-
I -
"لماذا لاتزال الجدّات على
قيد الحياة"؟
هذا كان عنوان دراسة نشرتها قبل أيام (29يناير 2013) صحيفة "نيو رببليك" الأميركية، تناولت فيها "مشكلة" استمرار الجدّات في الوجود من وجهة نظر علم التطور.
الأفكار الرئيسة:
- من زاوية الجينة الأنانية، يُفترض أن تسقُط المخلوقات
جثة هامدة بعد أن تخسر القدرة على التوالد والانجاب. هذا يحدث لدى كل الحيوانات
الثديية ماعدا الإنسان، حيث تعيش المرأة لمدة نحو 20 سنة أو أكثر بعد توقف جسمها
عن انتاج البويضات. لماذا؟
- ليس ثمة فائدة من المرأة في سن اليأس وانقطاع الطمث،
إذ هي تميل إلى أن تكون ضعيفة وهشة، ولاتتضمن جاذبية جنسية. كما أنها تأكل طعام
الناس الذين يعملون والذين قد يفيدون منه أكثر. وهكذا، تعيش النساء المسنات في
قبيلة أتشي( الباراغواي) في حالة رعب دائمة وهن تسمعن وقع خطى شبان وظيفتهم سحق
جماجمهن بالفؤوس.
- على رغم أن معظم المجتمعات البشرية لاتقتل الجدّات،
إلا أن سبب ذلك لايزال سراً يتطلب الكشف عن ألغازه.
-
II -
ماذا يمكن أن نقول عن هذه الدراسة المريعة؟
قبل أن نقول نحن، يجدر أن نشير إلى أن "نيو
ريببليك" قالت أنها تتعاطى مع هذا الأمر من زاوية علمية بحتة. وحتى المحصلات
التي خرجت بها، أدعت هي الأخرى أنا علمية أيضا، وهي: الجدات باقيات لأنهن لازلن
مفيدات، إما لأن رواتبهن التقاعدية تساعد على دعم أولادهن وأحفادهن، أو لأنهم
يعتنين بالأحفاد، أو حتى لأنهن لازلن يعمل في الحقول (كما لدى بعض القبائل) لتوفير
الغذاء.
ليس ثمة كلمة واحدة في هذه الدراسة عن ضرورة التعاطف
الإنساني والأخلاقي مع هذه الفئة العمرية، ولا جملة اعتراف يتيمة بدورهن في دورة
الحياة، أو بقاء المجتمع، أو الإفادة من خبراتهن وحكمتهن.
الدراسة من الألف إلى الياء تتعاطى مع هذه المخلوقات،
تماماً كما يمكن أن يتعاطى البشر الآليون (الذي يشهدون الآن صعوداً كاسحاً في
المجتمعات البشرية) مع خالقيهم البشر.
في أحد الأفلام الأخيرة عن الروبوتس (البشر الآليون)،
تتعرض سيارة على متنها طفلة في التاسعة ورجل في الخمسينيات من عمرهما إلى الغرق في
بحيرة، وينبري إنسان آلي لانقاذهما. يقوم العقل الألكتروني في هذا الأخير بحسبة
سريعة حول فرص نجاة ، فيكتشف أن الطفلة لديها فرصة 10 في المئة والرجل 45 في
المئة، فيقرر (علمياً!) انقاذ الرجل وترك الطفلة لتلقى حتفها.
هذا المنطق "العلمي" المتجرد من أي نفحة
أخلاقية- إنسانية، هو السائد الآن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، وهو لايتعلق
فقط بالجدات وكبار السن على اعتبار أنهم "عالة" على النمو الاقتصادي
والقدرات التنافسية للدول، بل يطال كذلك كل وجوه المجتمع والحياة والطبيعة.
وهكذا، يتم التعاطي مع البشر، كل البشر، على أنهم سلع
يمكن التلاعب بأمزجتها ورغباتها وفق متطلبات السوق ومصالح الشركات الكبرى، فيُباعون(مثلاً)
أطعمة سريعة توطّن عشرات الأمراض فيهن وتفيد من ذلك صناعة الطب والمستشفيات، وقبل
ذلك صناعات العلف والأطعمة المعدلة جينياً وغير الموثوقة.
وكما في مجالات الصحة الجسدية، كذلك على صعيد الصحة
النفسية، حيث تركّز قطاعات التسلية والإعلام والإعلان تركيزاً شديداً على العنف والقتل
والدمار، وترسخ في الأذهان أن هذه هي طبيعة الإنسان النهائية، وأن هذا "مايطلبه
المشاهدون".
أما في مجال التعاطي "العلمي" مع الحياة والطبيعة،
فحدث ولاحرج، هي أن التوجهات الرأسمالية السائدة في العالم هذه الأيام، تدمّر بشكل
منهجي ومتواصل بيئات البحار والمحيطات والغابات والأنهار، الأمر الذي خلق ظاهرة
تغيّر المناخ وسخونة الجو.
-
III -
والحصيلة؟
إنها واضحة: علم من دون أخلاق وقيم وروح، هو وصفة أكيدة
للدمار ولانقراض الحياة نفسها عن وجه كوكب الأرض.
أجل. الجنس البشري مرّ بالفعل طيلة عشرات ومئات آلاف
السنين بمرحلة كان فيها صراع البقاء والتنافس على المأكل والمشرب والتناسل هما كل
محور الحياة. وهذا ترك بصمات واضحة على الذاكرة الجماعية البشرية التي لاتزال
تختزن ذكريات هجمات الوحوش الضارية على الكهوف أو ملاحقتها البشر حتى رؤوس الأشجار
والجبال.
لكن هذه المرحلة انقضت بعد أن نزل البشر من الأشجار
وغادروا الكهوف، فبات من الضروري أن يعمل الإنسان، بإرادته هذه المرة، على الدخول
في مرحلة تطور جديدة يتزاوج فيها العلم المادي مع الحياة الروحية- الأخلاقية،
ويعاد الاعتبار للطبيعة باعتبارها الأم الرؤوم لنا ولكل أشكال الحياة، وتوضع
التكنولوجيا في خدمة الإنسان لا في خدمة الآلة أو السلعة أو السوق.
وهذا يتطلب ثورة شاملة تواجه العولمة المتأمركة بعولمة
إنسانية ترفع لواء الزواج المقدس بين البيئة الخضراء وبين التضامن الإنساني السلمي
بدل التنافس العنفي القاتل، والتوازن بين التطور التكنولوجي والتطور الروحي-
الإخلاقي.
وإذا ماحدث ذلك، لن تعود الجدات "حيوانات
اختبار" في حقل علم التطور وفلسفة النمو الاقتصادي الرأسمالي، بل سيكّن أمهات
مقدسات تسفح على أقدامهن كل يوم وكل لحظة قرابين الوفاء والمحبة والعرفان.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق