- - 1
سمتان تاريخيتان أساسيتان للثورة التغييرية التي أطلقها الأمير محمد بن
سلمان:
الأولى، أنها قلبت رأساً على عقب عقداً اجتماعياً دام نحو مئة سنة، تمت فيه
مقايضة الولاء السياسي للنظام بالضمانات والعطايا الاجتماعية للشعب. وهذا تم عبر "رؤية
المملكة العربية السعودية 2030" التي تتحدث بوضوح عن نقل موتور الاقتصاد من
القطاع العام، الذي تعمل فيه معظم قطاعات المجتمع السعودي، إلى القطاع الخاص الذي
يجب أن ترتفع حصته من الناتج المحلي الاجمالي إلى 60 في المئة في غضون سنوات
قليلة.
هذا إضافة إلى بدء خصخصة شركة أرامكو العملاقة والأكبر في العالم، ومعها
خصخصة العديد من الدوائر الرسمية، وخفض دعم الماء والكهرباء والمواصلات وباقي
الخدمات.
وإذا ما عنى هذا شيئاً، فهو يعني، أولاً وأساساً، أن موسم العطلة من العمل
التي تمتع بها العديد من المواطنين يوشك على الأفول، لتحل مكانه أولويات العمل
وقيمته. فمن لايعمل لا يأكل، وشعار "مِنْ كل حسب طاقته ولكلٍ حسب رغبته"
سينسحب لصالح مبدأ "مِنْ كلٍ حسب طاقته، ولكلٍ حسب عمله".
والسمة الثانية، أن هذه الثورة التغييرية لم تكن مجرد طموح ذاتي شخصي من
أمير شاب في بداية العقد الثالث من عمره، بل تتقاطع فيها العديد من العوامل
الموضوعية التي حتَّمت على مايبدو الانتقال من "أصالة" الإيديولوجيا
والتوازنات القبلية، إلى حداثة الدولة والمجتمع.
أهم هذه العوامل:
1- بدء العد
العكسي لإنتهاء دور النفط التقليدي في الاقتصاد العالمي، بفعل إنقلاب النفط والغاز
الصخري في الولايات المتحدة الذي يتوقّع أن ينتشر انتاجه الآن كالنار في الهشيم في
بقية أنحاء العالم، خاصة في الصين والهند وأوروبا الشرقية وغيرها. هذا التطور هو
مايجعل انخفاض أسعار النفط الراهنة أزمة بنيوية هذه المرة، لا عملية دورية كما في
السابق.
2- ومما يفاقم من
مخاطر ماوصفه الأمير محمد "الإدمان على النفط"، هو الضجة الكبرى حالياً
في العالم حيال مسألة تغيّر المناخ التي تهدد الحياة كما نعرفها على كوكب الأرض، والتي
تدفع الآن ليس فقط لخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، بل أيضاً لتطوير طاقات
خضراء بديلة مُتجددة (الشمس، الهواء.. ألخ)، وسيارات ووسائل نقل كهربائية، والاعتماد
المتزايد على البشر الآليين في المصانع الذين لايحتاجون إلى النفط.
3- وثمة عامل ربما
كان الدافع الأهم في هذه "الرؤية": التغيّرات الكاسحة في النظام الدولي،
من خلال التراجع الملموس لنفوذ وسطوة القوة العظمى الاميركية في العالم، خاصة في
الشرق الأوسط، وتوجّهها بدلاً من ذلك إلى التركيز على "بناء الامة
الأميركية" في الداخل، وعلى حوض الباسيفيك/ آسيا في الخارج.
هذا الحدث، الذي أجبر باراك أوباما على أن يكون أول رئيس أميركي
"باسيفيكي" لا "أطلسي"، دقّ أجراس الانذار بقوة في أرجاء
المملكة السعودية، ودفعها إلى رفع شعار الاعتماد على الذات بدل الركون إلى تعهدات
خارجية. الحرب في اليمن، و"الثورة المضادة" التي شنّتها المملكة في
أرجاء المنطقة العربية ضد الرياح الربيعية، كانت أولى تجليات التفاعل مع هذه
الأجراس في السياسة الخارجية. ثم جاءت "رؤية 2030" لتستكمل هذا التفاعل
في الداخل.
-
- II-
هل تنجح ثورة محمد بن
سلمان؟
العقبات تبدو عديدة وكأداء
بالفعل.
فنقل المواطنين السعوديين
من حالة الاتكال السايكولوجي على عطايا الدولة الريعية- النفطية، يتطلّب ثورة
ثقافية شاملة، تعيد الاعتبار لقيم العمل، والتطوير، والابداع. ومثل هذه الثورة
واجبة الوجود والحدوث، لأن معظم الاقتصاديين يتفقون على القول بأن الاصلاحات هذه المرة
ستكون مُحتمة، وليس كسابقاتها التي كانت صفحتها تُطوى حالما تعاود أسعار النفط
الإرتفاع، للاسباب التي أوردناها أعلاه. وبالتالي، سيكون على القيمين على
"الرؤية" مهمة شاقة وضخمة تتمثّل في إقناع المواطنين بضرورة التأقلم
معها.
ومالم يحدث ذلك، ستقود
أهداف "الرؤية"، القاضية بجعل الانتاج غير النفطي 50 في المئة من اقتصاد
البلاد، عبر الصناعات العسكرية وتطوير الخدمات، إلى وضع الوظائف الجديدة (ومعها
المعرفة والخبرات) في حضن الجاليات الأجنبية. وهذا سيفاقم أزمة العمالة لدى
المواطنين، ويُشرع الأبواب والنوافذ أمام صعود الحركات الأصولية المتطرفة.
وما يُطبّق على المواطنين
يسحب نفسه على أفراد الأسرة الملكية، الذين يجب أن يتأقلموا هم أيضاً مع فكرة
الانتقال من الدولة الرعوية الموفّرة للملاعق الذهبية، إلى الدولة الحديثة
التي تضع حصان العمل قبل عربة المكانة
الوراثية.
-
-
III-
لكن من كل هذا وذاك، هو أن يترافق التغيير في الجانب
الاقتصادي مع تحوّلات أخرى في الجوانب السياسية- الاجتماعية، التي من دونها سيكون
من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إحداث هذه النقلة التي وصفتها صحيفة
"فايننشال تايمز" الرصينة بأن من شأنها "تغيير أسس المملكة".
النقطة الأبرز في هذه
التحوّلات، هي رسم خط فاصل وواضح بين الإديولوجيا التقليدية التي لم تعد تفي
بحاجيات العصر (خاصة في مايتعلق بدور المرأة في كل القطاعات الاقتصادية) وبين أسس
الدولة الحديثة. هذا لا يعني بالطبع التخلي عن الدين الذي هو الجزء الرئيس من
الهوية في المملكة، بل هو يعني تقنين نفوذ
رجال الدين الأصوليين المتطرفين في التعليم والقضاء والمجتمع المدني. الأولوية هنا
يجب أن تكون للدولة الوطنية ولحقوق المواطن وواجباته تجاه الوطن.
لقد شبّه البعض "رؤية
2030" بإصلاحات ميجي في القرن التاسع عشر، التي حولّت اليابان من دولة
تقليدية إلى دولة حديثة، ومن اقتصاد استهلاكي وبدائي إلى اقتصاد هو الثاني الأكبر
والأكثر تطوراً في العالم.
مثل هذا التشبيه قد يصح إذا
ماترافقت الرؤية الاقتصادية مع رؤية سياسية تحقق ما فعلته إصلاحات ميجي، حين أشركت
كل قطاعات المجتمع الياباني فيها من دون استثناء.
فهل سيكون محمد بن سلمان
شجاعاً في هذا المجال، كما كان مقداماً في مشروعه الاقتصادي التحديثي؟
ربما. لكن هنا يجب ألا نغفل
الحقيقة بأن السياسة وهاجس السيطرة كانت لهما حتى الآن الغلبة الكاسحة على
"رؤية" النخبة السعودية الحاكمة، على رغم اعتراف معظم عناصرها بضرورة
الإصلاح والتغيير.
وبالتالي، مالم تسرِ الثورة
التغييرية في عروق هذه النخبة، وحتى قبل عروق المواطنين، قد نكون أمام تجربة أخرى
من تجارب الإصلاح المُجهضة.
قد يكون محمد بن سلمان ميجي
جديد، لكن لايمكن أن ينجح أي ميجي من دون ميجيين.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق