-
I -
منطقة الخليج هي حقاً أرض المفاجآت، كما كان يردد الراحل
الكبير عبد الرحمن منيف.
فمن قلب صحرائها القاحلة، انطلقت فجأة ثورة حوّلت قبائل
وعشائر متنازعة على الماء والكلأ إلى أمة مقاتلة، نجحت في إلحاق الهزيمة بأكبر
قوتين عظميين( البيرنظية والفارسية) في القرن السابع الميلادي ، وقلبت منذ ذلك
الحين موازين القوى الدولية رأساً على عقب.
الأباضية: وثائق تاريخية وتراثية حية (الصورة من غوغل |
وبعد مفاجأة الأسلام، جاءت مفاجأة النفط في أوائل القرن
العشرين، فتبيّن أن شبه الجزيرة الصحراوية تسبح فوق بحيرة هائلة من وقود الحضارة
الحديثة. وهكذا خرجت المنطقة من سبات حضاري دام نيفاً و1300 سنة، وقُذِف بها مباشرة من ظهر الجمل والمجتمع
التقليدي المستند إلى الكفاف وشظف العيش، إلى قمرة صاروخ الحداثة وثروات ألف ليلة
وليلة.
بالشورت في دبي: الليبرالية الاجتماعية(الصورة من غوغل |
لكن قصة المفاجآت لاتتوقف هنا.
إذ كيف لنا أن نفهم انبثاق دولة- مدينة كدبي، بنت نفسها
كمعقل لليبرالية الاجتماعية (حيث النساء يتجولن في الشوارع بالشورت، وحيث الحانات
والكحول في كل مكان)، على بعد رمية حجر من مجتمع سعودي يعيش في حالة خنق لاليبرالي اجتماعي كامل؟
وكيف نفسر وجود إمارة، كالشارقة، على بعد كيلومتر واحد
من دبي، اختارت الثقافة عنواناً لتبرير الوجود (على رغم ان غابات الأسمنت التجارية
اجتاحتها أخيرا)، وبنت أسواقها وفق التراث، وباتت أحد مراكز الانتاج الفكري
والثقافي، فدمجت عبر ذلك بنجاح بين الحداثة وبين المفهوم الحضاري للإسلام؟
لا بل قبل ذلك، في أي أي إطار يجب أن نضع حركة القرامطة
في البحرين، التي قد تكون أول حركة اشتراكية واعية لذاتها في التاريخ، ومعها الأن
انتفاضتها الشعبية التي أذهلت الجميع بمدى ديمومتها وإصرارها؟
وماذا عن عُمان التي تفردت عن باقي شبه الجزيرة في كون
نحو 75 في المئة من سكانها من المذهب الأباضي، الذي هو بالفعل بمثابة وثيقة
تاريخية حيّة تدين الحرب الأهلية السنّية- الشيعية المستعرة منذ نيف و1300 عام،
والذي بنى دولاً عدة، ولايزال له وجود الآن في
جبل نفوسة في ليبيا، ووادي ميزاب في الجزائر، وبعض المناطق في شمال أفريقيا.
بالطبع،
العديد من الفرق الإسلامية تطلق على الأباضية نعت الخوارج. لكن، وعلى رغم أن
الأباضيين يتقاطعون مع الخوارج في رفض التحكيم بين علي ومعاوية، إلا أنهم يعتبرون
أنفسهم هم "أهل الحق والاستقامة" في الإسلام وليس من يتهمونهم بالخروج.
وهذا مايعطيهم حقاً لونهم التاريخي والتراثي الخاص المهم والمميز للغاية. إذ أنهم،
كما أشرنا، بمثابة نافذة جميلة للاطلالة على كل التاريخ الإسلامي بأشكاله السياسية
والإديولوجية والثقافية كافة من زاوية مختلفة تماما.
وقل
الأمر نفسه عن اليمن، الذي يخترن في جوفه ليس فقط معظم أصول الشعوب العربية
الحالية في المشرق والمغرب، بل أيضاً ربما أصول التوراة التي جاءت منه ومن
السعودية، كما يقول المؤرخ كمال الصليبي، والتي كانت بداية الأديان التوحيدية
الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.
-
II -
كل
هذه كانت محطات مفاجئة في التاريخ البشري، وهي أشبه بالعواصف الصحراوية التي تنطلق
دونما سابق إنذار.
لكن،
ثمة مفاجأة أخرى لاتقل أهمية عن كل ما ذُكر: إنه قطر التي حوّلت نفسها هي الأخرى وبين ليلة وضحاها
من رقعة جغرافية هامشية إلى قوة إقليمية كبرى، على رغم أن سكانها الإصليين
لايتجاوزون عدد سكان حي صغير في الدول التي يتدخل فيها الآن أمير قطر.
وبسبب
حداثة وراهنية هذا البروز القطري غير المتوقع، فهي تحتاج إلى وقفة خاصة.
(غدا
نتابع)
سعد
محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق