لم يتوقعنّ أحد، لا في الشرق ولا في الغرب، ألا تنهار
ليبيا بعد الثورة لتصبح دولة فاشلة. لكنها فاجأت الجميع، كما كانت تفعل دوماً في
التاريخ، وبدأت تولد من جديد، وبقوة.
|
-
I -
لبيبا، تاريخيا، بحق أرض المفاجآت.
وهي، بالمناسبة، مفاجآت سارة في معظمها، ما عدا تلك
الكارثة المناخية الهائلة التي ضربتها قبل آلاف السنين، وحوّلت أرضها الشاسعة (1،8
مليون كيلومتر مربع) من جنّة خضراء تجري من تحتها الأنهار إلى صحراء قاحلة.
ليبيا: بانتظار الولادة الجديدة- الصورة من غوغل- |
فهي كانت من أوائل الدول قبل التأريخ التي نقلت الحضارة
البشرية من العصور الحجرية إلى العصور الزراعية المستقرة. وهي البقعة التي
أختارتها الحضارة الإغريقية، ثم الرومانية، لتقيم فوق أرضها مراكز إشعاع حضاري
ونشاط تجاري في كل حوض البحر المتوسط. وقبل ذلك، كان فينقيو لبنان القديم يجدون في
سواحلها فرص ثمينة لنشر"عولمتهم" التجارية وثقافتهم الأبجدية في هذا
الحوض المتوسطي، فيما اعتبرها فينقيو امبراطورية قرطاجة عمقهم الاستراتيجي في
مواجهة الامبراطورية الرومانية.
وحين حلّ الإسلام في الديار الليبية، كانت هذه المقاطعة
تفاجىء الجميع دوماً بقدرتها على فرض
نفسها وإثبات وجودها، فكانت الدولة الأخيرة التي تجتاحها الجحافل الأوروبية التي
تحرّكت لقضم أراضي الخلافة العثمانية، وكانت الأولى التي قاومت بشراسة منقطعة
النظير الاحتلالات الغربية. لا بل حتى انقلاب العقيد القذافي العام 1969 كان
مفاجئة قلبت موازين القوى التي كانت مختلة آنذاك لغير صالح القومية العربية، على
رغم أن العقيد حوّلها بعد ذلك إلى مفاجآت جنون العظمة التي قلبت "موازين
القوى العقلية" في البلاد (... ).
المفاجأة الأخيرة تحدث الآن أمام أعيننا مباشرة.
فبعد أن ظنّ الكثيرون أن نشوب الحرب الأهلية الدموية
الليبية سيختم بالشمع الأحمر حقبة الربيع العربي، عبر الانفجار الداخلي لهذه
الدولة وتشظيها على النمط الصومالي لتصبح دولة فاشلة، إذا بها تُعطي هذا الربيع
حقنة قوية في العضل من خلال بدء نهوضها بطريقة تقترب بالفعل من وصف المعجزة، ثم
تحوّلها إلى الطرف الأبرز في دعم الثورة السورية وباقي التمخضات الربيعية العربية.
من كان يعتقد، على سبيل المثال، أن ليبيا يمكن أن تُجري
انتخابات حرة ناجحة، على رغم تبعثر السلطة السياسية بين ميليشيات وكتائب مسلحة
تفرض "دساتيرها" الخاصة على المناطق التي تسيطر عليها؟ ومن كان يظن أن المواطنين
المدنيين يمكن أن ينتفضوا على المواطنين المسلحين، وأن يُحجٍّموا دعوات الانفصال
في الشرق، تحت شعار الفيدرالية والكونفيدرالية، إلى درجة الاضمحلال؟
لقد قيل الكثير عن ضعف الهوية الوطنية الليبية، بسبب
هيمنة الانتماءات القبّلية والجهوية والفقهية الإسلامية (من سلفية وصوفية
وإخوانية). لكن مانراه الآن في برقة وفزان وطرابلس من تمسّك بوحدة البلاد، يشي
بوجود هوية ليبية كامنة لاتحتاج
سوى إلى المأسسة السياسية والأمنية والاقتصادية كي تنبق بكل قوة.
-
II -
بالطبع، لايعني ذلك أن كل شيء يلمع ذهباً في ليببا ما
بعد الجماهيرية القذافية.
فالنظام والقانون، لايزالا الغائب الأكبر ليس فقط في
طرابلس وبنغازي وبقية المدن، بل أيضاً في الجنوب حيث تدور المعارك بين القبائل
للسيطرة على نقاط التهريب المدرّة للثروات عبر الحدود (بما في ذلك تهريب الأسلحة).
والفساد منتشر على نطاق واسع. ومؤسسات الدولة لما ينبت ريشها بما يكفي للقول أن
البلاد بدأت تشق طريقها نحو الاستقرار. ثم أن الحياة السياسية لم تتمأسس بعد على
قواعد البرامج الحزبية، بل لازالت رهينة الولاء للأشخاص والانتماءات ماقبل
الدولتية.
وكل هذا يعني أن أمام النخب الليبية الجديدة مهام
تاريخية بالغة الصعوبة، قد تتخللها في العديد من الأحيان نكسات وعثرات تعيدها إلى
الوراء، لأن مايجري الآن لايقل عن كونه إعادة بناء الدولة- الأمة ( Natiion-state) الليبية من الصفر أو حتى من
العدم.
لكن هذا قد يكون في الواقع نعمة لانقمة. فدول الربيع
العربي الأخرى، كمصر وتونس واليمن، تعاني الآن من وجود نظام مخابراتي- عسكري خرج
متماسكاً من الثورات الشعبية ولايزال ينتظر الفرصة الساحنة للانقضاض على هذه
الثورات. أما في ليبيا، فقد خدم العقيد القذافي عملية بناء الدولة- الأمة من دون
أن يدري، حين صحّر المجتمع الليبي ومنع قيام مؤسسات وطنية (بما في ذلك الجيش)،
الأمر الذي سيمكّن النخب الجديدة من بناء مؤسسات وطنية خاضعة هذه المرة للمساءلة
الديمقراطية، ومن بلورة هوية وطنية ليبية تستند إلى الإرادة الحرة لكل الليبيين
وليس إلى السيطرة والاخضاع بالقوة.
-
III -
لقد حدثت بالفعل المعجزة الليبية. لكن الأمر يحتاج الآن
إلى معجزة أخرى (معجزة واعية وإرادية هذه المرة) لإرساء قيامة ليبيا الجديدة على
أسس راسخة، قوامها التالي:
1- تسريع مايجري الأن من بناء للجيش الوطني، ومعه أجهزة
الأمن، استناداً إلى مفهوم "الأمن الإنساني" لا أمن النظام، بهدف جعل
الدولة هي المالك الوحيد لأدوات القوة، وتوفير الأمن وفرض النظام والقانون في البلاد،
وضمان الحريات الشخصية والديمقراطية.
2- بدء العمل
لإقامة اقتصاد انتاجي متنوّع، ينقذ البلاد من لعنة النفط والدولة الرعوية، ويعيد
الاعتبار لقيم العمل. الفرصة سانحة الآن لتحقيق ذلك: فالشبان الذي رموا أنفسهم في
أشداق الموت خلال الثورة، لن يكونوا أقل استعداداً لتقبّل قيم العمل الانتاجي إذا
ما أتيحت لهم الفرصة لذلك.
3- التركيز بقوة على بناء الهوية الوطنية الليبية، المستندة
إلى الحرية والديمقراطية، والمستفيدة من شعور كل الليبيين في هذه المرحلة بأنهم
باتوا بالفعل، وللمرة الأولى منذ أربعة عقود، أحراراً وأسياد أنفسهم مصيرهم.
لكن، ولكي تتحقق المعجزة الليبية الثانية، من المهم
للغاية أن يعي الليبيون أنهم بدأوا يتحولون بالفعل، من خلال مفاجآتهم المذهلة، إلى
نموذج جديد لكل ثورات الربيع العربي.
لماذا؟
لأن مثل هذا الوعي، المستند إلى الحقائق لا الرغبات،
سيعطيهم زخماً كبيراً لاستكمال ماتبقى من رحلة ترجمة هذه المعجزة انجازات راسخة
على أرض الواقع.
سعد
كان فينقيو لبنان القديم يجدون في سواحلها فرص ثمينة لنشر"عولمتهم" التجارية وثقافتهم الأبجدية
ردحذفThis type of article may be wonderful for our Lebanese People