للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الجمعة، 7 أكتوبر 2011

عين النظام السوري أمام "مخرز دولي"


المشهد كان يُفترض أن يكون عادياً: مجموعة من المعارضين السوريين في لبنان، يقيمون حفلاً لدعم الانتفاضة السورية، تضمن عروضاً راقية من فنون الرقص والتمثيل والاشرطة السنيمائية لمخرجين سوريين كبار مثل عمر أميرالاي.
لكن الصورة لم تكن عادية في الواقع. السبب؟ طبيعة المكان الذي عقد فيها الحفل: مداخل الضاحية الجنوبية من بيروت التي تعتبر المعقل الرئيس لحزب الله اللبناني، أو حتى عاصمته، التي توجد فيها مقراته العسكرية وهياكله المدنية والسياسية. وبالتالي، كان مستحيلاً أن يتمكّن المعارضون السوريون من القيام بتظاهرتهم الفنية والثقافية من دون الموافقة التامة للحزب.
صحيح أن أنصار النظام السوري نظّموا تظاهرة مضادة، بالطبل والزمر وصور الرئيس بشار الأسد، في الشارع المقابل مباشرة للمسرح الذي جرى فيه الحفل الفني المعارض، إلا أن هذا لم يؤد لا إلى فض الحفل ولا إلى إسقاط المضمون الرمزي للحدث، وهو أن حزب الله وافق للمرة الأولى على السماح للمعارضة السورية بالتحرّك داخل "مجاله الحيوي".

حرج إيراني
بالطبع، وبسبب العلاقة الاستراتيجية والإديولوجية الوثيقة بين حزب الله وبين إيران، دلّ هذا التطور على وجود تبدُّل أيضاً في الموقف الإيراني: من الدعم المطلق للنظام السوري واعتبار الانتفاضة جزءاً من "مؤامرة إمبريالية" ضده، إلى اتخاذ موقف أكثر توازناً نسبياً إزاء كلٍ من المعارضة والنظام.
دوافع هذا التحوّل واضحة: شعور طهران بالحرج الشديد من عجز الرئيس الأسد عن احتواء الانتفاضة سواء بالقوة أو عبر الإصلاحات الطفيفة، ولذا فهي تحاول الآن القيام بخطوات تكتيكية للحد من الخسائر الفادحة التي لحقت بصورتها وسمعتها في سوريا وبقية المنطقة العربية من جراء دعمها  العلني والسري المطلقين للنظام السوري.
أولى هذه الخطوات تمثّلت في استقبال طهران لممثلين عن المعارضة السورية، في مسعى واضح للقيام بوساطة ما بين النظام والمنتفضين عليه، ثم في البيانات الصريحة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي تحدث عن الحاجة إلى "إصلاحات ضرورية" في سوريا، ولوزير الخارحية الإيراني علي أكبر صالحي الذي دعا الأسد إلى "الاستجابة لمطالب شعبه الشرعية".
ويقول مسؤول إيراني سابق (فايننشال تايمز- 16 أيلول/سبتمبر الحالي):" إيران لاترى مناصاً من دعم الإصلاحات في سبيل شراء الوقت وكي لاتبدو أنها تقف ضد الرأي العام العربي". وهذا رأي يحظى بتأييد المحللين السياسيين في المنطقة، الذين يقولون أن الانتفاضة السورية كشفت عن تناقضات فاقعة في موقف إيران من ثورات الربيع العربي. إذ هي أشادت بهذه الثورات لكونها (كما قال مرشد الثورة خامنئي) "يقظة إسلامية تستوحي ثورة إيران العام 1979". لكن، حين تعلّق الأمر بسوريا، تراجعت طهران عن هذا التوصيف واعتبرت الثورة السورية "مؤامرة خارجية هدفها دعم إسرائيل".
هذا الموقف ضعضع إلى حد بعيد النفوذ السياسي والاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط العربي، الذي لم تحققه طهران إلا بشق النفس على مدى العقدين الماضيين وبتكلفة مالية واقتصادية باهظة، ودفع المنتفضين السوريين إلى طرح شعارات علنية تندد بإيران وحسن نصر الله زعيم حزب الله وتتهمهما بدعم النظام سياسياً وحتى بالرجال والعتاد.

.. وانقلاب دولي
بالطبع، هذا التغيّر في موقف إيران لن يؤد بأي حال من الأحوال إلى تخلّيها عن مواصلة دعم النظام السوري حتى الرمق الأخير، ولا حتى إلى تأييد إصلاحات ديمقراطية جذرية في سوريا قد تؤدي في خاتمة المطاف إلى تنحية الأسد بالطرق السلمية. إذ أن ذلك سيعني خسارة الركيزة الاستراتيجية الأولى للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
ومع ذلك، هذا التطور الإيراني يوضح مدى عمق ورطة النظام السوري، حيث أن أقرب حلفائه غير قادر لا على تغطية نظريته حول كون الانتفاضة مؤامرة خارجية ولا على دعم أسلوبه الدموي العنيف في قمع الثورة الشعبية الذي أدى حتى الآن إلى مصرع نحو 2600 شخص وإصابة عشرات الآلاف بجروح، هذا ناهيك عن عشرات آلاف المعتلقين في سجون أقيمت على عجل في طول البلاد وعرضها.
وجنباً إلى جنب مع هذا الحدث الإيراني، كان النظام الدولي يشهد تطوراً لايقل خطورة لغير صالح النظام السوري. فقبل أشهر قليلة فقط، كان التباين واضحاً وجلياً في موقفي الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة من التطورات في بلاد الشام. إذ أن الاولى كانت تدعو إلى الدفع باتجاه ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة بين النظام السوري وبين المعارضة، فيما الثانية كانت تحث على ممارسة كل أنواع الضغوط على هذا النظام للعمل إما على تغيير سلوكه أو حتى تغييره هو نفسه.
بيد أن هذا التباين تبدد مؤخراً، وظهر بدلاً منه إجماع أوروبي- أميركي هو الأول من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة، يدعو إلى ممارسة "الدبلوماسية القسرية" بدلاً من "الدبلوماسية اللطيفة" في مقاربة النظام السوري وبقية الأنظمة العربية.
ويوضح المحلل الاميركي الإيراني الأصل راي تقية  أن هذا الإجماع "يعني أننا ربما دخلنا في عصر جديد حيث الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوروبيون يمكنهم تحقيق أهدافهم القصوى في الشرق الأوسط من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية، وحتى من دون استخدام القوة العسكرية" في بعض الاحيان.
ويوضح تقية طبيعة هذا الإجماع كالتالي: فيما كانت الولايات المتحدة تقبل الحاجة إلى إئتلافات دولية للتعاطي مع المشاكل الإقليمية، كان يبرز على المسرح قادة أوروبيون على غرار الرئيس الفرنسي ساركوزي يرون أن الإغراءات المالية والكلمات المعسولة لن تغيِّر شيئاً من سلوكات الأنظمة السلطوية والإديولوجيات المتطرفة".
وهذا موقف عززته إدارة أوباما واسندته إلى المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، المحاكم الدولية، منظمات حقوق الإنسان العالمية، ألخ).
هذه الوحدة الغربية المستجدة عجَّلت، وستعجل أكثر، في سقوط الأنظمة السلطوية العربية عبر وسيلتين إثنتين: قطع الصنابير الاقتصادية والسياسية عنها، والتهديد في كل حين باستخدام القوة العسكرية (كما في ليبيا) إذا ما قررت هذه الأنظمة استخدام كل أذرعها العسكرية ضد شعوبها المنتفضة.

روسيا والصين
هذا عن الأوروبين والأميركيين في النظام الدولي. فماذا عن الصين وروسيا؟
 قد لاتكون هاتان الدولتان مسرورتين بهذا التطابق الوفاقي المستجد بين أوروبا وأميركا، لكنهما ستكونان محكومتين بمماشاته أو على الأقل بعدم الاصطدام به. وهذا يصح على وجه الخصوص بالنسبة إلى الصين، على رغم صعودها الكاسح إلى قمرة القيادة العالمية وعلى رغم مصالحها النفطية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا. إذ أن بكين تعي تماماً الدور المركزي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الأسواق العالمية، وتعطيه الأولوية القصوى على أي علاقات لها مع الأنظمة السلطوية العربية. فلون القطة، كما اعتاد مهندس النهضة الصينية الراهنة دنغ هسياو بينغ، ليس هاماً طالما أن هذه القطة تصيد الفئران (وهي هنا المصالح الاقتصادية الصينية).
وروسيا قد لاتكون بعيدة عن الصين في هذا المضمار. فهي أيضاً، على سبيل المثال، فضَّلت مصالحها الاقتصادية مع فرنسا على علاقاتها التاريخية مع نظام القذافي في ليبيا. وعلى رغم أن موسكو تدعم بقوة الآن النظام السوري، الذي وفّر لها نقطة ارتكاز عسكرية بحرية في ميناء اللاذقية، ولاتزال تحميه من قرارات مجلس الأمن، إلا أنها لن تكون قادرة على تبرير العنف الذي يمارسه هذا النظام ضد شعبه طويلاً في المحافل الدولية، هذا ناهيك عن عدم وجود مصلحة اقتصادية أو حتى استراتيجية لها في تحدي الإجماع الأوروبي- الأميركي الراهن حيال تطورات الشرق الأوسط.
كل ما هناك أن روسيا ستحاول من الآن فصاعداً لعب دور أكبر في سوريا (عبر محاولة الوساطة بين النظام والمعارضة)، ثم توظيف ذلك في لعبة موازين القوى مع الأوروبيين والأميركيين. إذ من السذاجة الاعتقاد بأن موسكو قد تقدّم للغرب جلد الدب السوري مجاناً أو بأسعار رخيصة.

العين والمخرز
ماذا تعني كل هذه التطورات بالنسبة إلى النظام السوري؟
وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، رد في وقت مبكر على هذا السؤال بالقول أن النظام السوري قادر على تناسي وجود أوروبا على الخريطة.
حسناً. ربما كان هذا ممكنا. لكن التناسي شيء والنسيان شيء آخر. فالتناسي فعل إرادي، فيما النسيان قد يكون مرضاً خطيرا. وهذا يصح على وجه الخصوص في ما يتعلّق بوجود أوروبا ليس فقط على الخريطة بل أيضاً بوصفها الشريك التجاري الأكبر لسوريا في العالم، والطرف الوحيد القادر على إخراجها من عزلتها الدولية.
والآن، وبعد ولادة "الوفاق" الأوروبي- الأميركي الجديد، ومع الابتعاد التدريجي للصين وروسيا عن سوريا، ومع حرج إيران ودخول تركيا القوي على خط الدعوة إلى تغيير النظام السوري، سيكتمل الطوق الاقتصادي والسياسي والأخلاقي حول رقبة النظام السوري، وقد نشهد قريباً نتيجة لذلك بدء تفكك الطبقة الحاكمة السورية وتزايد وتائر الانشقاقات في الجيش السوري. لا بل يذهب راي تقية إلى حد القول بأن النظام السوري برمته قد ينهار فجأة.
توقعات في محلها؟
أجل. فالعين، حتى لو كانت ثاقبة، لاتستطيع أن تقاوم مخرز هذا الضغط الدولي (والإقليمي)الهائل، في الوقت نفسه الذي تفقد فيه هذه العين القدرة على مشاهدة مايجري  فوق 180 ألف كيلومتر مربع هي مساحة سوريا.

سعد محيو- بيروت


الأسد ربح معركة، لكنه سيخسر الحرب؟

".. وهل أنا موظف لدى الجماهير؟".
هذا كان رد الرئيس السوري بشار الأسد، حين طلب منه وفد ناصري مصري قبل نحو السنتين إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين السوريين، قائلاً له أن مثل هذه الخطوة "سترضي الجماهير وتعزز شرعية النظام".
هذا المنطق، الذي يعتبر الجماهير مُوظّفة عند الرئيس لا العكس، كان موضع التطبيق الحرفي طيلة الأشهر الستة الماضية، حين قامت القوات الأمنية والعسكرية السورية بحملة قمع شاملة للمظاهرات الشعبية التي كانت في معظمها سلمية، أسفرت (وفق تقارير الأمم المتحدة) عن مصرع 2700 مواطن، واعتقال عشرات الآلاف في سجون بُنيت على عجل، وممارسة عمليات تعذيب وترويع واسعة النطاق.
النظام، بقيامه بذلك، لم يكن في الواقع يقوم بأمر استثنائي. إذ هذا بالتحديد ماتفعله الانظمة السلطوية حين تعجز عن تطوير نفسها إلى دول ديمقراطية (بقرار من نخبها الحاكمة، كما جرى مثلاً في إسبانيا واليونان والبرازيل وإندونيسيا) ، أو حتى إلى أنظمة شبه سلطوية (نماذج الأردن والمغرب ومصر- مبارك). كما أن هذا القمع  هو ماكان النظام السوري يفعله طيلة العقود الثلاثة الماضية حين صادر كل حريات المجتمع المدني ، وصحّر الحياة السياسية، وجمّد تطور البلاد، عبر عنف الأجهزة الأمنية.
والآن، وبعد مرور ستة أشهر على حملات القمع الشاملة هذه، وبعد أن انخفضت نسبة المشاركة في المظاهرات من مليون ونصف المليون متظاهر إلى أقل من 200 ألف أسبوعياً، بات النظام على قناعة بأنه نجح في احتواء الانتفاضة. وهذا مادفع الرئيس الأسد الأسبوع الماضي إلى إشراع أبواب قصره أمام الشخصيات اللبنانية الموالية له لطمأنتها بأن "القصة" (أي الانتفاضة) انتهت".
لكن، هل هذا التقدير صحيح؟

المعركة والحرب
انخفاض منسوب المظاهرات (حتى الآن على الأقل) حقيقي. لكن هذا لايعني البتة أن الثورة الشعبية قد انتهت. فالأسد ربما ربح جولة مؤقتة، لكن يبدو أنه سيخسر الحرب.
كيف؟ لماذا؟

الأسباب عديدة.
في طليعتها أن النظام قام خلال الشهور الستة الأخيرة بخطوة خطيرة تمثَّلت في تحطيم زجاج شرعيته السياسية. إذ هو لم يخض حربه الأمنية – العسكرية بشعارات قومية عربية وتقدمية، كما فعل العام 1982 حين قاتل جماعة الإخوان المسلمين، ولا حتى بشعارات وطنية سورية على رغم إصراره بأنه يمثّل السيادة السورية الخارجية، بل بيافطة قمع أمني بحتة. وهذا كان تطوراً خطيراً لأنه أشرع الأبواب على مصراعيها أمام تحوّل الصراع السياسي- الطبقي إلى صدام طائفي أو مذهبي مباشر.
صحيح أن النظام لايزال يمسك بورقة ثمينة، هي عدم انضمام دمشق وحلب على نطاق واسع إلى الانتفاضة، ما سيمكّنه من القول بأن تحالف السلطة السياسية العلوية والمال السنّي المديني لايزال قائماً، لكن الصحيح أيضاً أن أسس هذا التحالف تعرّضت إلى هزة عنيفة لأن القمع العنيف أدى إلى شل الاقتصاد وكشف رجال الأعمال أمام العقوبات الاقتصادية الغربية القاسية. وهذا تطور سيكون له مابعده حتماً، لأن تجار المدن ورجال أعمالها وطبقتها الوسطى أبرمت مع النظام قبل 30 سنة ميثاقاً ضمنياً يبدأ وينتهي بكلمة واحدة: الاستقرار. وفي حال فشل النظام في ضمان هذا  الاستقرار، فستتداعى كل أسس الميثاق.
ثمة أيضاً أسباب أخرى تؤكد أن الأسد تسرّع في إعلان "النصر النهائي" داخلياً وخارجيا:
ففي الداخل، الثورة أو الانتفاضة لم تنته، كما يعتقد النظام وكما أعلن مراراً في السابق. صحيح أنها ضعفت بفعل اعتقال عشرات الآلاف من الناشطين فيها، لكنها يمكن أن تجدد شبابها في أي لحظة وتفاجيء الجميع مجدداً بمدى قوتها وزخمها. هذا ناهيك عن وجود مؤشرات قوية على احتمال أن تتحوّل إلى ثورة مسلحة تخوض حرب عصابات في المدن كما في الأرياف. هنا، في هذه النقطة، ثمة حديث كثيف عن أن النظام يتمنى حدوث هذا التطور، على الأقل في شكل "حرب أهلية صغيرة" كما حذَّرت "فاينانشال تايمز" قبل أيام، لأنه سيمكِّنه من تعزيز مقولته بأنه يخوض حرباً ليس ضد شعبه بل ضد متطرفين أصوليين أو سلفيين.
بيد أن هذا سيكون مجدداً رهاناً خاطئا. لماذا؟ لأنه ينطلق من  حسابات موازين القوى المحلية (وفق معطيات معركة 1982 مع الإخوان) ويغفل التغيرات الهائلة التي حدثت في الوضع الدولي والتي قد تقلب هذه الموازين رأساً على عقب.
إذ في حال تصاعدت الثورة المسلحة، فإنها قد لاتكون مجرد "حرب أهلية صغيرة"، بل هي ربما تحوّل سوريا إلى ساحة قتال مروِّعة بين مروحة واسعة بين القوى الإقليمية والدولية التي سيلقي معظمها بثقلها كاملاً (تسليحاً وتمويلاً وتدريباً) إلى جانب المنتفضين، وصولاً في مرحلة ما حتى إلى التدخل العسكري المباشر.
رب قائل هنا أن الفيتو الروسي- الصيني المشترك في مجلس الأمن الدولي الأربعاء الماضي ضد قرار يدين الحكومة السورية، سيشكّل درعاً يقي هذه الأخيرة من احتمال تدويل الأزمة. وهذا صحيح ولكن لفترة مؤقتة فقط. فالصين وروسيا ليستا على وشك إعلان الحرب الباردة على الغرب لا الآن ولا بعد عقدين أو ثلاثة. وهما إذا ما اقتنعتا بأن هذا الأخير جاد في توجهه لاسقاط النظام السوري، فإنها سرعان ما سيغلِّبان مصالحهما الاقتصادية الضخمة معه على رغباتهما السياسية. أو أنهما ستستخدمان هذه الورقة لابتزاز تنازلات اقتصادية جديدة من الغرب.
وهذا، على أي حال، ما فعلاه معاً في ليبيا. ففي بداية ثورة 17 فبراير، عارضت موسكو وبكين بقوة أي تدخل عسكري. لكن، حين لمستا أن الغرب مُصِّر على موقفه حول اسقاط حكم العقيد القذافي، بدءا تستديران بالتدريج نحو هذا الموقف، إلى أن اعترفتا في نهاية المطاف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي.

تغيُّر المزاج
لكن، هل الأوروبيون والأميركيون جادون حقاً في السعي لاسقاط النظام، أم أنهم قد يقبلون بإبرام صفقات تسووية معه؟
هذا الخيار الأخير كان وارداً بالفعل قبل شهر من الآن، حين كانت واشنطن مستعدة بالفعل لقبول إصلاحات سياسية تجميلية يقوم بها النظام مقابل إعادة نظر جذرية في علاقاته مع إيران وحزب الله اللبناني.
لكن، يبدو أن عمر هذا الرهان كان من عمر الزهور. فالنظام السوري عزّز تحالفه مع إيران بدل تقليصه، معتبراً إياه ضمانته الرئيس من أجل البقاء. وهذا مادفع الغرب إلى الدعوة في خاتمة المطاف إلى إسقاط الرئيس الأسد ونظامه. وهذا أيضاً ربما يفسّر الجهود الحثيثة التي بذلها الأوروبيون والأميركيون لاقناع المعارضين السوريين بتوحيد صفوفهم، وهو مافعلوه (وإن جزئياً) في اسطنبول حين أعلنوا عن تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، تمهيداً ربما لطرحه كبديل للنظام السوري الراهن في المحافل الدولية والاقليمية.
هل يدرك النظام السوري هذه المخاطر؟
لايبدو، لأن رهاناته تكمن في مكان آخر. وهي الآن كالتالي:
أولا، الاثبات للأميركيين والأوروبيين أنه قادر على إعادة الاستقرار إلى البلاد بالقوة، ثم القيام بخطوات إصلاحية محدودة للإيحاء بأنه قابل للتغيير والتطور.
ثانياً، بدء مفاوضات سرية مع الأميركيين تتضمن تقديم تنازلات لهم في العراق وفلسطين (وربما لاحقاً في لبنان)، في مقابل وقف حملاتهم لاسقاط النظام.
ثالثاً، إعلان الاستعداد لاستئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل.
بيد أن الأرجح أن الغرب بشطريه الأميركي والأوروبي لن يأكل هذا الطعم، وهذا لسبب استراتيجي مشترك بينهما: ثمة قرار عالي المستوى يرقى إلى مستوى التحوّل التاريخي، يقضي بتغيير كل أنظمة الشرق الأوسط ومنح القوى السياسية الإسلامية فرصة المشاركة في الحكم وإثبات أوراق أعتمادها الديمقراطية، كوسيلة وحيدة للقضاء على التيار الجهادي الإسلامي المتطرف وتحقيق الاستقرار عبر الاعتماد على المجتمعات المدنية لا الأنظمة.
وكما أن الغرب تدخّل بالقوة العسكرية لمنع القذافي من وقف زحف الربيع العربي، سيكون هذا الغرب جاهزاً الآن للقيام بالأمر نفسه لإزالة أي عقبات تعترض هذا الزحف في أي دولة عربية أخرى.

أدوات التحليل
ماذا يعني كل ذلك؟
أنه يعني، ببساطة، أن الأمور أعقد بكثير مما يعتقد النظام السوري، الذي يبدو أنه لايزال يقارب الوضع بأدوات تحليل قديمة لاعلاقة لها البتة بالزلازل المحلية والإقليمية والدولية التي أفرزها، ولايزال، الربيع العربي.
وما لم يستدرك النظام هذه هذه الفجوة الخطيرة، ربما عبر انقلاب من داخله، فقد يأتي التغيير من خارج يجد في الحرب الأهلية جسره الرئيس للعبور إلى هذا الهدف.
أما استئناف الأعمال كالمعتاد كما كانت قبل الانتفاضة السورية في 15 آذار/مارس، فهذا أمر بات مستحيلا. إذ حين يتحطّم الزجاج، لاسبيل إلى إعادة لحمه.

سعد محيو- بيروت