في الحلقة الأولى من موضوع "الدين
والعولمة" في هذه المدونة (13-11-2012)، والذي عرضنا فيه لكتاب أوليفيه
روا" الجهل المقدس" (*) تساءلنا عن العوامل التي تؤثّر على صعود الأديان مجدداً في إطار
العولمة، بفعل ضغوط هذه الأخيرة المستمرة على النسيج الاجتماعي- الثقافي في كل دول
العالم. وسنحاول الإجابة اليوم:
|
- I -
يبدو أن ثمة ثلاثة عوامل تسهِّل صعود الأديان في ظل العولمة:
الأول، هو العامل الديموغرافي (السكاني) الذي تلعب فيه الأديان دوراً
كبيرا. فعدد سكان الشمال الأوروبي الغني بلغ 32 في المئة من سكان العالم العام
1900 ثم 25 في المئة العام 1970 و18 في المئة العام 2000، ويتوقع أن يصبح 10 في
المئة العام 2050. هذا في حين أن الجنوب كان يشهد انفجاراً ديموغرافياً لأن الناس
المتدينين فيه الذين يشكّلون الغالبية يميلون إلى إنجاب الأطفال أكثر من
العلمانيين.
العامل الثاني، هو التمدين( من مدن) المتزايد لسكان العالم. وبما أن الأديان
تاريخياً هي ظاهرة مدينية، يتوقع أن يؤدي بروز المدن العملاقة سكانياً في دول
الجنوب إلى مزيد من الصعود الديني، خاصة في صفوف الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
العامل الثالث هو"فك الارتباط" بشكل متزايد بين الغرب وبين
المسيحية. فهذه الأخيرة هي في الأصل دين شرقي اكتسح العالم القديم انطلاقاً من
فلسطين، وهي لم تُعتبر ديانة غربية أو أوروبية إلا بعد ظهور الإسلام وانتشاره. بيد
أنها الآن تعود إلى جذورها القديمة حيث باتت تسيطر عليها شعوب وثقافات الجنوب في
أميركا اللاتينية وبعض مناطق شرق آسيا.
ويعتقد سكوت توماس، المحاضر في جامعة لندن، أن كل هذه العوامل منغرسة في
العولمة التي تعمل على بناء عالم أكثر توحدّاً وأكثر تفتيتاً في آن. ذلك أن
الهويات الدينية العالمية والمحلية باتت تصبح أكثر ارتباطاً لأن العولمة بدأت
تُغيّر طبيعة الأديان ودورها في الشؤون الدولية.
كيف؟
عبر تسهيل العولمة انفصال الدين عن الثقافات الوطنية والقوميات (كما أشرنا
في الحلقة الأولى). فكما أن العولمة تقفز فوق الحدود القومية وتقلّص إلى حد كبير من
صلاحيات ودور الدولة- الأمة، تقوم الظواهر الدينية الجديدة المتعولمة بلعب الدور
نفسه، فتتجاوز هي الأخرى حدود الدولة القومية وقيودها.
- II -
فضلاً عن ذلك، تنشط العولمة لجعل الأديان أكثر تعددية، وبالتالي تُصعّب على
المؤسسات الدينية الكبرى التقليدية التي مارسات في السابق الاحتكار اللاهوتي،
كالكنيسة الكاثوليكية في الغرب والأورثوذكسية في الشرق الأوروبي والهندوكية في
جنوب آسيا، مواصلة مثل هذا الاحتكار. وهنا يأتي دور ثورة الاتصالات والمعلومات
التي باتت تجعل الأديان مسألة اختيار فردي سواء حيال الطقوس أو حتى المعتقدات.
ثم أن العولمة أزالت الحدود الفاصلة بين المنظمات الدينية في البلدان الأم
وبين الجاليات في المهجر. وهذا ما أعطى هذه الأخيرة دوراً كبيراً ومتزايداً في كلٍ
من العلاقات الدولية والأمن العالمي.
ويُلخّص سكوت توماس وجهة نظره حول تأثير العولمة على الأديان كالتالي:
" إن نوعاً جديداً من العالم قيد الصنع الآن. والدول والشعوب والجماعات
الدينية في الجنوب هي التي تصنعه. الأديان الكبرى في العالم تفيد كلها من هذه
الفرص التي أتاحتها العولمة، وهي تنشط الآن لتغيير نمط رسالتها بهدف الوصول إلى
جمهور عالمي جديد".
-III -
خلاصة صحيحة؟.
الأدق أن يقال أنها نصف صحيحة. فكما أن الأديان الرئيسة في العالم تندفع
للإفادة من العولمة، لن تقف هذه الأخيرة مكتوفة الأيدي. ولأنها تُمسك بكل صنابير الاقتصاد
والعلم والتكنولوجيا، ستعمل أيضاً على محاولة تجيير الانقلابات الدينية والثقافية
في العالم لصالحها.
لكن كيف؟
سعد
(*) Olivier Roy: Holy Ignorance: when religion and
culture part ways. Colombia press, 2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق