-
I -
هل بدأت "محاكم التفتيش" الدينية المرعبة عملها
في المنطقة العربية-الإسلامية؟
الكثيرون يعتقدون ذلك، أو هم على الأقل يخشونه. فمن
اغتيال الزعيم اليساري التونسي شكري بلعيد إلى تكفير شيخ سلفي مصري لقادة جبهة
الانقاذ المصرية والدعوة إلى قتلهم، مروراً بموجة الإرهاب والترهيب التي يشنّها
متطرفون سلفيون في كل مكان تقريبا من مالي وليبيا ونيجيريا(حيث يجري تدمير كل
التراث الإنساني) إلى السعودية ومصر وتونس ولبنان (حيث ترويع من هو من غير
"الفرق الناجية من النار") (...)، ثمة نغمة واحدة سائدة هذه الأيام:
التكفير والقتل.
وهذا يذكّر بالفعل بمحاكم التفتيش المسيحية في أوروبا
التي خلقت قروناً وسطى داكنة، مارس فيها المتعصبون ورجال الدين شتى أنواع القتل والتعذيب
والاضطهاد باسم الرب والشرائع الدينية، فساد القارة العجوز ظلام دامس ومكفهر دام
قروناً طويلة.
الفكر في أوروبا القروسطية كان جريمة وارتداداً عن
الدين. والحرية كانت كفرا. والمرأة رأس أفعى يجب قطعه (وبالفعل تم شنق وإحراق
وتعليق 5 ملايين إمرأة على الخوازيق بتهمة السحر). والأرض يجب أن تبقى ثابتة
لاتدور كما جاء في الكتاب المقدس، حتى ولو أثبت العلم مع كوبرنيقوس وغاليليو و
أنها مشاكسة وتُصر على الدوران.
حصيلة القرون الوسطى الدينية في أوروبا كانت مريعة:
فإضافة إلى اقتل وتعذيب واضطهاد الملايين باسم الله، كانت سيطرة التعصب الديني على
جداول الأعمال تؤدي إلى حروب داخلية وخارجية مدمرّة أسفرت في ألمانيا وحدها عن
فناء نصف شعبها، وفي فرنسا عن قتل 100 ألف بروتستانتي في ليلة باريسية واحدة، وفي
الشرق الأوسط عن مجازر صليبية مروّعة دامت قرنين متصلين من الزمن تحت شعار تجسيد
""مملكة السماء" على الأرض.
من هذا الظلام ولد نور عصر الأنوار في القرن السادس عشر،
وقام الأوروبيون منذ ذلك الحين برد فعل عنيف ضد الدين نفسه، فانحسر الإيمان
بالمسيحية إلى درجة الانقراض (حتى الآن 5 % فقط من الأوروبيين الغربيين يرتادون
الكنائس)، وشهدت مدن مثل ليون وباريس وروما تظاهرات ضد الله نفسه، بعد أن تم ربط
الإيمان بالله بالكفر بالكنيسة.
-II
-
هل ستسير المنطقة العربية- الإسلامية الآن على خطى
المنطقة الأوروبية المسيحية، فيؤدي الرعب والظلام الدينيين الزاحفين إلى رد فعل ضد
الإسلام نفسه في نهاية المطاف؟
الخطر قائم بالفعل، خاصة بعد أن نقل التكفيريون معركتهم
بعيداً عن صدر أميركا والغرب وقريباً من نحر شعوبهم. وفي هذا الإطار، قد لاتكون
هجمات 11 سبتمبر في أميركا سوى ألعاب أطفال إذا ما قورنت بما قد يفعله السلفيون
المتطرفون ضد أهلهم وناسهم في الداخل.
وهنا، ستتحمل حركات الإخوان المسلمين المسؤولية الكبرى
عن احتمال سقوط العالم العربي- الإسلامي في هذه الوهدة. إذ في حال واصلت هذه
الحركات نهجها الراهن القائم على استرضاء التيارات السلفية المتطرفة على حساب
الوحدة والهوية الوطنيين، مستقوية بحلفها المستجد مع أميركا، فستكون الحصيلة
المحتمة إطلاق جن التعصب والتطرف من قمقمه، وتدمير كل تجارب الانتقال إلى
الديمقراطية، وإشعال حروب أهلية لاتنتهي في كل أو معظم المجتمعات الإسلامية.
-III
-
بالطبع، الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحد. أو ليس بعد على
الأقل. فالدول الإسلامية الكبرى، على غرار اندونيسيا وتركيا وبنغلادش التي تعد
وحدها نصف مليار مسلم، يحكمها إسلام ليبرالي وديمقراطي، وستكون سداً منيعاً أمام
تقدم جحافل الظلام.
هذا فضلاً عن أن التيار الرئيس في الشعوب العربية-
الإسلامية يتكوّن من مؤمنين رافضين للتعصب
والإرهاب والعنف الديني، بفعل الانتشار واسع النطاق للتعليم بكل مستوياته خلال
العقود الخمسة الأخيرة، وأيضاً بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات التي فتحت
المجتمعات الإسلامية على مداخل الوعي الكوني.
كل هذه العوامل، مضافاً إليها الأولية القصوى لدى الشعوب
لمسألة الخبز والعدالة الاجتماعية، جنباً إلى جنب مع قضية الحرية، ستعطي لوناً
خاصاً مختلفاً للصراعات المجتمعية المقبلة في العالم العربي- الإسلامي.
الإخوان المسلمون، البراغماتيون والباطنيون، لم يلتقطوا
مخاطر التطرف، وهو لازالوا يعتقدون أن أرضاءهم للتطرف السلفي واسترضائهم للأميركيين،
سيكون كافياً لضمان بقائهم السعيد على عرش السلطة السياسية.
بيد أن هذا وهم. فالذئب العنفي والمغلق والمتحرّق للدم
لايميّز بين نعجة سوداء وبيضاء. اليوم قد يلتهم العلمانيين، لكنه غداً سينقض حتماً
على الإسلاميين المعتدلين، وسيمارس الأرض المحروقة ضد كل المجتمع بكل أطيافه.
هكذا فعل في السابق في أوروبا. وهكذا على الأرجح
ماسيحاول فعله الآن.
وإذا ماواصل الإخوان ممارساتهم الانتهازية الراهنة على
حساب متطلبات وشروط مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية (التي يعتبرها المتطرفون كفراً
هي الأخرى) فسيجدون أنفسهم عما قريب (ويبدو عما قريب جداً) واقفين هم أيضاً في قوس محاكم التفتيش، ليس بصفتهم محامين أو مدعين عامين، بل ككفرة أو زنادقة أو منحرفين
عن الدين القويم.
ولاغرو. فمحاكم التفتيش لاتعرف ولاتعترف سوى بلون واحد:
اللون الأسود.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق