فلاديمير بوتين على حق: ثمة روائح "مؤامرة" ضد
الدب الروسي في حديقته الخلفية الأوكرانية، أو بالأحرى في عقر داره القومي نفسه
لأن كييف وأوكرانيا تعتبران مهد الأمة الثقافية الروسية.
لكن بوتين يعلم أيضاً، أو يجب أن يعلم، أن هذه
"المؤامرة" كانت متوقعة. إذ لا الولايات المتحدة ولا الغرب في وارد قبول
صيغته الخاصة للاندماج في النظام الرأسمالي العالمي وفق الشروط هو التي حددتها "استراتيجية
الأمن القومي الروسية حتى العام 2020". أي: بعث الاتحاد السوفيتيي القديم تحت رداء
"الاتحاد الاوراسي" الجديد، ومن ثّمَ جعل روسيا قوة عظمى على قدم
المساواة مع بقية سرب العظماء الدوليين.
أميركا والاتحاد الأوروبي لديهما مخططات أخرى معاكسة
لروسيا. إنهما لاتريدان تدميرها كما يعتقد المفكر الماركسي سمير أمين، بل دمجها في
الغرب وفق شروطه. وهذا يأتي في سياق مشروع استراتيجية عليا أميركية لقارة أوراسيا
(التي يحكم من يسيطر عليها العالم، كما يرى ماكيندر) تحدث عنها زبغنيو بريجنسكي في كتابه الأخيرة
"رؤية استراتيجية" تقوم على التالي: - إقامة "غرب أكبر" من خلال ضم روسيا
وتركيا إلى الاتحاد الأوروبي ومن ثَمَ إلى التحالف الأطلسي العام،
- تمارس أميركا بعدها لعبة توازن دقيقة في الشرق الآسيوي،
عبر التحوُّل إلى "حَكَمْ" بين القوى الآسيوية الكبرى الثلاث الصين
والهند واليابان، بما يجعل هذه القوى، أو معظمها، معتمدة إما على القوة الأميركية
أو على الدبلوماسية الأميركية.
يلتسين وبوتين
الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، ومعه التيار
الأطلسي الغربي في النخبتين السياسية
والرأسمالية الأوليغارشية الروسية، قبلا هذه الاستراتيجية الغربية، لكنهما لم
يستطيعا قطف ثمارها لسببين: الأول، عدم قدرة واشنطن على إقناع ألمانيا وفرنسا بالقفز
فوق عواطفهما القومية ومصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية الضيقة لتسهيل دمج روسيا
(وتركيا) في كلٍ من الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. والثاني عدم قدرة النظام
الروسي نفسه على تلبية شروط هذه الاستراتيجية في مجال تبنّي الديمقراطية
الليبرالية وقبول التحوُّل إلى دولة "طبيعية" في أوروبا.
بيد أن بوتين، وعلى رغم غزله الأولي مع هذا المشروع (عبر
وفق "إعادة تنظيم" ( Reset) العلاقات الروسية- الأميركية العام 2009)، اعتبر في
نهاية المطاف أن روسيا لن تحتل موقعاً مرموقاً في النظام الدولي كما تريد هي لا
كما يخطط الغرب لها، سوى من خلال لعبة موازين القوى وصراع النفوذ. وهكذا، أطلق
الرئيس الروسي مشاريع ضخمة لإعادة السيطرة على دول الاتحاد السوفييتي السابق وحتى
بعض دول أوروبا الشرقية، واقتحم الشرق الأوسط مجددا عبر البوابة السورية (والآن
المصرية)، وغازل الصين في إطار معاهدة شنغهاي للوقوف معاً ضد هيمنة القطبية
الأميركية الوحيدة في العالم.
زلزال أوكرانيا
حتى ماقبل زلزال أوكرانيا، كان يبدو أن رياح التاريخ تهب
لصالح سفن بوتين، خاصة في ضوء حرص إدارة أوباما على التركيز على "بناء
الأمة" في الداخل الأميركي اقتصادياً واجتماعيا. لكن الصورة اختلفت كلياً
الآن. فقد كشفت تطورات أوكرانيا أن طموحات بوتين عملة غير مرغوب بها في واشنطن
وبروكسل، وأنهما مستعدتين لشن هجوم معاكس ضدها ليس فقط في أوكرانيا، بل كذلك في
سورية حيث قيل أن الولايات المتحدة والسعودية والأردن تنشط الآن لفتح جبهة دمشق من
درعا ضد النظام الحليف لبوتين، وحتى في فنزويلا التي تمتعت فيها موسكو بنفوذ واضح
إبان عهد تشافيز.
وفي حال قرر بوتين ركوب ظهر النمر في أوكرانيا، إما من
خلال التدخل العسكر في شرق أوكرانيا بعد شبه جزيرة القرم أو تقسيم البلاد بين شرق
روسي وغرب أوروبي، فسيجد الولايات المتحدة جاهزة لاستخدام عضلاتها الاقتصادية
الضخمة في مجموعة الثماني، ومنظمة التجارة العالمية، وباقي هيئات العولمة
الأميركية، وحتى في مجال نقل تقنيات النفط الصخري ( Shale oil) إلى بولندا وبعض الدول الأوروبية
الأخرى لتخفيف اعتمادها على الغاز والنفط الروسيين.
بالطبع، فرص واحتمالات توصّل الغرب وروسيا إلى حل وسط ما
في أوكرانيا، لاتزال قائمة، خاصة وأن كلا الطرفين يدركان مخاطر حمل البطاطا
الاوكرانية الملتبهة، من جراء الانهيار الاقتصادي في البلاد، عليهما.
لكن، إذا ماتغلَّبت المشاعر القومية الملتهبة على
المصالح العقلانية الباردة، وتخلى بوتين عن سياسة التحدي الحذر والصبر الاستراتيجي
مع أميركا لصالح توجهات المجابهة، فإن الأبواب والنوافذ ستكون مفتوحة على مصراعيها
إن لم يكن أمام حرب باردة جديدة، فعلى الأقل أمام صراع شرس بين الرأسمالية الروسية
والرأسماليتين الأميركية والأوروبية على الأدوار و"الجوائز" و"الفرائس"
في النظام العالمي الجديد.
وفي هذه الحالة، ستكون روسيا هي الخاسر الأكبر، لأنها
الطرف الأضعف بما لايقاس اقتصادياً في معادلة موازين القوى.
.. إلى سورية ومصر
ماذا الآن عن تأثيرات هذا الصراع المستجد على سورية
والشرق الأوسط؟
الأمر سيعتمد على طبيعة ردود فعل بوتين على الحدث
الأوكراني، وإن كانت غالبية الآراء في المنطقة تتوقع أن يتصلّب الموقف الروسي
الداعم لنظام الأسد أكثر مما هو متصلب الآن.
لكن، حتى هنا، يبدو الموقف الروسي ضعيفا. إذ ماذا في وسع
موسكو أن تعمل لدعم النظام السوري أكثر من إغراقه حتى الثمالة بالأسلحة والعتاد
والخبراء العسكريين كما تفعل الآن؟ ثم: روسيا ستجد نفسها قريباً في مواقع الدفاع
في سورية، إذا ما تأكد أن إدارة أوباما بدأت بالفعل تغيير موقفها من مسألة تسليح
المعارضة السورية بالصواريخ المضادة للدروع والطائرات، وأذا ما تأكد أن جبهة
الجنوب السوري قد فتحت بالفعل باتجاه دمشق.
علاوة على ذلك، لايتوقع الآن أن يذهب بوتين بعيداً في
تحدي النفوذ الأميركي في مصر، التي تعتبرها واشنطن حجر الزاوية في استراتيجيتها
الشرق أوسطية، بعد أن باتت يداه مغلولتين في أوكرانيا، لأن ذلك سيشجع واشنطن على
تسريع فتح أبواب جهنم الاقتصادية عليه.
لقد أِشرنا في مقال سابق في سويس انفو إلى أن "العالم
يعيش الآن مرحلة "اللاقطبية"
التي قد
تعني في لحظة ماتفاقم المنافسات والصراعات بين الدول الرأسمالية القديمة والجديدة،
من أميركا وأوروبا واليابان والصين إلى روسيا والبرازيل وبقية النمور الأسيوية،
بعد أن أصبحت كل هذه الدول رأسمالية. أي أن الصراع سيكون بين مختلف أصناف
الرأسماليات الأساسية في العالم، في شكل تنافس على الأسواق والرساميل والموارد
الطبيعية وخطوط التجارة البرية والبحرية. وهذا مادفع العديد من المحللين
الأوروبيين إلى تشبيه الوضع الدولي الراهن بذلك الذي كان قائماً عشية الحرب
العالمية الأولى".
ويبدو
أن هذه الفرضية تتجسد بوضوح الآن في الصراع حول أوكرانيا، كما في سورية، كما في
فنزويلا، مروراً بكل قارتي أوراسيا وإفريقيا.
إنها
بالفعل ظروف ماقبل الحرب العالمية الأولى وهي تتخلّق من جديد.
سعد
محيو- بيروت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق