- I -
يحق للغربيين
أن يفخروا بأنهم حققوا أعظم ثورتين في
التاريخ البشري : ثورة العلم والتكنولوجيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وثورة النهضة
والأنوار في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
فلا أحد يستطيع
أن يشكك بروعة إنجازات الثورة الاولى، بما في ذلك حتى الأصوليين المنغلقين على
الماضي بكل ألوانهم الهندوكية واليهودية والمسيحية والأسلامية. كل شيء في حياتنا
المعاصرة، من الإبرة إلى الطائرة، ومن لقمة العيش إلى لغة التواصل، يعتمد بكليته
على الثورات العلمية الغربية.
لا احد أيضاً يمكنه أن يرفض إنجازات عصر
الأنوار، خاصة خلال الفترات التي سبقت إستيلاء الرأسمالية والبورجوازية على
مفاتيحه الرئيسة. فحقوق الإنسان وسيادة القانون، ومفهوم المواطنة، وحريات الفرد
والمجتمع المدني، والمساواة والأعتراف بالآخر، وصولاً إلى الديمقراطية الليبرالية،
كلها مكتسبات حضارية- إنسانية لا يمكن لأي كان القفز فوقها.
- II -
لكن الثورة الإيجابية الغربية تعثرَت أمام سلبية
كبرى لم تستطع تجاوزها بسبب إغراقها في النزعة المادية، من جهة، ولأنها إستسلمت
للعلم القائم على تجزئة الحقيقة بوصفه المفتاح الوحيد لفهم الكون والوجود وإدراك
السعادة في آن، من جهة أخرى. هذه السلبية عبًرت عن نفسها في سلسلة من التطبيقات
المخطئة: فالطب الغربي، مثلاً، يقوم برمته تقريباً على العقاقير الكيماوية التي
تعالج مظاهر المرض لا المرض نفسه. وعلم النفس الغربي، خاصة في فرعه الأميركي
المتطور، يهتم بنتائج المشاكل النفسية لا بأسبابها، بجانبها السلوكي الإجتماعي لا
بتفاعلاتها العقلية الداخلية. وقل الأمر نفسه عن علوم الفيزياء واليبولوجيا
والكيمياء والبيوتكنولوجيا التي إهتمت في معظم الأحيان بوضع نفسها في خدمة الإنسان
الإقتصادي( الرأسمالية) لا الإقتصاد الإنساني.
الحضارات
الشرقية القديمة، من الإسلام إلى البوذية والهندوكية والكونفوشيوسية، لم تقع في
هذا الفخ، برغم إنبهارها الراهن المفهوم والمتوقع بإنجازات الحضارة الغربية.
فالروح لديها بقيت بأهمية الجسد، والطاقة بأهمية المادة. وهذا جسَد نفسه في إطلالة
هذه الحضارات على مسألة السعادة التي ترتبط بها بشكل محكم مسألة وعي الوجود، الأمر
الذي دفعها إلى التركيز الشديد على العمل الداخلي للعقل البشري، لا على تجلياته
الخارجية كما في الفكر الغربي.
- III -
مقاربة
الشرقيين سارت على النحو الآتي:
1-
عقولنا، وليس الادوية والعقاقير، هي التي تجعلنا سعداء أو تعساء. لا أحد أو
شيء في العالم كله يستطيع أن يفعل ما تفعله عقولنا لنا وبنا. وهذا يحدث بدون
إنتباه منا. ولذا، الحاجة ماسة لأن نطَور إنتباهنا لما يجري داخل عقولنا، إذ كما
نَفكر نكون.
2-
كلما راقبنا عقلنا لمعرفة ما يفعله بنا ولنا، كلما أصبحنا اكثر إستعداداً
للإهتمام به وإحترامه، وكلما كسبنا بعض السيطرة عليه.
3-
أعظم إنجاز يمكن أن بفعله الإنسان هو " الوعي اليقظ " ( Mindfulness) الذي يعني أن يعي المرء كل لحظة
من لحظات حياته. لا يجب أن تجد عقولنا فرصة واحدة لتحرفنا عن هذا الوعي، عبر
إختلاق القصص عن الظلم واللاعدل في هذا العالم، وعن الذكريات السيئة التي تسمم
حياتنا بالأحقاد والكراهية بلا إنقطاع.
الان، فلنقارن هذه المقاربة الشرقية التي تجعلنا على
تماس كامل مع ذواتنا ووعي تام بها، مع المقاربة الغربية التي تخرجنا من ذواتنا
لتدخلنا في عالم الأدوية والعقاقير والحلول المادية الخارجية لأزماتنا الداخلية،
فماذا سنجد؟
شيء واحد: السعي
للسعادة والإندماج مع الذات والوجود والطبيعة هنا( الشرق)، والتعاسة والغربة مع
الذات والوجود والطبيعة هناك( الغرب). الإنتباه والوعي اليقظ هنا، ونقص الإنتباه والوعي الإستهلاكي هناك.
هل، بعد كل ذلك، ثمة مبالغة إذا ما قلنا ان ظاهرة "
إضطراب عجز الإنتباه والنشاط الزائد "
( Attention deficit and hyperactivity) التي تضرب 5 في المائة من اطفال
الغرب وبالغيه، هي في الواقع حالة متمددة لدى كل مواطني حضارة مادية التي فقدت الإتصال بالروح؟
لا نعتقد.
سعد
محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق