اتصلت د. لطيفة محمدية والعديد من القراء وأبلغوا كاتب هذه السطور أن المقال الثاني من سلسلة "العالم ينفجر" غير ممكن التحميل. ولذلك نعيد هنا نشر هذه الحلقة:
-
I -
أشرنا في الحلقة الأولى أمس إلى أن فشل بوش الأبن في
تحقيق مشروع النظام العالمي الجديد وعجز أوباما عن بلورة مشروع بديل، قد تركا
أميركا، ومعها العالم، معلقين بخيط رفيع في الهواء، ماجعل "ذئاب مقاطعات "الامبراطورية
الأميركية تشتم رائحة الدم وتبدأ البحث عن فرائسها الخاصة في محيطها الإقليمي
المباشر.
هذه الواقعة أكدها زبغنيو بريزينسكي، في كتابه الأخير
"رؤية استراتيجية"(*)، حين أشار (ص77) إلى "أن الأرجح أن قادة قوى المرتبة الثانية في العالم، على غرار
اليابان والهند وروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، بدأوا بالفعل في تقدير تأثيرات
التراجع الأميركي على مصالح كل منهم القومية. لا بل أكثر: هذه التأثيرات بدأت
أصلاً في تشكيل أجندات التخطيط لدى الدول الكبرى الرئيسة، وحتى في إملاء سياساتها
عليها".
آثار أقدام هذه الفرضية منتشرة في كل مكان تقريبا:
فاليابان، مثلاً، التي تخشى بشدة من هيمنة الصين على البر الآسيوي، ربما تفكر الآن
بإقامة علاقات وثيقة مع أوروبا. كما ان قادة اليابان والهند الحاليين ربما هم
منهكون حالياً في دراسة آفاق تعاون سياسي وحتى عسكري بينهم كبوليصة تأمين في حال
تعثرت أميركا وصعدت الصين. أما روسيا- بوتين، وعلى رغم أنها منهمكة في تفكير
رغائبي (أو حتى في نزعة شماتة) حيال مستقبل الولايات المتحدة الغامض، إلا أنها
توجه كل اهتمامها إلى الهيمنة على دول الاتحاد السوفيتي السابق كأهداف اولية
لطموحاتها الجيو- استراتيجية الأعم.
نأتي الآن إلى الاتحاد الأوروبي. فشبه القارة هذه، تبدو
متجاذبة في اتجاهات مختلفة بسبب عجزها عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متجانسة.
فألمانيا وإيطاليا تيممان وجهيهما إلى روسيا لأهداف اقتصادية وتجارية. وفرنسا التي
تغار من قوة الاقتصاد الألماني، تبحث عن موازن له مرة في أميركا ومرة أخرى في
روسيا. ودول وسط أوروبا التي لاتشعر بالطمأنينة تحبذ اتحاداً أوروبياً أقوى
لمجابهة روسيا. هذا في حين تجهد بريطانيا، كعادتها، لإقامة توازانات دقيقة في
القارة الأوروبية، فيما تواصل الحفاظ على علاقات خاصة مع الولايات المتحدة
"المنحدرة".
ويشدد بريجنسكي هنا على أن الأمر نفسه ينطبق على القوى
الإقليمية. فالبرازيل تنشط لاقتطاع مناطق نفوذ لها في نصف الكرة الجنوبي. وجنوب
إفريقيا ونيجيريا تتنافسان على مناطق السيطرة في القارة الإفريقية. أما في الشرق
الأوسط، فالسباق على أشده بين كلٍ من تركيا وإيران وإسرائيل للسيطرة على (أو
اقتسام) تركة النظام الإقليمي العربي المريض.
-
II -
هذه المعطيات تعني شيئاً واحدا: ثمة مرحلة انتهت في
النظام الدولي الراهن الذي أقامته الولايات المتحدة غداة انتصارها في الحرب
العالمية الثانية، والكل يستعد الآن للانضمام إلى المرحلة السادسة من تغيرات
السلطة العالمية.
لماذا المرحلة السادسة؟
لأن العالم شهد قبلها
في الفترة بين 1910 و2010 خمس مراحل في عمليات انتقال هذه السلطة. فعشية الحرب
العالمية الأولى، كانت الامبرطوريتان البريطانية والفرنسية تسيطران عالمياً وكانتا
متحالفتين مع روسيا القيصرية الضعيفة التي تعرضت إلى هزيمة على يد اليابان العام
1905. المعارضة لنظامهما العالمي جاءت من ألمانيا الصاعدة المتحالفة مع
الامبراطوريتين المتهالكتين العثمانية والمجرية- النمساوية. وقد لعبت أميركا ذات
الحيوية الصناعية آنذاك دوراً حاسماً في تحقيق فرنسا وبريطانيا النصر على ألمانيا.
في المرحلة الثانية، في حقبة مابين الحربين العالميتين،
بدت بريطانيا مهيمنة عالمياً، لكن مع صعود مميز لأميركا. لكن في أوائل
الثلاثينيات، كانت ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية تتحركان بقوة لنسف النظام
العالمي القائم. في المرحلة الثالثة تمزقت أوروبا شر تمزيق في الحرب العالمية
الثانية، ما انتج حرباً باردة دامت أربعين عاماً بين الولايات المتحدة والاتحاد
السوفيتي. في المرحلة الرابعة، أسفرت هزيمة الاتحاد السوفيتي عن حقبة قطبية
انفرادية أميركية قصيرة، ثم ما لبثت أن بدأت منذ العام 2010 المرحلة الخامسة التي
لاتزال فيها أميركا مهيمنة، لكن مع صعود كوكبة من القوى الجديدة، لآسيا فيها دور
كبير.
والآن، يستعد العالم لولادة المرحلة السادسة، والتي
سيكون فيها للتطورات الداخلية في كل من
الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز والأهم في تحديد طبيعة النظام العالمي
الجديد، ناهيك بمصير الحرب والسلام في العالم.
كيف.
(غدا نتابع)
(* ) Strategic review: America
and the crisis of global power.
Zbigniew Brezinski. Basic books, 2012.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق