للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الخميس، 12 أبريل 2012

العرب والديناصورات والثورة الفرنسية


العرب والديناصورات والثورة الفرنسية

بالطبع، لم يحن الوقت للتحضير لكتابة تاريخ الثورات المدنية- المواطنية الراهنة في مصر وتونس وليبيا واليمن وبقية السرب العربي. فالتاريخ لايزال قيد الولادة، والآن.
كما لم يحن الوقت أيضاً للتفكير بكيفية ولادة معجزة النهوض العربي الحالي، من أسفل قعر وصلته الأمة في تاريخها المديد. فالمعجزة لما تكتمل فصولاً بعد.
ومع ذلك، يمكن للمرء، مع جهد عصبي مكثّف بالتأكيد، أن يُطلّ برأسه قليلاً فوق الجماهير الملاينية في ميدان التحرير ليلقِ نظرة سريعة على مستقبل عربي بات في متناول اليد. وهو إذا مافعل، قد يكتشف التالي:
الوضع في مصر والعالم العربي لايزال مشحوناً بعنف إلى درجة الانفجار. بيد أن هذا في الواقع أمر طبيعي للغاية في الثورات التاريخية، حين يكون من الصعب على القديم الاعتراف بانتهاء دوره، ويكون من الأصعب على الجديد استيلاد العالم الجديد من رحم القديم.
المسألة هنا تتعلق ليس فقط بالمصالح، بل كذلك بالعادات. فحين يعتاد الحكام على نمط مُعيّن من ممارسة الحكم يتّسم بالسلطة التامة لهم وبالخضوع التام للمحكومين( كما كان الأمر أيام الفراعنة، والرومان، والمماليك، والانكشارية)، لايكون من السهل عليهم (الحكام) أن يُصدقوا بأن المحكومين يمكن أن يثوروا حقاً، وأن يتحوّلوا حقاً من "رعايا" إلى مواطنين.
وحين يكسر المحكومون، هم أيضاً، عادات الخوف والاستكانة، والخنوع، ويدفعون ثمن ذلك نقداً وعداً من دمائهم وعرقهم ودموعهم، يصبح من المستحيل عليهم العودة إلى هذه العادات السابقة وتتوقد في نفوسهم عواطف الغضب والثورة والتمرد.
أوروبا القروسطية مرّت في هذه المرحلة، حين كان ملوك الحكم الالهي المطلق يتصرفون ببلادهم كمقاطعات تُشرى وتُباع، وحين كانوا يعاملون مواطنيهم كسلع تُشرى وتباع أيضاً. ولم تنته هذه "العادة" الاطلاقية سوى بثورات اجتماعية عنيفة اجتاحت العديد من الدول الأوروبية، والتي كان على رأسها الثورة الفرنسية العام 1789 التي رفعت شعار "الحرية، المساواة، الإخاء".
أمريكا اللاتينية أيضاً مرّت في الهزيع الأخير من القرن العشرين بثورات من هذا النوع، ليس ضد الملوك المطلقين بل الجنرالات المطلقين، ورفعت هي الأخرى شعارات الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية.
المنطقة العربية تعيش الآن أجواء هذه الثورة الفرنسية وتلك الثورات الأمريكية اللاتينية، لا مناخات الثورة الإسلامية الأيرانية ولا قسمات البلشفية الاشتراكية الشيوعية. فهي تثور ضد السلطة المطلقة للاشكال المُحدثة من  لويس السادس عشر والملكة أنطوانيت، وتتوق إلى الحرية والخبز والمساواة. وهي تفعل ذلك بأيدي فتيتها وشبانها الذين يرسمون الآن خطاً فاصلاً وعريضاً على الرمال بين عادات وتقاليد الجيل القديم وبين رغبات وتطلعات الجيل الجديد.
أجل. الجو مشحون للغاية حقاً في مصر وبقية الوطن العربي، وقد يكون مفتوحاً على احتمالات متفجّرة وخطيرة، خاصة إذا ما واصل العالم القديم رفض الاعتراف بدنو أجله وانتهاء دوره.
 بيد أن هذه طبيعة الثورات في التاريخ. وربما هذه أيضاً ضرورة للتاريخ الجديد نفسه الذي قد يحتاج أيضاً إلى "تدمير خلاّق" قبل استيلاد الخلق الجديد.
وعلى أي حال، لولا أن كارثة كبرى حلّت بالديناصورات قبل 60 مليون سنة حين سقط على رؤوسها نيزك هائل أدى إلى هلاكها، لما كان بإمكان الجنس البشري أن ينمو ويتطور ويبني حضارته الجديدة على الأرض.

الخميس، 5 أبريل 2012

لماذا تتعثر المعارضة السورية




الأمر أشبه بالمأساة التي تولد من رحم مأساة:
فيما تشهد سورية أخطر أزمة وجودية، وإنسانية، وأخلاقية، في تاريخها الحديث، تعيش المعارضة السورية القديمة والجديدة أزمة لاتقل خطورة، تتمثّل في الشقاقات والانشقاقات والنزاعات التي تذكّر بالصيادين الذين يبيعون جلد الدب قبل اصطياده، أو بالبيزنطيين الذين تناحروا حول جنس الملائكة فيما الأعداء يطوّقونهم من كل حدب وصوب.
لماذا هذه المأساة الثانية، التي لم يبق طرف إقليمي ودولي لم يتدخل وعلى أعلى المستويات مطالباً بوضع حد لها، (وكان آخرها مؤتمرات اسطنبول وباقي العواصم الأوروبية)، تتواصل فصولا؟ ما أسبابها؟ ما دوافعها؟ وإلى أين من هنا؟
سنأتي إلى كل هذه الأسئلة بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة سريعة أمام تاريخ هذه المعارضة منذ العام 2000.

ولادات واخفاقات
في أعقاب الانتقال السريع للسلطة إلى الرئيس بشار الأسد العام 2000، بادر مفكرون ورجال أعمال بقيادة رجل الأعمال الدمشقي وعضو مجلس الشعب رياض سيف، إلى عقد لقاءات أسبوعية في منزل هذا الأخير بمنطقة صحنايا في دمشق. أطلق على هذا التجمع اسم "منتدى الحوار الديمقراطي" الذي تحوّل لاحقاً إلى "حزب السلم الديمقراطي". وبعدها كرّت سبحة المنتديات، فوصل عددها العام 2001 إلى 21 منتدى في أنحاء سورية كافة. وفي أيلول/سبتمبر العام 2000 أصدر 99 مثقفاً سورياً بياناً طالبوا فيه بإطلاق كل السجناء السياسيين وسجناء الضمير وإعادة المنفيين، وإرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية التنظيم والصحافة والتعبير. ثم أصدر ناشطون في لجان إحياء المجتمع المدني "بيان الألف" الداعي هو أيضاً إلى إطلاق الحريات، وتلاه العام 2003 وثيقة معارضة تدعو إلى مؤتمر وطني عام لدرأ أخطار الغزو الأميركي للعراق على سوريا. هذا فضلاً عن دعوات ومبادرات ووثائق كثيفة أخرى كان منها محاضرة بعنوان "نحو عقد وطني جديد" قدّمها برهان غليون في أيلول"سبتمبر 2001.
هذه الطفرة، التي عرفت بـ"ربيع دمشق، كانت اليقظة الأولى لمعارضة المجتمع المدني الذي ثابر على سبات شتوي مقيم منذ فرض قانون الطواريء العام 1963. بيد أن هذا الربيع كان في عمر الورود، حيث تحرّكت أجهزة الأمن الـ15 أو الـ17 القابضة على زمام السلطة الفعلية في البلاد (بكونها "شبه طبقة" حاكمة وفق المفهوم الغرامشي) والتي لم تكن موافقة أصلاً على السماح بنشوء المنتديات، لقمع هذه الظاهرة، فتم اعتقال كوادر ربيع دمشق وزجوا في السجون  أو أبعدوا إلى المنافي.
المرحلة الثانية انطلقت بعد "إعلان دمشق" الذي صدر في 16 تشرين الأول/أوكتوبر 2005، وشكّل آنذاك إطار إجماع واسع لحركة المعارضة السورية. شارك في هذا الإعلان العديد من التيارات السياسية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، وأكراد، ومثقفين وناشطين ومعتقلين سياسيين سابقين. وقد شكّل هذا التجمع نقلة نوعية مقارنة  بربيع المنتديات، من حيث أنه انتقل من المطالبة بالحريات والتعددية والديمقراطية، إلى طرح مبادرات سياسية محددة للمرة الأولى.
فأعضاء الإعلان أعربوا بجلاء عن خشيتهم من أن يتكرر سيناريو الغزو الأميركي للعراق في سوريا، ودعا  رئيس الأمانة العامة لإئتلاف إعلان دمشق رياض سيف إلى توفير "شبكة أمان" للبلاد تفادياً للأسوأ. هذا فيما كان الزعيم المعارض رياض الترك يقترح استقالة رئيس الجمهورية على أن يحل مكانه رئيس مجلس الشعب، وأن يتولى الجيش ضبط الأمن في البلاد، وأن تتعاون الحكومة الجديدة مع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري.
لكن، ومرة أخرى، أنقضت أجهزة الأمن على أركان "إعلان دمشق"، فتحوّل هذا الربيع الجديد إلى خريف آخر، وعادت حركة المعارضة إلى التبعثر والشتات.
أما المرحلة الثالثة، التي نعيش الآن، فقد كانت متميزة للغاية. إذ هي لم تنطلق من منابر النخب المثقفة ولا من حناجر المعارضين السياسيين، بل هي ولدت على يد حركات شعبية بدأت في درعا وانتشرت كالنار في الهشيم في معظم أنحاء البلاد. وقد تطلّب الأمر وقتاً غير قصير (بمعايير زمن الثورات) قبل أن تستلحق المعارضات الداخلية والخارجية نفسها للانضمام إلى هذه الانتقاضة ولتعلن العمل من أجلها أو النطق باسمها.
لكن، وعلى عكس ماجرى في المرحلتين الأولى والثانية من يقظة المعارضة، حيث ساد شبه إجماع على نقاط عامة بين المعارضين، ابلتيت معارضة المرحلة الثالثة منذ لحظة ولادتها بأمراض الشيخوخة: الترهّل، الفوضى، والصراعات الفردية والإديولوجية والمصلحية. وهذا ضرب حتى المجلس الوطني السوري الذي كان يفترض به أن يكون مظلة فضفاضة قادرة على أن تلم في ثناياها كل أطياف وألوان المعارضة.

لماذا؟
لماذا حدث ماحدث؟
الاسباب تبدو وفيرة:
أولاً، لعنة الجغرافيا.
فالمعارضة الخارجية التي تم لم شعثها بصعوبة، جاءت من أصقاع أوروبية وأميركية وخليجية متباينة ترعرعت في أحضانها طيلة نيف وأربعة عقود بحماية (أو بشروط) الدولة المُضيفة. وهذا أمر طبيعي عاينته قبل المعارضة السورية حركات المقاومة الفلسطينية، التي وجدت نفسها هي الأخرى مضطرة للتأقلم مع شروط أو مطالب البيئات الجغرافية الحاضنة التي كانت في الغالب متصارعة أو متناقضة.
الخارج هنا يخترق الداخل (مع استثناءات بالطبع)، مالياً ومصلحياً وحتى فكرياً، الأمر الذي ترك، ولايزال يترك، بصمات واضحة على فصائل المعارضة التي قيل أن عددها بات يناهز المائة فصيل بين صغير الحجم وكبيره.
قد يقال هنا أن قادة الحزب البلشفي الروسي، وفي مقدمهم فلاديمير لينين، كانوا هم أيضاً في الخارج، لكنهم لم يتأثروا بهذا الخارج. وهذا صحيح. بيد أن الفرق أن رأس حزب البلاشفة كان في أوروبا، لكن جسمه كان في الداخل الروسي. وهذا شرط لم يتحقق للمعارضة السورية في الخارج التي يفتقر معظمها (باستثناء الأخوان المسلمين) إلى جسم في الداخل.
ثانياً: التباينات الفكرية والاستراتيجية بين قوى المعارضة.
إضافة إلى الخلافات التاريخية بين العلمانيين والإسلاميين، طال الشقاق مفهوم الهوية الوطنية السورية نفسها. فقسم من المعارضين لم يعد، بعد تردد، يمانع في حدوث تدخل عسكري أجنبي لإسقاط النظام على النمط الليبي، معتبراً أن الغاية الديمقراطية الداخلية تبرر الوسيلة العنفية الخارجية. هذا في حين أن القسم الآخر يصف هذا التوجّه بأنه يشكّل خطراً موصوفاً على الهوية الوطنية السورية وحتى على مصير الوطن السوري نفسه.
ومن هذا الشقاق الكبير، نبع شقاق آخر مرتبط به يتعلّق بمسألة عسكرة الانتفاضة، أدى إلى قسمة المعارضين في الخارج كما في الداخل.
ثالثاً، وهنا ربما العامل الأهم، الدور الخطير الذي لعبه النظام طيلة نيف و40 سنة في تصحير المجتمع المدني السوري، وتذريره (من ذرة)، وإحلال مفاهيم العنف والخوف وسحق الهوية الشخصية مكان حكم القانون والتضامن الاجتماعي وكرامة الإنسان والإعلاء من شأن قيمة الفرد. في إطار هذا السلوك، تحوّل الإنسان السوري (وفق تعبير المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ ) إلى دودة، فيما هو في الغرب صقر.
وقد انعكس هذا على الحياة العامة، فتبخرّت السياسة، بما هي وسيلة حضارية لتسوية تناقضات المجتمع، وسقطت معها كل أدوات عملها: من الأحزاب والهيئات الطبقية والمهنية المستقلة، إلى مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني. وهذا طال حتى حزب البعث نفسه، الذي حوّلته أجهزة الأمن من حزب حاكم إلى هيكل عظمي (ماعدا كوادره المستفيدة من عطايا النظام وصفقاته الاقتصادية) لايُكسى حفنات من اللحم إلا خلال الأزمات المصيرية (كما الآن)
هل كان في الإمكان، في مثل هذه الظروف الطاحنة، أن تولد معارضة سويّة تقدّم حلولاً متسقة لأزمة الوطن السوري؟
هذا أمر صعب، إن لم يكن مستحيلا. إذ يتطلب الأمر أن تقوم المعارضة أولاً ببناء نفسها قبل أن يكون في مستطاعها بناء الوطن. ولكي تفعل، سيتعيّن عليها بداية أن تعيد الاعتبار للسياسة كمفهوم، ومنهج، وسيرورة حياة.
وكما قال مسؤول تركي عن حق مؤخرا ("فاينانشال تايمز" 26 آذار/مارس2012): " لم يكن هناك في سورية أي نوع من المعارضة الحقيقية طيلة السنوات الثمانين الماضية، ولذا اعتقد أن جميع المعارضين السوريين هم الآن في حالة تعلُّم".

إلى أين؟
هل تعني كل هذه المعطيات أننا نبرر سقطات المعارضة السورية الراهنة؟
بالطبع لا، خاصة إذا ماوضعنا في الاعتبار أن سورية تقترب من دخول مرحلة تاريخية حاسمة: فإما أن يحدث فيها انقلاب عسكري يقوم هو بالإشراف على المرحلة الانتقالية (برعاية روسية- أميركية مشتركة هذه المرة) أو أنها ستنزلق إلى حالة فوضى قد تكون أخطر حتى من الحرب الأهلية.
وفي كلا الحالين، استمرار تشرذم المعارضة وصراعاتها على النحو الراهن، لن يكون بعد الآن مجرد "حالة مؤسفة"، بل سيصبح هو مسؤولاً هو أيضاً عن انفجار الصراعات الطائفية والعشائرية والإثنية في البلاد؛ تلك الصراعات التي ترقص الآن بجنون على إيقاع التدخلات الإقليمية والدولية وفق الطراز اللبناني.
لقد قال الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي لجمال عبد الناصر وهو يسلِّمه مقاليد السلطة السورية العام 1958: "إني لاأحسدك على تسلُّم الحكم في بلد يعتبر كل مواطن فيه أنه رئيس جمهورية".
والآن، إذا ما كانت هذه الروحية الأنوية لاتزال سائدة في أوساط المعارضة السورية، فإن المأساة الراهنة للشعب السوري ستستولد ليس فقط مأساة واحدة، بل سلسلة مآس.

سعد محيو- بيروت