للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الاثنين، 27 يوليو 2015






هل يخرج أوباما بطل سلام أو استسلام؟
 

( ينشر هذا المقال في موقع "سويس انفو" الالكتروني: http://www.swissinfo.ch/ara)


 

هل سيخرج الرئيس الأميركي باراك أوباما من أتون الصفقة النووية مع إيران بطل سلام، كما يعتقد هو ومساعدوه وأنصاره، أم رمزاً للاستسلام مثله مثل البريطاني نيفيل تشامبرلين الذي أبرم صفقة ميونيخ "الاستسلامية" مع هتلر العام 1938، كما يقول خصومه الجمهوريون والإسرائيليون والخليجيون؟

السؤال مهم الآن، لأن الشهرين المقبلين سيشهدا معارك في داخل أميركا (الكونغرس والإعلام ومراكز الأبحاث) وخارجها (من تل أبيب وموسكو وبيجينغ إلى الرياض وأنقرة والقاهرة) حول شخصية أوباما وفلسفته في السياسية الخارجية ومآل مثل هذه الفلسفة. وهي معارك استقطابية حامية الوطيس في الواقع، ستتراقص خلالها التقييمات حول سجل أول رئيس أسود في التاريخ الأميركي بين قطبي السذاجة والغباء، أو الذكاء الحاد والعبقرية.

لكن، ولكي نضع هذه النقاشات الحادة في سياقاتها الموضوعية قبل أن نصل إلى الاستنتاجات حول محصلاتها المحتملة المتعلقة بإرث أوباما، ثمة حاجة أولاً للتطرق إلى الفلسفة التي بنى عليها هذا الأخير صرح سياساته الخارجية طيلة السنوات السبع الماضية.

فلسفة أوباما

أول من وصف فلسفة أوباما في السياسة الخارجية بأنها "مبدأ أوباما"، كان الكاتب الأميركي إي. جي ديون. كتب في 16 نيسان/إبريل 2009 في "واشنطن بوست": هذا المبدأ هو شكل من الواقعية لايخشى استخدام القوة الأميركية، لكنه يحرص على أن يأخذ هذا الاستخدام بعين الاعتبار  الحدود العملية لهذه القوة، وأن يترافق مع حقنة من السلوكيات الذاتية الواعية".

الأولوية القصوى لهذه الواقعية هي الدبلوماسية، وليس العمل العسكري كما كان الأمر مع "مبدأ بوش وتشسيني. وهو أمر أفصح عنه أوباما باكراً حتى قبل أن يصبح رئيسا. فخلال السجالات التلفزيونية بين المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، سئل أوباما هل هو مستعد للتفاوض مع قادة دول على عداوة أو خصومة مع الولايات المتحدة، فأجاب من دون تردد:" أجل. وبلا شروط أيضا".

وعشية تربعه على عرش البيت الأبيض كرئيس العام 2009، حدد أوباما سياسته الخارجية بالنقاط الآتية:

-       تحقيق "نهاية مسؤولة للحرب في العراق، وإعادة التركيز على الشرق الأوسط الأوسع.

-       بناء جيش أميركي للقرن الحادي والعشرين، مع إبداء الحكمة في استخدامه.

-       بذل جهد عالمي لضمان، وتدمير، ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل.

-       إعادة بناء التحالفات والشراكات الأميركية، الضرورية لمواجهة التحديات والتهديدات المشتركة، بما في ذلك الاحترار العالمي.

-       الاستثمار في "إنسانيتنا المشتركة"، من خلال المساعدات الخارجية ودعم أسس الديمقراطية المستدامة، بما في ذلك السلطة التشريعية القوية، والقضاء المستقل، وحكم القانون، والمجتمع المدني الحيوي، والصحافة الحرة، وقوة الشرطة النظيفة".

هذه التوجهات الخارجية "الموزونة" والحذرة تخدم في الواقع، وحرفاً بحرف، السياسات الداخلية لأوباما، التي تمحورت (وفق تعبير أوباما نفسه) حول:" إحياء الاقتصاد (الأميركي) وتوفير العناية الصحية للجميع، وتعزيز التعليم الرسمي وأنظمة الضمان الاجتماعي، ووضع خطة دقيقة للاستقلال في مجال الطاقة ومواجهة مخاطر تغيُّر المناخ".

ويعترف أوباما بأنه استقى مبدأه من فلسفة المفكر اللاهوتي الأميركي رينولد نيبوهر (1892-1971)، الذي أثّر أيضاً على مروحة واسعة من السياسيين والمخططين الاميركيين على غرار الرئيس السابق كارتر، ومارتن لوثر كينغ، وهيلاري كلينتون، وهيوبرت همفري، ودين أتشيسون، ومادلين أولبرايت، وجون ماكين وغيرهم.

نيبوهر طوّر ما أسماه "الواقعية المسيحية"، ورفض بقوة النزعة المثالية الطوباوية "لأنها غير فعالة في التعاطي مع الحقيقة". كتب في العام 1944:" إن قدرة الإنسان على العدالة تجعل الديمقراطية ممكنة، لكن ميل الإنسان إلى الظلم، تجعل الديمقراطية ضرورية".

"واقعية" نيبوهر هذه تطورت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، مادفعه إلى مغادرة معسكر السلام الذي كان يتزعم وبات من أشد داعمي "الحروب العادلة" والتصدي بقوة للشيوعية. كما تخلى عن أرائه الاشتراكية السابقة، لكنه شدد على ضرورة موازنة النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية.

 

.. والواقعية اللادبلوماسية

ويبدو واضحاً الآن أن أوباما طبّق تعاليم هذ اللاهوتي بحذافيرها، في السياستين الداخلية ( الضمان الصحي، ومحاولة الموازنة بين النمو الاقتصادي والضمانات الاجتماعية) والخارجية (الواقعية والبرغماتية، من دون التخلي عن فلسفة القوة).

مايهمنا هنا هو هذه السياسة الخارجية، والتي تجلّت واقعيتها ليس فقط في الصفقة الإيرانية، بل أيضاً في إبرام الصلح مع كوبا الشيوعية بعد 57 عاماً من المواجهات، ومد اليد إلى "الحضارة الإسلامية"، كما فعل في خطابي اسطنبول والقاهرة، واتفاقية التجارة مع 11 دولة في حوض الباسيفيك، والعمل مع الصين على تقليص مخاطر تغيُّر المناخ.

لكن، في مقابل هذه الواقعية الدبلوماسية، كان أوباما ينتقل إلى الواقعية اللادبلوماسية، حين تصدى بقوة لتدخل روسيا في أوكرانيا وأدان خرق هذه الأخيرة لاتفاقية الحد من انتاج الصواريخ متوسطة المدى. كما لم يخف رغبته في دفع النظام الروسي إلى الإفلاس من خلال العمل (مع السعودية) على خفض أسعار النفط بشكل هائل، واستنزاف القدرات الاقتصادية الروسية في أوكرانيا والقوقاز الإسلامي وسورية.

هذه بعض ملامح فلسفة أو مبدأ أوباما. وكما هو واضح، ليس في هذه التوجهات مايوحي بأن الرئيس الأميركي تخلى عن أهم مباديء السياسة الخارجية الأميركية التي كانت راسخة منذ زهاء قرنين من الزمن، وهي العمل على تغيير الأنظمة التي تعتبرها الولايات المتحدة خطراً عليها: من تدمير النظامين الألماني والياباني خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى تغيير النظام السوفييتي ثم إسقاط امبراطوريته العام 1991. كل ما هناك أن أوباما يحاول أن يحقق عبر الدبلوماسية ما يمكن انجازه عبر الحرب.

وهو عبّر عن هذا التوجه بقوله:" الدبلوماسية ليست كاملة ولاتعطينا كل مانريد. لكن مافي وسعنا عمله هو أن نستخدم هذه الدبلوماسية للعمل على تشكيل الأحداث وفق مصالحنا".

وهذا يعني، بالنسبة إلى الصفقة النووية الإيرانية، أن هدف الواقعية الأوبامية النهائي ليس فقط منع إيران من حيازة الأسلحة النووية، بل أيضاً وبالدرجة الأولى تغيير سلوكيات النظام الإيراني. فهل ينجح؟

التحدي الكبير

هذا الآن هو التحدي الكبير الذي تواجهه فلسفة أوباما. فإذا ما نجحت "الواقعية الدبلوماسية" في تحقيق الهدف الأميركي الرئيس في تغيير السلوكيات الإقليمية (وليس فقط النووية) الإيرانية، سيدخل أوباما التاريخ كبطل للسلام والوفاق الدوليين، كما دخله الرئيس نيكسون بتوقيعه "الصفقة التاريخية" مع الزعيم الصيني ماوتسي تونغ.

أما إذا ابتلع الإيرانيون طعم الاتفاق النووي ولم يعلقوا بالسنارة الأميركية، أي إذا ماحصلوا على المزايا الاقتصادية الضخمة لهذا الاتفاق وواصلوا سياساتهم الإقليمية "الامبراطورية"، فسيتهاوى كل صرح مبدأ أوباما الواقعي، وسيخرج هذا من التاريخ بدل الدخول إليه.

حتى الآن، يبدو أن القيادة الإيرانية تحاول أن تتجنب بقدر الإمكان هذه السنارة. فمرشد الثورة أيه الله خامنئي أعلن قبل أيام أن الصفقة النووية "لن توقف مقاومة إيران للولايات المتحدة وإسرائيل، ولن تدفعها إلى التخلي عن حلفائها في سورية واليمن والعراق ولبنان". هذا في حين كان قادة الحرس الثوري (وهو القوة الأولى الحقيقية في البلاد) يجهرون برفضهم لهذا الاتفاق الذي مّس، برأيهم، الخطوط الحمر الإيرانية (أي سيادة البلاد واستقلالها).

بيد أن هذه التوجهات التصعيدية الإيرانية متوقعة في الواقع، بسبب تعدد مواقع السلطة وتنوعها في إيران، من جهة، ولأن الصفقة النووية تفرض بالفعل قيوداً مؤلمة على السيادة الإيرانية، من جهة أخرى. لكن هذا شيء، واندفاع إيران إلى خرق شروط الصفقة شيء آخر، لأن ما في الميزان هو بقاء أو انهيار الاقتصاد الإيراني برمته بفعل العقوبات الدولية والانهاك والاستنزاف الإقليميين.

وهذا بالتحديد مايراهن عليه "الشيطان الأكبر" أوباما: أي استخدام جزرة الاقتصاد لدفع إيران إلى تغيير جلدها الإديولوجي والإقليمي.

واستناداً إلى نجاح أو فشل هذا الرهان خلال السنة المتبقية من عهد أوباما، سيتحدد مصير إرث هذا الرئيس البراغماتي: إما نيكسون المنتصر أو تشامبرلين المهزوم.

 

سعد محيو

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجمعة، 17 يوليو 2015

هل تخلّى أوباما حقاً عن هدف تغيير النظام الإيراني؟






مع إبرام "الصفقة التاريخية" النووية بين إيران والولايات المتحدة (في نهاية هذا الشهر)، ينبثق السؤال الكبير: هل تخلت واشنطن بالفعل عن خيار تغيير النظام الإيراني؟ وهل يؤدي ذلك، بالتالي، إلى تقاسم نفوذ بين الطرفين في منطقة الشرق الأوسط؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أن ثمة شبحاً يحوم هذه الأيام بكثافة فوق الشرق الأوسط، يُشبه ذلك الذي تحدث عنه كارل ماركس حين تحدث في البيان الشيوعي عن"ذلك الشبح الذي يلاحق أوروبا.
لكن هذه المرة، هذا الشبح ليس الشيوعية كما كان الأمر العام 1848، بل هو لعبة تغيير النظام بقيادة الرأسمالية، أو بالأحرى العولمة الرأسمالية.
من اليمن إلى سورية، مروراً بالعراق ومصر وتونس، مسألة تغيير النظام تعمل بقوة الآن، وهي تمزِّق بعنف النسيج الاجتماعي والثقافي في هذه الدول. لكن، هل إيران باتت بمنأى عن هذه اللعبة بعد أن وقّعت الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة؟
أو بوضوح أكثر: هل قدّمت واشنطن ضمانات لطهران بأنها تخلّت بالفعل عن هدف تغيير النظام، الذي كانت إدارة بوش تطرحه بقوة، كما أوضحت هذا في استراتيجية الأمن القومي في أيلول/سبتمبر 2002، التي شددت على أن "مبدأ تغيير النظام يوفّر الضمانة الوحيدة لإزالة أي أخطار وجودية تتعرض إليها الولايات المتحدة في العالم". أو كما أعلن نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني: نحت لانتفاوض مع الشر. نحن نهزمه".
شروط أوباما
الرئيس أوباما أوحى، في مقابلة قبل شهرين مع توماس فريدمان في "نيويورك تايمز"، أنه مستعد للتخلي عن هدف تغيير النظام الإيراني. ليس ذلك وحسب، بل هو وعد الملالي بأن إيران بعد الاتفاق "قد تكون ناجحة جداً كدولة إقليمية.. بحكم حجمها، ومواردها، وشعبها".
لكن، مع هذه "التطمينات" و"الوعود"، أرفق أوباما سلسلة شروط حاسمة وواضحة تتمحور كلها حول "ضرورة التغيير في "إيران". نقرأ لأوباما في المقابلة نفسها:
"إذا ماأراد أية الله خامنئي أن يرى إيران تدخل ثانية إلى أسرة الأمم، فيتيعن أن تحدث تغييرات". وأضاف:" على الإيرانيين أن يغيروا سلوكياتهم بشكل أوسع.. إذا ما أرادوا أن يكونوا جزءاً من الاقتصاد العالمي".
تعبير " التغيير" تكرر أكثر من عشر مرات في هذه المقابلة. وبالطبع، التغيير هنا، الذي يشمل الاقتصاد والاستراتيجيا والسياسات الإقليمية، يعني أن تغيّر إيران الثورية الإسلامية جلد نظامها بنفسها، بدل أن يُفرّض عليها تغييره من الخارج بقوة الحصار الدبلوماسي، والخنق الاقتصادي، والاستنزاف المالي في سباقات التسلّح والنفوذ الإقليمي. المقايضة هنا واضحة: الاقتصاد (أي دمج إيران في مؤسسات العولمة وأسواقها) مقابل  التخلي عن سياساتها الخارجية (الإرهاب وضرب الاستقرار الإقليمي) والنووية. نيكسون وماو
هذه هي المقايضة التي يريدها أوباما. وهذه هي المقايضة نفسها التي عرضها الرئيس نيكسون على الزعيم ماوتسي تونغ العام 1972، والتي قايضت فيها الصين سياستها الخارجية الثورية والشيوعية بدولارات منظمة التجارة الدولية وسندات الخزينة الأميركية.
البعض أطلق على هذا التوجّه اسم "مبدأ أوباما" الجديد، المستند إلى "الانخراط مع الدول المارقة" Rogue states (مثل كوبا وبورما إضافة إلى إيران)، مع الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الاميركية الأساسية.
لكن الواقع أن هذا المبدأ الجديد ليس جديداً قط، وهو لايعني البتة التخلي عن هدف "تغيير الأنظمة"، تماماً كما أن الولايات المتحدة لم تتخل عن هدف  تغيير نظامي دولتين كبريين كالاتحاد السوفيتيي والصين.
وهذا ما أوضحه الكتاب المهم للغاية لروبرت أس. ليتواك Robert s. Litwak[1] حول كيفية مقاربة الولايات المتحدة لمسألة الدول المارقة. فسواء استخدمت واشنطن القوة العسكرية (كما في العراق) أو التهديد بها (كما في ليبيا القذافي) أو سياسة الاحتواء والردع (مع كوبا وكوريا الشمالية وإيران)، فإن الهدف الاستراتيجي واحد وإن تعددت التكتيكات: حمل الدول الإقليمية "المارقة" على الالتزام بقواعد وقوانين النظام الدولي الراهن، في السياسة كما الاقتصاد كما في الامن. وهذا النظام له اسم محدد الآن: العولمة الرأسمالية. وكما قال توماس بارنيت Thomas P.M. Barnett في دراسته الشهيرة  "خريطة البنتاغون الجديدة: "أي دولة تتحدى شروط العولمة، ستجد القوات الأميركية عاجلاً أم آجلاً فوق أراضيها".
لقد استطاع "الشيطان الأكبر"، عبر الاتفاق النووي، أن يدخل إلى أرض "الملاك" الإيراني من النافذة بعد أن طُرِد من الباب طيلة 35 سنة. وهو ينوي الآن ان يحقق في السلم ما تجنّب القيام به بالحرب: تغيير النظام الإيراني عبر بدء تغيير سلوكياته.
يبقى الانتظار لمعرفة ما إذا كان الصقور الإيرانيون سيتنصلون في اللحظة الأخيرة من كأس التغيير المُرّة هذه، أو يتجرعون سُمّها، كما فعل قبل ذلك الخميني حين وافق على وقف القتال مع عراق صدام خوفاً من الانهيار الاقتصادي للنظام، أو يختنقون بأنفاسهم الداخلية ويُفجرون حرباً أهلية في مابينهم.
لكن، وأياً كانت خيارات طهران، يمكن الآن مشاهدة "الشيطان الأكبر" وهو يرسم نصف ابتسامة على وجهه، وهو يقرأ في كتاب عنوانه "أفضل السبل لتغيير النظام".
سعد محيو
___________________
    





[1] Robert s. Litwak: Outlier states: American startegies to change,contain, or engage regimes. Johns Hopkins university press,2012.

الأربعاء، 15 يوليو 2015

الصفقة النووية: وداعاً للسيادة والاستقلال في إيران؟


(ينشر هذا المقال اليوم على موقع "سويس انفو": http://www.swissinfo.ch/ara)



(ينشر هذا المقال اليوم على موقع "سويس انفو": http://www.swissinfo.ch/ara)
من خرج، في خاتمة المطاف، الرابح الأكبر من الصفقة النووية: إيران أم الولايات المتحدة؟
الإيرانيون، أو الجناح المعتدل بينهم على الأقل، (ومعهم، على ماتدل استطلاعات الرأي، غالبية الشعب الإيراني) يقولون أنهم من ظفروا بحصة الأسد من مكاسب الاتفاق.
فبرأيهم، اعترف الغرب، من خلال هذه الصفقة، بشرعية نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد رفض ومقاطعة ومحاصرة دام نيفاً وثلاثة عقود. ليس ذلك وحسب، بل هو اعترف به أيضاً عضواَ في النادي النووي العالمي، وإن كقوة "تقف على العتبة النووية"، أي أنه قادر على انتاج القنبلة في فترة وجيزة لاتتجاوز السنة وربما أقل. وفوق هذا وذاك، ستحصل بلاد الخميني خلال ستة أو تسعة أشهر من الآن على أكثر من 150 مليار دولار من أموالها المجمّدة في العالم، وستُفتح الأبواب والنوافذ أمام الاستثمارات الدولية فيها، خاصة في قطاع الغاز والنفط الذي تحوز إيران فيه على رابع أكبر احتياطي في العالم.
ولاينسى الإصلاحيون المتمسكون بحدة بقوميتهم الإيرانية (مع نواتها الفارسية) أن يضيفوا بأن مجرد إجراء المفاوضات بين إيران وبين الدول الكبرى الست (أميركا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، وألمانيا) التي تحكم العالم وتتحكّم به، دليل قطاع على الجمهورية الإسلامية الإيرانية أثبتت وجودها بشكل مؤثّر على الساحة الدولية، بالمقارنة مع دول أخرى متوسطة الحجم كمصر وتركيا واندونيسيا التي تعاني من تهميش القوى الكبرى لها.
تاجران "ذكي وغبي"
كل هذا قد يكون صحيحاً.
لكن ثمة صحة أيضاً في ماقاله إعلامي بارز مقرّب من الجناح الإيراني المتشدِّد، حين أشار إلى أن الاتفاق النووي هو في العمق "صفقة غريبة بين تاجر ذكي (الغرب) وتاجر غبي (إيران). فالمفاوض الإيراني اشترى من الغرب بضاعة تعود أصلاً إليه، ثم صوّر ذلك على أنه ربح صافٍ لطهران".
ماقصده الإعلامي البارز هو أن المفاوض الإيراني قَبِلَ أن يرهن قرار بلاده السيادي كدولة مستقلة في مجال حقها في التطوير النووي، ويضعه تحت الرقابة الدولية. وهذه خطوة ستمهد لخروقات أخرى أكثر خطورة سيقوم بها حتماً "الشيطان الأكبر" ضد هذه السيادة وذاك الاستقلال، اللذين اندلعت ثورة الخميني العام 1979 أساساً لاستعادتهما من يد الغرب.
ملاحظة هذا الإعلامي دقيقة، خاصة حين نضع الصفقة ليس في ميزان الربح والخسارة الفوري، بل في سياقاتها التاريخية المتعلقة بطبيعة الثورة الإسلامية الإيرانية، وبالدولة الإيرانية نفسها.
فنظام الرقابة والتفتيش الوارد في الاتفاق الذي وقع في 159 صفحة مع خمسة ملاحق، جاء صارماً للغاية وشاملاً للغاية بشكل لم يسبق له مثيل. إذ أن كل مكونات البرنامج النووي الإيراني ستكون خاضعة إلى تفتيش دولي دائم ومتصل، ليس فقط لسنة أو سنتين بل لـ 10 و15 و25 سنة في بعض الحالات. وهذا لايشمل منشآت تخصيب اليورانيوم، ومصانع أجهزة الطرد المركزي، ومخازن اليورانيوم والبلوتونيوم وحسب، بل أيضاً مواقع عسكرية عدة، بما في ذلك قاعدة "بارستين" الحسّاسة وفائقة السرية التابعة للحرس الثوري الإيراني.
لا بل أكثر: ينص الاتفاق على أنه في حال اعترضت إيران على طلب لجان التفتيش الدخول إلى موقع ما، سيُرفع الخلاف إلى اللجنة الدولية المكوّنة من الدول الكبرى الست والمولجة بمتابعة تنفيذ بنود الصفقة. وفي حال قررت اللجنة أن الطلب مُبرر، ستكون الدولة الإيرانية مُلزمة بقبوله خلال 24 يوما.
حجم رقابة مشدّدة من هذا النوع، لايترك مجالاً للشك بأن إيران دفعت بالفعل ثمناً باهظاً من جيبها (سيادة الدولة على أراضيها) مقابل الحصول على الاتفاق. وهذا لم يكن ليقبل به مرشد الثورة  المريض (على مايقال) أية الله علي خامنئي، لولا أن الاقتصاد الإيراني لايزال يتراقص منذ ثلاث سنوات على شفير الانهيار، بسبب العقوبات الدولية والأكلاف الباهظة لحروب إيران الاستنزافية في سورية والعراق واليمن ولبنان.
الثورة الإيرانية نشبت أساساً العام 1979 ضد التغريب والتبعية للغرب أيام الشاه، وكرد فعل على قلب الأميركيين لنظام محمد مصدق العام 1953 ولاحتلال الروس والبريطانيين لإيران وتقسيمها العام 1941. والآن، عودة الهيمنة الدولية على هذا النحو على إيران، من خلال نظام الرقابة الصارم، قد يطبع قبلة الموت على جل أهداف الثورة الخمينية الخاصة بالسيادة والاستقلال.
وإذا ماكان البعض يعترض على هذه الحصيلة بالقول أن صين ماوتسي تونغ أبرمت في الستينيات صفقة مماثلة مع أميركا- نيكسون وخرجت منها رابحة، كما يتضح حالياً مع تحوّل الصين إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، إلا أن هذا البعض يغفل الحقيقة بأن الصين باعت بالفعل لأميركا سياستها الخارجية وقايضتها بالاقتصاد، لكنها لم تبع كذلك سيادتها على أراضيها كما فعلت إيران. الفارق بهذا المعنى كبير بين الصفقتين الصيني والإيرانية. والنتائج حتماً ستكون مختلفة أيضاً بشكل كبير.
الخميني والشاه
على أي حال، حبر الاتفاق لما يجف بعد. ولذا يجب الانتظار لمعرفة ما إذا كانت الصفقة ستكون قادرة على الحياة والبقاء. فالمعترضون عليها كثر، من إسرائيل والدول العربية الخليجية إلى الجمهورييين الأميركيين. والمتشددون الإيرانيون لهم باع وتاريخ طويلين في خبرة نسف الاتفاقات السرية مع أميركا، كما فعلوا العام 1988 حين سرّبوا إلى مجلة لبنانية (الشراع) بنود صفقة أميركية- إيرانية حول الحرب مع عراق-صدام حسين. ولايستبعد المراقبون أن يتحرّك المتشددون الآن، سواء في الداخل الإيراني أو عبر تفجير نقاط تماس مع إسرائيل في الشرق الاوسط، لمحاولة عرقلة تنفيذ الاتفاق.
وثمة هنا نقطة أخرى لاتقل أهمية: إلى أي مدى تبدو إيران مستعدة لتحويل التسوية النووية إلى وفاق جيو-سياسي مع "الشيطان الاكبر" الاميركي؟ وإذا مافعلت، ألا يعني ذلك ببساطة أنها ستمسح بشطحة قلم كل الأكلاف الباهظة التي دفعتها طيلة العقود الثلاثة الأخيرة لتحقيق استقلالها القومي، فتعود بالتالي إلى قاطرة التبعية التي كانت عليها إيران إبان عهد الشاه؟
الرئيس أوباما أوحى، في مقابلة قبل شهرين مع توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" أنه مستعد للتخلي عن هدف تغيير النظام الإيراني، وأن يسمح لإيران بأن "تكون ناجحة جداً كدولة إقليمية بحكم حجمها، ومواردها، وشعبها". لكنه وضع في المقابل سلسلة شروط حاسمة وواضحة تتمحور كلها حول "ضرورة التغيير في "إيران". نقرأ لأوباما في المقابلة نفسها:
"إذا ماأراد أية الله خامنئي أن يرى إيران تدخل ثانية إلى أسرة الأمم، فيتيّعن أن تحدث تغييرات. على الإيرانيين أن يغيروا سلوكياتهم بشكل أوسع، إذا ما أرادوا أن يكونوا جزءاً من الاقتصاد العالمي".
تعبير " التغيير" تكرر أكثر من عشر مرات في هذه المقابلة. وبالطبع، التغيير هنا، الذي يشمل الاقتصاد والاستراتيجيا والسياسات الإقليمية، يعني أن تغيّر إيران الثورية الإسلامية جلد نظامها بنفسها، بدل أن يُفرّض عليها تغييره من الخارج بقوة الحصار الدبلوماسي، والخنق الاقتصادي، والاستنزاف المالي في سباقات التسلّح والنفوذ الإقليمي. المقايضة هنا واضحة: الاقتصاد (أي دمج إيران في مؤسسات العولمة وأسواقها) مقابل  التخلي عن سياساتها الخارجية (الإرهاب وضرب الاستقرار الإقليمي) والنووية.
بكلمات أوضح: الشرط الأميركي الحقيقي للوفاق مع إيران، وبالتالي لإعادة دمج بلاد الخميني وقورش في النظام العالمي، هو أن تحوم "روح الشاه" مجدداً فوق رأس السلطة في إيران، وأن تتخلى هذه الأخيرة عن هدف السيادة والاستقلال الثمين. فهل هي مستعدة لذلك؟ وهل الحرس الثوري مستعد للتحوّل من الحالة "الثورية" إلى حالة "التبعية"؟
فللنتظر قليلاً لنر.
وفي هذه الأثناء، يجب أن يبقى السؤال حول من الرابح الأكبر من الصفقة النووية معلّقاً في الهواء، إلى حين جلاء الصورة النهائية حيال طبيعة ومآل ومصير التمخضات في الداخل الإيراني. وهي تمخاضات ستكون حادة على الأرجح كما هي حتمية. وهذا ربما كان الهدف الحقيقي والرئيس لـ"الشيطان الأكبر" من وراء إبرام هذه الصفقة.

سعد محيو- بيروت