للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الخميس، 28 فبراير 2013

سورية: "حرب من أجل السلام"، ولكن؟




- I -
الروس والأميركيون اختلفوا،علناً على مايبدو، على أسس السلام في سورية (تسوية مع بشار الأسد أو من دونه)، واتفقوا، ضمناً على الأرجح، على أن الحرب هي الوسيلة لتحقيق السلام.
كيري-لافروف: اتفاق على الاختلاف؟(الصورة من غوغل


هذه قد تكون الحصيلة الغريبة الأوّلية لجولة الأفق التي قام بها وزير الخارجية الاميركية كيري مع موسكو، في أول جولة خارجية له.
وهي حصيلة غريبة، لأن المفاوضات بين الدول الكبرى عادة يجب أن تؤدي إلى تحويل الحرب إلى سياسة بوسائل أخرى لا العكس. كما أنها حصيلة أغرب، لأنه يبدو أن الطرفين الروسي والأميركي باتا على قناعة بأن إحداث اختراق سياسي في الطريق المسدود الراهن في بلاد الأمويين لم يعد ممكناً من دون اختراق عسكري من جانب أي من الطرفين.
وهكذا، ترتسم في الأفق الآن معالم مرحلة جديدة كل الجدة في الأزمة السورية، سمتها الرئيس "سباق تسلُّح وتسليح" بين القوى الإقليمية والدولية للأطراف السورية المختلفة، لكن ليس بهدف إسقاط النظام السوري (حتى الآن على الأقل) بل دفعه إلى ولوج أبواب التسويات.
- II -
إنها، إذا، الحرب (أو بالأحرى تصعيد الحرب) لتحقيق السلام.
وهذا ماعبّرت عنه سلسلة التقارير الكاسحة التي توالت خلال الأيام القليلة الماضية، والتي تحدثت عن:
-  وصول كميات كبيرة من الأسلحة التي اشترتها السعودية من كرواتيا وشحنتها إلى بعض الثوار السورييين (بموافقة أميركية، كما قالت "واشنطن بوست").
- تدفق أسلحة أخرى، بينها صواريخ مضادة للدروع والدبابات، إلى ثوار درعا في جنوب سورية عبر الأردن، بهدف مزودج هو تصعيد الضغط على العاصمة دمشق، من ناحية، وخلق جيش حر منافس لـ"جيوش"الجهاديين في شمال سورية، من  ناحية أخرى.
- قرار الولايات المتحدة امداد بعض أطراف المعارضة السورية بعربات مدرعة وأسلحة "غير قاتلة" أخرى (أي دفاعية) بشكل مباشر هذه المرة، والقيام بتدريب وحدات سورية معارضة في معسكرات إما في تركيا أو الأردن.
- وفي المقابل، كانت روسيا وإيران تلمحان إلى أنهما ستزيدان بشكل واسع من إمدادات الأسلحة، الضخمة أصلاً، إلى النظام السوري، لموازنة الدفق الموازي من الأسلحة على المعارضين السوريين.
وهذا كله يعني أن الجبهات السورية ستشهد خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة تصعيداً عسكرياً وأمنياً واسع النطاق (خاصة على الأرجح في دمشق) لحمل بشار الأسد على "تغيير حساباته" (على حد تعبير جون كيري) أو لحمل المعارضة على قبول الأسد كمحاور لها، كما تطالب طهران وإلى حد ما موسكو.
- III -
لمن ستكون الغلبة في هذا الكباش الدبلوماسي- العسكري الدموي؟
الأمر سيعتمد على وجود أو لاوجود استراتيجية أميركية واضحة المعالم تشكّل أساس تحرًّك كيري الراهن.
فإذا ما تبيّن أنه ليس هناك مثل هذه الاستراتيجية التي اقترحتها العديد من المؤسسات الأميركية، من وزارتي الدفاع والخارجية إلى السي. أي. آي، والتي تتضمن في مراحلها الأولى تسليح المعارضة الأسلامية المعتدلة والعلمانية وفي مراحلها الاخيرة الاستخدام المحدود لسلاح الطيران الاميركي لحماية المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فإن الأسد لن يجد نفسها مضطراً إلى إعادة النظر في حساباته. لا بل هو قد يصبح حتى أكثر عنفاً ودموية.
أما إذا ما اتضح أن التغيرات الاميركية الاخيرة هي بالفعل عناصر عدة من استراتيجية جديدة واحدة، فحينها لن يغيّر الأسد حساباته وحسب بل قد "يُغيًّر" هو نفسه على يد بعض جنرالاته الذين سيبحثون عندها عن مخارج تتطلب فك ربط مصير نظامهم بمصير عائلة الأسد- مخلوف.
الاحتمال الأول سيؤدي في خاتمة المطاف إلى  التقسيم العملي لسورية إلى أربع دول. والاحتمال الثاني قد ينقذ ماتبقى من الوطن السوري من التشرذم والحروب الأهلية الدائمة في إطار ربما يكون فيدراليا.
ومن أسف، لاتزال اليد العليا حتى الآن للاحتمال الأول.
وإذا مابقي الأمر على هذا المنوال، فإن اتفاق الروس على الحرب كوسيلة للسلام، سينقلب إلى كون الحرب مجرد وسيلة لحرب. لحرب طويلة وكبيرة وخطيرة على وجه التحديد.

سعد محيو

الثلاثاء، 26 فبراير 2013

كيري وسورية: فرصة أخيرة.. لأوباما!


- I -
ما طبيعة "المساعدات النوعية" التي وعد وزير الخارجية الأميركي كيري الائتلاف السوري المعارض بها، مقابل وقف مقاطعته لمؤتمر أصدقاء سورية؟
 كيري لأوباما : الفرصة الأخيرة؟ 

الجواب على الأرجح عند الانكليز.
فإذا ماقررت الولايات المتحدة فعلاً الانتقال من مرحلة "النأي بالنفس" عن الأزمة السورية إلى مرحلة الانخراط العملي فيها، من خلال مد بعض فئات المعارضة المسلحة السورية بالأسلحة المتطورى، فلن تكون هي الطرف المباشر الذي سيقوم بهذه المهمة، بل حليفتها البريطانية (طالما أن يدي فرنسا، صاحبة المصلحة الأولى في بلاد الشام،لاتزال مغولتين في حرب مالي).
أما لماذا لن تتدخل واشنطن مباشرة، فهذا بات أمراً معروفا: رغبة إدارة أوباما في عدم فتح جبهات عسكرية جديدة في العالم الإسلامي، وهي في خضم الانسحاب من أفغانستان بعد العراق؛ وايضاً لأنها بدأت تنقل العديد من عدتها وعتادها ومواردها نحو منطقة آسيا- الباسيفيك، في إطار استراتيجية "الاستدارة شرقا" ( Pivot startegy) التي تبنّتها أخيرا.
- II -

هذا لايعني البتة أن أميركا ستدير ظهرها نهائياً للشرق الأوسط. إذ أن هذه المنطقة ستبقى متوازية في الأهمية بالنسبة إليها مع حوض آسيا- الباسيفيك طالما بقيت نقطة نفط واحدة في منطقة الخليج. وعلى أي حال، جاءت التقارير الأخيرة التي تحدثت عن ارتفاع واردات النفط الأميركية من السعودية وبقية دول الخليج، على الرغم من الطفرة في إنتاج النفط والغاز الحجري (shale oil  ) في الداخل الأميركي، لتوضح عدم وجود قطيعة بين استراتيجية الأستدارة نحو آسيا وبين مواصلة الهيمنة على خطوط امدادات النفط الخليجي.
كل ما هناك أن أميركا تريد تخفيف الأعباء عنها في الشرق الأوسط، عبر الاعتماد على وكلاء إقليميين جدد (كما فعلت في الستينيات غداة الانسحاب من فيتنام)، وتحقيق أهدافها العامة في المنطقة بأقل التكاليف الممكنة.
نموذج هذا التوجُّه هو ماحدث في ليببا- القذافي. فأميركا منحت فرنسا وبريطانيا مسؤولية قيادة عمليات حلف الأطلسي هناك، ولم تتدخل إلا للدعم والمساندة. وهذه العملية الناجحة لم تكلفها سوى مليار واحد من الدولارات، في حين كلفتها حرب العراق الفاشلة تريليون دولار.
- III -
بريطانيا، إذا، ستكون قريباً "النجم الساطع" في الأزمة السورية.
لكن، وطالما أن الأمر على هذا النحو، ماذا يفعل جون كيري الذي جعل سورية والشرق الأوسط على رأس أولويات جولاته الخارجية؟
إنه يريد أن يقنع الروس بأن فرصة تحقيق كوندومينيوم (حكم مشترك) أميركي- روسي في سورية، أمر ممكن، ومحتمل، وضروري. وهذا الحل لن يتضمن الحصيلة صفر لدى الطرفين، حيث الربح الصافي لطرف سيكون خسارة صافية لطرف آخر، بل هو سيحافظ على النفوذ الروسي مع تعديلات تفرضها المتغيرات السورية لصالح النفوذ الأميركي.
بيد أن كيري لن يكون فقط، في تعاطيه مع الروس، ذلك الدبلوماسي الذي اشتهر برفضه للحلول العسكرية، بل قد يكون أيضاً ذلك المقاتل في فييتنام الذي يخوض الحرب لتحقيق السلام.
بكلمات أخرى: كيري سيحمل إلى ندّه الروسي لافروف في جنيف غصن سلام تسووي مشترك في يد، وتهديداً بالانتقال إلى تسليح المعارضة السورية (وربما حتى أيضاً تهديداً آخر باستخدام محدود لسلاح الطيران الأطلسي) إذا ما تعثّرت التسوية السياسية، في اليد الأخرى.
والحال أن واشنطن بدأت على مايبدو تنفيذ هذا التهديد بالفعل، حيث أشارت "واشنطن بوست" قبل أيام إلى أن صواريخ متطورة ضد الدبابات وصلت إلى مقاتلي جبهة درعا في الجنوب السوري من الأردن، بموافقة أميركية.
ماذا تعني كل هذه التطورات؟
إنها تعني أن الأزمة السورية على وشك أن تدخل مرحلة جديدة على الصعد الدبلوماسية، كما الميدانية. مرحلة سيشتد فيها التصعيد كلما بدا أن التسوية السياسية تقترب.
لكن، في حال فشلت مهمة كيري الحالية، ستجد إدارة أوباما نفسها في ورطة كبرى، لأن باقي مؤسسات النظام الأميركي ستتهمها حينذاك بتهديد وضعية القوى العظمى الأميركية، ومعها الامن القومي  والاقتصاد الأميركيين، بتركها الحبل على الغارب للأحداث في سورية من دون قيادتها أو حتى تدخلها.
وإذاك، ستأتي الأزمة السورية إلى قلب واشنطن، مهما حاول أوباما الهرب منها إلى أطراف الشرق الأوسط.

سعد محيو

الاثنين، 25 فبراير 2013

ما "السر الدولي" وراء انفجار المنطقة العربية؟ (الحلقة-3)



- I -
استعرضنا بالأمس الأفكار الرئيسة في كتاب إيمانويل تود "مابعد الامبراطورية"، وأبرزها قوله:  "كل شيء يدل على أن الولايات المتحدة ، ولسبب غامض ، تعمل للحفاظ على درجة من التوتر الدولي : حالة حرب محدودة ولكن دائمة".
مخططون استراتيجيون أميركيون يدرسون خريطة أوراسيا(الصورة من غوغل

واليوم، سنكتشف أن لتود على مايبدو العديد من الأنصار في هذا التحليل.
فمركز الأبحاث "غلوبال ريسشرش" عزف الأنغام التودية نفسها مؤخراً، حين اعتبر أن نار  الحرب الأهلية السورية هي مجرد جزء من حريق ضخم في العديد من مناطق قارة أوراسيا، هدفها الرئيس تغطية الانحدار الاقتصادي الأميركي وتبرير استمرار الهيمنة الأميركية على العالم.
الدراسة كانت بعنوان: سيناريو إسرائيلي- أميركي: قسِّموا سورية، قسِّموا كل شيء" (*)، وهي تضمنت الأفكار الرئيسة التالية:
- عدم ممانعة أميركا لتقسيم سورية، هو جزء من محاولاتها لتقسيم قارة أوراسيا والحفاظ على تفوقها كقوة عظمى. واشنطن لارحمة لديها لا لأصدقائها ولا لخصومها، وبلدان مثل تركيا والسعودية ستستخدم في خاتمة المطاف كجنود يمكن الاستغناء عنهم.
- الاستراتيجيون الأميركيون يريدون أن تتحوّل المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى القوقاز وآسيا الوسطى والهند، إلى ثقب أسود من الحروب، أو لما وصفه بريجنسكي بـ"بلقنة أوراسيا".
- العرب والإيرانيون والأتراك يتجهون إلى نزاع رئيس، لأن الولايات المتحدة تخسر وضعيتها كقوة عظمى. إذ كل ماتبقى من عناصر القوة لدى هذه الدولة العظمى هي القوة العسكرية. وهكذا كان الأمر نفسه في الاتحاد السوفييتي في أيامه الأخيرة، فهو امتلك القوة العسكرية لكنه كان يعاين اضطرابات اجتماعية وانحداراً اقتصادياً قبل انهياره.
 الوضع في أميركا الآن غير مختلف كثيراً عن الوضع السوفتييتي، إن لم يكن أسوأ: فواشنطن مفلسة، ومنقسمة اجتماعياً، ويزداد فيها الاستقطاب العنصري، ونفوذها الدولي ينحدر بسرعة. لكن النخب الأميركية مصممة على مقاومة مايبدو أكثر فأكثر أنه خسارة لوضعية القوة العظمى وللإمبراطورية الأميركية.
- يبدو أن إشعال النيران والفتن في أوراسيا هو رد واشنطن على وقف انحدارها. وهي تخطط لحرائق كبرى تمتد من المغرب وحوض البحر المتوسط إلى حدود الصين. وهذا التوجّه بدأ حتى قبل ثورات الربيع العربي، حين عمدت الولايات المتحدة إلى خلق عدم الاستقرار في ثلاث مناطق: آسيا الوسطى (مع حروب أفغانستان)، والشرق الأوسط(مع حصار ثم غزو العراق)، وشمال إفريقيا(مع تقسيم السودان).
- II -
هل ثمة مبالغات ما في هذه المحصلات؟
لايبدو أن الأمر كذلك.
فعلى رغم أن الولايات المتحدة انسحبت من العراق وتستعد للخروج العسكري نهائياً من أفغانستان، إلا أنها تستعيض عن ذلك بتوجهين إثنين: الأول، الاستعداد لمجابهات عامة في منطقة آسيا- الباسيفيك من خلال استراتيجية "الاستدارة شرقاً" (Pivot strategy ) التي أشرنا إليها قبل أيام في هذه الزاوية. والثانية، "النأي بالنفس" عن أي سياسات قد تؤدي إلى الاستقرار في الشرق الأوسط، سواء من خلال تسوية النزاع العربي- الإسرائيلي المديد، أو عبر مساعدة ثورات الربيع العربي على تخطي المراحل الانتقالية الصعبة إلى الديمقراطية، أو أخيراً من خلال العمل على إطفاء الحريق السوري الذي قد يتحوّل قريباً إلى حريق إقليمي شامل يبتلع العراق ولبنان وبقية المشرق وربما أيضاً إيران وتركيا.
وفي حال تواصلت هذه التطورات على هذا النحو، ستتتراقص كل قارة أوراسيا بالفعل على شفير ذلك الحريق الكبير الذي اتهم تود وغلوبال ريسيرش الولايات المتحدة بإشعاله، كوسيلة للحفاظ على دورها العالمي.
لا بل أكثر: ألمحت صحيفة "فايننشال تايمز" الرزينة مطلع هذا الشهر (4 شباط/فبراير الحالي) إلى أن واشنطن تبدو غير متضايقة من تصاعد النزعات القومية المتطرفة في كل من اليابان والصين، "الأمر الذي جعل ظلال الحرب العالمية الأولى العام 1914 تخيّم فوق منطقة الباسيفيك"، على حد قولها.
- III -

على أي حال، الرئيس الأميركي أوباما آت إلى الشرق الأوسط خلال الشهر المقبل. وهذه ستكون مناسبة جلى لاختبار مدى صحة أو خطل كل هذه الاستنتاجات.
فإذا ما أدّت الجولة إلى دفع المنطقة نحو الحلول السياسية والتهدئة، ستكون هذه إشارة إلى أن الاتهامات لواشنطن بإشعال الحرائق في أوراسيا لاتعدو كونها صفحة أخرى من كتاب نظرية المؤامرة. أما إذا حدث العكس، فستكون الاتهامات لها صفحة أخرى ولكن من كتاب آخر يدور حول "مؤامرة" حقيقية لانظرية.
( *) Global research: Israeli- us script: Divide Syria, Divide the rest.
14 August 2012

سعد محيو

الأحد، 24 فبراير 2013

ما "السر الدولي" وراء انفجار المنطقة العربية؟(الحلقة -2)



- I -
استعرضنا بالأمس الأفكار الرئيسة في كتاب إيمانيل تود المشوَّق "مابعد الامبراطورية"، وأبرزها قوله:  "كل شيء يدل على أن الولايات المتحدة ، ولسبب غامض ، تعمل للحفاظ على درجة من التوتر الدولي : حالة حرب محدودة ولكن دائمة" ، وتساءلنا: أين يتركنا كل ذلك؟
ليس هناك، برأي المؤلف، تفسير مُرضٍ للسلوك الاميركي ،الذي كان إمبريالياً حميداً  بعيد الحرب العالمية الثانية، عدا ذلك الذي يقول بأن الولايات المتحدة باتت تشعر بأنها لم تعد مفيدة للعالم. وهذا يمكن أن يفسر قلقها وتوتر بعض  توجهات سياساتها الخارجية. تهميش أميركا قد يكون مفاجئاً لعالم يعيش وهم القوة الاميركية الطاغية. لكن ، هذه هي الحقيقة : اميركا التي لم يعد في وسعها العودة الى العزلة ، تخشى الانعزال في عالم لم يعد يحتاجها .
 خوف أميركا من الانعزال ليس أمراً مستجداً. فحتى حين كان تعيش في عزلة في القرن التاسع عشر، إلا أن هذا لم يكن إنعزالاً لانها كانت متصلة بالعالم إقتصادياً ومستقلة عنه سياسياً ودبلوماسياً. منذ وقت مبكر، كانت أميركا في حاجة الى المال والعمال المهرة من الخارج، خاصة من اوروبا .
في الحرب العالمية العالمية الاولى، لم تكن الولايات المتحدة في حاجة الى العالم. العالم كان في حاجة إليها. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت اميركا تنتج نصف سلع العالم الأقتصادية، لكن في تلك الفترة بدأت تحولات خطيرة. فنظام العولمة الذي أقامته اميركا في أوروبا واليابان إستناداً الى فتح أسواقها في إطار التجارة الحرة، ادى في النهاية الى تغيير بناها  الداخلية هي نفسها، فأضعف إقتصادها، وشوّه مجتمعها.. وحينها، باتت أميركا معتمدة على العالم بدل أن يكون العكس هو الصحيح. العجوزات التجارية الاميركية بدات بالظهور في السبعينات، وأصبحت منذ ذلك الحين معلماً بارزاً من معالم الأقتصاد العالمي .
سقوط الشيوعية أدى الى تسارع الأعتماد الاميركي على العالم. فبين 1990 و2000 قفز العجز التجاري الاميركي من 100 الى 450 مليار دولار. وفي بداية القرن الحادي والعشرين، لم يعد في وسع اميركا ان تعيش مما تنتج. وهنا نشأت المفارقة: في الوقت الذي كانت فيه بقية دول العالم تستقر بفضل التقدم في الصحة والتعليم والديموغرافيا والديموقراطية فتصبح غير معتمدة على أميركا، لم يعد في وسع هذه الأخيرة العيش من دون العالم.
لكن مهلاً. إذا ما كانت الولايات المتحدة إنحدرت الى درجة كبيرة كقوة إقتصادية، إلا انها نجحت الى حد كبير في إمتصاص ثروات الأقتصاد العالمي. وهذا مايدفعها الى القتال سياسياً وعسكرياً للحفاظ على هينتها بصفتها قوة لايمكن الأستغناء عنها في  العالم. وهذا الان يطرح المشكلة الاتية بالنسبة للعالم: كيف يمكن التعاطي مع قوة عظمى معتمدة على غيرها إقتصادياً، لكنها أيضاً بلا فائدة سياسياً ؟.
- II -

هذه التطورات في السياسة الخارجية ترافقت مع أخرى لاتقل خطورة في الداخل الاميركي. فالمجتمع يتغير الى نظام لا مساواتي الى حد كبير. وهذه نقطة اوضحها بجلاء الكاتب الاميركي مايكل ليند في كتابه " الأمة الاميركية الجديدة "، والتي ركَّز فيها على بروز طبقة فاحشة الثراء تمسك بكل مفاصل الأقتصاد الاميركي، وتعيد توجيه السياسات الأقتصادية بما يكرسّ اللامساواة الى حد كبير. وهذا  مايضعف الأن الديموقراطية الأميركية، في الوقت ذاته الذي تتقدم فيه هذه الديموقراطية في العالم .
إن إنتقال الولايات المتحدة الى  الأوليغارشية ( حكم الأقلية ) المتطرفة، يدفع الى توقُّع قيامها بمارسات عدوانية ومغامرات عسكرية أكثر خطورة. لا بل لايمكننا الأن إستبعاد أن تشن هذه الأعتداءات حتى على دول ديموقراطية، لان النخب الأوليغارشية مستعدة لأشعال الحروب بين الديموقراطيات.
العالم ، إذا ، يقف أمام تناقضين: الاول الاعتماد الأقتصادي الأميركي الجديد على العالم، والثاني التوزيع الجديد للطاقة الديموقراطية في كل انحاء العالم ،خاصة في قارة أوراسيا .
وحالما نضع هذه التطورات بعين الاعتبار ، نستطيع أن نفهم بعض أسباب غرابة التصرفات الأميركية. فبما أن الديموقراطية تضعف في داخل أميركا نفسها، سيكون من الصعب على هذه الأخيرة الدفاع عنها في العالم. الأولوية الأولى لأميركا الان هي الحصول على السلع والموارد والرساميل  من العالم. وبالتالي ، من الان فصاعداً سيكون هدف الولايات المتحدة هو السيطرة السياسية على موارد العالم.
بيد أن القوة الأقتصادية والعسكرية والأيديولوجية المنحدرة للولايات المتحدة، لاتسمح لها بالسيطرة بفعالية على العالم الذي أصبح شاسعاً، وكثير السكان، ومتعلماً، واكثر ديموقراطية. وإخضاع العقبات الحقيقية أمام الهيمنة الاميركية (أساساً اللاعبين الأستراتيجيين الآوروبيين والروس واليابانيين والصينيين) هي ببساطة مهمة مستحيلة. سيكون على أميركا بشكل متزايد التفاوض مع هذه القوى، والرضوخ لها في كثير من الأحيان.
لكن في نهاية المطاف، سيكون على الولايات المتحدة العثور على حل، سواء أكان حقيقياً أو متخيلاً ، لتبعتيها الأقتصادية المقلقة للعالم.
حتى ذلك الحين، ستفعل الولايات المتحدة كل ما في سعها للبقاء كمركز للعالم، خاصة القيام بنشاطات عسكرية درامية تتمحور حول ثلاثة امور :
1=  عدم حل أي مشكلة بشكل نهائي، لتيرير سلسلة لاتنتهي من العمليات العسكرية في كل انحاء العالم من جانب الدولة العظمى الوحيدة  
2- تركيز كل الطاقات على الدول الضعيفة كالعراق وإيران وكوريا الشمالية وكوبا .. الخ ، بهدف إستعراض القوة الأميركية ومنع الدول الكبرى الأخرى من التفكير بالقيام بأدوار ما . وهذه الدول هي أوروبا واليابان وروسيا والصين .
3- تطوير أنظمة أسلحة جديدة يتم تسويقها أعلامياً على أنها دليل التفوق الكاسح الاميركي ، في إطار سباق تسلح لا نهاية له.
مثل هذه الأستراتيجية تجعل الولايات المتحدة بشكل غير متوقع عقبة في طريق السلام العالمي. لكن ليس ثمة ضرورة هنا، برأي تود، للأصابة بالهستيريا حول بروز إمبراطورية أميركية ، لأن هذه الاخيرة في الحقيقة في طور التفكك لا الصعود.
- III -
ماذا الأن عن اميركا والعالم العربي – الأسلامي ؟.
يرى المؤلف ان التطرف الراهن في هذا العالم الأسلامي  ليس امراً مفاجئاً، بل هو مجرد أزمة إنتقالية مؤقتة ناجمة عن التمزقات التي تسببها الحداثة. لا بل هو يرى ان العالم الأسلامي يتقدم على الجبهتين اللتين ستخرجانه من الأزمة،  وهما إنتشار التعليم وإنخفاض معدلات الولادة .
 النموذج هنا هو ماليزيا التي بلغت نسبة التعلم فيها 88 في المائة ، وهو يرى ان إيران إقتربت كثيراً لهذين السببين من مصيرها الديموقراطي. لكنه يتوقع إضطرابات في السعودية وباكستان .
ويلاحظ الكاتب ان معظم العنف العسكري الاميركي موّجه ضد العالم الأسلامي ، للأسباب الأتية :
1-     العرب والمسلمون باتوا " الاخر " في العلاقات الخارجية الأميركية ، تماماً كما ان الزنوج والمكسيكيين من أصل هندي أحمر كانوا "الآخر" في داخل المجتمع الأميركي. وهذا ترجم نفسه إنحيازاً اميركياً مطلقاً لأسرائيل
2-     وجهود هوس الاميركي بالسيطرة على النفط العربي، بهدف إحكام الخناق على أوروبا واليابان والصين التي تعتمد عليه كلياً .
3-      رغبة أميركا في ضرب قوى ضعيفة لأبراز مدى قوتها الهائلة. والدول العربية والأسلامية نموذج مثالي لذلك بسبب ضعفها .
هل تنبؤءات تود في محلها ؟.
الثغرة الكبرى في تحليلاته  تكمن في إغفاله الكلي تقريباً للأنقلابات التاريخية الكبرى التي تجري على الساحة الآسيوية، والتي بدأت تؤثر بشكل مباشر على ميزان القوى الدولي. صحيح انه يهتم بدور اليابان ، لكنه يغفل دور الصين، ومعها الهند ونمور جنوب شرق آسيا التي باتت الان " الموتور " الحقيقي لأقتصاد العالم.
وفي خضم تنبؤاته لاحتمال قيام حلف روسي – اوروبي قد  ينسف أسس الزعامة الاميركية في العالم، يسقط المؤلف  إمكانية قيام حلف اميركي – آسيوي في حوضي الباسيفيك والمحيط الهندي، قادر على قذف القارة الاوروبية الى قاع التاريخ .
إضافة ، لايهتم تود بالقضية الخطيرة المتعلقة بالروابط بين ظاهرة تغّير المناخ وبين إنفلات الرأسمالية من عقالها. وهي القضية التي ستسيطر قريباً على جداول الأعمال الدولية بصفتها العامل الأسترايتجي الأهم .
لكن ، وعلى رغم هذه الثغرات ، يشكّل كتاب تود إضافة نوعية الى تلك التحليلات التي تحاول الذهاب الى أبعد من التصورات الراهنة للدور الاميركي الكاسح  في السياسة الدولية .
(غدا الحلقة الثالثة: تحليل Global Research لتطورات المنطقة
في إطار السياسة الأميركية والدولية)

( * )Emamnuel Todd. After The Empire: The Break Down of The Amercican Empire.Columbia Unibersity Press.NewYork.)


السبت، 23 فبراير 2013

ما "السر الدولي" وراء انفجار المنطقة العربية؟



بين أيدنا ثلاث دراسات استراتيجية قيّمة يمكنها أن تسكب الكثير من الضوء على خفايا وأسرار مايجري هذه الأيام في المنطقة العربية، من تفكك دول كسورية والعراق ولبنان والسودان، إلى انهيار دول أخرى كمصر وليبيا إلى حد ما تونس، في إطار ماأطلق عليه المفكر جورج قرم في وقت مبكر "انفجار المشرق العربي".
الدراسة الاولى للفرنسي إيمانويل تود، والثانية نشرت في دورية "فورين أفيرز" والثالثة في موقع "غلوبال ريسيرش".
نبدأ مع الدراسة الأولى:
- I -
إيمانويل تود فيلسوف وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي  كان أول من تنبأ بأنهيار الاتحاد السوفييتي في وقت مبكر من حقبة السبعينات . وهو إستند في ذلك الى معطيات ديموغرافية  أهمها ملاحظة التزايد النسبي لوفيات الأطفال في الاتحاد السوفييتي  الأمر الذي دفعه الى مراكمة سلسلة ملاحظات اخرى حول مناحي الضعف في الأقتصاد والمجتمع السوفيتيين .
في كتابه الجديد " ما بعد الأمبرطورية : إنهيار النظام الأميركي" (*)  يتقدم تود بنبوءة أخرى  لكنها تتعلق هذه المرة بالولايات المتحدة وبدورها كقوة عظمى وحيدة في العالم
1-   فهو يرى ان الولايات المتحدة تحولت منذ ثمانينيات القرن العشرين، ثم بالتحديد في الفترة بين 1990 و2000، من دولة منتجة وصناعية ومكتفية ذاتياً، الى دولة مستهلكة غير منتجة ومعتمدة على العالم صناعياً ومالياً.
2-   وهو يفسر المحاولات الاميركية لأقامة إمبراطورية عسكرية وسياسية على أنها دليل ضعف لا قوة . إنحدار لا صعود . فأميركا تحاول عبر سلسلة الحروب التي تشنها ضد الأطراف الضعيفة في العالم ( أفغانستان  العراق  تنظيم " القاعدة " ) إرهاب القوى الكبرى الرئيسة في العالم ( أوروبا  اليابان  روسيا  الصين )  والأثبات لها بأنه لا غنى عن دورها للحفاظ على أمن النظام الأقتصادي
 العالمي .
3-   وهو يقول أن أميركا لن تنجح في النهاية في إقامة هذه الأمبراطورية لأنها تفتقد الى اهم عناصر بناء الأمبرطوريات: القدرات المالية والأقتصادية الكافية لتمويل التوسع الأميراطوري ؛ الأيديولوجيا العالمية القادرة على إستيعاب كل دول العالم الأخرى بوصفها قوى  متساوية الحقوق  كما فعلت الأمبراطورية الرومانية ؛ وأخيراً العجز عن إرضاء القوى الكبرى الأخرى.
وتبعاً لذلك  يتوقع تود إنهيار النظام العالمي الاميركي عبر أحد طريقين : إنفصال محور فرنسا- المانيا واليابان وروسيا ( أي القوى الرئيسة في قارة أوراسيا ) عن الزعامة الأميركية وتشكيل تحالف مستقل ضدها . أو كساد كبير في البورصة المالية الاميركية سيكون أضخم بكثير من إنهيار العام 1929 .
هل تنبؤات هذا الفيلسوف في محلها هذه المرة ؟.
سنأتي الى ها السؤال بعد قليل . لكن قبل ذلك  فلنستعرض معاً الأفكار الرئيسة في فصول هذا الكتاب المهم .
- II -

في المقدمة  يسارع المؤلف الى الاعلان بأن الولايات المتحدة التي كانت تعتبر حلالة المشاكل خلال سنوات طويلة  باتت الان هي المشكلة بالنسبة لباقي العالم. إذ بعد أن كانت الضامن للحرية السياسية والنظام الأقتصادي لمدة نصف قرن  يبدو الأن أكثر فأكثر أنها تساهم في خلق الفوضى العالمية عبر الحفاظ حيثما إستطاعت على الشكوك والنزاعات.
فهي تواجه دولاً صغيرة كأيران والعراق وكوريا لا تشكل خطراً عليها. وهي تستفز روسيا في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا  وتقيم قواعد عسكرية لمحاصرتها في آسيا الوسطى. هذا في حين يهدد البنتاغون بإستخدام الأسلحة النووية التكتيكية لفرض الأرادة الاميركية على الجميع . بإختصار، أميركا تمارس سياسة " الرجل المجنون " لأرهاب الجميع .
الاوروبيون لا يفهمون أسباب رفض أميركا حل النزاع الفلسطيني – الأسرائيلي  برغم مقدرتها التامة على ذلك . وهم بدأوا يتساءلون ما إذا كانت واشنطن تتعمد إبقاء بؤرة توتر دائمة في الشرق الاوسط  ودفع العالم الأسلامي لمعاداة الغرب . وهم يرون في تضخيم حجم تنظيم " القاعدة "  مجرد تبرير لشن العمليات في أي مكان في العالم . إن رفع الأرهاب الى درجة القوة العالمية  يبرر مأسسة حالة حرب دائمة في كل أنحاء الكرة الأرضية . حرب عالمية رابعة  وفق بعض المحللين الأميركيين . كل شيء يدل على أن الولايات المتحدة  ولسبب غامض  تعمل للحفاظ على درجة من التوتر الدولي : حالة حرب محدودة ولكن دائمة .
- III -
أين يتركنا كل ذلك في المنطقة العربية - الإسلامية ؟.
(غدا نتابع)

سعد محيو

(*) Emamnuel Todd. After The Empire: The Break Down of The Amercican Empire.Columbia Unibersity Press.NewYork.)

          

الجمعة، 22 فبراير 2013

هل ثمة نهاية للحرب بين العلم والإيمان؟


- I -
من تسنى له قراءة كتاب فرانسيس كولينز، رئيس الفريق الذي فك رموز التركيبة الجينية البشرية، المعنون " لغة الله"، سيتبادر إلى ذهنه فوراً فكرة واحدة: عظمة الجهود التي بذلها فلاسفة الحضارتين الإسلامية والآسيوية الشرقية لمصالحة الفلسفة والشريعة، أو العلم والدين.
العلم والإيمان: متى يلتقي القطبان؟( اللوحة من غوغل
 
الفارابي وإين سينا وإبن رشد وإين طفيل، والمعتزلة والأشعرية، والفلاسفة البوذيين والتاويين والفيديين،  كلهم خاضوا غمار مغامرة إنسانية رائعة للتوفيق بين العقل والإيمان. وها هو كولينز بعد ألف عام من هذه الإشعاعات الشرقية المشرقة يسير على الدرب نفسه، معلناً أن الإيمان بالله يمكن ان يكون خياراً منطقياً وعقلياً بالكامل" ، وان " الإيمان مكَمل لمباديء العلم" .
هاتان المقولتان تبدوان بديهتين في الشرق. لكنهما تعتبران في الغرب ثورة كبرى، لانه منذ ان أثبت كوبرنيقوس أن الأرض تدور حول الشمس لا العكس، ومنذ محاكمة غاليليو الشهيرة امام محكمة التفتيش الكنسية، وجد المنهج العلمي الغربي نفسه في حالة صدام مروَع مع المسيحية.
ماذا في جعبة كولينز، الذي يعتبر الان أشهر عالم في العالم؟
- II -

إنه يقول أن الجينوم البشري الذي يتألف من الحمض النووي لجنسنا، أي الشيفرة الوراثية للحياة، يتكون من نحو 3 مليارات حرف مكتوبة بلغة غريبة ومشفَرة، وهي برأيه "تعطينا لمحة سريعة عن عقل الله".
هو لاينفي نظرية داروين حول التطور والإنتخاب الطبيعي، لكنه يقول أنه يؤمن بـ" التطور الإلهي" الذي يعتبر الإنتخاب الطبيعي هي الوسيلة التي قرر فيها الله خلق الإنسان.
وهو يشَدد على أن التوفيق بين وجهتي النظر العلمية والدينية ليس مستحيلاً، او بأنه أشبه بمحاولة إجبار قطبي المغناطيس على التواجد في مكان واحد، كما يقول الكثيرون. فالغالبية الساحقة من البشر تؤمن بوجود الله، لكن هذا لايمنعها من إستخدام اختراعات العلم مثل السيارة والطائرة والكومبيوتر والكهرباء، ومن الإستماع إلى التقارير حول توقعات الطقس .
كولينز لايعتقد فقط أن التوفيق بين النهجين ممكن فقط بل هو ضروري أيضاً. يقول: "ليس هناك تناقض بين أن يكون المرء عالماً عقلانياً وبين أن يؤمن بالله. فالعلم هدفه إستكشاف الطبيعة، والإيمان هدفه إستكشاف العالم الروحي الذي  لاتستطيع ادوات العلم الوصول إليه. فالعلم يقف لاحول له  ولاقوة أمام أسئلة مثل " لماذا بزغ الكون إلى الوجود؟ " و "ما معنى الوجود البشري" و"ماذا يحدث بعد موتنا؟. ومثل هذه الأسئلة تقود مباشرة إلى الإيمان بوجود قوة إلهية لايحدها الزمان أو المكان او المادة. قوة تهتم شخصياً بالجنس البشري".
بالطبع، ليس كولينز فريد عصره بين العلماء في إعلان إنحيازه للإيمان بوجود الله. فإسحق نيوتن، الذي أعاد إكتشافه لقوانين الجاذبية تشكيل فهمنا للكون، قال: "  هذا النظام( الكوني) الأكثر جمالاً،  لايمكن أن يصدر سوى عن كائن قوي وذكي". وألفرد إينشتاين، الذي أحدث ثورة في كيفية إطلالتنا على مسائل الزمان والمكان والجاذبية وتحَول المادة إلى طاقة، كان يؤمن بأن للكون خالقاَ، وأن مقاربة كيفية تفكير الله هو الاهم" والباقي تفاصيل".
بيد ان تميَز كولينز عن رفاقه العلماء هو انه يريد، وبإلحاح، إنهاء " الصراع التاريخي الدامي" بين العلم والإيمان. فهل ينجح؟
- III -

المهمة تبدو صعبة للغاية في غرب يتخندق فيها العلميون والمؤمنون في جبهتين يفصل بينهما نهر من نار. وهو سيتعرض، بل بدأ يتعرَض، إلى إطلاق نار غزير من كلا الطرفين. فالعلميون يتهمونه بخيانة قوانين العلم بسبب دمجه ما هو مادي يمكن التحقق منه بالتجربة، بما هو روحي غير خاضع إلى لتجربة والتمحيص. والمؤمنون يدينونه بـ" تهمة" الإعتراف بنظرية التطور التي يعتبرونها " أكبر واخطر كذبة في العصور الحديثة" ، على رغم انه إعتبر التطور " أداة الله في الخلق ".
وربما يفعل كولينز خيراً إذا ما إستنجد بفلاسفة الإسلام. فالفارابي وإبن سينا سيوفران له الحجج  عن عدم تناقض الشرع( إقرأ الأيمان) والفلسفة( إقرأ العلم)، وإبن طفيل سيَدله على الكيفية التي تدير فيها العناية الإلهية عملية التطور. هذا في حين أن مجادلات فرق المعتزلة والأشعرية والمرجئة والقدرية والجبرية، ستزوده بكل ما يحتاجه من أسلحة فكرية لخوض معركته التوفيقية الصعبة.
حظاً سعيداً كولينز، مع دعوات فلاسفة الإسلام والشرق الآسيوي لك بالتوفيق، على رغم أنهم هم أيضاَ تعرضوا قبلك إلى صليات تكفيرية أكثر عنفاً وظلامية!

سعد محيو

                                                                               

 

الخميس، 21 فبراير 2013

أوباما والخليج: انقلاب "باسيفيكي- إديولوجي" (الحلقة 4 والأخيرة)



للتواصل المباشر مع الكاتب:

saad-mehio@hotmail.com

-I -
تساءلنا بالأمس(الحلقة الثالثة من "الاستراتيجية الأميركية"): هل ثمة تأثيرات لسياسة "الاستدارة" الأميركية(Pivot ) نحو آسيا على توجهات واشنطن في الشرق الأوسط؟
 مرسي وكلينتون: حلف أميركي مع "إسلام سياسي جديد" (الصورة من غوغل




والجواب:  نعم، حتما.
فالولايات المتحدة تعتبر أصلاً أن منح الأولوية في سياستها الخارجية لمنطقة آسيا-الباسيفيك، فرضت سحب كل قواتها من العراق وأفغانستان وإغلاق ملف الحرب فيهما التي استنزفت الخزينة الأميركيةبمبلغ تجاوز التريليوني دولار.
وبالطبع، حين تقرر واشنطن الانسحاب من هاتين الحربين ونقل الموارد منهما إلى منطقة الباسيفيك، لايتوقعن منها أن تنغمس في وقت قريب في حروب أو نزاعات أخرى في الشرق الأوسط، إلا إذا ما تطلّب الأمن القومي ذلك أو تعرَّض وجود إسرائيل إلى تهديد خطير.
وهذا بالتحديد، على أي حال، ما فعلته إدارة أوباما خلال السنتين الماضيتين:
-  فهي لم تلعب في حرب إسقاط القذافي سوى دور داعم لفرنسا وبريطانيا. لا بل لم تتدخل عسكرياً هناك، إلا بعد أن بدا واضحاً أن حليفتيها غير قادرتين على حسم الأمور بمفردهما.
- وهي رفضت التدخل ضد الجهاديين الإسلاميين في مالي، وقذفت العبء كله على الطرف الذي له أكبر المصالح في الموارد الطبيعية لمنطقة الساحل الإفريقية: فرنسا.
- ثم أنها (الإدارة) قاومت كل الضغوط التي مارستها عليها كل المؤسسات الأميركية تقريباً، من البنتاغون إلى السي.أي. آي ووزارة الخارجية، لتزويد بعض أطراف المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة، خوفاً من أن يقودها ذلك إلى التورط بالتدريج في الأزمة السورية.
-II -

باراك أوباما بعد العراق وأفغانستان، يفعل تماماً مافعله ريتشارد نيكسون بعد فيتنام، حين عمد هذا الأخير إلى تقليص الالتزامات الأمنية- العسكرية الأميركية المباشرة في العديد من بقاع العالم و"لزّمها" إلى قوى إقليمية موالية للولايات المتحدة شاه إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط، والبرازيل في أميركا اللاتينية، وتركيا في البلقان وآسيا الوسطى، وحلف الأطلسي في أوروبا، وجنوب إفريقيا والمغرب في القارة السمراء.
والأن يُتوقع أن يفعل أوباما الأمر نفسه في الشرق الأوسط، الذي كان محور الاهتمامات المركزية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة العام 1991. فهو سيعتمد أكثر فأكثر على تركيا في منطقتي الشرق الإسلامي (الدول العربية ودول آسيا الوسطى)؛ وسيكون مهتماً أكثر من أي وقت مضى بدمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية من خلال دفعها إلى التحالف مع الدول العربية و(مجدداً) مع تركيا؛ وسيواصل العمل على "تفليس" إيران وتجويعها بهدف دفعها في نهاية المطاف إلى الجثو على ركبيتها، أو التعرُّض إلى الانفجار من داخلها.
وكل ذلك بهدف تقليص الأعباء الأميركية في هذه المنطقة، ونقل الموارد الضخمة التي خصصت لها في السابق إلى منطقة آسيا- الباسيفيك.
-III -
بالطبع، هذا لايعني أن أميركا ستدير الظهر للشرق الأوسط. فطالما أن هناك قطرة نفط واحدة هناك، ستبقى هذه المنطقة، كأمن قومي أميركي، على رأس الأولويات الأميركية، بسبب الدور الكبير للنفط في تحديد من سيكون الأقدر على الإمساك بقارة أوراسيا من عنقها.(ومن يمسك بهذه القارة يحكم العالم).
وبالمثل، طالما أن إسرائيل باقية على خريطة الشرق الأوسط، ستكون إي إدارة أميركية ملزمة بالاهتمام بهذه المنطقة لاعتبارات محلية أميركية، واستراتيجية عامة، وأمنية.
لكن هذه الاستمرارية في الاهتمام لن تعني أنه لن يكون هناك تلاويين جديدة في السياسة الأميركية الشرق أوسطية، خاصة في مايتعلق بمنطقة الخليج العربي.
فعلى رغم أن أميركا ستبقى اللاعب الإقليمي الرئيس في الخليج، إلا أنها ستكون حريصة على ألا تتوسع مظلتها الأمنية ضد الخصوم الخارجيين الذين يهددون دول المنطقة لتصبح تورطاً غير مرغوب فيه في النزاعات الداخلية التي قد تنشب في هذه الدول.
البحرين نموذج أوّلي على هذا التطور. فعلى رغم أن واشنطن لم تقف علناً إلى جانب الانتفاضة الشعبية البحريينية، إلا أنها لم تقف أيضاً إلى جانب الحل الأمني- المخابراتي الذي تبنَّته الحكومتان البحرينية والسعودية، وواصلت المطالبة بحل سياسي للأزمة. وهذا موقف لم يكن متصوراً من جانب واشنطن.
هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لاتقل أهمية. أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر لم تعد أميركا ماقبلها. فقد انهارت عملياً (وإن ليس علنا) الصفقة التاريخية بين الإسلام السياسي السعودي وبين الولايات المتحدة التي أبرمها الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز، مع انهيار برجي مركز التجاري العالمي، وحلّت مكانها رغبة أميركية في تشجيع ودعم إسلامي ليبرالي (على النمط التركي والإندونيسي) في كل أنحاء الشرق الأوسط، إضافة إلى رغبة أخرى في تحويل طاقة الجهاديين من الحروب ضد الغرب إلى حروب أهلية داخلية إسلامية.
وبالتالي، في حال برزت حركات إسلامية ليبرالية أو معتدلة في السعودية وباقي دول الخليج،(كما في دول الربيع العربي) وبدأت حملة شعبية للمطالبة يإصلاح النظام، لن تكون واشنطن في وارد معارضتها، إن لم نقل إنها قد تفكّر في دعمها على حساب تحالفاتها القديمة.
هنا، وفي هذه النقطة بالتحديد، نلمح التقاطع بين سياسة الاستدارة نحو آسيا- الباسيفيك التي تتضمن، كما ألمعنا، تقليص النفقات والالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط، وبين الرغبة الاميركية في "إسلام سياسي جديد" يقوم هو بالتصدي للإرهاب الجهادي، وينجح في خلق الاستقرار السياسي والإديولوجي في هذه المنطقة الحساسة.
إنها، بكلمات أخرى، وكالة إقليمية جديدة في هذه المنطقة، شبيهة إلى حد بعيد بوكالات نيكسون الإقليمية السابقة. الإسلام السياسي هنا هو نفسه، لكن ألوانه وتفصيله اختلفت.
لكن في التفاصيل يكمن "الشيطان"، كما يقال!
سعد محيو