للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السعودية،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السعودية،. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

هل ينجح "الميجي" محمد بن سلمان؟



- - 1
سمتان تاريخيتان أساسيتان للثورة التغييرية التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان:
الأولى، أنها قلبت رأساً على عقب عقداً اجتماعياً دام نحو مئة سنة، تمت فيه مقايضة الولاء السياسي للنظام بالضمانات والعطايا الاجتماعية للشعب. وهذا تم عبر "رؤية المملكة العربية السعودية 2030" التي تتحدث بوضوح عن نقل موتور الاقتصاد من القطاع العام، الذي تعمل فيه معظم قطاعات المجتمع السعودي، إلى القطاع الخاص الذي يجب أن ترتفع حصته من الناتج المحلي الاجمالي إلى 60 في المئة في غضون سنوات قليلة.
هذا إضافة إلى بدء خصخصة شركة أرامكو العملاقة والأكبر في العالم، ومعها خصخصة العديد من الدوائر الرسمية، وخفض دعم الماء والكهرباء والمواصلات وباقي الخدمات.
وإذا ما عنى هذا شيئاً، فهو يعني، أولاً وأساساً، أن موسم العطلة من العمل التي تمتع بها العديد من المواطنين يوشك على الأفول، لتحل مكانه أولويات العمل وقيمته. فمن لايعمل لا يأكل، وشعار "مِنْ كل حسب طاقته ولكلٍ حسب رغبته" سينسحب لصالح مبدأ "مِنْ كلٍ حسب طاقته، ولكلٍ حسب عمله".
والسمة الثانية، أن هذه الثورة التغييرية لم تكن مجرد طموح ذاتي شخصي من أمير شاب في بداية العقد الثالث من عمره، بل تتقاطع فيها العديد من العوامل الموضوعية التي حتَّمت على مايبدو الانتقال من "أصالة" الإيديولوجيا والتوازنات القبلية، إلى حداثة الدولة والمجتمع.
أهم هذه العوامل:
1-  بدء العد العكسي لإنتهاء دور النفط التقليدي في الاقتصاد العالمي، بفعل إنقلاب النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة الذي يتوقّع أن ينتشر انتاجه الآن كالنار في الهشيم في بقية أنحاء العالم، خاصة في الصين والهند وأوروبا الشرقية وغيرها. هذا التطور هو مايجعل انخفاض أسعار النفط الراهنة أزمة بنيوية هذه المرة، لا عملية دورية كما في السابق.
2-  ومما يفاقم من مخاطر ماوصفه الأمير محمد "الإدمان على النفط"، هو الضجة الكبرى حالياً في العالم حيال مسألة تغيّر المناخ التي تهدد الحياة كما نعرفها على كوكب الأرض، والتي تدفع الآن ليس فقط لخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، بل أيضاً لتطوير طاقات خضراء بديلة مُتجددة (الشمس، الهواء.. ألخ)، وسيارات ووسائل نقل كهربائية، والاعتماد المتزايد على البشر الآليين في المصانع الذين لايحتاجون إلى النفط.
3-  وثمة عامل ربما كان الدافع الأهم في هذه "الرؤية": التغيّرات الكاسحة في النظام الدولي، من خلال التراجع الملموس لنفوذ وسطوة القوة العظمى الاميركية في العالم، خاصة في الشرق الأوسط، وتوجّهها بدلاً من ذلك إلى التركيز على "بناء الامة الأميركية" في الداخل، وعلى حوض الباسيفيك/ آسيا في الخارج.
هذا الحدث، الذي أجبر باراك أوباما على أن يكون أول رئيس أميركي "باسيفيكي" لا "أطلسي"، دقّ أجراس الانذار بقوة في أرجاء المملكة السعودية، ودفعها إلى رفع شعار الاعتماد على الذات بدل الركون إلى تعهدات خارجية. الحرب في اليمن، و"الثورة المضادة" التي شنّتها المملكة في أرجاء المنطقة العربية ضد الرياح الربيعية، كانت أولى تجليات التفاعل مع هذه الأجراس في السياسة الخارجية. ثم جاءت "رؤية 2030" لتستكمل هذا التفاعل في الداخل.
-       - II-
هل تنجح ثورة محمد بن سلمان؟
العقبات تبدو عديدة وكأداء بالفعل.
فنقل المواطنين السعوديين من حالة الاتكال السايكولوجي على عطايا الدولة الريعية- النفطية، يتطلّب ثورة ثقافية شاملة، تعيد الاعتبار لقيم العمل، والتطوير، والابداع. ومثل هذه الثورة واجبة الوجود والحدوث، لأن معظم الاقتصاديين يتفقون على القول بأن الاصلاحات هذه المرة ستكون مُحتمة، وليس كسابقاتها التي كانت صفحتها تُطوى حالما تعاود أسعار النفط الإرتفاع، للاسباب التي أوردناها أعلاه. وبالتالي، سيكون على القيمين على "الرؤية" مهمة شاقة وضخمة تتمثّل في إقناع المواطنين بضرورة التأقلم معها.
ومالم يحدث ذلك، ستقود أهداف "الرؤية"، القاضية بجعل الانتاج غير النفطي 50 في المئة من اقتصاد البلاد، عبر الصناعات العسكرية وتطوير الخدمات، إلى وضع الوظائف الجديدة (ومعها المعرفة والخبرات) في حضن الجاليات الأجنبية. وهذا سيفاقم أزمة العمالة لدى المواطنين، ويُشرع الأبواب والنوافذ أمام صعود الحركات الأصولية المتطرفة.
وما يُطبّق على المواطنين يسحب نفسه على أفراد الأسرة الملكية، الذين يجب أن يتأقلموا هم أيضاً مع فكرة الانتقال من الدولة الرعوية الموفّرة للملاعق الذهبية، إلى الدولة الحديثة التي  تضع حصان العمل قبل عربة المكانة الوراثية.
-       - III-
لكن  من كل هذا وذاك، هو أن يترافق التغيير في الجانب الاقتصادي مع تحوّلات أخرى في الجوانب السياسية- الاجتماعية، التي من دونها سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إحداث هذه النقلة التي وصفتها صحيفة "فايننشال تايمز" الرصينة بأن من شأنها "تغيير أسس المملكة".
النقطة الأبرز في هذه التحوّلات، هي رسم خط فاصل وواضح بين الإديولوجيا التقليدية التي لم تعد تفي بحاجيات العصر (خاصة في مايتعلق بدور المرأة في كل القطاعات الاقتصادية) وبين أسس الدولة الحديثة. هذا لا يعني بالطبع التخلي عن الدين الذي هو الجزء الرئيس من الهوية في المملكة، بل  هو يعني تقنين نفوذ رجال الدين الأصوليين المتطرفين في التعليم والقضاء والمجتمع المدني. الأولوية هنا يجب أن تكون للدولة الوطنية ولحقوق المواطن وواجباته تجاه الوطن.
لقد شبّه البعض "رؤية 2030" بإصلاحات ميجي في القرن التاسع عشر، التي حولّت اليابان من دولة تقليدية إلى دولة حديثة، ومن اقتصاد استهلاكي وبدائي إلى اقتصاد هو الثاني الأكبر والأكثر تطوراً في العالم.
مثل هذا التشبيه قد يصح إذا ماترافقت الرؤية الاقتصادية مع رؤية سياسية تحقق ما فعلته إصلاحات ميجي، حين أشركت كل قطاعات المجتمع الياباني فيها من دون استثناء.
فهل سيكون محمد بن سلمان شجاعاً في هذا المجال، كما كان مقداماً في مشروعه الاقتصادي التحديثي؟
ربما. لكن هنا يجب ألا نغفل الحقيقة بأن السياسة وهاجس السيطرة كانت لهما حتى الآن الغلبة الكاسحة على "رؤية" النخبة السعودية الحاكمة، على رغم اعتراف معظم عناصرها بضرورة الإصلاح والتغيير.
وبالتالي، مالم تسرِ الثورة التغييرية في عروق هذه النخبة، وحتى قبل عروق المواطنين، قد نكون أمام تجربة أخرى من تجارب الإصلاح المُجهضة.
قد يكون محمد بن سلمان ميجي جديد، لكن لايمكن أن ينجح أي ميجي من دون ميجيين.

سعد محيو



الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

من السعودية إلى إيران مروراً بالمقاومة والممانعة: 3 مفارقات "ساخرة"



ثلاث مفارقات ساخرة (وطريفة إذا ماكان في التاريخ البشري شيء "طريف") في شرق أوسط جديد يوشك أن يولد الآن.
المفارقة الأولى:
المملكة العربية السعودية، التي تنفق مئات ملايين الدولارات سنوياً للتبشير بالإسلام في كل العالمين المسيحي و"الوثني"، تجد نفسها في تحالف استراتيجي مع روسيا الأرثوذكسية "الكافرة" ضد الإسلام السياسي في المنطقة العربية.
هذه قد تكون الحصيلة الأولى للزيارة الثانية التي يقوم بها الأمير السعودي بندر بن سلطان إلى موسكو خلال شهر واحد، والتي يبدو فيها التفاهم واضحاً بين الطرفين حول ضرورة دعم النظام المصري ضد جماعته الإخوانية، وحول التصدي للجماعات الإسلامية السياسية الأخرى التي يناصبها النظام السعودي العداء، والتي يضع النظام الروسي عملية المجابهة معها على رأس أولويات استراتيجية أمنه القومي، من شمال القوقاز وآسيا الوسطى إلى سوريا وكل غرب المتوسط.
هذا الحلف الجديد لما يولد بعد. لكن معالمه قد تتضح قريباً بكل تلاوينها الاقتصادية والمالية والتسلحية، في حال توصل بندر والرئيس بوتين إلى اتفاق على رأس الرئيس الأسد، بعد ان اتفقا على مايبدو على رأس الرئيس مرسي. ويبقى أن نعرف في وقت لاحق كيف ستتموضع الإديولوجيا الوهابية السعودية مع النزعة المسيحية الأرثوذكسية المنبعثة حديثاً في روسيا في هذا الحلف "الطريف" الجديد ضد الإسلام السياسي.
المفارقة الثانية:
طيلة نيف وثلاثين عاماً، كانت الثورة الإسلامية في إيران تبني جيلين جديدين كاملين من مواطنيها عبر التعبئة ضد مؤامرات "الشيطان الأكبر" الأميركي، الذي حلّ في الذاكرة الجماعية الإيرانية محل "الشيطانين الأكبرين" السابقين الروسي والبريطاني اللذين اقتسما إيران، نفوذاً وهيمنة، طيلة ثلاثة أرباع القرن العشرين.
الآن، وبعد الصفقة النووية المرحلية بين طهران وواشنطن، والتي وُلدت من رحم مفاوضات سرية بين "الملائكة الإيرانيين" و"الشياطين الأميركيين"، سيكون على السلطة الإيرانية أن تُقنع جمهورها بأن الشيطان لم يعد فجأة شيطاناً، أو أنه لم يكن في الواقع شيطاناً بل ملاكاً في لباس تنكّري.
طهران بدأت بالفعل هذا المسعى. فتعابير الشيطان الأكبر بدأت تختفي من شوارع طهران بالتدريج، وشعار "الموت لأميركا" الشهير تراجع نسبياً في أدبيات الثورة الإسلامية. هذا في حين أن زعيم حزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله، والذي كان يُغدق بسخاء طيلة عقدين اتهامات العمالة ضد حلفاء أميركا العرب، لم يجد مايقوله حول هذا التقارب المفاجيء مع الشيطان الأكبر سوى التنديد بالقوى الإقليمية المتوجسة منه.
وقريباً على الأرجح ربما نسمع فتاوى دينية في طهران وحارة حريك تقول بأن نصراً إلهياً خفياً هو الذي جعل "الشيطان الأكبر" الأميركي يتوب عن موبقاته، ويثوب إلى رشده، فيتحوّل إلى مشروع ملاك جديد، أو على الأقل إلى شيطان بلا قرون.
المفارقة الثالثة:
حتى ماقبل أيام قليلة، أي قبل ولادة الصفقة الأميركية- الإيرانية، كانت صورة الاستقطاب واضحة في الشرق الأوسط: إيران وسورية وحزب الله اللبناني يقودون جبهة المقاومة والممانعة ضد الامبريالية الأميركية وربيبتها الصهيونية ومعهما جبهة الاستسلام والتبعية بقيادة السعودية ومصر وتركيا.
الآن ربما حان الوقت لتبادل التسميات والأدوار. فالسعودية وإسرائيل هما الآن اللتان تمانعان التوجهات الأميركية في الشرق الأوسط، و"تقاومان" أي محاولة أميركية لإعادة رسم المنطقة على صورة أميركا الأوبامية الجديدة. هذا في حين أن سورية وإيران تبديان كل استعداد للاستسلام الكامل لإملاءات" الامبريالية الأميركية" وشروطها. (بما في ذلك خلع كل الأثواب الكيميائية والنووية).
* * *
ماتفسير هذه المفارقات الغريبة؟
هناك تفسيران ممكنان، لاتفسير واحد:
الأول، أن "الضرورات تبيح المحظورات" في عرف البراغماتيين الإسلاميين.
والثاني، أن "الخيانة مسألة تواريخ"، كما كان يردد دائماً هنري كيسينجر.
وكلا التفسيرين يصبان في حصيلة واحدة: سخرية التاريخ.

سعد محيو

الخميس، 16 أغسطس 2012

كيف يمكن انقاذ العالم الإسلامي والخليج من جهنم الحروب






-1 -
قلنا بالأمس ( "اليوم، غدا، 15-8-2012) أن أحداً في العالم الإسلامي لن يستمع إلى دعوات الملك السعودي عبد الله إلى "التضامن والحوار"، لأن هذا العام غارق بالفعل حتى أذنيه في مجابهات أشبه بالحروب الصفوية- العثمانية التي اندلعت طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.


                                   الحرية والخبز صنوان ( الصورة من غوغل)


لكن، هل من الضروري أن يعيد هذا التاريخ المأساوي من الاقتتال الإسلامي - الإسلامي إنتاج نفسه مرة بعد مرة؟ أليس ثمة مخرج أو كوّة أمل من هذا المصير الذي كان، ولايزال، يُشرع كل الأبواب والنوافذ أمام الاجتياحات الغربية للمنطقة، ويمنع بروز العالم الإسلامي في النظام العالمي قديمه والجديد الذي يستعد للولادة الآن؟
أجل. هناك مخرج وحل: الديمقراطية.

                                              - II -

فكما هو معروف، الدول الديمقراطية لاتقاتل بعضها البعض. هي قد تتنافس وتتنازع وتختلف، لكن أنظمتها الديمقراطية تساعدها على الوصول إلى تسويات تُجنِّبها تجرُع كأس الحروب.
طبقوا هذا المعيار على أمن الخليج، عبر بوابتيه السعودية والإيرانية، تكتشفون هذه الحقيقة. فإيران الديمقراطية الحقّة، التي تنسف من دستورها النصوص التي حوَّلتها إلى دولة طائفية شيعية بامتياز، والتي تجعل سلطة الشعب الصاعدة من تحت (أرض المجتمع) فوق سلطة ولي الفقيه الهابطة من  فوق (سماء المطلقات وأوهام العصمة البشرية)، ستكون إيران المحاورة والمسالمة مع جيرانها، والباحثة عن الأمن والتكامل معهم على غرار تجربة الاتحاد الأوروبي، لا إبران المصدٍّرة للعنف والطائفية إليهم.
والسعودية الديمقراطية، بالمثل، لن تنتهج سياسات طائفية سنيّة في سياستها الخارجية (على رغم أن بعض السنّة يرفضون الاعتراف بالوهابية من ضمن المذاهب الأربعة)، بل ستنشط لتحويل المواطنة الوطنية فيها إلى مواطنة إنسانية عامة يجد فيها الشيعي الإيراني والعربي وبقية أفراد المذاهب والأقلبات مكاناً لهم فيها.
وكما أن الديمقراطيات لاتقاتل بعضها البعض في الخارج، فهي أيضاً تمنع الحروب الأهلية في الداخل. فالديمقراطية تقوم ليس فقط على حكم الشعب للشعب وتداول السلطة سلميا، بل أيضاً على القبول والشرعية وقبول الأخر. وهي بوضعها عربة السياسة أمام خيول الأمن، تفسح ألف مجال أمام حل التوترات والصراعات والخلافات من كل أنواعها بالطرق السلمية.
هذا هو الاستقرار العميق ذو الديمومة الذي تخلقه الديمقراطية، والذي يتناقض حرفاً بحرف مع إستقرار الانظمة الشمولية والاستبدادية الذي يبدو ظاهرياً قوياً ومتماسكاً، لكنه في الحقيقة أشبه بطنجرة البريستو التي تنتظر الانفجار في أي لحظة.

- III -
لكن، هل ثمة أمل حقاً بأن تحل الديمقراطية في منطقة كمنطقة الخليج تعج بالأصوليات الطائفية والمذهبية، المتقاطعة مع الصراعات الدولية والجيوسياسية؟
لو طُرح هذا السؤال قبل إندلاع الربيع العربي، لجاء الجواب سريعاً بكلا مطلقة. لكن الآن، وبعد إنطلاق ثورات المواطنة والحرية في كل أرجاء المنطقة العربية (لابل تحوُّلها إلى ظاهرة عالمية أيضاً)، لم يعد هذا مجرد أمل بل هو أمر واجب الوجود. فالشعب الإيراني، الذي يستنزف النظام الآن كل مقدراته ووسائل عيشه في سباقات التسلح والنفوذ العبثية التي يشن، ويصادر حرياته وحقوقه الفردية باسم الله والدين وعصمة رجال الدين، لن يطول به الوقت قبل أن يستأنف ثورته الخضراء التي هزّت أركان النظام العام 2009.
وشعوب السعودية والخليج لن تبقى طويلاً معزولة عن ثورات المواطنة العربية، مهما بُذِلت الجهود لإقناعها بأن الإنسان يعيش بالخبز وحده. الخبز هام، لكن الأهم هي حربة هذا الإنسان وحقوقه وكرامته الشخصية والوطنية.
وحين تزف ساعة الديمقراطية والحريات، وهي آتية لامحالة بقوة المتغيرات الدولية والإقليمية ومنطق التاريخ، سيكون في الوسع بدء الحديث عن خروج العالم الإسلامي من جهنم الصراعات والحروب الخارجية والداخلية، وولوجه جنّة الأمن والسلام والازدهار الاقتصادي.
حينها سيكون هذا العالم، الذي أعطى البشرية واحداً من ألمع الحضارات في التاريخ، قادراً على التنافس مع الصين والهند واليابان وبقية زميلاته الحضارات الشرقية التي تنشط الآن للهبوط على القمر والمريخ، بدل أن يواصل التخبط، كما هو الآن، في مستنقعات الأرض ووحولها.

                                                                                          سعد


الأحد، 22 يوليو 2012

كيف تخرج انتفاضة البحرين من "حالة اليُتُم?






                                                                            - I -
إلى متى يمكن أن تبقى البحرين "الحلقة المفقودة" في سلسلة الربيع العربي؟
هذا السؤال طرح نفسه بقوة، بعد أن أثبتت مظاهرات الأمس الصاخبة في البحرين وما تخللها من قمع عنيف للمواطنين، أن الانتفاضة البحرينية لا تزال حية وتركل وانها وجدت لتبقى.

                                 انتفاضة البحرين: ماشروط الانتصار (غوغل)

لكن هذه الانتفاضة في هذه الدولة الخليجية الصغيرة التي تتكوّن من 33 جزيرة والتي يبلغ تعداد سكانها الأصليين 500 ألف شخص يضاف إليهم 500 ألف آخرين من جنسيات آسيوية وإيرانية وعربية، لاتزال يتيمة (إذا جاز التعبير).
صحيح أن انتفاضات تونس ومصر جوبهت هي الأخرى  في بدايتها بمحاولات إجهاض من جانب تكتل الأنظمة السلطوية التي كانت تهمين على المنطقة العربية، إلا أن الثورة الشعبية في البحربن كانت الأكثر عُرضة إلى الحصار والقمع بسبب "سوء حظها" الجيو- استراتيجي.
 إذ هي تقع في قلب الحصن الأخير للأنظمة السلطوية العربية في منطقة الخليج. كما أنها العرين الرئيس للاسطول الخامس الأميركي الذي يقود العمليات العسكرية في منطقة شاسعة تمتد من البحر الاحمر إلى مياه الخليج والمحيط الهندي.
والأهم أن هذا الأرخبيل الصغير، الذي تشكّل فيه الصحراء 92 في المئة من مساحته والذي أطلق عليه البحرين بسبب تداخل البحر مع ينابيع المياه الحلوة فيها، يقع ضمن دائرة الاهتمامات التوسعية والاستراتيجية والتاريخية لإيران في منطقة الخليج. إذ أن طهران تعتبر نفسها "لاعباً محلياً" في الشأن البحريني وتطالب بين الفينة والأخرى بـ"استعادة" الجزيرة وضمّها إلى أراضيها، مُذكِّرة بأن الامبراطورية الفارسية حكمت هذه البلاد من القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن السابع مع مجيء الإسلام، ثم منذ العام 1602 ولمدة قرنين حين فرض عباس من السلالة الصفوية المذهب الشيعي فيها.
أكثر من ذلك، قامت إيران بالفعل بمحاولات جدّية لتقويض نظام الحكم في البحرين بالقوة.
 ففي العام 1981، وبعد سنتين من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، شجّعت طهران أصوليين شيعة بحرينيين على القيام بمحاولة إنقلاب بإشراف "المنظمة الإسلامية لتحرير البحرين"،  بهدف تغيير نظام الحكم وجعله ثيوقراطياً (دينياً) ، برئاسة رجل دين شيعي بحريني منفي إلى إيران هو حجة الإسلام هادي المدرسي. وفي العام 1994، شن الأصوليون الشيعة موجة من أعمال العنف أشعلت فتيلها مشاركة النسوة في حدث رياضي.

- II -
الموقع الجغرافي- التاريخي، إذا، يعتبر عاملاً مهماً في تعقيد صورة الانتقاضة البحرينية.
 ولذا، وعلى رغم أن البحريينيين أثبتوا في غالبيتهم مراراً وتكراراً  أنهم بحرينيون أولاً (حين صوّتوا إلى جانب استقلال بلادهم ورفض الانضمام إلى إيران)، وحين شاركوا في كل مراحل الحياة السياسية في البلاد (عبر خوض المعارك الانتخابية)، إلا ان لعنة الجغرافيا تفرض عليهم مستلزمات أخرى لاتواجهها الانتفاضات العربية الأخرى.
أولى هذه المستلزمات، أن تعي المعارضة الوطنية بأن مصير مسيرتها يرتبط بشكل وثيق بمصير الربيع العربي في منطقة الخليج. فالديمقراطية في المنامة تفترض الديمقراطية في الرياض والكويت وباقي المنظومة الخليجية. وهذا يجب أن يدفع إلى صياغة استراتيجية بعيدة المدى لتوحيد جهود كل قوى الإصلاح الخليجية. فالسفينة واحدة، والبحر واحد، والرياح يجب أن تكون واحدة كما تشتهي هذه السفينة.
ثاني المستلزمات، أن تمتلك المعارضة الجرأة الكافية للوقوف في وجه كل من إيران والسعودية في آن، وأن تُثبت بالقول والفعل أن الوطنية البحرينية مستقلة وعلى مسافة واحدة بين هذين العملاقين الإقليميين، اللذين تدفعهما تركيبتهما السياسية إلى ممارسة سياسات خارجية طائفية- مذهبية.
ثالث المستلزمات أن تنشط المعارضة البحرينية في الدول التي انتصر فيها الربيع العربي، كي توضح لها أن انتفاضتها وطنية وعروبية لاطائفية، وأن العناصر الشيعية المتطرفة في البلاد هي أقلية معزولة، ويمكن أن تُعزل أكثر إذا ما حظيت هذه الانتفاضة بدعم الثورات العربية الأخرى.
بالطبع، مثل هذا المسعى لن يكون سهلاً، بسبب مضاء  سطوة العضلات المالية الخليجية في الدول العربية المُنتقلة إلى الديمقراطية (كما دلّت على ذلك بوضوح زيارة الرئيس المصري مرسي للسعودية). بيد أنه (المسعى) ليس مستحيلاً أيضا، بسبب "الحرب الأهلية" المتوقعة بين الإسلام الديمقراطي والإسلام اللاليبرالي في المنطقة.

بكلمات أوضح: يتعيّن على الانتفاضة البحرينية أن تشق طريقها في مسيرة تشبه طبيعتها الجغرافية. فكما أن البحر يعانق الينابيع الحلوة فيها، عليها هي أن تكتشف "المياه الحلوة" الاستراتيجية الإيجابية لها في خضم البحر الإقليمي اللجب والمتلاطم. فمصير ما هو وطني في البحرين، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما هو إقليمي خليجي. وبما أن هذا العامل الإقليمي يمر هو الأخر بمرحلة انتقالية لابد أن يخترقها فصل الربيع العربي، تُصبح الآمال بانتصار الوطنية البحرينية أكبر مما قد يتخيّل الكثيرون.

                                                            - III -
في التاريخ القديم، شهدت البحرين حدثاً جللاً زلزل كل منطقة الخليج والعالم الإسلامي. ففي العام 899 ميلادي سيطرت فرقة إسماعيلية خَلَاصية هي القرامطة على البلاد، وسعت إلى خلق مجتمع  اشتراكي طوباوي يستند إلى العقل وتوزيع كل الملكيات بالتساوي بين أتباعها. وفي العام 930 نهبت الفرقة مكة والمدينة ونقلت الحجر الأسود المقدّس من الكعبة إلى قاعدتهم في البحرين، ولم تفرج عنه إلا بعد 22 سنة.
التاريخ الحديث لايتطلب بالطبع من البحرين مثل هذه الزلزال العنيف، بل يتطلب مد الجسور إلى قوى الإصلاح في مكة والمدنية وباقي مناطق الحجاز ونجد، وكذلك تقديم أنموذج  لشيعة المنطقة الشرقية السعودية ترتفع فيه يد الوطنية فوق الأيادي الطائفية.
وهذا رهان في محله في الواقع. فالشعب البحريني يعتبر من الأكثر ليبرالية وإنفتاحاً وثقافة، ليس فقط في منطقة الخليج بل أيضاً في كل المنطقة العربية. ويكفي أن نعلم هنا أن البحرين تنشر سنوياً ما معدله 137 كتاباً لعدد سكان لايناهز نصف المليون، هذا في حين أن المعدل في العالم العربي برمته كان في ذلك العام سبع كتب لكل مليون مواطن.
الانتفاضة البحرينية ولدت لتبقى، وستبقى. لكن خروجها من حالة "اليتم" بين ثورات الربيع العربي يتطلب منها أن تفكّر بعقلية استراتيجية إقليمية- دولية في الدرجة الأولى، وبنفس طويل ولكن واثق بأن رياح التاريخ تهب في اتجاهها. وإذا مافعلت، فإنها لن تكون "الحلقة المفقودة" في ثورات هذا الربيع، بل "حلقة الوصل" بين هذه الثورات.


                                                                                       سعد
  

الأحد، 15 يوليو 2012

كيف ستُجابه المملكة السعودية "أخطر أيامها"؟







                                              - I -
قلنا بالامس ("اليوم، غدا" - 14-6-2012) أنه بات واضحاً أن الربيع العربي له قسمات إخوانية فاقعة في مصر وتونس والمغرب وسورية (والعد مستمر)، وأنه سيكون على القادة السعوديين قريباً مواجهة المقلب الآخر من التحدي الإخواني: الطبعة الليبرالية والديمقراطية المُفترضة من الإسلام.
فهل يؤدي ذلك إلى مجابهة جديدة بين جماعات الإخوان والمملكة، أم تنجح استراتيجية "شراء الخلافات نقداً" (ومعها شراء الوقت)؟ ثم: ما الخيارات امام النخبة السعودية هنا؟

                               تظاهرة للإخوان في القاهرة (غوغل)

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن الأهم من طرح التساؤلات هو معرفة كيفية مقاربة قادة الرأي في المملكة السعودية لهذا التطور.
هنا، قد يزوّدنا المفكر والكاتب السعودي البارز جمال الخاشقجي ببعض "المعالم على الطريق" حيال المقاربة الراهنة، على الأقل بالنسبة إلى جانب من النخبة السياسية السعودية.
ففي مقال نشره في الزميلة "الحياة" (في 26-6-2012)، يرسم الخاشقجي اللوحة التالية للإخطار التي تحيق بالمللكة هذه الأيام والتي يعتبرها "الأخطر في تاريخها": الانقلابات "الناعمة" والهادئة" واللااستقرار في الجناحين الاستراتيجيين للسعودية، مصر وباكستان؛ احتمال انضمام السودان (وسريعا) إلى الربيع العربي؛ اشتعال سورية بما قد يفتح أبواب جهنم إقليمية؛ الأزمة الدستورية الخطيرة في الكويت؛ الأزمة المتواصلة في البحرين؛ تكالب "القاعدة" على اليمن؛ أوضاع لبنان والعراق والصومال المضطربة؛ هذا إضافة بالطبع إلى التهديد الجيو-سياسي الإيراني المقيم.
ويخرج الكاتب بخلاصة تدعو ولي العهد الجديد الأمير سلمان إلى اتباع سياسة خارجية هجومية للرد على هذه التحديات، تماماً كما فعلت المملكة (بقيادة الأمير سلمان أيضا) حين ردّت على تحديات حقبة الثمانينيات، التي كانت خطرة هي الأخرى، بشن الحرب على السوفيييت في أفغانستان.
هل هذه النصيحة في محلها؟

                                                - II -
أجل، من حيث الشكل المستند إلى الذاكرة التاريخية الحديثة. فالكاتب يتذكّر هنا على الأرجح السياسة الخارجية الهجومية الناجحة التي شنّتها المملكة ضد القومية العلمانية الصاعدة في الخمسينيات والستينيات والتي أدّت في النهاية (إضافة إلى عوامل إقليمية ودولية أخرى) إلى تقويض هذه القومية. كما يتذكّر (كما أشار) الهجمات الشيوعية (السوفييتية) في أفغانستان وفي اليمن الجنوبي الماركسي، و"اليسارية" في عراق صدام حسين وسورية حافظ الأسد، وإثيوبيا منغستو، فضلاً عن الثورة الشيعية في إيران.
لكن التشابه في الشكل لايستتبع التطابق في المضمون. فما جرى في هاتين الحقبتين، على خطورته، تم خارج كنف العرين السعودي لا داخله. على هامشه لا في قلبه. وهذا مكَّن المملكة آنذاك من زج سلاحها السري الأكبر في المعركة ومن ربح هذه المعركة في نهاية المطاف ضد هذه التلاوين من المخاطر: الإديولوجيا الإسلامية.
أما الأن، فالصراعات لاتجري بين إسلاميين وملحدين، أو بين إسلاميين وقوميين، بل في الدرجة الأولى بين إسلاميين وإسلاميين: بين الإخوان والسلفيين، وبين المحافظين والإصلاحيين، وبين الديمقراطيين والسلطويين، وبين الإسلاميين الليبراليين و"الرجعيين".
وبالتالي، السياسة الخارجية الهجومية هنا ستعني الانغماس في حرب أهلية إسلامية على الصعيدين الإديولوجي والسياسي غير مضمونة النتائج.
لماذا؟
لسببين رئيسيين:
الأول، أنه سيكون على المملكة في مثل هذا الهجوم أن تعتمد على الحركات السلفية. وهذا أمر لم يعد خياراً جذاباً، بعد أن تبيّن أن العديد من هذه الحركات بدأت تتسيس و"تفتح" على حسابها. كما باتت أيضاً تُستخدم من قِبَل كلٍ من أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية ومن "القاعديين" و"القطبيين". هذه الحركات أصبحت إلى حد كبير سلاحاً ذا حدين.
والثاني، أن "الزواج غير المقدس" (كما يسميه الكاتب الأميركي جون كولي) بين الإسلام في طبعته السعودية وبين الغرب، تبدد هباء منثوراً غداة أحداث 11 سبتمبر، وحلّت مكانه الآن "أجندة حرية" أميركية ثابتة كانت هي في أساس قبول الغرب لصعود حركات الأخوان المسلمين إلى السلطة، وربما أيضاً في أساس نجاحات الربيع العربي (وإن ليس بالضرورة في إطلاق هذا الربيع).

                                                - III -
بالطبع، تستطيع ترسانة الأموال السعودية الضخمة أن تؤثّر على مسير ومسار عمليات الانتقال إلى الديمقراطية في العديد من الدول العربية، خاصة لجهة الحد من التعاون المحتمل بين هذه الثورات وبين الحركة الإصلاحية في المملكة وباقي أنحاء منطقة الخليج. لكنه سيكون في الغالب  تأثيراً محدوداً، ناهيك عن أنه لن ينجح في إسقاط الجاذبية الفكرية والثقافية والسياسية لهذه التجارب بالنسبة إلى المعسكر الإصلاحي السعودي والخليجي.
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنها تعني بوضوح أن السياسة الخارجية الهجومية، لن تكون كافية وحدها هذه المرة للرد على المخاطر الجسام التي تُحيق بالمملكة. الأمر ربما يحتاج إلى مقاربة فكرية- استراتيجية جديدة تتساوق وتتساوى فيها السياسة الخارجية مع التوجهات الداخلية.
وهذا يعيدنا إلى سؤالنا الألي: ما الخيارات السليمة والناجعة التي يمكن أن تتوافر للنخبة السعودية؟

                                                                                (غداً نتابع)
                                                                                     سعد




السبت، 14 يوليو 2012

السعودية والإخوان: "حرب" أم "سلام" (1)





                                                  سيد قطب في السجن (غوغل) 
     

- I -
ثلاثة أسئلة كبرى دفعة واحدة فرضتها زيارة أول رئيس من الإخوان المسلمين في أكبر دولة عربية إلى المملكة العربية السعودية:
الأول، هل ستتمكِّن المملكة من إحتواء خلافاتها الإديولوجية- السياسية مع جماعة الإخوان، وإن على قاعدة المصالح المتبادلة (الاقتصادية- التجارية للإخوان، والسياسية للرياض)؟
والثاني: حتى لو تمكّنت المملكة من ذلك مع الإخوان المصريين، ماذا عن بقية الإخوان في تونس والمغرب (وقريباً في سورية والأردن)، وأيضا (وربما هنا الأهم) مع "الإخوان" العثمانيين الجدد الذين تدفعهم إديولوجيتهم الصوفية- العلمانية المنتفحة إلى التحالف مع جماعات الإخوان، خاصة في سورية، لا مع الحركات السلفية على النمط الوهابي؟
والثالث، هل اتِّباع الرياض لسياسة خارجية هجومية نشطة، كما تحاول أن تفعل الآن مستخدمة عضلاتها المالية، سيمكّنها من تحصين مملكتها السياسية في الداخل ضد أعاصير الربيع العربي الكاسحة في الخارج، أم أن هذا المشروع برمته سيكون أشبه بفقاعة صابون تُطلق في قيظ الصيف؟
لنبدأ مع السؤال الأول:

- II -
يمكن القول الآن، وبعد يومين من انتهاء زيارة الرئيس محمد مرسي للمملكة، أن هذا الأخير استخدم كل مافي ترسانته السايكولوجية من تطمينات لتقديم أوراق اعتماد مقبولة إلى القادة السعوديين.
فهو أكد حتى قبل أن تطأ قدماه أرض السعودية أن مصر الإخوانية :"لاتنوي تصدير ثورات الربيع العربي" إلى الخليج العربي.
وهو قسّم "العمل الإسلامي" بين الإخوان وبين السعودية لصالح هذه الأخيرة (من حيث الشكل على الأقل)، حيّن "عيّنها" راعية الإسلام فيما مصر حاميته.
ثم أن ركّز على النقطة الرئيس التي تهم القيادة السعودية هذه الأيام: مسألة الاستقرار في كل من السعودية ومصر في آن. قال:" استقرار المنطقة يستلزم استقرار مصر واستقرار الخليج، وعلى رأس دول الخليج المملكة العربية السعودية".
بيد أن حُسن الكلام، على أهميته، لايعني بالضرورة حُسن الخواتيم.
 لماذا؟
أساساً بسبب التاريخ المُثقل بين الطرفين.
فجماعة الإخوان المسلمين منذ أن أسسّها حسن البنا العام 1928، كانت منظمة سياسية من ألفها إلى الياء. منظمة تعتبر أن الإديولوجيا الإسلامية بمثابة علاج سياسي للأمراض التي فتكت بالعالم الإسلامي طيلة القرون الماضية. وهي في خضم تبينها لهذا المبدأ، عمدت إلى دمج الفكر الغربي السياسي الحديث بالتقاليد الإسلامية، كما رضعت من ثقافة جيلين من الفكر السياسي الإسلامي في الحقبة الأخيرة من عهد الدولة العثمانية، لم تر بالتالي تناقضاّ بين الحكم الإسلامي وبين المباديء الجمهورية والبرلمانية (ولاحقاً الديمقراطية والتعددية).
في المقابل، كانت الطبعة السعودية من الإسلام تقوم على الفكر السلفي اللاسياسي، الذي يُعطي قيصر السعودي السلطة السياسية، ويخوِّل آل الشيخ وأتباعهم التصرُّف بما لله: السلطة الدينية وأحوال الآخرة، شريطة ألا يتدخلوا بشؤون الدنيا.

- III -
هذا الشرخ الإديولوجي- السياسي  بين الطرفين ظل نائماً عقوداً طويلة بفعل عاملين إثنين:
الأول، زواج المصلحة الذي أبرمه الإخوان والسعوديون غداة بروز حركة القومية العربية العلمانية واليسارية منذ مطلع الخمسينيات بقيادة جمال عبد الناصر، والذي دفعهم إلى شن حرب مشتركة ضدها وهم يرفعون رايات الإسلام السياسي. وهكذا، وجد قادة الإخوان المصريين ملاذاً آمناً وخزينة مالية وفيرة لهم في المملكة، فيما اكتشفت فيهم هذه الأخيرة كنزاً  أحسنت استخدامه في حربها العامة ضد القومية العربية العلمانية.
والثاني، نجاح الرياض في احتواء الإخوان المسلمين غداة هزيمة حرب 1967، من خلال تحالفها مع الأنظمة الجديدة التي برزت في مصر (حسني مبارك) وسوريا (حافظ الأسد) وتونس (زين العابدين بن علي) والأردن (الملك حسين) والتي جهدت لإبقاء حركات الإخوان داخل القفص.
الأخوان المسلمون لم يردّوا مباشرة حين انتقلت علاقتهم مع السعودية من التحالف إلى الاحتواء. لكن بعض أجنحتم كانت تفعل ماهي أكثر بكثير من الرد: اختراق السلفية الوهابية نفسها.
حدث هذا أساساً في أفغانستان، حين قام القائد الإخواني البارز عبد الله عزام وبعده أيمن الظواهري بجذب المقاتلين السلفيين السعوديين، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، إلى إديولوجيا سيد قطب الجهادية، الأمر الذي خلق أزمة شرعية كبرى في المملكة طيلة حقبة التسعينيات أنحى فيها السعوديون باللائمة على "القطبيين والإخوانيين" كما أسموهم.
والآن، وبعد أن بات واضحاً أن الربيع العربي له قسمات إخوانية فاقعة في مصر وتونس والمغرب وسورية (والعد مستمر)، سيكون على القادة السعوديين مواجهة المقلب الآخر من التحدي الإخواني: الطبعة الليبرالية والديمقراطية المُفترضة من الإسلام.
فهل يؤدي ذلك إلى مجابهة جديدة بين جماعات الإخوان والمملكة، أم تنجح استراتيجية "شراء الخلافات نقداً" (ومعها شراء الوقت)؟

                                                                                          (غدا نتابع)

                                                                                                سعد