للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا
‏إظهار الرسائل ذات التسميات النظام العالمي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات النظام العالمي. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 8 يونيو 2014

العالم ينفجر (الحلقة الأخيرة): حذار احتراق العنقاء.. هذه المرة


- I -
تحدثنا في حلقة الأمس عن رأس العنقاء البيضاء، أي عن الوعي الكوني الجديد. ماذا الآن عن جناحيها: البيئة والنظام الاجتماعي- الاقتصادي الجديد.
في الجناح الأيمن، أي البيئة، سيكون الوعي الجديد على موعد مع انتفاضة شاملة تعيد النظر في كل مايحدث الآن في أربع صقع الأرض من تدمير منهجي للبيئة. هي انتفاضة على الحرب الذي يشنها الإنسان على الطبيعة ليس الآن بل حتى منذ بداية الحضارات البشرية المنظمة مع الثورة الزراعية قبل نحو عشرة آلاف سنة. فكما هو معلوم، أدت الثورة الزراعية إلى بدء اجتثات الغابات، وهي الرئة الرئيس التي تتنفس منها الحياة على الأرض، وضربت نظم وتوازنات بيئية احتاجت الطبيعة إلى مئات ملايين السنين لإيجادها.
ثم جاءت الثورة الصناعية لتدفع هذا اللامنطق البيئي إلى نهاياته الكارثية الحالية، حيث باتت الفلاحة غير العضوية من أكبر القطاعات التي تسهم في عملية الاحتباس الحراري. إذ تنبعث كمية غازات دفيئة أكثر من مجموع ماتطلقه السيارات والشاحنات والقطارات والطائرات مجتمعة من غازات الميثان، المنبعث من الماشية ومزارع الأرز، وأوكسيد النيتروس المنطلق من الحقول المسّمدة، وثاني أوكسيد الكربون الناتج عن إزالة الغابات المطرية لتحويلها إلى أراض زارعية أو مزارع لتربية الماشية. ثم أن الفلاحة غير العضوية هي أكبر مستنزف للموارد المائية العذبة التي باتت شحيحة على كوكب الأرض والتي هي مصدر رئيس للتلوث بسبب تصريف سوائل الأسمدة الطبيعية والسماد الطبيعي في البحيرات والوديان وسائر النظم البيئة الساحلبة الهشة في العالم.(راجع هنا العديد الأخير من "ناشنال جيوغرافيك"). 
والآن، سيصل الضغط على البيئة إلى نقطة الانفجار بسبب الحاجة إلى مضاعفة الانتاج الزراعي أضعاف أضعاف ماهو حالياً، لأن ملياري إنسان سينضمون إلى ركب الأفواه المحتاجة إلى الطعام في أفق العام 2050، ومعهم مليارات المواشي والدواجن التي تحتاج هي الأخرى إلى الغذاء وكميات هائلة من الماء. وهذا سيعني اجتثاث ماتبقى من الغابات، بعد أن أباد الجنس البشري غطاءات نباتية تناهز مساحة أميركا اللاتينية وقارة إفريقيا برمتهما ومعهما مروج أميركا اللاتينية والغابة الأطلسية في البرازيل، فيما يستمر التعدي على الغابات الاستوائية بمعدلات تنذر بالخطر الشديد. ولو أن هذا الجنون الجماعي البيئي يؤدي إلى إطعام نحو مليار جائع في العالم يترنحون الآن على شفا الموت لوُجد لهذا الجنون شيء من المبرر النسبي، لكن الحقيقة أن 50 في المئة فقط من السعرات الحرارية للمحاصيل توجُّه لإطعام الناس في الوقت الراهن، في مايوجّه الباقي إلى إطعام الماشية (نحو 36 في المئة) أو يحوّل إلى وقود حيوي ومنتجات صناعية (نحو 9 في المئة). وفي الوقت نفسه، 25 في المئة من السعرات الحرارية الغذائية في العالم ومايصل إلى 50 في المئة من الوزن الإجمالي للأغذية تضيع أو تفسد أو تُهدر قبل أن تبلغ المستهللك في البلدان الغربية. يحدث جل هذا الهدر في البيوت والمطاعم والأسواق التجارية الكبرى. وفي البلدان الفقيرة يضيع الغذاء في الغالب في مرحلة ما بين المزارع والسوق بسبب سوء وسائل التخزين والنقل.(مرجع ناشنال جيوغرافيك نفسه)
- II -
لم يصدقّ أحد العالم الاميركي جاك هول ، حين أعلن ان مناخ الارض بدأ يتغيّر بالفعل ، وأن قدر الكوارث الكبرى بدأ يطرق أبواب البشرية . بيد أن هول نفسه لم يكن يعتقد ان هذه الكوارث ستكون آنية الى هذا الحد. لكن هذا ما حدث بالفعل. فقد إرتفعت  فجأة حرارة الارض نصف درجة، وتسارع ذوبان مجالد العالم ( الكتل الضخمة من الجليد الدائم ) ، وإختل توازن تيارات المحيط. وما لبثت الامواج البحرية العملاقة (التسونامي)  ان إجتاحت كل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الشمالية، ثم تلاها سريعا عصر جليدي جديد قضى على الحضارة الغربية في نصف الكرة الشمالي، ودفع من نجا من الغربيين للجوء الى أميركا اللاتينية وباقي أنحاء العالم الثالث.
قصة خرافية علمية  أخرى ؟.
أجل. وهي صيغت ، كما هو معروف ، في الفيلم السينمائي " اليوم الذي سيلي الغد " الذي احدث ضجة كبرى في أميركا والعالم. لكن هذا لم يكن كل شيء. فقد برز علماء آخرون غير جاك هول ،( ليس في فيلم سينمائي بل في "فيلم حقيقي") ، ليؤكدوا  علمياً ما ساقه هول كخيال علمي. قال هؤلاء ، في دراسة نشرتها هيئة دراسات القطب الجنوبي البريطانية والمؤسسة الجيولوجية الأميركية:  "معظم مجالد شبه جزيرة القطب الجنوبي، إنحسرت بشدة خلال السنوات الخمسين الماضية بسبب إرتفاع حرارة الأرض. كما أن المجالد الداخلية تذوب بسرعة قياسية وتنحدر بوتائر خطرة نحو المحيط".
وهذا يعني، بكلمات أخرى، أنه لن يطول الوقت قبل ان يتحوّل " اليوم الذي يلي الغد" من شريط سينمائي إلى شريط واقعي.   كما هو يعني ، بكلمات أكثر وضوحاً،  صحة تحذيرات البروفسور البريطاني جيمس لافلوك المتكررة من أن كوكب الارض الغاضب  (الذي يسميه  الام " غايا " لانه يتصرف كمخلوق عضوي واحد) سيحاول قريباً  إعادة التوازن الى الطبيعة عبر تدمير الحضارة ومعظم الجنس البشري.
لماذا يحدث كل ذلك؟ لأن  جنسنا وضع نفسه في حال حرب مع الارض نفسها. ووحدها الكوارث الآن يمكن أن توقف هذه الحرب، التي يُذيب  فيها التلوث الصناعي والزراعي  البشري الاعمى المجالد، ويدّمر المناخ وتوازنات الرياح والمحيطات. العلماء البريطانيون والأميركيون يقولون الآن ان المجالد بدأت تذوب بالفعل، وأنه لن يطول الوقت قبل أن يؤدي إختلاط مياه الجليد العذبة مع مياه البحار المالحة إلى إضطراب تيارات المحيط. والحصيلة؟ إنها قد تفوق كل خيال: بريطانيا قد تتحول إلى سيبيريا جديدة. وهولندا ( أو معظمها ) ستصبح عصفاً صرصراً . وكاليفورنيا ستغدو ملعباً لأعاصير مدمّرة لن تكون امامها تسوناميات آسيا أكثر من ألعاب اطفال. وهذا كله مجرد غيض من فيض، قبل مجيء  عصر جليدي جديد.
- III -

 هذه الحرب العمياء لها جذر واضح: الأنا الأنانية البشرية، والتي تحوّلت عبر التاريخ من منظومة أنانية فكرية فردية إلى منظومات أنانية جماعية في شكل قبائل وطوائف وامم تتسابق على نهش جسد الطبيعة وتمزيقه. هذه الأنا هي التي فصلت الفرد الإنسان عن الكل الحياتي والكوني، واستندت إلى الثنائية الديكارتية القاتلة لوضع هذا الإنسان في حالة حرب دائمة مع أمه الطبيعة. وبالتالي، سيكون هناك من الآن فصاعداً سباق محموم بين بروز الوعي الصافي الجديد الذي سيعلن الصلح والسلام النهائيين مع البيئة، من خلال وضع العلم والتكنولوجيا والانتاج الصناعي والزراعي في خدمة الأولوية القصوى لتوازنات البيئة، وبين الكوارث الطبيعية الزاحفة التي ستُنهي حتماً هذه الحرب لصالح أمنا غايا. هذه الكوارث لن تدمّر الأرض بما هي كوكب آخر من كواكب المجموعة الشمسية، بل ستقضي فقط على قشرة الحياة الرقيقة التي تغطي هذا الكوكب فتجعله أرضاً قفراً مثله مثل الزهرة وعطارد والمريخ وباقي المجموعة الشمسية.
الانتفاضة على الحرب ضد الطبيعة، بهذا المعنى، هي انتفاضة على الذات الإنسانية الحالية أولاً وأخيراً. كتبت ناشنال جيوغرافيك:" الحلول (لأزمة البيئة والغذاء) لن تكون سهلة لأنها تحتاج إلى ثورة في طريقة تفكيرنا. عبر تاريخنا البشري، كثيراً ماكانت أبصارنا وبصائرنا تعمى بسبب رغبتنا الجامحة في الاستزادة من المنتجات الفلاحية بتخصيص المزيد من الأراضي للزراعة وإنتاج المزيد من المحاصيل واستهلاك المزيد من الموارد، في حين أن مانحتاجه هو إيجاد توازن بين انتاج المزيد من الأغذية وبين استدامة الكوكب (أو بالأحرى الحياة على الكوكب) للأجيال المقبلة". وهذا لايمكن أن يتم من دون انتفاضة أولاً ضد الأنا الأنانية الانفصالية، الفردية والجماعية.
من دون جناح هكذا انتفاضة على الوعي القديم التدميري، لن يكون بمقدور العنقاء البيضاء الإقلاع والولادة من جديد، وستكون اليد العليا لجماعات البيئة المتطرفين الذين يدعون إلى تدمير الجنس البشري( مرجع وهوامش وأسماء).
ماذا الأن عن الجناح الثاني للعنقاء البيضاء: النظام الاقتصادي- الاجتماعي الجديد المطلوب بإلحاح؟
يجب القول، أولاً، أن التجارب التاريخية مع الحلول الأنجع للمعضلات البشرية، الفردية منها والجماعية، والتي انتجت كل هذه الجهنمات على الأرض، كانت تتعثر لأنها كانت في الدرجة الأولى نتاج فكر متعثر ومجزأ ومقسَّم. فالمثاليون حاولوا حصر الحلول على المستوى الفكري منذ الفلسفة الإغريقية إلى هيغل، أو الروحية البحت ( الفلسفات الشرقية والصوفية والأديان على أنواعها) أو السايكولوجية (علم النفس الغربي الحديث، ماعدا علم النفس النقدي). والماديون حصروا الحلول على المستوى السياسي (التيارات الماكيافيلية) أو الاقتصادي (الرأسمالية والاشتراكية الستالينية)، فأسقطوا من الاعتبار المهمة الحاسمة المتعلقة بتطوير الوعي والروح الكُليين لدى الفرد والجماعات في كل المجالات الثقافية والتعليمية والفكرية والسايكولوجية.
كما أن كلا الطرفين معاً (ماعدا التيارات الأدبية الرومانسية) أسقطت من هذه الحلول ضرورة إعادة النظر بعلاقة البشر مع أمنا الطبيعة، وبالتالي ساهمت تطبيقاتهما العملية في الدمار الراهن والشامل الذي لحق بالبيئة.
لكن يتبين الآن في ضوء مرحلة الأزمة الوجودية الكبرى التي تعيشها البشرية أن الاعتماد على الحلول الفردية وحدها من دون تغيير البنى والهياكل الاقتصادية- الاجتماعية التي تستند إليها الأنا الأنانية وتترعرع فيها، هو حرث في البحر ويحتاج إلى آلاف السنين كي يؤت ثمره، هذا إذا ما آتى ثماره على الإطلاق. وبالمثل، فأن تغيير البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية من دون تطوير الوعي وإطلاق القوى الروحية لدى الفرد والجماعات، لن يؤدي سوى إلى الاستبداد على أنواعه الاشتراكي كما الرأسمالي وسوى إلى مواصلة الحرب البشرية الانتحارية على البيئة.
وبالتالي، إنتفاضة العنقاء البيضاء على الأنا الأنانية ودمار البيئة، يجب أن تترافق وتُستكمل مع انتفاضة على الهياكل الاقتصادية- الاجتماعية الراهنة التي تتغذى منها الأنا الانانية.
وفي حال تكامل بناء رأس العتقاء البيضاء مع تشكيل جناحيها: الثورتان البيئية والاقتصادية - الاجتماعية، فسيتمكن هذا الطائر الأسطوري من التحليق لينقذ الجنس البشري والحياة على الأرض. اما إذا فشلت عملية البناء، فستحترق العنقاء، لكن هذه المرة من دون ولادة جديدة.
(انتهى)
سعد محيو

الجمعة، 6 يونيو 2014

العالم ينفجر(الحلقة-4): ولادة "العنقاء البيضاء"



- I -
قلنا بالأمس أنه لايزال ثمة أمل في إنقاذ الجنس البشري، ومعه الحياة برمتها على كوكب الأرض، من الانقراض والدمار. وهذا يعتمد أولاً وأخيراً على ولادة وعي جديد بدأت تتبلور معالمه الرئيسة في أجزاء عديدة من العالم.
يمكن تشبيه الوعي الجديد الناشيء بطائر العنقاء أو الفينيق. وهو تشبيه له معانٍ وأبعاد عميقة. الوعي القديم (السائد حاليا) المستند إلى الأنا الأنانية (Ego )، والمآسي والحروب، والانفصال الكارثي عن والكون والطبيعة، يجب أن يحترق قبل أن يولد الوعي الجديد. الديالكتيك هنا واضح للغاية، لأن الوعي الجديد يشكِّل بالفعل نقيض أو نفي الوعي القديم.
 كل ألف عام، كما ورد في الأساطير،  تريد العنقاء أن تولد ثانية، فتترك موطنها وتسعى صوب فينيقيا وتختار نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى عنان السماء، فتبتني لها عشاً هناك. بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد: دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي، وتحمل كل بقايا جسدها القديم إلى مذبح الشمس في هليوبوليس بمصر. ويُحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب، قبل أن يعود إلى بلده في الشرق.
هذه هي أسطورة العنقاء كما ذكرها المؤرخ هيرودوت، واختلفت الروايات التي تسرد هذه الأسطورة. العنقاء أو الفينكس، هو طائر طويل العنق لذا سماه العرب "عنقاء". أما كلمة الفينيق (الفينكس) فهي يونانية الأصل وتعني نوعا معينا من النخيل. وبعض الروايات ترجع تسمية الطائر الأسطوري إلى مدينة فينيقية، حيث أن المصريين القدماء اخذوا الأسطورة عنهم فسموا الطائر باسم المدينة.
نشيد الإله رع التالي (حسب معتقدات المصريين القدماء) يدعم هذه الفكرة، حيث يقول: "المجد له في الهيكل عندما ينهض من بيت النار. الآلهة كلُّها تحبُّ أريجه عندما يقترب من بلاد العرب. هو ربُّ الندى عندما يأتي من ماتان. هاهو يدنو بجماله اللامع من فينيقية محفوفًا بالآلهة". والقدماء، مع محافظتهم على الفينكس كطائر يحيا فردًا ويجدِّد ذاته بذاته، ابتدعوا أساطير مختلفة لموته وللمدَّة التي يحياها بين التجدُّيد والتجدُّد.
بعض الروايات أشار إلى البلد السعيد في الشرق على أنه في الجزيرة العربية وبالتحديد اليمن، وأن عمر الطائر خمسمائة عام، حيث يعيش سعيدا إلى أن يحين وقت التغيير والتجديد، حينها وبدون تردد يتجه الطائر مباشرة إلى معبد إله الشمس (رع) في مدينة هليوبوليس، وفي هيكل رَعْ، ينتصب الفينكس أو العنقاء رافعًا جناحيه إلى أعلى ثم يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا. وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان وكأنهما مروحة من نار. ومن وسط الرماد الذي يتخلف يخرج طائر جديد فائق الشبه بالقديم يعود من فوره لمكانه الأصلي في بلد الشرق البعيد.
- II -
لقد ضاعت مصادر الرواية الأصلية في زمن لا يأبه سوى بالحقائق والثوابت، ولكن الثابت في القصة هو وجود هذا الطائر العجيب الذي يجدد نفسه ذاتياً.
عنقاء وعينا الجديد تحمل كل مواصفات الخلق الجديد. فهي بيضاء اللون لأنها تحمل إلى كوكب الأرض أخيراً معاني السلام الداخلي لكل إنسان والسلام الخارجي لكل البشر والمخلوقات. وهي بتجددها يتجدد الوعي الكوني الذي يجب أن ينشر الحِكمة، حتى قبل المعرفة، والذكاء الخلاق قبل الذكاء النفعي، والحياة التي تتفتح فيها كل أنواع الورود في كل الكون.
رأس العنقاء البيضاء هو الأنا الجديدة، الحقيقية، الحاملة للوعي الصافي. أحد جناحي العنقاء هو بُعْدُ الانتفاضة البيئية التي ستوقف حرب البشر الانتحارية ضد الأم غايا، والجناح الآخر هو الانتفاضة الاجتماعية- الاقتصادية التي ستعمل على بناء مجتمع متحرر من الجنون الرأسمالي الجامح ومستند إلى التعاون الخلاق. أما جسم العنقاء فهي جماعات الوعي الكوني الجديد التي بدأت تولد في كل أصقاع الأرض.
رأس العنقاء، أي وعي الأنا الصافية سيعيد هرم الذكاء الإنساني المقلوب على رأسه إلى وضعه الطبيعي بعد أن يحرره من هيمنة الوعي الأناني. حتى الآن هذا الذكاء، الذي ليس أكثر من كونه نقطة صغيرة في بحر الذكاء الكلي، كان عُرضة إلى التشويه على يد الأنا الأنانية. إيكهارت تول يدعو ذلك "الذكاء في خدمة الجنون"، ويعطي مثلاً على ذلك عملية فلق الذرة. هذه العملية تتطلب ذكاء فائقاً، لكن استخدام هذا الذكاء لبناء وتخزين القنابل النووية هو عمل جنوني لايمت للذكاء بصلة. وهذا يدل على أن الذكاء يمكن أن يبني حضارات معقدة ومتطورة، لكنه غير قادر وحده على الحفاظ على هذه الحضارات من التدمير الذاتي والاندثار. الأمر في حاجة إلى حكمة ورحمة ورعاية الوعي الصافي. الذكاء يمكن أن تقوم به مخلوقات غير واعية أو شبه واعية، كما هو واضح في ذكاء الغرائز لدى الحيوانات والتفاعلات الكيميائية- المعلوماتية لدى النباتات. لكن الوعي وحده هو القادر على جعل الذكاء يعي ذاته، فيعطيه بالتالي معنى وهدفاً، ويجعله أكثر اهتماماً بما لايقاس بمعرفة الحقيقة الكلية لا الحقائق الجزئية المتبدلة المادية، وحتى النظرية.
كثيرة هي الكتب التي تطرقت إلى كيفية تحرير الوعي الصافي من الوعي الأناني، لكنها كلها تتقاطع حول الأفكار الرئيسة التالية:
- الإدراك بأن الوضعية الراهنة للعقل البشري تتضمن مايمكن أن يوصف بأنه "خلل" أو حتى "جنون" أو بالأحرى مرض عقلي جماعي. الفلسفة الهندية تطلق على هذا المرض اسم "مايا" أي قناع الوهم، والبوذية "دوكا" أي الشقاء والمعاناة، والمسيحية "الخطيئة الأولى"، أي عدم فهم طبيعة الوجود الإنساني، والاسلام... وكل هذا سبَّب الحروب والدمار طيلة جل التاريخ البشري. وبالتالي، الخطوة الأولى للخلاص من هذا المرض هو التخلص من سببه الرئيس: الأنا الانانية (التي سماها اينشتاين "الوهم البصري للوعي") والتي تتغذى من الحقد والكراهية والقلق والتوتر والتعلّق بالأشكال المادية المتغيرة باستمرار، من عبادة جسد لايلبث أن تتدهور وضعته وقدراته إلى التمسك بوهم ملكية خاصة أو عمليات استهلاك لا ديمومة لها ولن توفّر لا الخلود بالطبع ولا السعادة للإنسان.
- السبيل إلى تدمير هذه الأنا الأنانية يكمن أولاً وأساساً  في وعيها وإدراك الاشكال المختلفة التي تتخذ، من التعلّق بذكريات الماضي المؤلمة إلى القلق المرضي من المستقبل؛  واستبدال هذا النمط من التفكير الأنوي  والانفعالات الصاخبة بيقظة "مباركة" (عبر ممارسة التأمل بكل أنواعه، خاصة يوغا التنفس- هامش) تؤدي إلى تهدئة العقل وسلامه الداخلي.
- ثمة تطور موضوعي سيحدث آجلاً أو عاجلاً، ولن يحتاج إلى تدخل عامل إنساني لتحقيقه، وهو أن كل بنى وهياكل الأنا الأنانية المتكلسة، من المؤسسات والحركات الدينية المغلقة، والشركات الكبرى متعددة الجنسيات، والحكومات، ستتحلل بالتدريج من داخلها مهما كانت تبدو الآن متجذرة وقوية. وهذا سيحدث لها كما حدث من كل لكل المؤسسات التوتاليتارية المتمحورة حول الأنا الأنانية الفردية والجماعية في التاريخ. لماذا؟ لأن هذه البنى والهياكل لم تعد قادرة على معالجة أو حتى التعايش مع الأزمات الوجودية الكبرى الراهنة التي يواجهها العالم، والتي تهدد الآن بدفع كلٍ من الجنس البشري إلى الانقراض والحياة برمتهاعلى الأرض إلى الاندثار. أحد القوانين الذهبية للتطور تثبت ذلك. فحين يكون البقاء على قيد الحياة مهددا، سيكون على الفرد أو الجنس إما التطور وتجاوز حدود ظروفه الراهنة، أو الفناء والانقراض.
- الوعي الجديد لن يكون ديناً جديداً، أو إيديولوجيا أو أسطورة جديدتين، بل هو تبلور لعقل جماعي وثقافة جماعية ستخلقها كل الهيئات والتيارات التي تعمل الآن في كل أنحاء العالم للانتقال بالتطور البشري إلى مرحلة جديدة. هذا العقل وتلك الثقافة ستكونا متحررتين من كل موبقات الوعي القديم من اندفاع الأنا الأنانية إلى احتكار الحقيقة المطلقة وبالتالي تكفير أو تهميش الآخرين عبر الصراعات والحروب، إلى الانفصال عن الكل والكون والطبيعة. وبالتالي، لن يكون ممكناً تحوُّل تيار الوعي الجديد إلى دين مغلق آخر، أو إيديولوجيا تدميرية أخرى، أو انظمة اعتقاد إقصائية أخرى. العكس سيكون صحيحاً، حيث سيؤدي التحرر من الأنا الأنانية إلى تفتح ملايين ورود وأزهار الحب الجماعي، والحكمة، والتعاون الجماعي في مجال البحث المتجرد عن الحقيقة وحل ألغاز الوجود.
- III -

هذا إذاً عن رأس العنقاء البيضاء. ماذا الآن عن جناحيها: البيئة والنظام الاجتماعي- الاقتصادي الجديد.
(غدا الحلقة الأخيرة).

سعد محيو

الخميس، 5 يونيو 2014

العالم ينفجر (الحلقة3): الصين وأميركا تقرران مصير العالم



- I -
قلنا في الحلقة الثانية أمس أن العالم يستعد لولادة المرحلة السادسة من السلطة العالمية خلال قرن واحد، والتي سيكون فيها للتطورات الداخلية في كل من الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة النظام العالمي الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
لكن كيف؟
كما أن الدول الكبرى كالصين وروسيا والهند وأوروبا تشهد صعوداً خطراً للقوميات المستندة في غالب الأحيان إلى الإديولوجيات الدينية، كذلك سيكون الحال في القوة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة، التي تمر هي الأخرى بمرحلة اختبار عصيبة في علاقتها مع العولمة، على رغم أنها زعيمتها وملهمتها التجارية والثقافية والتكنولوجية.
فإذا تمكنت أميركا من تجديد بناها التحتية المتهالكة، وإعادة شحن بطاريات قدراتها الإبداعية التكنولوجية، واستعادة تفاؤلها التاريخي الشهير من خلال مايقترحه بريزينسكي من "تحويل الحلم الأميركي الفردي إلى حلم وطني جماعي"، والتغلب على شلل نظامها السياسي وجشع رأسماليتها المالية، فإنها ستمتلك مايكفي من الثقة بالنفس كي تتأقلم مع صعود الصين إلى سدنة القيادة العالمية، وكي تقبل المشاركة في نظام عالمي تعددي جديد تكون فيه هي فقط الأول بين متساوين لا أكثر.
أما إذا مافشلت في تحقيق نهضتها هذه، فإنها ستتجه إلى التقوقع على نفسها وإلى إطلاق العنان للقومية الأميركية التي ستعيد حينذاك قسمة العالم، الذي وحدته العولمة في سوق واحد، بين "نحن وهم" و"انا والآخر". وهذا قد يتجلى في نسف ترتيبات كل من مرحلتي نهايات الحربين العالمية الثانية والباردة، ثم في إقامة نظام غربي جديد منغلق على ذاته وفي حالة حرب شاملة مع "الآخر" الأسيوي والإسلامي.
- II -
الأمور ستعتمد أيضاً على التطوارت الداخلية في الصين. فطيلة القرنين الماضيين، شهدت هذه الأخيرة اضطرابات محلية عنيفة تضمنت حروباً محلية وخارجية عنيفة، وهي لم تستقر إلا خلال السنوات الثلاثين الماضية. فالقرن التاسع عشر كان بالنسبة إليها حقبة من التفجرات والتآكل والتدخلات الأجنبية السافرة التي ترافقت مع تنازلات مذلة من جانبها. والقرن العشرون شهد صراعات وحروباً أهلية متواصلة تقريباً في سياق يقظة الصين السياسية، من ثورات صن يات صن وتشين كاي تشيك اللذين فشلا في تحديث الصين، إلى ماوتسي تونغ الذي أغرق البلاد في حمأة اضطرابات على النمط الستاليني الوحشي. وقد تطلب الأمر انتظار انتصار تنغ هسياو بنغ على خصومه في الحزب الشيوعي كي تنهض الصين اقتصادياً على إيقاع رأسمالية الدولة، فكانت بذلك أول دولة في التاريخ يبني فيها حزب شيوعي رأسمالية.
والآن، تقف الصين الصاعدة على مفترق طرق بين خيارين  إثنين: الأول، خطر وهو أن تصبح قوة قومية على النمط الأوروبي في القرن العشرين، فلا تتمتع بالصبر التاريخي (كما هي الآن)، ويسيطر عليها الجيش الصيني العملاق ذو الطموحات الإقليمية والجيوسياسية الواسعة. وهذا سيدفع العالم، أو على الأقل قارة آسيا- الباسيفيك، إلى شفير الظروف الخطرة والمدمرة التي سادت عشية الحرب العالمية الأولى.
أما الخيار الثاني فهو يتضمن نجاح الحزب الشيوعي الصيني في تزويج الديمقراطية التعددية على النمط الغربي في نهاية المطاف مع الفلسفتين الكونفيشيوسية والبوذية، وذلك في إطار مبدأ "التناغم" الذي تطرحه الصين الآن على العالم والذي بلورته من خلال هاتين الفلسفتين. ومثل هذا التطور سيسمح بادماج القوة الصينية الصاعدة في نظام عالمي جديد بسلام.
- III -
أي من هذه الخيارات الأقرب إلى التحقق في أميركا والصين؟
من الصعب الجزم الآن. لكن، إذا ماتذكرنا أن المستوى الراهن من الوعي البشري لايزال يستند، كما كان منذ عهد البشرية بحياة الكهوف، إلى مبدأ صراع البقاء وحروبه المتصلة، فإننا قد نغلّب خيارات الصراعات والحروب والتنافس القاتل على الموارد والأسواق على سيناريوهات الوئام والتناغم.
فأميركا لن تتنازل بسهولة عن زعامتها العالمية، التي بات رخاؤها ودولارها القوي يعتمدان كلياً عليها، إلا إذا ماحدث لها كما حدث للاتحاد السوفيتي الذي لم يفكك امبراطوريته العالمية سوى بعد تحلله هو نفسه. والواقع أن العديد من المحللين  بدأوا في الآونة الأخيرة في رسم خطوط التشابه بين المراحل الأخيرة من نهايات الاتحاد السوفييتي وبين الأزمات الراهنة التي تغشى الولايات المتحدة.
والصين أيضاً قد تنسج على منوال الصراعات والمجابهات نفسه، لأن التحديات الكبرى التي تواجهها في الداخل (من الفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء، وبين الريف والمدينة، إلى الفساد والتلوث وصعود طبقة وسطى ضخمة (300 مليون نسمة) تطالب بالمشاركة في صنع القرار)، قد يدفع الحزب الشيوعي، أو الجيش الصيني، إلى تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج من خلال النزعة القومية المتصلبة.
لاأحد بالطبع يتمنى تحقق هذه السيناريوهات المدمرة. بيد أن عجز البشر (حتى الآن على الأقل) عن تطوير وعي جديد يستبدل صراع البقاء (الرأسمالي) الراهن الذي فقد في الواقع مبررات وجوده، وعن إبرام صلح تاريخي مع أمنا الطبيعة ومع أنفسنا، سيجعل من هذه الخيارات نبؤءة ذاتية التحقق.
دققوا قليلاً بمايجري حولنا، من صعود القوميات الفاشية في أوروبا، (غربها كما شرقها)، وفي آسيا (الصين، اليابان، الهند، دول جنوب شرق آسيا)، وفي الشرق الأوسط (تنافس القوميات التركية والإيرانية واليهودية)، والتي تتزاوج كلها في غالب الاحيان مع الأصوليات الدينية المتطرفة، فماذا ستستنتجون؟
أليس الإنسان لايزال حقاً العدو الأول لنفسه؟.
لكن مع ذلك، لايزال ثمة أمل في مستقبل مغاير.
كيف؟
(غدا الحلقة الأخيرة).
سعد محيو







العالم ينفجر (الحلقة 2): "الذئاب" يتسابقون على "الفرائس"


اتصلت د. لطيفة محمدية  والعديد من القراء وأبلغوا كاتب هذه السطور أن المقال الثاني من سلسلة "العالم ينفجر" غير ممكن التحميل. ولذلك نعيد هنا نشر هذه الحلقة:



- I -
أشرنا في الحلقة الأولى أمس إلى أن فشل بوش الأبن في تحقيق مشروع النظام العالمي الجديد وعجز أوباما عن بلورة مشروع بديل، قد تركا أميركا، ومعها العالم، معلقين بخيط رفيع في الهواء، ماجعل "ذئاب مقاطعات "الامبراطورية الأميركية تشتم رائحة الدم وتبدأ البحث عن فرائسها الخاصة في محيطها الإقليمي المباشر.
هذه الواقعة أكدها زبغنيو بريزينسكي، في كتابه الأخير "رؤية استراتيجية"(*)، حين أشار (ص77) إلى "أن الأرجح أن  قادة قوى المرتبة الثانية في العالم، على غرار اليابان والهند وروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، بدأوا بالفعل في تقدير تأثيرات التراجع الأميركي على مصالح كل منهم القومية. لا بل أكثر: هذه التأثيرات بدأت أصلاً في تشكيل أجندات التخطيط لدى الدول الكبرى الرئيسة، وحتى في إملاء سياساتها عليها".
آثار أقدام هذه الفرضية منتشرة في كل مكان تقريبا: فاليابان، مثلاً، التي تخشى بشدة من هيمنة الصين على البر الآسيوي، ربما تفكر الآن بإقامة علاقات وثيقة مع أوروبا. كما ان قادة اليابان والهند الحاليين ربما هم منهكون حالياً في دراسة آفاق تعاون سياسي وحتى عسكري بينهم كبوليصة تأمين في حال تعثرت أميركا وصعدت الصين. أما روسيا- بوتين، وعلى رغم أنها منهمكة في تفكير رغائبي (أو حتى في نزعة شماتة) حيال مستقبل الولايات المتحدة الغامض، إلا أنها توجه كل اهتمامها إلى الهيمنة على دول الاتحاد السوفيتي السابق كأهداف اولية لطموحاتها الجيو- استراتيجية الأعم.
نأتي الآن إلى الاتحاد الأوروبي. فشبه القارة هذه، تبدو متجاذبة في اتجاهات مختلفة بسبب عجزها عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متجانسة. فألمانيا وإيطاليا تيممان وجهيهما إلى روسيا لأهداف اقتصادية وتجارية. وفرنسا التي تغار من قوة الاقتصاد الألماني، تبحث عن موازن له مرة في أميركا ومرة أخرى في روسيا. ودول وسط أوروبا التي لاتشعر بالطمأنينة تحبذ اتحاداً أوروبياً أقوى لمجابهة روسيا. هذا في حين تجهد بريطانيا، كعادتها، لإقامة توازانات دقيقة في القارة الأوروبية، فيما تواصل الحفاظ على علاقات خاصة مع الولايات المتحدة "المنحدرة".
ويشدد بريجنسكي هنا على أن الأمر نفسه ينطبق على القوى الإقليمية. فالبرازيل تنشط لاقتطاع مناطق نفوذ لها في نصف الكرة الجنوبي. وجنوب إفريقيا ونيجيريا تتنافسان على مناطق السيطرة في القارة الإفريقية. أما في الشرق الأوسط، فالسباق على أشده بين كلٍ من تركيا وإيران وإسرائيل للسيطرة على (أو اقتسام) تركة النظام الإقليمي العربي المريض.
- II -
هذه المعطيات تعني شيئاً واحدا: ثمة مرحلة انتهت في النظام الدولي الراهن الذي أقامته الولايات المتحدة غداة انتصارها في الحرب العالمية الثانية، والكل يستعد الآن للانضمام إلى المرحلة السادسة من تغيرات السلطة العالمية.
لماذا المرحلة السادسة؟
 لأن العالم شهد قبلها في الفترة بين 1910 و2010 خمس مراحل في عمليات انتقال هذه السلطة. فعشية الحرب العالمية الأولى، كانت الامبرطوريتان البريطانية والفرنسية تسيطران عالمياً وكانتا متحالفتين مع روسيا القيصرية الضعيفة التي تعرضت إلى هزيمة على يد اليابان العام 1905. المعارضة لنظامهما العالمي جاءت من ألمانيا الصاعدة المتحالفة مع الامبراطوريتين المتهالكتين العثمانية والمجرية- النمساوية. وقد لعبت أميركا ذات الحيوية الصناعية آنذاك دوراً حاسماً في تحقيق فرنسا وبريطانيا النصر على ألمانيا.
في المرحلة الثانية، في حقبة مابين الحربين العالميتين، بدت بريطانيا مهيمنة عالمياً، لكن مع صعود مميز لأميركا. لكن في أوائل الثلاثينيات، كانت ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية تتحركان بقوة لنسف النظام العالمي القائم. في المرحلة الثالثة تمزقت أوروبا شر تمزيق في الحرب العالمية الثانية، ما انتج حرباً باردة دامت أربعين عاماً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. في المرحلة الرابعة، أسفرت هزيمة الاتحاد السوفيتي عن حقبة قطبية انفرادية أميركية قصيرة، ثم ما لبثت أن بدأت منذ العام 2010 المرحلة الخامسة التي لاتزال فيها أميركا مهيمنة، لكن مع صعود كوكبة من القوى الجديدة، لآسيا فيها دور كبير.
والآن، يستعد العالم لولادة المرحلة السادسة، والتي سيكون فيها للتطورات الداخلية في كل  من الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة النظام العالمي الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
كيف.
(غدا نتابع)
(* ) Strategic review: America and the crisis of global power.
Zbigniew Brezinski. Basic books, 2012.

سعد محيو

الاثنين، 2 يونيو 2014

العالم ينفجر (الحلقة 2): "الذئاب" تتسابق على "الفرائس"



- I -
أشرنا في الحلقة الأولى أمس إلى أن فشل بوش الأبن في تحقيق مشروع النظام العالمي الجديد وعجز أوباما عن بلورة مشروع بديل، قد تركا أميركا، ومعها العالم، معلقين بخيط رفيع في الهواء، ماجعل "ذئاب مقاطعات "الامبراطورية الأميركية تشتم رائحة الدم وتبدأ البحث عن فرائسها الخاصة في محيطها الإقليمي المباشر.
هذه الواقعة أكدها زبغنيو بريزينسكي، في كتابه الأخير "رؤية استراتيجية"(*)، حين أشار (ص77) إلى "أن الأرجح أن  قادة قوى المرتبة الثانية في العالم، على غرار اليابان والهند وروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، بدأوا بالفعل في تقدير تأثيرات التراجع الأميركي على مصالح كل منهم القومية. لا بل أكثر: هذه التأثيرات بدأت أصلاً في تشكيل أجندات التخطيط لدى الدول الكبرى الرئيسة، وحتى في إملاء سياساتها عليها".
آثار أقدام هذه الفرضية منتشرة في كل مكان تقريبا: فاليابان، مثلاً، التي تخشى بشدة من هيمنة الصين على البر الآسيوي، ربما تفكر الآن بإقامة علاقات وثيقة مع أوروبا. كما ان قادة اليابان والهند الحاليين ربما هم منهكون حالياً في دراسة آفاق تعاون سياسي وحتى عسكري بينهم كبوليصة تأمين في حال تعثرت أميركا وصعدت الصين. أما روسيا- بوتين، وعلى رغم أنها منهمكة في تفكير رغائبي (أو حتى في نزعة شماتة) حيال مستقبل الولايات المتحدة الغامض، إلا أنها توجه كل اهتمامها إلى الهيمنة على دول الاتحاد السوفيتي السابق كأهداف اولية لطموحاتها الجيو- استراتيجية الأعم.
نأتي الآن إلى الاتحاد الأوروبي. فشبه القارة هذه، تبدو متجاذبة في اتجاهات مختلفة بسبب عجزها عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متجانسة. فألمانيا وإيطاليا تيممان وجهيهما إلى روسيا لأهداف اقتصادية وتجارية. وفرنسا التي تغار من قوة الاقتصاد الألماني، تبحث عن موازن له مرة في أميركا ومرة أخرى في روسيا. ودول وسط أوروبا التي لاتشعر بالطمأنينة تحبذ اتحاداً أوروبياً أقوى لمجابهة روسيا. هذا في حين تجهد بريطانيا، كعادتها، لإقامة توازانات دقيقة في القارة الأوروبية، فيما تواصل الحفاظ على علاقات خاصة مع الولايات المتحدة "المنحدرة".
الإمر نفسه ينطبق على القوى الإقليمية. فالبرازيل تنشط لاقتطاع مناطق نفوذ لها في نصف الكرة الجنوبي. وجنوب إفريقيا ونيجيريا تتنافسان على مناطق السيطرة في القارة الإفريقية. أما في الشرق الأوسط، فالسباق على أشده بين كلٍ من تركيا وإيران وإسرائيل للسيطرة على (أو اقتسام) تركة النظام الإقليمي العربي المريض.
- II -
هذه المعطيات تعني شيئاً واحدا: ثمة مرحلة انتهت في النظام الدولي الراهن الذي أقامته الولايات المتحدة غداة انتصارها في الحرب العالمية الثانية، والكل يستعد الآن للانضمام إلى المرحلة السادسة من تغيرات السلطة العالمية.
لماذا المرحلة السادسة؟
 لأن العالم شهد قبلها في الفترة بين 1910 و2010 خمس مراحل في عمليات انتقال هذه السلطة. فعشية الحرب العالمية الأولى، كانت الامبرطوريتان البريطانية والفرنسية تسيطران عالمياً وكانتا متحالفتين مع روسيا القيصرية الضعيفة التي تعرضت إلى هزيمة على يد اليابان العام 1905. المعارضة لنظامهما العالمي جاءت من ألمانيا الصاعدة المتحالفة مع الامبراطوريتين المتهالكتين العثمانية والمجرية- النمساوية. وقد لعبت أميركا ذات الحيوية الصناعية آنذاك دوراً حاسماً في تحقيق فرنسا وبريطانيا النصر على ألمانيا.
في المرحلة الثانية، في حقبة مابين الحربين العالميتين، بدت بريطانيا مهيمنة عالمياً، لكن مع صعود مميز لأميركا. لكن في أوائل الثلاثينيات، كانت ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية تتحركان بقوة لنسف النظام العالمي القائم. في المرحلة الثالثة تمزقت أوروبا شر تمزيق في الحرب العالمية الثانية، ما انتج حرباً باردة دامت أربعين عاماً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. في المرحلة الرابعة، أسفرت هزيمة الاتحاد السوفيتي عن حقبة قطبية انفرادية أميركية قصيرة، ثم ما لبثت أن بدأت منذ العام 2010 المرحلة الخامسة التي لاتزال فيها أميركا مهيمنة، لكن مع صعود كوكبة من القوى الجديدة، لآسيا فيها دور كبير.
والآن، يستعد العالم لولادة المرحلة السادسة، والتي سيكون فيها للتطورات الداخلية في كل  من الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة النظام العالمي الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
كيف.
(غدا نتابع)
(* ) Strategic review: America and the crisis of global power.
Zbigniew Brezinski. Basic books, 2012.

سعد محيو


الأحد، 1 يونيو 2014

العالم ينفجر، وهذه الأسباب (الحلقة الأولى)



- I -
فلنتوقف معاً أمام الظواهر العالمية التالية التي انفجرت كلها دفعة واحدة مؤخرا:
- الصعود الصاروخي لليمين المتطرف في أوروبا (كما أظهرت انتخابات البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي) وما سيفرزه ذلك من مضاعفات محتملة على مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه، لأن هذا النوع من اليمين يرفض العولمة الأوروبية ويريد العودة إلى كنف الدولة القومية (في صيغتها الفاشية أو المتطرفة).
- تفاقم الصراعات القومية في شرق وجنوب آسيا. في الشرق في إطار الصدامات المتصاعدة بين الصين واليابان، حيث يسعى كل نظام فيهما إلى تعزيز وضعه الداخلي عبر استنفار المشاعر القومية المشبوبة والعنيفة ضد "الآخر" المجاور. وفي الجنوب، حيث يعني وصول التيار الهندوسي إلى السلطة حاملاً معه مشروع زواج الفلسفة الهندوكية مع الرأسمالية النيوليبرالية المنفلتة من عقالها، أن القومية الهندية المتطرفة هي من سيدير بلاد الفيلة من الآن وحتى مستقبل غير منظور. وهذا بالطبع ستكون له تأثيرات كبرى على كلٍ من توزنات القوى الآسيوية وعلى النظام العالمي.
- انفجار آخر للصراعات القومية في شرق آوروبا، بين قومية روسية منبعثة وبين قوميات أوكرانية وبلطيكية وشرق أوروبية ووسط آسيوية، كرد فعل من هؤلاء، بدعم واضح من الولايات المتحدة، على جهود موسكو لإحياء امبراطوريتها السوفيتيية.
- وأخيرا، دخول الصراعات القومية والمذهبية بين الامم الفارسية والتركية والعربية في مرحلة تاريخية جديدة- قديمة، هي في الواقع تكرار أو رجع صدى لتلك التي كانت متفاقمة إبان العهد العباسي في القرن العاشر الميلادي، والتي حسمها الأتراك لاحقاً لمصلحتهم طيلة نيف وأربعة قرون.
- II -

ماذا تعني كل هذه التطورات؟
في مقالات لاحقة، سنتطرق إلى كل من هذه المعطيات الخطيرة على حدة. لكن الآن دعونا نمضي معاً في رحلتنا لنتعرف بعض أسباب هذه التفجرات التاريخية الفاقعة، إضافة إلى محاولة استطلاع أفاقها ومآلاتها.
أول ما يتبادر هنا إلى الذهن حول الأسباب هو بالطبع موقع الولايات المتحدة منها، بصفتها زعيمة النظام العالمي والدولة العظمى الوحيدة عالمياً راهنا. إذ لو كان الأمر مستتباً للامبراطورية الأميركية، لما انفجرت "الأطراف" على هذا النحو المتسارع، الذي يذكّر إلى حد كبير بتمردات وتشنجات مقاطعات الامبراطورية الرومانية في مراحلها الأخيرة.
نقطة البداية في أزمة الزعامة العالمية الأميركية الراهنة بدأت في عهد الرئيس جورج بوش الأبن، الذي فشل هو وفريقه في إقامة نظام عالمي جديد، استناداً إلى القطبية الأحادية التي أفرزها سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة لمصلحة أميركا. مشروع بوش كان يستند إلى تغيير أنظمة العراق وإيران وباقي دول الشرق الأوسط، ثم الانطلاق من هذه الهيمنة الكاملة على نفط الشرق الأوسط  وأنظمته وموقعه الجغرافي الاستراتيجي نحو إحكام القبضة على قارة أوراسيا التي قال المفكر الجفرافي ماكيندر قبل مئة عام أن من يحكم هذه
" الجزيرة العالمية" يسيطر على العالم. كما أن هذا المشروع تضمن أيضاً ضم النفط والغاز الروسي الضخم إلى هذه الترسانة، من خلال شراكات مع الشركات العملاقة الغربية.
بوش اعتقد أن حروبه الشرق أوسطية، من أفغانستان إلى العراق ولاحقاً سورية وإيران، كان يجب أن  تشبه إلى حد بعيد حروب أميركا ضد الهنود الحمر في الغرب الاميركي الذي كانت تسوده قبائل "بدائية"، مسقطاً بذلك كل معطيات حروب الهند الصينية، وبعدها حروب التحرير في العالم الثالث، وحقيقة بروز ظاهرة  اليقظة السياسية لدى شعوب العالم.
وهكذا، وحين تعثّر مشروع بوش في أفغانستان والعراق، تعثّر أيضاً مشروعه حول النظام العالمي الجديد. وهذا ما أوقع أميركا في مأزق حقيقي إزاء دورها العالمي: فلا هي قادرة على فرض نظامها الأحادي الجديد بالقوة، ولا في وسعها إقامة نظام تعددي بديل، لأنها لاتعتقد أن أياً من الدول الكبرى الأخرى "تستأهل" مثل هذا النظام بحكم الفجوة الكبرى الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية بينها وبين أميركا.
إدارة باراك أوباما، وعلى عكس كل التوقعات، لم تخرج أميركا من هذا المأزق على رغم كل خطب هذا الأخير البليغة حول التعددية والتضامن والتعاون الدوليين. كل مافعله أوباما في الواقع هو تأبيد هذه المأزق من خلال سحب أميركا من دائرة الحروب لكن من دون العمل على بناء هيكلية سلام دولي جديد. صحيح أن إدارة أوباما اعترفت ضمناً بالتوزع الجديد للسلطة العالمية، من خلال تأسيس مجموعة العشرين (التي تضم دول البريكس: البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) العام 2008، إلا أنها لم تعط هذه المجموعة، التي يفترض أنها حلّت مكان مجموعة السبعة الكبار الغربية، أي صلاحيات او مسؤوليات على مستوى القرار الدولي السياسي وحتى الاقتصادي (عدا مساعدة العجوزات الأميركية).
وهذا ما ترك أميركا، ومعها العالم، معلقين بخيط رفيع في الهواء، ماجعل "مقاطعات"
الامبراطورية الأميركية تشتم رائحة الدم وتبدأ البحث عن فرائسها الخاصة في محيطها الإقليمي المباشر.
وهذا ماسنتطرق إليه في مقال الغد.

سعد محيو

الخميس، 15 مايو 2014

من سورية إلى أوكرانيا: أين "نهاية التاريخ "؟ (الحلقة8 والأخيرة): العالم في مرحلة "اللاقطبية"


الخبراء الأميركيون والاوروبيون يلخصّون طبيعة الاختلافات بين النظام العالمي الجديد والقديم على النحو التالي:
الإختلاف الأول ان أطراف هذا المثلث أكثر سيولة وأقل جموداً من المثلث القديم . فأي عمل يقوم به طرف من أطراف المثلث الأميركي- الأوروبي- الصيني، لن يثير بالضرورة رد فعل معارضاً بعنف من الطرفين الآخرين . كما انه لايوجد تحالف إستراتيجي بين طرفين ضد الطرف الثالث. وعلى عكس المثلث القديم الذي لم يكن فيه للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إتصالات مع المجتمع السوفييتي، المثلث الجديد تفاعلي إلى حد بعيد.
بكلمات أوضح: هذا ليس مثلثاً يستند إلى الحصيلة صفر لتحالف طرفين ضد الطرف الثالث ، بل هو مثلث يقوم على حصيلة إيجابية تشمل بعض المصالح المشتركة بين الأطراف الثلاثة.
الأختلاف الثاني أن هم الامن القومي لايهيمن على هذا المثلث كما كان الامر إبان الحرب الباردة . وعلى رغم انه (الهم) يلعب دوراً مهماً في العلاقات الصينية- الاميركية ، خاصة في إطار تايوان، إلا ان روابط واشنطن وبكين عميقة بشكل إستثنائي وتعمل على مستويات عدة تتضمن علاقات مهمة بين المجتمعين. الأمن القومي ليس البتة سمة من سمات العلاقات الاوروبية- الصينية التي تستند إلى التجارة والتفاعل الثقافي المتزيد.
الأختلاف الثالث يكمن في التباينات المهمة بين الأطراف الثلاثة. فللولايات المتحدة واوروبا بالتأكيد خلافاتهما حول الشرق الأوسط، وسلسلة الأتفاقات الدولية، ودور الأمم المتحدة في العالم، وحظر الأسلحة على الصين. وأوروبا والصين تتنازعان حول التجارة وحقوق الأنسان وإنتشار الأسلحة وحرية المجتمع المدني. وكل هذه العوامل تسفر عن سيولة وتحولات عميقة في تركيبة المثلث الجديد، حيث تتقاطع المصالح مرة وتتباين مرة اخرى.
لهذه الأسباب وغيرها، يمتلك المثلث الجديد ديناميكياات مختلفة عن تلك التي هيمنت على الشؤون العالمية منذ بدء الأنفتاح الأميركي على الصين العام 1971. وعلى الرغم من ان التوترات قائمة، إلا انه لايتوقع ان تتطور إلى تنافسات كتلك التي ميزّت علاقات  المثلث القديم، خاصة وان أضلاع المثلث متفقة على القضية الأهم : تدبير مسألة إندماج الصين في النظام العالمي بطريقة سلسة وسلمية. وكما هو معروف تاريخياً، القوى الصاعدة، بما في ذلك أوروبا واميركا، عمدت غالباً إلى زعزعة النظام العالمي بشكل خطير. وسيتعين الان على أطراف المثلث الأسترايتجي الجديد ان تضمن بان التاريخ لن يكرر نفسه . لكن، هل تنجح؟
شكوك الصين
الصين واثقة من رغبة أوروبا في إدماجها على قدم المساواة في النظام العالمي. لكنها تكن شكوكاً عميقة بأن الولايات المكتحدة لا تفهم سوى معنى واحداً لهذا الإدماج: الرضوخ الصيني لكل إملاءات الزعامة الاميركية في آسيا العالم. وهذا ماقد ترفضه الصين بقوة في العقدين المقبلين.
حتى الان، بكين لاتزال تكبح جماح غضبها من هذا الجموح الاميركي، لأنها تضع الاولوية لتطورها الأقتصادي. لكنها بعد حين قد تجد ان مصالحها الإقتصادية نفسها ستتطلب منها رفع ألوية المعارضة السياسية والأستراتيجية لواشنطن. وإذا ما حدث ذلك، لن يبقى المثلث مثلثاً. إنه سينقلب إلى ثنائيات أو رباعيات أو حتى خماسيات في عالم جديد متعدد الأقطاب كذلك الذي تنبأ به هنري كيسينجر.
الاجتهاد الثالث
نأتي الآن إلى الإجتهاد الثالث.
ثمة إجماع الآن بين المحللين على أن الحيوية الجديدة التي تبديها القوى الدولية والإقليمية في هذه المرحلة،  لم تكن لتحدث لولا وجود فراغ في السياسة الخارجية الأميركية مكّنها من حرية الحركة.
وثمة إجماع آخر على أن سبب الغياب الأميركي مزدوج: حروب العراق وأفغانستان التي فرملت المشروع الطموح للمحافظين الجدد في إعادة رسم خرائط العالم؛ ودخول الأدارة الأميركية في حال من الشلل في السياسة الخارجية بسبب حاجتها إلى التركيز على الإصلاحت الداخلية (أو مايسميه الرئيس أوباما "بناء الأمة الأميركية").
لكن ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، وهو مركز الأبحاث ااذي يعتبر الصانع الأهم لكل من الرؤساء والسياسات الخارجية الأميركية، له تفسير إضافي: حرية حركة القوى الأقليمية نبعت من تقييد حركة أميركا، بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية وبداية عهد ما يسميه " اللاقطبية العالمية"
يقول: "القرن الماضي بدأ متعدد الأقطاب، ولكن بعد حربين عالميتين وعدد من النزاعات، أصبح  ثنائي القطبية. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية (الأميركية). أما الآن، فالنفوذ العالمي موزّع ومشّتت، الأمر الذي يشكل بداية المرحلة اللاقطبية" .
وما سمات هذه اللاقطبية؟
إنها ثلاث:
- الأولى، فقدان الدولة- الأمة لإحتكارها للسلطة ولعلويتها كحجر الزاوية في النظام العالمي، بفعل التحديات التي تواجهها على الصعد كافة، من الأعلى عن طريق المنظمات المحلية والدولية، ومن الأسفل بواسطة الميليشيات والمنظمات غير الحكومية والشركات الكبرى.
-  الثانية، بروز عدد متزايد من اللاعبين المؤثرين اقليمياً ودولياً، مثل الصين والهند واليابان وروسيا والإتحاد الأوروبي والبرازيل وجنوب إفريقيا، ووراءهم مباشرة قوى إقليمية من الدرجة الثانية كتركيا وإيران وباكستان وإسرائيل والأرجنتين.. الخ.
- الثالثة، العولمة التي زادت من حجم وسرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود، من البريد الالكتروني إلى غازات الدفيئة والفيروسات، مروراً بالأسلحة والهجرات البشرية. العولمة تدفع إلى اللاقطبية عبر مدخلين: تنفيذ العديد من التبادلات عن طريق جهات غير حكومية وخارج سيطرة الحكومات، و تعاظم قدرات هذه الجهات كالشركات المصدرة للنفط والشبكات الارهابية والأنظمة المتطرفة.
كل هذه العوامل مجتمعة تقود إلى طاحونة اللاقطبية. وهذه الطاحونة تقود بدورها إلى الفوضى العالمية الراهنة.
من على حق؟
نأتي الآن إلى سؤالنا الأول: من هذه الإجتهادات الثلاثة الأقرب إلى الحقيقة؟
كفة المنطق تميل بقوة لصالح نظرية هاس في "اللاقطبية". وهذا لسبب مقنع: السلطة العالمية الحقيقية في عصر العولمة تبدو في كل مكان ولا مكان في آن. إنها أشبه بشبح " متشّرد " لا منزل واحد له "يسكنه"، أو هو كتيار كهربائي تعرف بوجوده فقط حين يلسعك.
وهذا مايجعل السلطة العالمية الراهنة شديدة الشبه بـ"الحقيقة الافتراضية" التي خلقتها ثورة المعلومات في عوالم العقول الالكترونية. بالطبع، لهذه السلطة رأس وجسم وقاعدة. لها قوانيها وقواعد عملها ومؤسساتها. فأميركا هي رأس هذه السلطة حتى إشعار آخر. إنها الامبراطورية الجديدة التي تحكم روما الجديدة. اما الجسم والقاعدة فهما على التوالي: الشبكات والمؤسسات العملاقة التي تنتجها الشركات متعددة الجنسيات، ثم  "كل"  شعوب العالم.
والكل هنا تعني الكل: أي شعوب العالم الأول كما الثاني كما الثالث والرابع، بعد أن أسقط عصر إمبراطورية العولمة التمايزات الخارجية بين الدول ونقلها الى داخل كل دولة.
وهكذا، بات بالامكان الحديث عن عالم ثان او ثالث في الداخل الاميركي والاوروبي والياباني ( حيث 20 في المائة ينتجون ويحكمون و80 في المائة يفقرون ويهمشون، كما أشار مؤلفو " فخ العولمة " الالمان). كما بات بالمستطاع العثور على عالم اول داخل الدول الفقيرة حيث النخب فاحشة الغنى مندمجة بالسوق العالمي كليا بشتى تجلياته الثقافية والاقتصادية والترفيهية.
بيد أن كل هذه التطورات لاتلغي أمرين إثنين:
الأول، أن اللاقطبية ستعني في لحظة ما، أو في مرحلة ما، تفاقم المنافسات والصراعات بين الدول الكبرى القديمة والجديدة، من أميركا وأوروبا واليابان والصين إلى روسيا والبرازيل وبقية النمور الأسيوية، بعد أن أصبحت كل هذه الدول رأسمالية. أي أن الصراع سيكون بين مختلف أصناف الرأسماليات الأساسية في العالم، في شكل تنافس على الأسواق والرساميل والموارد الطبيعية وخطوط التجارة البرية والبحرية. وهذا مادفع العديد من المحللين الأوروبيين إلى تشبيه الوضع الدولي الراهن بذلك الذي كان قائماً عشية الحرب العالمية الأولى.
الأمر الثاني، أنه حتى لو تمكنت القوى الكبرى الجديدة والناشئة من تعديل وتحسين النظام الدولي الراهن بالطرق السلمية أو بسلاسة (وهذه مسألة تبدو صعبة بسبب توحش الرأسمالية)، إلا أن هذا لن ينقذ الجنس البشري من ثلاثة أخطار داهمة تهدد وجوده نفسه:
الخطر الأول، والأهم، ظاهرة تغيّر المناخ.
والخطر الثاني، الديكتاتورية الزاحفة للعولمة الرأسمالية في مجالات العلم والتكنولوجيا كافة والتي تهدد، كما يرى فرانسيس فوكوياما نفسه صاحب نظرية نهاية التاريخ، باستيلاد أخطر استبداد وتقسيم طبقي- عرقي في التاريخ، والتي ستحوّل قطاعات شاسعة من العالم الثالث، التي تعتبر خارج نطاق قوس العولمة، إلى ساحة دمار وأوبئة وحروب وصراعات دموية لاتنقطع.
(انتهى)
سعد محيو