردن وسورية وربما بعض دول الخليج، بضوء أخضر أميركي.
قبل فترة قصيرة، بدا خلال الهجمات على السفارات الأميركية في بنغازي والقاهرة وتونس، أن إدارة أوباما بدأت تشك بأن صفقتها التاريخية مع جماعات الإخوان المسلمين، والتي تمحورت حول تسهيل وصولها إلى السلطة في مقابل احترامها اتفاقية السلام مع إسرائيل والتصدي للتطرف الإسلامي، ربما تكون مخطئة أو متسرِّعة.
لكن الآن، وبعد أن أبدى مرسي هذه المواقف البراغماتية "التي لاتصدَّق" مع إسرائيل (وفق تعبير المسؤول الأميركي)، والتي كرر فيها حرفياً سياسة سلفه حسني مبارك لكن مع ممارسات لفظية حماسية، ستُفتَح أبواب البيت الأبيض والكونغرس على مصراعيها أمام هؤلاء "الحلفاء الجدد" الذين تريدهم الولايات المتحدة أن يجتثوا الإرهاب والتطرف الإسلاميين وحالة العداء الإديولوجي المطلق مع إسرائيل.
وهذا قد يترجم نفسه لاحقاً في شكل فتح قنوات الحوار الغربي مع حماس، الفرع الفلسطيني من جماعة الإخوان، بشرط أن تقوم هي الأخرى بلجم متطرفي غزة وبدء مسيرة الاعتراف بوجود الدولة العبرية، كما فعلت حركة فتح قبل عقدين مقابل الاعتراف الدولي بها ككمثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.
لكن الترجمة الأخطر والأهم قد تكون في الأردن. فهل ستقرر أميركا، بعد الأداء الإخواني المفاجىء في فلسطين الذي يُفترض أن تضمن فيه مصر الجديدة أمن إسرائيل عبر بوابة رفح، أن الوقت قد حان لنقل السلطة إلى إخوان الأردن، سواء بوجود مَلَكِية مُعدَّلة أو حتى من دونها؟
يجب أن نشير هنا إلى أن هذا الخيار يحظى على مايبدو بدعم كل مكونات الطيف السياسي الإسرائيلي، الذي ربما يراهن الآن على أن الدعم الدولي- الإقليمي الجديد لإخوان الأردن قد يدفع الأمور إلى حرب أهلية، تُسفر في خاتمة المطاف عن تحقيق الحلم الإسرائيلي القديم بتحويل شرق الأردن إلى الدولة الفلسطينية البديلة.
- III -
الآن، ويعد قول كل شيء عن المضاعفات والأبعاد المحتملة لنيل إخوان مصر درع التثبيت الأميركي، ينبغي القول أن ماربحه هؤلاء من الأميركيين والإسرائيليين على المدى القصير، سيكون بالنسبة إليهم خسارة صافية على المديين المتوسط والطويل على الصعيد الإديولوجي الإسلامي وعلى مستوى دورهم القومي والوطني.
إذ يجب ألا ننسى هنا أن الإخوان المسلمين بنوا نصف شرعيتهم إبان حقبة معارضتهم التاريخية الطويلة التي دامت نيفاً وثمانين سنة، على تقديم أنفسهم بوصفهم أبرز معارضي "الكيان الصهيوني ( أو حتى أحياناً الكيان اليهودي) ومن ثَمَ معاهدة كامب ديفيد والتطبيع مع إسرائيل. صحيح أنهم بدوا بعد حرب غزة وكأنهم يستعيدون شيئاً من دور مصر الإقليمي التقليدي، لكنه (وهنا المفارقة) الدور نفسه الذي مارسه نظام مبارك، مع "الاضافات" اللغوية والحماسية الإخوانية.
إنها السياسة قيد العمل. وحين تحضر السياسة ومعها "المصالح الدنيوية"، تتبخّر المحظورات لصالح الضرورات. والآن،هذه الضرورات تعني بالنسبة إلى الإخوان المسلمين البراغماتيين شيئاً وحيدا: الحفاظ على السلطة، وبأي ثمن.

سعد