الخبراء الأميركيون والاوروبيون يلخصّون طبيعة الاختلافات بين النظام العالمي الجديد والقديم على النحو التالي:
الإختلاف الأول ان أطراف هذا المثلث أكثر سيولة وأقل جموداً من المثلث القديم . فأي عمل يقوم به طرف من أطراف المثلث الأميركي-
الأوروبي- الصيني، لن يثير بالضرورة رد فعل معارضاً بعنف من الطرفين الآخرين . كما انه لايوجد تحالف إستراتيجي بين طرفين ضد الطرف الثالث. وعلى عكس المثلث القديم الذي لم يكن فيه للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إتصالات مع المجتمع السوفييتي، المثلث الجديد تفاعلي إلى حد بعيد.
بكلمات أوضح: هذا ليس مثلثاً يستند إلى الحصيلة صفر لتحالف طرفين ضد الطرف الثالث ، بل هو مثلث يقوم على حصيلة إيجابية تشمل بعض المصالح المشتركة بين الأطراف الثلاثة.
الأختلاف الثاني أن هم الامن القومي لايهيمن على هذا المثلث كما كان الامر إبان الحرب الباردة . وعلى رغم انه (الهم) يلعب دوراً مهماً في العلاقات الصينية- الاميركية ، خاصة في إطار تايوان، إلا ان روابط واشنطن وبكين عميقة بشكل إستثنائي وتعمل على مستويات عدة تتضمن علاقات مهمة بين المجتمعين. الأمن القومي ليس البتة سمة من سمات العلاقات الاوروبية- الصينية التي تستند إلى التجارة والتفاعل الثقافي المتزيد.
الأختلاف الثالث يكمن في التباينات المهمة بين الأطراف الثلاثة. فللولايات المتحدة واوروبا بالتأكيد خلافاتهما حول الشرق الأوسط، وسلسلة الأتفاقات الدولية، ودور الأمم المتحدة في العالم، وحظر الأسلحة على الصين. وأوروبا والصين تتنازعان حول التجارة وحقوق الأنسان وإنتشار الأسلحة وحرية المجتمع المدني. وكل هذه العوامل تسفر عن سيولة وتحولات عميقة في تركيبة المثلث الجديد، حيث تتقاطع المصالح مرة وتتباين مرة اخرى.
لهذه الأسباب وغيرها، يمتلك المثلث الجديد ديناميكياات مختلفة عن تلك التي هيمنت على الشؤون العالمية منذ بدء الأنفتاح الأميركي على الصين العام 1971. وعلى الرغم من ان التوترات قائمة، إلا انه لايتوقع ان تتطور إلى تنافسات كتلك التي ميزّت علاقات المثلث القديم، خاصة وان أضلاع المثلث متفقة على القضية الأهم : تدبير مسألة إندماج الصين في النظام العالمي بطريقة سلسة وسلمية. وكما هو معروف تاريخياً، القوى الصاعدة، بما في ذلك أوروبا واميركا، عمدت غالباً إلى زعزعة النظام العالمي بشكل خطير. وسيتعين الان على أطراف المثلث الأسترايتجي الجديد ان تضمن بان التاريخ لن يكرر نفسه . لكن، هل تنجح؟
شكوك الصين
الصين واثقة من رغبة أوروبا في إدماجها على قدم المساواة في النظام العالمي. لكنها تكن شكوكاً عميقة بأن الولايات المكتحدة لا تفهم سوى معنى واحداً لهذا الإدماج: الرضوخ الصيني لكل إملاءات الزعامة الاميركية في آسيا العالم. وهذا ماقد ترفضه الصين
بقوة في العقدين المقبلين.
حتى الان، بكين لاتزال تكبح جماح غضبها من هذا الجموح الاميركي، لأنها تضع الاولوية لتطورها الأقتصادي. لكنها بعد حين قد تجد ان مصالحها الإقتصادية نفسها ستتطلب منها رفع ألوية المعارضة السياسية والأستراتيجية لواشنطن. وإذا ما حدث ذلك، لن يبقى المثلث مثلثاً. إنه سينقلب إلى ثنائيات أو رباعيات أو حتى خماسيات في عالم جديد متعدد الأقطاب كذلك الذي تنبأ به هنري كيسينجر.
الاجتهاد الثالث
نأتي الآن إلى الإجتهاد الثالث.
ثمة إجماع الآن بين المحللين على أن
الحيوية الجديدة التي تبديها القوى الدولية والإقليمية في هذه المرحلة، لم تكن لتحدث لولا وجود فراغ في السياسة
الخارجية الأميركية مكّنها من حرية الحركة.
وثمة إجماع آخر على أن سبب الغياب
الأميركي مزدوج: حروب العراق وأفغانستان التي فرملت المشروع الطموح للمحافظين
الجدد في إعادة رسم خرائط العالم؛ ودخول الأدارة الأميركية في حال من الشلل في
السياسة الخارجية بسبب حاجتها إلى التركيز على الإصلاحت الداخلية (أو مايسميه
الرئيس أوباما "بناء الأمة الأميركية").
لكن ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات
الخارجية الأميركية، وهو مركز الأبحاث ااذي يعتبر الصانع الأهم لكل من الرؤساء
والسياسات الخارجية الأميركية، له تفسير إضافي: حرية حركة القوى الأقليمية نبعت من
تقييد حركة أميركا، بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية وبداية عهد ما يسميه "
اللاقطبية العالمية"
يقول: "القرن الماضي
بدأ متعدد الأقطاب، ولكن بعد حربين عالميتين وعدد من النزاعات، أصبح ثنائي القطبية. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط
الاتحاد السوفييتي، دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية (الأميركية). أما
الآن، فالنفوذ العالمي موزّع ومشّتت، الأمر الذي يشكل بداية المرحلة اللاقطبية"
.
وما سمات هذه
اللاقطبية؟
إنها ثلاث:
- الأولى، فقدان الدولة- الأمة
لإحتكارها للسلطة ولعلويتها كحجر الزاوية في النظام العالمي، بفعل التحديات التي
تواجهها على الصعد كافة، من الأعلى عن طريق المنظمات المحلية
والدولية، ومن الأسفل بواسطة الميليشيات والمنظمات غير الحكومية والشركات الكبرى.
- الثانية، بروز عدد متزايد من اللاعبين المؤثرين
اقليمياً ودولياً، مثل الصين والهند واليابان وروسيا والإتحاد الأوروبي والبرازيل
وجنوب إفريقيا، ووراءهم مباشرة قوى إقليمية من الدرجة الثانية كتركيا وإيران
وباكستان وإسرائيل والأرجنتين.. الخ.
- الثالثة، العولمة التي
زادت من حجم وسرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود، من البريد الالكتروني إلى غازات
الدفيئة والفيروسات، مروراً بالأسلحة والهجرات البشرية. العولمة تدفع إلى
اللاقطبية عبر مدخلين: تنفيذ العديد من التبادلات عن طريق جهات غير حكومية وخارج
سيطرة الحكومات، و تعاظم قدرات هذه الجهات كالشركات المصدرة للنفط والشبكات
الارهابية والأنظمة المتطرفة.
كل هذه العوامل مجتمعة
تقود إلى طاحونة اللاقطبية. وهذه الطاحونة تقود بدورها إلى الفوضى العالمية
الراهنة.
من على حق؟
نأتي الآن إلى سؤالنا
الأول: من هذه الإجتهادات الثلاثة الأقرب إلى الحقيقة؟
كفة المنطق تميل بقوة
لصالح نظرية هاس في "اللاقطبية". وهذا لسبب مقنع: السلطة العالمية الحقيقية
في عصر العولمة تبدو في كل مكان ولا مكان في آن. إنها أشبه بشبح " متشّرد " لا منزل واحد له "يسكنه"، أو هو كتيار كهربائي تعرف بوجوده فقط حين يلسعك.
وهذا مايجعل السلطة العالمية الراهنة
شديدة الشبه بـ"الحقيقة الافتراضية" التي خلقتها ثورة المعلومات في عوالم
العقول الالكترونية. بالطبع، لهذه السلطة رأس وجسم وقاعدة. لها قوانيها وقواعد
عملها ومؤسساتها. فأميركا هي رأس هذه السلطة حتى إشعار آخر. إنها الامبراطورية
الجديدة التي تحكم روما الجديدة. اما الجسم والقاعدة فهما على التوالي: الشبكات
والمؤسسات العملاقة التي تنتجها الشركات متعددة الجنسيات، ثم "كل" شعوب العالم.
والكل هنا تعني الكل: أي شعوب العالم
الأول كما الثاني كما الثالث والرابع، بعد أن أسقط عصر إمبراطورية العولمة
التمايزات الخارجية بين الدول ونقلها الى داخل كل دولة.
وهكذا، بات بالامكان الحديث عن عالم ثان
او ثالث في الداخل الاميركي والاوروبي والياباني ( حيث 20 في المائة ينتجون
ويحكمون و80 في المائة يفقرون ويهمشون، كما أشار مؤلفو " فخ العولمة "
الالمان). كما بات بالمستطاع العثور على عالم اول داخل الدول الفقيرة حيث النخب
فاحشة الغنى مندمجة بالسوق العالمي كليا بشتى تجلياته الثقافية والاقتصادية
والترفيهية.
بيد أن كل هذه التطورات لاتلغي أمرين
إثنين:
الأول، أن اللاقطبية ستعني في لحظة ما،
أو في مرحلة ما، تفاقم المنافسات والصراعات بين الدول الكبرى القديمة والجديدة، من
أميركا وأوروبا واليابان والصين إلى روسيا والبرازيل وبقية النمور الأسيوية، بعد
أن أصبحت كل هذه الدول رأسمالية. أي أن الصراع سيكون بين مختلف أصناف الرأسماليات
الأساسية في العالم، في شكل تنافس على الأسواق والرساميل والموارد الطبيعية وخطوط
التجارة البرية والبحرية. وهذا مادفع العديد من المحللين الأوروبيين إلى تشبيه الوضع
الدولي الراهن بذلك الذي كان قائماً عشية الحرب العالمية الأولى.
الأمر الثاني، أنه حتى لو تمكنت القوى
الكبرى الجديدة والناشئة من تعديل وتحسين النظام الدولي الراهن بالطرق السلمية أو
بسلاسة (وهذه مسألة تبدو صعبة بسبب توحش الرأسمالية)، إلا أن هذا لن ينقذ الجنس
البشري من ثلاثة أخطار داهمة تهدد وجوده نفسه:
الخطر الأول، والأهم، ظاهرة تغيّر
المناخ.
والخطر الثاني، الديكتاتورية الزاحفة
للعولمة الرأسمالية في مجالات العلم والتكنولوجيا كافة والتي تهدد، كما يرى
فرانسيس فوكوياما نفسه صاحب نظرية نهاية التاريخ، باستيلاد أخطر استبداد وتقسيم
طبقي- عرقي في التاريخ، والتي ستحوّل قطاعات شاسعة من العالم الثالث، التي تعتبر
خارج نطاق قوس العولمة، إلى ساحة دمار وأوبئة وحروب وصراعات دموية لاتنقطع.
(انتهى)
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق