-
I -
قلنا في الحلقة الثانية أمس أن العالم يستعد لولادة
المرحلة السادسة من السلطة العالمية خلال قرن واحد، والتي سيكون فيها للتطورات
الداخلية في كل من الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة
النظام العالمي الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
لكن كيف؟
كما أن الدول الكبرى كالصين وروسيا والهند وأوروبا تشهد
صعوداً خطراً للقوميات المستندة في غالب الأحيان إلى الإديولوجيات الدينية، كذلك
سيكون الحال في القوة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة، التي تمر هي الأخرى
بمرحلة اختبار عصيبة في علاقتها مع العولمة، على رغم أنها زعيمتها وملهمتها
التجارية والثقافية والتكنولوجية.
فإذا تمكنت أميركا من تجديد بناها التحتية المتهالكة،
وإعادة شحن بطاريات قدراتها الإبداعية التكنولوجية، واستعادة تفاؤلها التاريخي
الشهير من خلال مايقترحه بريزينسكي من "تحويل الحلم الأميركي الفردي إلى حلم
وطني جماعي"، والتغلب على شلل نظامها السياسي وجشع رأسماليتها المالية، فإنها
ستمتلك مايكفي من الثقة بالنفس كي تتأقلم مع صعود الصين إلى سدنة القيادة
العالمية، وكي تقبل المشاركة في نظام عالمي تعددي جديد تكون فيه هي فقط الأول بين
متساوين لا أكثر.
أما إذا مافشلت في تحقيق نهضتها هذه، فإنها ستتجه إلى
التقوقع على نفسها وإلى إطلاق العنان للقومية الأميركية التي ستعيد حينذاك قسمة
العالم، الذي وحدته العولمة في سوق واحد، بين "نحن وهم" و"انا
والآخر". وهذا قد يتجلى في نسف ترتيبات كل من مرحلتي نهايات الحربين العالمية
الثانية والباردة، ثم في إقامة نظام غربي جديد منغلق على ذاته وفي حالة حرب شاملة
مع "الآخر" الأسيوي والإسلامي.
-
II -
الأمور ستعتمد أيضاً على التطوارت الداخلية في الصين.
فطيلة القرنين الماضيين، شهدت هذه الأخيرة اضطرابات محلية عنيفة تضمنت حروباً
محلية وخارجية عنيفة، وهي لم تستقر إلا خلال السنوات الثلاثين الماضية. فالقرن
التاسع عشر كان بالنسبة إليها حقبة من التفجرات والتآكل والتدخلات الأجنبية
السافرة التي ترافقت مع تنازلات مذلة من جانبها. والقرن العشرون شهد صراعات
وحروباً أهلية متواصلة تقريباً في سياق يقظة الصين السياسية، من ثورات صن يات صن
وتشين كاي تشيك اللذين فشلا في تحديث الصين، إلى ماوتسي تونغ الذي أغرق البلاد في
حمأة اضطرابات على النمط الستاليني الوحشي. وقد تطلب الأمر انتظار انتصار تنغ
هسياو بنغ على خصومه في الحزب الشيوعي كي تنهض الصين اقتصادياً على إيقاع رأسمالية
الدولة، فكانت بذلك أول دولة في التاريخ يبني فيها حزب شيوعي رأسمالية.
والآن، تقف الصين الصاعدة على مفترق طرق بين خيارين إثنين: الأول، خطر وهو أن تصبح قوة قومية على
النمط الأوروبي في القرن العشرين، فلا تتمتع بالصبر التاريخي (كما هي الآن)،
ويسيطر عليها الجيش الصيني العملاق ذو الطموحات الإقليمية والجيوسياسية الواسعة.
وهذا سيدفع العالم، أو على الأقل قارة آسيا- الباسيفيك، إلى شفير الظروف الخطرة
والمدمرة التي سادت عشية الحرب العالمية الأولى.
أما الخيار الثاني فهو يتضمن نجاح الحزب الشيوعي الصيني
في تزويج الديمقراطية التعددية على النمط الغربي في نهاية المطاف مع الفلسفتين
الكونفيشيوسية والبوذية، وذلك في إطار مبدأ "التناغم" الذي تطرحه الصين
الآن على العالم والذي بلورته من خلال هاتين الفلسفتين. ومثل هذا التطور سيسمح
بادماج القوة الصينية الصاعدة في نظام عالمي جديد بسلام.
-
III -
أي من هذه الخيارات الأقرب إلى التحقق في أميركا والصين؟
من الصعب الجزم الآن. لكن، إذا ماتذكرنا أن المستوى
الراهن من الوعي البشري لايزال يستند، كما كان منذ عهد البشرية بحياة الكهوف، إلى
مبدأ صراع البقاء وحروبه المتصلة، فإننا قد نغلّب خيارات الصراعات والحروب
والتنافس القاتل على الموارد والأسواق على سيناريوهات الوئام والتناغم.
فأميركا لن تتنازل بسهولة عن زعامتها العالمية، التي بات
رخاؤها ودولارها القوي يعتمدان كلياً عليها، إلا إذا ماحدث لها كما حدث للاتحاد
السوفيتي الذي لم يفكك امبراطوريته العالمية سوى بعد تحلله هو نفسه. والواقع أن
العديد من المحللين بدأوا في الآونة
الأخيرة في رسم خطوط التشابه بين المراحل الأخيرة من نهايات الاتحاد السوفييتي
وبين الأزمات الراهنة التي تغشى الولايات المتحدة.
والصين أيضاً قد تنسج على منوال الصراعات والمجابهات
نفسه، لأن التحديات الكبرى التي تواجهها في الداخل (من الفجوة الهائلة بين
الأغنياء والفقراء، وبين الريف والمدينة، إلى الفساد والتلوث وصعود طبقة وسطى ضخمة
(300 مليون نسمة) تطالب بالمشاركة في صنع القرار)، قد يدفع الحزب الشيوعي، أو
الجيش الصيني، إلى تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج من خلال النزعة القومية
المتصلبة.
لاأحد بالطبع يتمنى تحقق هذه السيناريوهات المدمرة. بيد
أن عجز البشر (حتى الآن على الأقل) عن تطوير وعي جديد يستبدل صراع البقاء
(الرأسمالي) الراهن الذي فقد في الواقع مبررات وجوده، وعن إبرام صلح تاريخي مع
أمنا الطبيعة ومع أنفسنا، سيجعل من هذه الخيارات نبؤءة ذاتية التحقق.
دققوا قليلاً بمايجري حولنا، من صعود القوميات الفاشية
في أوروبا، (غربها كما شرقها)، وفي آسيا (الصين، اليابان، الهند، دول جنوب شرق
آسيا)، وفي الشرق الأوسط (تنافس القوميات التركية والإيرانية واليهودية)، والتي
تتزاوج كلها في غالب الاحيان مع الأصوليات الدينية المتطرفة، فماذا ستستنتجون؟
أليس الإنسان لايزال حقاً العدو الأول لنفسه؟.
لكن مع ذلك، لايزال ثمة أمل في مستقبل مغاير.
كيف؟
(غدا الحلقة الأخيرة).
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق