للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الجمعة، 31 يناير 2014

المرأة تقود "ثورة هادئة"، وتاريخية في المملكة السعودية




- I -
الضرورات الاقتصادية قد تبيح المحظورات الثقافية والإديولوجية في المملكة السعودية.
الضرورات هنا هي سعودة سوق العمل وتشجيع المواطنين على الانتقال من القطاع العام إلى القطاع الخاص. أما المحظورات فهي بالطبع تلك القيود الإديولوجية الفولاذية التي يضعها غلاة التيار السلفي المحافظ على حقوق المرأة وحرياتها.

هذا الخلل في "موازين القوى" بين الاقتصاد والاديولوجيا، بدأ يخلق مايمكن أن يكون "ثورة هادئة" في المجتمع السعودي، تتمثل في تدفق النساء على سوق العمل الخاص. النموذج الأبرز هنا كان انخراط النسوة في مهنة تحصيل الديون التي كانت حتى الأمس، كما غيرها من كل الاعمال ماعدا التعليم، حكراً على الرجال. وهن حققن فيها نجاحات باهرة. فقد تمكنت المحصلات من تحصيل 70 في المئة من الديون أكثر من زملائهن الرجال. وقد أوضحت إحداهن أن سر النجاح "يكمن في أن النساء قادرات على تهدئة غضب الرجال، لأنهن الأقدر على الإقناع من دون الحاجة إلى التهديد باللجوء إلى القضاء او الشرطة".
بيد أن الأمور لم تقتصر على تحصيل الديون. ففي غضون السنوات الست الأخيرة، تضاعفت تقريباً نسبة مشاركة المرأة السعودية في قوة العمل، من 9 في المئة إلى 16 في المئة، الأمر الذي خفض البطالة بين النساء بنسبة 30 في المئة. وهذا لم يكن ليحدث لولا تشجيع الحكومة السعودية التي تريد تخفيف أعباء القطاع العام وتقليص مخاطر اختلال التركيبة السكانية.
وتقول "فايننشال تايمز" أنه في حين أن غالبية العاملات السعوديات لازلن يعملن في قطاع التعليم، إلا ان أعداداً متزايدة منهن بدأن يتجاهلن  التهديدات من غلاة المحافظين الدينيين، ويعملن مكان الرجال في مهن مثل البيع بالمفرق على صناديق الدفع في المتاجر الكبرى.
- II -
هذه الانجازات لاتعني أن العقبات أزيلت من طريق مشاركة المرأة في العمل، إذ لايزال منع النساء من قيادة السيارات يشكّل عقبة كأداء أمام تدفق النساء على العمل، خاصة وأن خدمات النقل العام محدودة في المملكة.
بيد أن تحدي النسوة لهذه العقبات يؤشر على أنهن مساعدات للإقدام على أي تضحية كي يستطعن زيادة الدخل الأسري، من ناحية، والشعور بالوجود والتمكين، من ناحية أخرى. وهذا التطور الاجتماعي- الاقتصادي يتقاطع الآن مع تطور سياسي سابق، حين تم في أوائل العام 20منح النساء خُمس مقاعد مجلس الشوري، في قرار اعتبر "ثوريا"، وإن بالمعنى التاريخي وحسب.
فهو دل على المسافة الزمنية التي قطعتها الدولة السعودية في حركتها الاعتراضية "الموسمية" على احتكار المؤسسة السلفية المتزمتة السيطرة على المجتمع السعودي فكرياً وثقافياً واجتماعياً.
ففي عهد الملك فيصل، كان مجرد التفكير بتعليم البنات، كجزء من مسار تحديث الدولة والمجتمع، يؤدي إلى ثورة ارتدادية سلفية،  كما حدث حين توافد 800 رجل من القصيم على الرياض اعتراضاً على فتح مدارس للبنات، وأعلنوا هدر دم من يعلم الإناث ووصفوا هذه الخطوة بأنها "مصيبة عظيمة وطامة كبرى، وأن ظاهرها الرحمة وباطنها البلاء ونهايتها السفور والفجور، وأن تعليمها حرام ومن يعلّمها فاسق فاجر يدّلها على طريق الحرام".
البنات الآن يتعلمن. ووزارة التربية والتعليم هي التي تُشرف على تعليمهن، لا التيار الديني المتشدد الذي عيّن نفسه "حارس الفضيلة". وهذا يعني أن الدولة قادرة بالفعل، إن هي أرادت، على كبح جماح هذا التيار، من دون أن يؤثر ذلك بقليل أو كثير على تحالف "الأمير والشيخ" الذي قامت على أساسه مملكة السعوديين. ولا ننسى، على أي حال، أن الملك عبد العزيز جرّد سيف الدولة ضد حلفائه الوهابيين حين تمرد هؤلاء على سلطته، فأدى ذلك إلى تعزيز الدولة بدل أضعافها.
القرار، إذاً، يعتبر ثورياً بوصفه فقط جزءاً من عملية صراع مع فئة من رجال الدين تعتبر أن من حقها فرض فهمها الخاص للدين على المجتمع كما الدولة، وعرقلة كل/وأي إصلاحات تحديثية تضفي الطابع الإنساني (لا الشيطاني) على المرأة، وتفسح في المجال واسعاً أمام بروز مجتمع مدني ودولة حديثة.
بيد أن هذه "الثورية"، على أهميتها في إطار مايسمى ب"خصوصية" الكيان السعودي، لم تعد كافية او ليست في الواقع ثورية كثيراً.
فمشاركة المرأة في الشورى جاءت على إيقاع الشروط السلفية الخاصة بمواصلة فرض "الحجر الصحي" على المرأة وعلى مسألة خروجها من تحت الأرض ومن التهميش المريع. وهكذا فالعضوات المعينات سيدخلن ويخرجن من قاعة المجلس وكأنهم أشباح بلا أرواح، الأمر الذي يفقد هكذا قرار أي نكهة ديمقراطية قد تكون له، خاصة وأن مجلس الشوري نفسه لايتمتع بأي صلاحيات وله مجرد دور استشاري تماماً كما كان في عهد الملك عبد العزيز قبل نحو 90 سنة.
وهذا يعني أن استخدام المرأة لمنبر المجلس للمطالبة بحقوقها الإنسانية والاجتماعية والسياسية، سيقابل في الشارع الذي يسيطر عليه المطوّع بردود فعل أعنف من ذي قبل، لا بل أيضاً بمحاولات لاجهاض حقوق سابقة حصلت عليها المرأة.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية حول ضعف "ثورية" القرار، تتعلّق بالمرأة والرجل السعوديين معاً هذه المرة وبعلاقتهما بالدولة.
فقد وصلت وتائر التحديث المادي والتعليمي والإعلامي (الفضائي) في المملكة مرحلة لم يعد ممكناً معاً موازنتها أو استيعابها بالأيديولوجيا السلفية المغلقة، التي تعود بأصولها ومرجعيتها إلى ظروف واجتهادات القرن الثالث عشر ميلادي، أو على الأقل إلى أوائل القرن العشرين. والخيار هنا بين أحد أمرين:
إما أن تقوم الدولة بتوحيد المجتمع المنقسم إلى مذاهب وقبائل ومناطق متناحرة (بفعل العقائد التكفيرية والتفسيقية)، على أسس التعددية والانفتاح والانتماء الوطني، فتخلق بذلك ثقافة المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات أمام مؤسسات دولة القانون.
أو تتعرّض الدولة، ومعها الكيان نفسه، إلى خطر التفسخ، لأنها لن تكون قادرة بعد حين على الإيحاء بأنها تلعب دور "الوسيط" مع السلفية القروسطية التي فشلت فشلاً ذريعاً في بناء انتماء وطني توحيدي حقيقي في البلاد. وهذا أمر بات ينتمي إلى المستقبل القريب لا البعيد بحفز من التغيرات الهائلة التي حدثت في العالم والشرق الأوسط غداة أحداث 11 سبتمبر 2001 وتطورات الربيع العربي.
قد يقال هنا أن الدولة غير قادرة على فك عرى تحالفها التاريخي مع "الشيخ"، لأن ذلك قد ينسف أحد ركيزتي شرعية "الأمير". بيد أن هذا أصبح قولاً مردوداً الآن، لأن "الخصوصية السعودية" تستطيع التحالف مع صيغة سلفية معتدلة وأكثر انفتاحاً وعصرية. فالسلفية، كما هو معروف، متعددة المنابع والاجتهادات والألوان، وهي ليست حكراً لا على غلاة المؤسسة السلفية المهيمنة راهناً ولا بالطبع على السلفيين الجهاديين.
هذا علاوة عن أن الإسلام المعتدل والمنفتح في السعودية بالذات، بات مطلباً إقليمياً ودولياً، لما لهذه الدولة من تأثير ضخم على باقي مجريات الأحداث في العالم الإسلامي برمته.
- III -
عودة إلى المرأة السعودية لنقول أن التطورات الاقتصادية والسياسية والتعليمية في المملكة، بدأت تدفع سهم التاريخ في  اتجاهها.
وفي حال استمر تقدم المرأة السعودية، وإن ببطء، على هذه الجبهات، فلن يكون من المغالاة في شيء القول أن تطور الدولة والمجتمع السعوديين نحو التحديث السياسي وصولاً في خاتمة المطاف نحو الدستورية الديمقراطية، سيكون بقيادة المرأة، أو على الأقل بحفز من مسيرتها نحو التحرر.
ولاعجب. فالمرأة التي تهز سرير الطفل بيمينها قادرة على هز العالم بيسارها، كما كان يردد نابليون بونابرت.


سعد محيو

الاثنين، 27 يناير 2014


إخوان تونس يرفعون "البطاقة الحمراء" لأخوان مصر
- I -
تونس قررت مرة أخرى تعليم المنطقة العربية كيف يُصنع "التاريخ العاقل"، وكيف يمكن استيلاد الأمل من رحم المأساة.

الأمل هنا هو إنقاذ الربيع العربي من عواصف الخريف والشتاء التي لفحت بعنف كل ثورات مصر وليبيا وسورية واليمن، وكادت تقوّض حلم المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية.

أما لماذا هي المرة الثانية، فهذا له علاقة بالتاريخ. فحين انقض التطرف الأصولي في المشرق العربي في القرن الثالث عشر على الفلسفة وحرية الفكر وأغلق باب الاجتهاد، إنبرى المغرب العربي للقيام بالجهد الانقاذي، فبرز ابن رشد وابن خلدون وابن طفيل، وأعادوا للفكر إبداعه وللحضارة الإسلامية رونقها وحيوبتها.هذا الفكر الأصولي نفسه، بأشطاره الدينية كما السلطوية- الأمنية، يقوم في القرن الحادي والعشرين بعملية انقضاض مماثلة للتك التي حدثت قبل سبعة قرون. ومجددا، لولا الثورة الثانية الراهنة التي قامت بها تونس قبل أيام، لكانت دائرة العصور الداكنة الجديدة قد أغلقت، ولغرقت المنطقة مجدداً في مستنقع دماء ويأس داخل نفق لا نهاية له. 
الثورة الثانية، التي ستبني الجمهورية الثانية في تونس، تمثّلت في نجاح النخب النهضوية (حزب النهضة الإسلامي) والعلمانية في الابتعاد عن حافة الحرب الأهلية التي كانت وشيكة، عبر تقديم تنازلات أدت إلى ولادة دستور جديد حظي بإجماع شبه كامل في الجمعية التأسيسية (200 نائب من أصل 216).
- II -
حزب النهضة كان الطرف الأكثر تحملاً لمسوؤلية هذه التنازلات التي كانت لاشك "مؤلمة" للغاية بالنسبة إليه. فهو وافق على شطب أي إشارة إلى الشريعة الإسلامية كمصدر رئيس للتشريع، واكتفى بالنص على أن الإسلام هو دين الدولة. وهو حافظ على "المكاسب التي حققتها المرأة" ودعا إلى "تطويرها"، بما في ذلك التمثيل المتساوي في المؤسسات المتنخبة. كما أقر الدستور حرية الرأي والمعتقد وأشار إلى أن تونس "دولة مدنية" تستند إلى "إرادة الشعب وسيادة القانون".
قد يقال هنا أن حزب النهضة أقدم على هذه التنازلات الضخمة التي كان يرفضها طيلة السنوات الثلاث من عمر الثورة، بما في ذلك قبول تسليم رئاسة الحكومة إلى شخصية من خارج الحزب، لأنه خشي أن تنهار العملية الديمقراطية في تونس كما حدث في مصر، أساساً لأن القوى  الدولية الداعمة لوصول الإخوان المسلمين، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تتحرّك لانفاذ وعودها وتعهداتها لهم (على حد تعبير دبوماسي غربي في تونس). وأيضاً بسبب تراقص الاقتصاد التونسي على شفير  الانهيار، وتصاعد النشاط الإرهابي في البلاد.
هذا الرأي يؤيده حتى زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي، الذي رفع "البطاقة الحمراء" حيال سلوكيات إخوان مصر حين قال مؤخرا، رداً على منتقدي الدستور الجديد:" الخيار كان بين أحد أمرين: إما الرهان على الإجماع، أو الذهاب إلى الحرب الأهلية والديكاتورية بسبب انقسام البلاد إديولوجيا".
وفي وقت لاحق، أبلغ الغنوشي "فايننشال تايمز"  قوله بصراحة: ماحدث في مصر كان زلزالا. كان هناك البعض في المعارضة يريد استيراد النموذج المصري (الجديد)، وهذا أثّر بالتأكيد على قرارنا".
- III -

حسنا. مصر أثَّرت بالفعل على قرار الإخوان التونسيين. لكن مثل هذا التأثير لم يكن لتقوم له قائمة لولا وجود استعداد حقيقي، وأوّلي، لدى حزب النهضة كي "يصالح" فكره الإسلامي مع مندرجات مباديء الحداثة والديمقراطية.
وهذا مالم يفعله إخوان مصر، الذي تلقوا هم أيضاً تحذيرات قوية قبل أشهر من الانقلاب العسكري- الشعبي عليهم بضرورة العمل وفق سياسات الإجماع والشمولية للجميع، وليس وفق توجهات الاستحواذ والإقصاء والسيطرة. وقد جاءت هذه التحذيرات من الرئيس الأميركي أوباما ومن رئيس الحكومة التركية أردوغان، والأهم من راشد الغنوشي نفسه الذي توجّه إلى القاهرة وناشد الرئيس مرسي العودة عن سياسة التصعيد والإلغاء.
بيد أن إخوان مصر كانوا في شبه غيبوبة آنذاك، بسبب حالة السكر التي تعتعتهم لانتقالهم من غياهب السجون والملاذات تحت الأرض إلى رؤوس أهرامات السلطة فوق الأرض.
أفضل من عبَّر عن حالة التعتعة هذه كان عصام العريان نائب رئيس «حزب الحرية والعدالة»، الذي كان يفترض أن يكون "الأكثر عقلانية واعتدالاً" في صفوف قادة الأخوان.
ففي حديث نشرته  الزميلة «الحياة» في 29 حزيران/يونيو الماضي، أي قبل يوم واحد من اليوم الذي غير اتجاه الأحداث في مصر، سئل عما إن كان يعتقد أن «الإخوان» ارتكبوا خطأ حين تولوا مسؤولية مصر في مرحلة حرجة؟. وجاء الجواب: «أعتقد أن «الإخوان» ضحوا تضحية كبيرة جداً في تحمل المسؤولية في ظروف محلية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد والصعوبة وجازفوا مجازفة ضخمة بتاريخهم، بثقة الناس فيهم، وبتوظيف إمكاناتهم. فبعد الثورات، دائماً طموحات الناس كبيرة جداً جداً، وإمكانات الدول لتحقيق ما تريده قليلة جداً. وفي الوقت ذاته أن تتولى دولة بحجم دول، وأنت لم تكن في ماكينتها، لا موظفين، لا وزراء سابقين، لا خبراء يعلمون تفاصيل، لا تمتلك أجهزة الأمن ولا أجهزة المعلومات، لا تمتلك شيئاً... هذه مجازفة كبيرة".
بيد ان العريان نسي أن يضيف أن هذه المجازفة هي في الواقع مقامرة خطرة للغاية، ليس فقط لمخاطرها الداخلية الجمة، بل أولاً وأساساً لأن الإخوان المصريين بنوا كل استراتيجيتهم على أساس الافتراض المخطيء بأن الولايات المتحدة، التي تراهن عليهم لتزويج الإسلام السياسي إلى الديمقراطية، لن تتركرهم "لقمة سائغة للذئاب".
بكلمات أوضح: الإخوان المصريون لم يكونوا مستعدين البتة، ربما لأسباب إيديولوجية وثقافية وسلطوية، للتأقلم مع حقائق الحداثة في المنطقة، وزاوجوا بين فكرة الإمساك بزمام السلطة كاملة وبين هدفهم بإقامة الدولة الإسلامية "هنا والآن".
وهذه تثبت الآن أنها كانت فكرة انتحارية، وليس عملية مجازفة فقط. فكرة نجح حزب النهضة في استبعادها من جدول أعماله، فأنقذ نفسه ومعه تونس من المآل المصري الداكن.
وهكذا، عادت تونس لتمسك بتلابيب الربيع العربي، فأعادت الأمل إليه، وبدأت ترسم انطلاقاً من المغرب العربي (مجددا) خريطة طريق مغايرة لكل المنطقة العربية. خريطة يكتنفها التفاؤل وتغشاها روح ابن رشد العقلانية، وعبقرية ابن خلدون التاريخية- الاجتماعية، وإبداعات ابن طفيل التطورية.

سعد محيو




الجمعة، 24 يناير 2014

هل يصبح روحاني دنغ الصيني أم غورباتشوف الروسي؟



- I -
ربما ليس من المبالغة البتة في شيء القول أن خطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام منتدى دافوس الاقتصادي، سيصنّف لاحقاً على أنه أبرز تطور في تاريخ إيران الحديث، منذ حدث الثورة الإسلامية الإيرانية العام 1979.

روحاني وخامنئي
فهذا الخطاب، كما سنرى بعد قليل، سيكون (في حال رأى النور) خريطة طريق إيران نحو الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي، تماماً كما حدث للصين حين انتقلت في أواخر السبعينيات من شيوعية ماوتسي تونغ إلى رأسمالية الدولة، كما حدد ملامحها دنغ هسياو بنغ.
آنذاك، حط الرئيس الأميركي نيكسون في بيجينغ العام 1972 حاملاً معه مشروعاً غيّر فيه معالم كل اللوحة الدولية: استعداد أميركا لدمج الصين في النظام الرأسمالي العالمي، في مقابل قيام الصين بفك ارتباطها بالاتحاد السوفييتي وتخليها عن مبدأ الثورة الماركسية العالمية في السياسة الخارجية.
وباقي القصة معروف.
دنغ وماو
روحاني في دافوس كان هسياو بينغ في بيجينيغ الذي قام في الفترة بين 1987 إلى 1992 بتنفيذ شروط الاندماج الأميركية الخاصة بالتخلي عن السياسة الخارجية، والتركيز على البناء الاقتصادي الداخلي في إطار امبراطورية العولمة.
دنغ، كما هو معروف، ورث من ماو صيناً ابتلت بالكوارث الاقتصادية- الاجتماعية والمؤسسية الناجمة عن الثورة الثقافية الماوية، فعمد إلى تطوير نظريتي "الاشتراكية بملامح صينية" و"اقتصاد السوق الاشتراكي". لكن في التطبيق العملي، كان دنغ في الواقع ينقل البلاد إلى المعسكر الاقتصادي الرأسمالي، من خلال فتحها أمام الاستثمارات الأجنبية والسوق العالمية والتنافس الرأسمالي الداخلي.
روحاني ورث هو الآخر من جمهورية الخميني بلداً استنزف موارده المحدودة مشروع الثورة الإسلامية العالمية الذي دفع إيران إلى خوض "سباق تسلّح" كارثي مع الغرب ودول الجوار، أسفر في نهاية المطاف عن تراقص إيران على حافة الانهيار والإفلاس.
- II -

في دافوس، كان روحاني يعلن بوضوح أمام 2500 سياسي واقتصادي من قادة النظام الرأسمالي العالمي أن بلاده تنوي السير على درب صين- دينغ. وهذا كان جلياً في النصوص الآتية:
- نحن مستعدون لفتح إيران أمام الاستثمارات الخارجية، خصوصاً في صناعات السيارات والنفط والغاز والبتروكيماويات والطرق والسكك الحديدية والبنية التحتية والتعدين.
- وهو أبلغ رؤساء تنفيذيين في شركات نفط وغاز، بينها «إيني» و «بي بي» و«توتال» و«رويال داتش شل»، أن إيران ستضع بحلول أيلول (سبتمبر) المقبل «نموذجاً استثمارياً» جديداً وجذاباً لعقود النفط، سعياً إلى تشجيع الشركات الأميركية والغربية الكبرى على العودة إليها.
- وأعلن روحاني استعداد بلاده لـ «تعاون بنّاء من اجل تعزيز أمن الطاقة في العالم، واستغلال مواردها الضخمة من النفط والغاز»، مضيفاً: «نحن مستعدون للبدء بعملية جدية لتشكيل منظمة جديرة بالثقة، من اجل هذه الشراكة على المدى البعيد".
- وتعهد أن تنتهج إيران «سياسات اعتدال وتعقّل وأمل في الاقتصاد العالمي»، معتبراً أن «الاقتصاد الإيراني قادر على أن يكون بين أفضل 10 اقتصادات في العالم في العقود الثلاثة المقبلة. ونحن عازمون على إعادة فتح العلاقات التجارية والصناعية والاقتصادية، مع كل دول الجوار.
- وأعرب أخيراً عن أمله بتطبيع العلاقات الاقتصادية التاريخية العميقة مع أوروبا، لافتاً إلى أن العلاقات الإيرانية- الأميركية «دخلت مرحلة جديدة». وكرّر أن من أولويات حكومته «التعامل البنّاء مع العالم".
- III -

صحيح أن العديد من هذه المواقف الانفتاحية جاءت على لسان روحاني في السابق. إلا أن هذا شيء والقيام بتقديم تعهدات محددة أمام منتدى دافوس الذي يُعتبر العقل المدبِّر للرأسمالية العالمية وجيبها، شيء آخر مختلف تماما. فمن يدخل إلى حمام دافوس (أي شروط النظام الرأسمالي العالمي) ليس كمن يخرج منه. ومن يتكلم في دافوس، سيكون عليه أن يترجم كلماته سريعاً إلى أفعال، وإلا فإن قباطنة الرأسمالية الدافوسيين سيلفظونهم من ناديهم.
لكن، هل روحاني قادر فعلاً أن يكون دنغ الصين الذي سينقل إيران من معاقل الثورة الإسلامية العالمية الخيمنية، إلى مواقع الدولة "العادية" الإيرانية المندمجة بالعولمة والقابلة لشروطها؟
حتى الآن، لايبدو أن الأمر كذلك. فالرجل، وعلى الرغم من تمتعه بحماية مرشد الثورة خامنئي، لايزال يتعرّض إلى حملات عنيفة من مصادر فيلق القدس والعديد من فيالق الحرس الثوري، الذي أثروا من محصلات العقوبات الدولية على إيران، عبر وضع يدهم على المفاصل الرئيسة للقطاع العام.
هذا علاوة على أن إيران لم تظهر حتى اللحظة أي دلالة ذي معنى إلى أنها بدأت تنفذ الشرط الرئيس لعملية إعادة إدماجها في النظام العالمي: التخلي عن طموحات التوسّع في سياستها الخارجية. فهي لاتزال متورطة حتى أذنيها في المستنقع السوري. وهي تواصل التدخل في لبنان والبحرين واليمن، وبالطبع في العراق، إلى جانب القوى الشيعية التي صدقّت شعار المجابهة مع "الشيطان الأكبر" الأميركي.
وبالتالي، وحتى لو كان روحاني يمتلك الضوء الأخضر الخامنئي لدمج إيران في منظومة العولمة، إلا أن هذا لن يتحقق طالما لم تُثبت إيران أنها تنوي بالفعل الاكتفاء بتطوير نظامها في الداخل ونبذ الطموحات الخارجية، كما فعلت الصين قبلها.
أجل. روحاني طرح في دافوس مايمكن أن يكون تحولاَ مفصلياً في تاريخ الثورة الإيرانية. لكن هذا لايزال حتى الآن في إطار مملكة النظريات.
يبقى أن ننتظر محصلات "الاشتباك الداخلي" (الآتي لاريب) بين أركان السلطة الإيرانية حول "أي إيران" يريدون، لنعرف مصير مشروع روحاني، لا بل مصير الشخص نفسه: هل سيكون دنغ الصين المنتصر، أم غورباتشوف المنهزم؟

سعد محيو












الثلاثاء، 21 يناير 2014


القراء الأعزاء: آخر إحصاء لغوغل قبل دقائق: مدونة" اليوم، غدا" سجّلت 300 ألف قاريء خلال تسعة أشهر. شكراً لكم، والشكر موصول أيضاً للخبير الالكتروني ريان حمزة.

أميركا وإيران: "الصفقة الكبرى" تتأرجح بين 3 سيناريوهات




 

 

أدق وصف للصفقة النووية المؤقتة بين طهران وواشنطن التي دخلت حيز التنفيذ اليوم، قد يكون ذلك الذي جاء على لسان مجلة إيكونوميست".

قالت: "هذه الصفقة مقامرة كبرى مع إيران لا أحد يعرف ما إذا كانت ستنجح لا. لكن من الواضح سلفاً أن المخاطر صغيرة، والجوائز كبيرة، والبديل (عن الدبلوماسية) بالغ السوء". (1)

حسنا. ربما كان هذا التوصيف، الذي يمثّل وجهة نظر الأطراف الغربية المتحمسة لخوض غمار "المقامرة" مع إيران حتى الثمالة، صحيح. لكن، ما العوامل التي ستكون نافذة أو حتى حاسمة في تقرير مصير هذه المقامرة، نجاحاً أو فشلا؟

هنا تبرز على السطح ثلاثة سيناريوهات تبدو حتى الآن متساوية القوة مع بعضها البعض.

السيناريو الأول يتوقع أن تتوصل إيران والولايات المتحدة خلال الشهور الستة أو الإثني عشر المقبلة إلى "الصفقة الكبرى" التي طال الحديث عنها طيلة السنوات الخمس الأخيرة، والتي من شأنها قلب الأمور رأساً على عقب في الشرق الأوسط الكبير، كما في العالم.

السيناريو الثاني يرى أن الفشل سيكون من نصيب هذه المغامرة- المقامرة، بسبب كثرة العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تقف حجر عثرة في طريقها.

والسيناريو الثالث لايستبعد أن تصل محصلة المفاوضات بين إيران إلى منزلة بين المنزلتين، أي لايتم الوصول إلى الصفقة الكبرى، لكن يجري تمديد الصفقات الصغيرة إلى أجل غير مسمى.

أي السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنستعرض معاً مضامين ومعطيات كلٍ من هذه السيناريوهات.

الصفقة آتية

ينطلق أنصار السيناريو الأول في نزعتهم التفاؤلية من تحليل العوامل الذاتية والموضوعية التي دفعت الولايات المتحدة وإيران إلى كسر 30 سنة من جدار العداوة في ما بينهما، والتي جعلت الأولى "شيطاناً أكبر" والثانية "أحد أضلاع محور الشر".

أهم العوامل الذاتية في الولايات المتحدة، كانت إعادة النظر الاستراتيجية الشاملة التي قامت بها إدارة الرئيس أوباما في توجهات السياسة الخارجية الأميركية. في المحافل الدولية، عُرفت إعادة التقييم هذه بـ"الاستدارة" ( Pivot) شرقاً نحو آسيا- حوض الباسيفيك ونحو إصلاح الداخل الأميركي، ويالتالي تقليص الاعباء والالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط وأوروبا.

أما في الداخل الأميركي، فكان يجري الحديث أكثر عن تخلي إدارة أوباما عن "مبدأ كارتر" الذي صاغه (كما هو معروف) الرئيس الأسبق جيمي كارتر العام 1980، والذي رمى فيها بالثقل العسكري الأميركي في منطقة الخليج، غداة "خسارة" الولايات المتحدة لإيران بعد ثورتها العام 1979 والغزو السوفييتي لأفغانستان.

وهذا عنى بالنسبة إلى أوباما رفض الانجرار إلى أي حروب أخرى في منطقة الشرق الأوسط الكبير، من سوريا إلى إفريقيا الشمالية، واستبدال "مبدأ كارتر" الذي وضع الأمن الخليجي مباشرة في أيدي القوات الأميركية عبر سياسة الاحتواء المزدوج آنذاك، بـ"مبدأ أوباما" الداعي إلى أن تلعب الولايات المتحدة دور"المدوزن" لموازين القوى في المنطقة، من خلال استراتيجية الإشراف بحراً من بعيد على التطورات فيها، تماماً كما فعلت القوة الامبراطورية البحرية البريطانية طيلة ثلاثة قرون.

 سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي، نشرت الشهر الماضي تقربر فريقها حول "إعادة النظر في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط"، (2) بوصفه الاستراتيجية  الأميركية الجديدة، والذي استند إلى منطلق يتيم: "النأي بالنفس" عن معظم قضايا الشرق الأوسط، وتقليص الالتزامات الأميركية في المنطقة، وتحويل التركيز الأميركي من حوض البحر المتوسط إلى حوض المحيط الهاديء.

وقد أضفى هذا التقرير الطابع الرسمي على سياسة الانكفاء أو الانحسار Retrenchement)) الأميركي في الشرق الأوسط، التي حددها الرئيس أوباما في خطابه الشهر الماضي أمام الأمم المتحدة، والتي شدد فيها على أن الأولويات الأميركية الجديدة هي التوصل إلى تسوية دبلوماسية للملف النووي الإيراني، وحل المسألة الفلسطينية- الإسرائيلية، ورفض استخدام القوة العسكرية إلا لمنع عرقلة تدفق النفط، ومكافحة الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل.

أما قضايا الحرية، التي تبناها أوباما قبل سنتين في اسطنبول والقاهرة معلناً في أيار/مايو 2011 بأن أميركا "ستدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأسواق الحرة بكل امكانتها الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية"، فقد حلت مكانها الآن النزعة الواقعية والبراغماتية و"رفض أن يبتلع الشرق الأوسط كل أجندة السياسة الخارجية الأميركية"، على حد تعبير رايس التي أضافت: "هناك الآن عالم كامل (في آسيا)، ونحن لدينا مصالح وفرص في ذلك العالم الكامل".

هذا التوجه الأميركي الجديد تقاطع مع تقارير أميركية وغربية عدة، كانت تضفي على هذا التوجه الأميركي نحو الانكفاء مضامين أخطر بكثير: مضامين حضارية كبرى إذا جاز التعبير.

فقد كتبت فايننشال تايمز أن الغرب كله" بدأ يفقد إيمانه بمستقبله، بسبب تدهور مواقعه النسبية اقتصادياً واستراتيجياً في النظام العالمي" (3). وأضافت الأيكونومسيت إلى ذلك قولها أن "المشاكل الكبرى التي يعاني منها الغرب بسبب الشلل الذي سببته حروب العراق وأفغانستان، والتضعضع الاقتصادي في أوروبا وأميركا والسياسات الحزبية ضيقة الأفق فيهما، قد جعله في حالة ضعف شديد يترافق مع انحسار نفوذه".(4) هذا في حين كان تقرير لأجهزة الاستخبارات الاميركية يشدد على أن "حقبة صعود الباكس أميركانا (السلام الأميركي) في العالم التي بدأت العام 1945 توشك على الأفول سريعاً، في مجالات الحجم الاقتصادي، والتكنولوجيا، والاتفاق العسكري"، وأن "القوة الآسيوية ستتفوق على أوروبا وأميركا الشمالية معاً قبل العام 2030". (5)

أوردنا هذه التفاصيل لمجرد الإشارة إلى الابعاد الاستراتيجية - التاريخية التي ربما تُملي على الولايات المتحدة سياساتها الراهنة إزاء إيران. هذا بالطبع من دون الوصول إلى الاستنتاجات الخطيرة التي خرج بها إيمانويل تود في كتابه "مابعد الامبراطورية" (6) والذي توقّع فيه انهياراً قريباً للولايات المتحدة، كما حدث للاتحاد السوفييتي. فالقدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأميركية لاتزال لها، وحتى إشعار آخر، اليد العليا في العالم، خاصة بعد اكتشاف النفط والغاز الصخريين، وتطوير صناعة " الطباعة ثلاثية الأبعاد"، وإعادة التصنيع الشاملة ووقف تصدير الوظائف إلى الخارج.

لكن، مع ذلك، هذا لاينفي الحقيقة بأن الولايات المتحدة بدأت تعيد بالفعل التفكير بنفسها وموقعها وقدراتها كزعيمة عالمية. وهي تجد نفسها مدفوعة، في ضوء إعادة التقييم هذه، إلى تقنين وجودها في الشرق الأوسط والعالم. ومن هنا جدّية إدارة أوباما في البحث عن تسوية شاملة مع إيران. إذ أن مثل هذه التسوية ستمكنها، كما قال هنري كيسينجر وجورج شولتز، في "وول ستريت جورنال"  من "تطوير سياسة شرق أوسطية متأقلمة مع الظروف الجديدة".( 7)

تجرّع السم

الجانب الأميركي يبدو إذا مستعدا، حتى الآن على الأقل، لإبرام صفقة كبرى مع إيران. لكن ماذا عن إيران نفسها؟

في 8 آب/أغسطس 1988 أعلن أية الله الخميني أنه "يتجرع السم من خلال قبوله وقف الحرب مع العراق".

وفي 16 أيلول/سبتمبر 2013، أي بعد 25 سنة، بدا خليفة الخميني أيه الله خامنئي وكأنه يتجرع السم هو الآخر، عبر إبداء استعداد إيران لممارسة "الليونة البطولية" في التعامل مع الغرب، بعد عقدين من "ِشيطنة أميركا" واعتبار أي ليونة في التعاطي معها بمثابة "خيانة إديولوجية".

الخميني قرر "تجرُّع سم" وقف الحرب لأن أدرك أنه عاجز عن حسم الحرب لمصلحته، ولأن نظامه بات مستنزفاً اقتصادياً وعرضة إلى الخطر. وخامنئي قرر هو الآخر "تجرع السم" لأن مقاربته القائمة على المجابهة مع الغرب، جعلت الاقتصاد الإيراني يتراقص على حافة الانهيار.

فالضائقة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها إيران هذه الأيام، أدت إلى خفض قيمة الريال الإيراني بأكثر من 60 في المئة خلال الأشهر الستة الماضية، ورفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى أكثر من 40 في المئة، هذا في حين كان التضخم يقفز إلى مستويات شاهقة. وهذا على مايبدو، مادفع مرشد الثورة الإيرانية إلى لجم الحرس الثوري الإيراني (مؤقتا) عن التدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (كما فعل العام 2009)، وإلى الافصاح علناً للمرة الأولى عن استعداده لابداء المرونة في المفاوضات النووية مع إيران.

سبب هذا الانقلاب الخامئني سببان:

 الأول هو العقوبات الاقتصادية الغربية والدولية القاسية على إيران، التي جعلت الرئيس حسن روحاني يعترف في نيويورك أمس بأنها (العقوبات) ألحقت أضراراً فادحة ليس فقط بالاقتصاد الإيراني بل أيضاً بالمواطنين الإيرانيين العاديين الذين باتوا، على حد قوله، "يفتقدون إلى الطعام والدواء".

بيد أن السبب الثاني قد يكون أخطر: الكلفة الباهظة التي تتكبدها إيران في سباق التسلح والصراع على النفوذ الإقليمي مع الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، والتي قد تكون أكثر خطورة من العقوبات الدولية، والتي جعلتها (كما الاتحاد السوفييتي السابق) تترنح على شفير الانهيار الاقتصادي- الاجتماعي.

وهنا حدث التقاطع بين الانحسار الأميركي وبين التآكل الداخلي الإيراني لتولد منه الاستعدادات لدى كلا الطرفين لإبرام الصفقة الكبرى المنشودة. وهذا ماسيجعل السيناريو الأول، أي التسوية، قوياً وقابلاً للتطبيق، برأي أنصاره.

السيناريو الثاني: الفشل

ماذا الآن عن السيناريو الثاني، الذي يتوقع فشل الصفقة الكبرى؟

أنصاره يوردون ثلاثة عوامل رئيسة ستؤدي إلى انهيار المسعى الراهن.

الأول، هو احتمال حدوث "ثورة" في الولايات المتحدة على سياسة إدارة أوباما، بسبب ماتعتبره العديد من القوى المحافظة وحتى الليبرالية العالمية الأميركية تهاوناً من قبلها في التصدي للمحور الروسي - الصيني- الإيراني الناشيء في السياسات الدولية.

أبرز ممثلي هذا التيار هو وولتر رسل ميد، الذي نشر مؤخراً (8) دراسة بعنوان "نهاية نهاية التاريخ"، أبرز فيها النقاط التالية:

- في وقت ما من العام 2013، وصلنا إلى مرحلة جديدة في تاريخ العالم. فقد سعى تحالف من قوى كبرى إلى قلب التسوية الأوراسية لفترة مابعد الحرب الباردة التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد العام 1990. وهذا التحالف يحقق الآن تقدماً أساساً بسبب تجاهل إدارة أوباما لمخاطره. اسم هذا التحالف "القوى المركزية" روسيا والصين وإيران، التي تكره وتخشى نفسها كما تكره وتخشى النظام الجيو- سياسي الراهن.

- هذا التطور لم يصل بعد إلى مرحلة ماقبل الحرب، لأن القوى المركزية تعرف أنها لاتستطيع تحدي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، لكنها تنشط لتفريغ صرح القوة الأميركية من زخمه. والصفقة مع إيران تتم في هذا السياق، إذ هي تقايض الوعد الإيراني بإنهاء البرنامج النووي برضوخ أميركا لهيمنة طهران على الهلال الخصيب وحتى ربما على الخليج.

- الإدارة الأميركية الحالية، أو أي إدارة مقبلة، سيكون عليها مواجهة هذا الحلف الجديد في قارة أوراسيا، وسيتحتم عليها للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة أن تبلور استراتيجية أوراسية جديدة تدمج فيها السياسات في أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا وشرق آسيا في هيكلة واحدة شاملة.

ميد رسل يعني، بكلمات أخرى، أنه يتعيّن على الولايات المتحدة رفض التسوية مع إيران، لكونها جزءاً من التحالف الدولي الذي يسعى إلى تقويض الزعامة العالمية. وهذا ماتراه أيضاً قطاعات واسعة في الكونغرس الأميركي، وإسرائيل، ودول شرق أوسطية ودولية عدة. وهو موقف يتقاطع مع رأي القوى المحافظة و"فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، الذي يعتبر الرئيس روحاني بمثابة "غورباتشوف إيران" الذي سيقوّض الثورة الإسلامية ويسمح للولايات المتحدة بتغيير النظام الإيراني سلماً وبالتدريج.

كل هذه الأطراف ستعمل حتماً على إجهاض الاتفاق ومنعه من الولادة.

السيناريو الثالث

يبقى السيناريو الأخير، وهو احتمال تحوّل المؤقت إلى دائم في المفاوضات الإيرانية- الغربية. أي تمديد فترة الستة أشهر المحددة للتوصل إلى اتفاق دائم إلى فترات ستة أشهر أخرى بشكل غير محدد زمنيا، على نمط الصفقات الإيرانية- الأميركية "الصغيرة" السابقة في أفغانستان والعراق وإيران- غيت.

أما الصفقة الكبرى، فيجب أن تنتظر تبلور النظام الدولي الجديد، وما إذا كانت الولايات المتحدة (خاصة في عهد إدارة جديدة تحل مكان إدارة أوباما)، ستتوصل إلى تسويات واتفاقات مع روسيا والصين، أم أنها ستسعى، كما يدعو رسل، إلى استراتيجية أوراسية لمجابهتها استناداّ إلى مفهوم موازين القوى.

مفاجآت؟

نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: أي السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟

الأرجح أن اليد العليا ستكون للسيناريو الأخير لسببين: الأول، أن الولايات المتحدة ستكون في حاجة إلى وقت كي تختمر فيها التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية. وهذا سيجعل من الصعب عليها التوصل إلى صفقة كبرى مع إيران قبل حسم مسألة العلاقة مع الصين وروسيا. وبالتالي من الأسهل التوصل إلى اتفاقات مؤقتة طيلة ماتبقى من عهد أوباما.

 والثاني، أن الداخل الإيراني في حاجة هو أيضاً لأن يحسم ماإذا كان بمقدوره قبول الشروط الأميركية لإعادة دمجه (كما حدث مع الصين قبله) في النظام العالمي، والتي تتضمن قبوله بالتركيز على التطوير الاقتصادي الداخلي والتخلي عن طموحاته الإقليمية.

وهذا بالطبع من دون أن نسقط من الاعتبار احتمال وقوع "حوادث" أمنية كبرى يقوم بها المعترضون على الصفقات من كل الأطراف لجعل السيناريو الثاني (الفشل) هو الخيار الأقرب إلى التحقق.

 

_______________

1- إيكونوميست. 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2013.

2- Susan Rice offers more modest strategy for Middle east. New York Times, october 26,2013 .

3- Financial Times: The west is losing faith in its own future. Dec 9, 2013

4- The weakened west. Economist, sep21, 2013

5- Pax Americana is "winding down", says US report. Financial times, Dec 10, 2013

6- (1)  Emamnuel Todd. After The Empire: The Break Down of The Amercican Empire. Columbia University Press.NewYork.)

7- Diplomatic success always trumps a military victory. Financial times, Dec 18, 2013

8-  Walter Russel meed: The end of history ends. American interest.Dec 2, 2013

 

 

 
 
 

الاثنين، 20 يناير 2014

حروب القرن 21 : اللايزر، الجزئيات، ووحدات إمبراطورية "رومانية"



- I -
ما نوعية الحروب المستقبلية التي يعدها البنتاغون للعالم خلال السنوات القليلة المقبلة؟

إنها، ببساطة، تلك التي تبدأ بالعلم وتنتهي بالتكنولوجيا، او ما يسمى الان ب " الأسلحة الموجّهة بالطاقة ( القنابل الكهرومغناطيسية(E-bomb   ، سواء أكانت اللايزر، أو الموجات بالغة القصر، أو أشعة الجزئيات.
هذه الأسلحة، كما يقول الخبير العسكري الأميركي دوغلاس بيزون، " درامية ومدمرة وعميقة، إلى درجة انها ستغيّر الطريقة التي تشن فيها الحروب". وهي تتميز بالآتي:
n  السرعة الفائقة التي تمكنّها من الدوران حول الأرض أكثر من سبع مرات خلال ثانية واحدة. وهذا ما سيحيل كل أنواع الأسلحة الأولى إلى متاحف التاريخ.
n  الدور الكبير الذي يمكن ان تلعبه ضد الثورات الشعبية. وهذا صحيح على الأخص بالنسبة لسلاح يدعى " النفي الفعال"   ( Active denial  ) . هذا السلاح، المستند إلى موجات الجزئيات الدقيقة، يخترق جلد الثوار او المتظاهرين في مساحة تبلغ 700 متر، ويجعلهم يشعرون بأن جسمهم كله يحترق، برغم أن الحقيقة ليست كذلك، الأمر الذي يدفعهم إلى ترك كل شيء والهرب. البنتاغون يدعّي أن " النفي الفعال"  لا يسبب أمراضاً سرطانية، لكنه لم يقدم دلائل حسية على ذلك.
n  القدرة على إسقاط الصواريخ البالستية التكتيكية مثل " سكود" ، كما الأمر مع سلاح اللايزر " كويل" الذي يمكن إطلاقه من طائرات 747 المعدلّة.
 خبراء وزارة الدفاع الأميركية يقولون أن التجارب على الأسلحة الموجّهة بالطاقة تجري على قدم وساق، وأن هناك الان بالفعل  سبعة أسلحة لايزر،   وسلاح " نفي فعال " واحد. ويضيفون أن الدول الأخرى لن تكون قادرة على اللحاق بسباق التسلح الجديد هذا قبل عقود.
إلى ذلك، يضيف الخبراء انه بعد نهاية الحرب الباردة، إكتشفت الولايات المتحدة ان غياب العدو الرئيس الوحيد عن ساحة المعركة ( الاتحاد السوفييتي) ، لم يعن تبخر التحديات التي  قد تبرز في أي مكان  بما في ذلك الداخل الاميركي ضد المصالح والزعامة الاميركية في العالم.
وهنا ولدت إستراتيجية الامن القومي الجديدة، والتي تطلبت في الدرجة الاولى بدء تغيير الجيش الاميركي من قوة نظامية الى وحدات إمبراطورية،  شبيهة الى حد ما بوحدات الحرس الامبراطوري الروماني التي كانت تتنقل في كل انحاء العالم لقمع تمردات
" البرابرة ".
الجيش الاميركي بات يطلق على نفسه الان إسم " القوة الموضوعية "، ( للتمّيز  عن القوة الذاتية النظامية السابقة ) ، وهو يضع لنفسه الاهداف الاتية :
1-   العمل على نقل فرقة عسكرية اميركية الى أي مكان في العالم خلال 96 ساعة، لان التحديات الامنية غير المتوقعة في العالم تتطلب مثل هذه السرعة. والنموذج هنا هو حرب أفغانستان.
2-   إتباع المرونة في التعاطي مع الانماط المختلفة من الحروب، حيث أن بعض  المجابهات تتطلب وحدات عسكرية كبيرة ( العراق )، فيما تكفي مع  بعضها الاخر  الوحدات الصغيرة ( أفغانستان ، الصومال، الفيليبين  .. ألخ ) .
3-    بغض النظر عن طبيعة المهمة او المكان، يتعّين على وحدات الجيش الصغيرة التي ترسل بشكل روتيني الان الى ما وراء البحار، أن تتمتع بجهوزية  للتحرك في أي وقت، الى أي مكان.
4-   العمل على تطوير قدرات قوات الاحتياط الاميركية، كي تتمكن من مشاركة قوات الجيش في التدخل السريع في كل انحاء  العالم.
5-   وأخيرا، الحرص على خوض المعارك في إطار تحالفات عسكرية مع أصدقاء اميركا وحلفائها. فهذا لن يخفف فقط أعباء واكلاف التدخلات، بل سيسّهل أيضا على القوات الاميركية الحصول الى الشرعية الدولية الضرورية .

- II -

في أي إطار يجب وضع هذا المشروع العسكري العالمي الطموح الذي تضعه الولايات المتحدة لنفسها ؟.
في إطار المفهوم الإمبراطوري بالطبع.
 وبرغم أن بعض  الأميركيين ما زال مترددا في وصف " القوة المفرطة " الأميركية على أنها إمبراطورية، إلا أن هذه التحفظات بدأن تنحسر بالتدريج لصالح ما يصفه محللون اميركيون ب " حق الولايات المتحدة بأن تكون إمبراطورية عالمية ، بسبب قيمها ومبادئها إضافة الى قوتها " .
هذا، على سبيل المثال، ما يراه الجنرال وليان أودوم وروبرت دوجاريك ، مؤلفا كتاب " إمبراطورية اميركا غير المقصودة "، اللذين يشددان على أن الولايات المتحدة تهيمن على العالم بوسائل لم تعرفها الامبراطوريات السابقة أبدا. فالثقافة الاميركية تسيطر على كل مجالات الحياة في غالبية الدول. والقوة الاميركية هي قوة أكاديمية، وعلمية، واقتصادية، إضافة الى كونها عسكرية. وحقيقة أن الامبراطورية الاميركية برزت بدون قرار واع من جانب زعماء اميركا السياسيين، هو ما يجعلها " إمبراطورية غير مقصودة "، لكنها في الوقت ذاته إمبراطورية  ضرورية .
لا بل يقول محللون أميركيون الان أن الامبراطورية الاميركية ليست ضرورية فحسب ، بل لا غنى عنها أيضا .
هذا  هو جوهر الدراسة التي نشرها مؤخرا  المفكر الاميركي نيل فيرغوسون في دروية " فورين بوليسي  " ( تموز \ يوليو - آب \ غسطس ) بعنوان " عالم من دون قوة  ".
فهو رسم صورة مخيفة عما  يمكن أن يحدث للعالم، إذا ما قررت الولايات المتحدة التخلي عن الزعامة  العالمية والعودة الى العزلة. وهو يرى ان البشرية ستعود حينذاك الى الحال الذي كانت عليه في القرنين التاسع والعاشر ميلادي، الذي شهد تراجع الامبراطوريات البيزنطية والاسلامية والصينية، وتفكك وتذرر العالم الى شظايا سياسية متحاربة  ومتقاتلة.
ويضيف ( وهنا الاهم ) ان السمة الرئيس لهذين القرنين،  اللذين إنحسرت  عنهما القوة الامبراطورية، هو غياب التوجهات العلمانية  وغلبة الصراعات الدينية على جداول الاعمال السياسية. ففي القرن التاسع، مزقّ الخلاف حول دور الايقونات في العبادة المسيحية الامبراطورية البيزنطية. وفي القرن الحادي عشر نشبت الحروب بين البابا وبين رأس الامبراطورية الجرمانية المقدسة حول من يحق له تعيين الاساقفة. وفي العالم الاسلامي حكم الائمة ورجال الدين بشكل فعلي. وقد إنتهت هذه الحقبة  بحروب مقدسة غير عادية هي الحروب الصليبية  التي دشنها الاوروبيون العام 1095 .
الرسالة هنا واضحة: من دون هيمنة الامبراطورية الاميركية على العالم، وفي غياب أي بديل أو منافس جدّي  لهذه القوة المفرطة،  سيغرق هذا العالم في ظلام قرون وسطى دامسة جديدة !.
ولتجنب هذا المصير ، سيكون على العالم الامتثال لأملاءات القوة الاميركية المفرطة، لا بل أيضا  الترحيب بالتدخلات الاميركية في كل مكان، بما في ذلك بالطبع التدخلات العسكرية.
والحال أن جميع فئات النخب الاميركية الحاكمة تبدو مقتنعة تماما بهذه الفكرة ، يستوي في ذلك الديموقراطيين كما الجمهوريين ، الليبراليين كما المحافظين، وحتى أيضا القوى اليسارية الاميركية المعادية للامبريالية التي ترى هي الاخرى ( كما في كتاب " الامبراطورية لنيغري ) أن القوة الاميركية  ليست لا إستعمارا جديدا ولا إمبريالية مستجدة ولا حتى طفرة قومية زائدة ، بل هي إمبراطورية من نوع جديد تدمج  العالم وتندمج به.
وبهذا المعنى ، تصبح اميركا هي العالم ، وتتحول قواتها الى فرق عسكرية في خدمة " إمبراطورية العولمة " ، التي هي الوجه الاخر الحقيقي للأمركة.
قد يعجب هذا الكلام بعض أنصار العولمة ، وقد يثير غضب غالبية الاطراف  التي ترفض ان تكون " خدماً " في بلاط الامبراطورية الاميركية ( كما اعلن جاك شيراك مؤخرا ). لكن هذا لن يغّير من الامر شيئا : القوة الاميركية المفرطة لن تقبل بأقل من الهمينة التامة على حديقتها العالمية الشاسعة. وبالتالي ،   " الاف. بي. أي "  يجب أن ينظر أليها  من الان فصاعدا  على انها " أف. بي. أي " العالم ، وكذا الامر بالنسبة للجيش والمارينز وكل الفرق الامبراطورية الجديدة.
سعد محيو

(*) Douglas Beason: E-bomb:  How America's new directed weapons will change the way future ways will be fought.