I - -
لم يحدث قبل الآن في التاريخ الحديث لدول الخليج أن
انفجرت الخلافات بينها بشكل علني على هذا النوع من الحدة.
صحيح أن هذه الخلافات قديمة ومتستوطنة وحادة، سواء في
مجال الصراعات الحدودية (حتى بين الحليفتين الوثيقتين حالياً السعودية ودولة
الإمارات) أو في العلاقات المتوترة دوماً بين الدول الخليجية الصغيرة الساعية إلى
الاستقلال وبين المملكة السعودية المندفعة إلى هيمنة "الأخ الأكبر"، إلا
أنه من الصحيح أيضاً أن الجميع كان يحرص على "سرية" هذه الصراعات وعلى
إبقائها في حرز حريز.
لكن شيئاً جديداً اقتحم الساحة الخليجية مؤخرا وفجّر
الأوضاع علناً فيها: شعور مملكة الوهابيين بالخطر على الوجود، وأكثر من أي وقت
مضى، بفعل عوامل غاية في التعقيد.
بالطبع، "الخطر الفارسي" وارد ومطروح على
المملكة التي تشعر أن إيران تريد حصارها
وتطويقها من البحرين إلى اليمن ومن العراق الشيعي إلى شيعة شرق السعودية، لكن ثمة
ما قد يكون أخطر بالنسبة إليها: انحياز الحليف الأميركي إلى الإسلام السياسي
المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي دق أجراس إنذار عاتية لديها.
لماذا؟
لأنها اعتبرت أن الأميركيين بهذه الخطوة تنكروا للصفقة
السرية التي أبرمتها الملك عبد العزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت في شباط فبراير
العام 1945 على متن بارجة حربية في البحيرات المرة في مصر، والتي ولد من رحمها
التحالف التاريخي بين الديمقراطية الأميركية والثيوقراطية الإسلامية السعودية. وهو
تحالف تواصل بلا انقطاع حتى أحداث 11 سبتمبر 2001.
الرياض فسّرت (وكانت على حق في تفسيرها) التنكر الأميركي
لهذا التحالف، عبر الانحياز إلى جماعة الإخوان، بأنه تمهيد في الواقع لتغيير
النظام في السعودية نفسها. إذ أن نجاح الإخوان في الوصول إلى الحكم في مصر وتونس
(ولاحقاً في بقية الدول العربية) بدعم
أميركي، سيعني سيطرة نوع جديد من الإسلام المتصالح مع الديمقراطية في المنطقة، على
حساب الإسلام السعودي القائم على الطاعة لولي الأمر.
وهكذا شنّت المملكة ثورة مضادة في طول المنطقة وعرضها،
ساهمت إلى حد كبير في إسقاط حكم الإخوان في مصر، وتقليم أظفارهم في تونس، وتوجيه
ضربات قوية لهم في المغرب وسورية والأردن. ولم يبق الآن لتتويج هذا
"النصر" سوى إغلاق الرئة الإعلامية التي لايزال يتنفس منها الإخوان
ويعتاشون منها مالياً : قطر.
هذا يفسّر إلى حد كبير أسباب الضغط الدبلوماسي الكثيف
والعنف السياسي الأكثف اللذين تمارسهما السعودية الآن ضد قطر. إذ من غير المعقول
بالنسبة إلى الرياض أن تشن هي الحرب الضروس على الإخوان بنجاح في كل أرجاء الشرق
الأوسط، فيما حديقتها الخلفية في قطر تصدح بالبيانات "الثورية
الإخوانية"، وبحملات الشيخ القرضاوي "ضد من يقاتلون كل ما هو
إسلامي" (على حد تعبيره). وهو هنا كان يشير إلى دولة الإمارات لكنه كان يقصد
في الواقع السعودية أساسا.
II - -
الملك عبد الله أبلغ أمير قطر الشاب تميم بن حمد آل ثاني
هذا الموقف بجلاء خلال اجتماعهما في الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والذي
تضمن أيضاً المطالبة، بالإضافة إلى وقف دعم الإخوان، منع انتقاد فضائية الجزيرة
للدول الخليجية، وحظر دعم بعض المنظمات الجهادية في سورية، وقطع العلاقات القطرية
مع حزب الله اللبناني.
لكن يبدو أن أمير قطر اعتبر أن هذه المطالب، التي تفترض
في الواقع تغيير جل السياسة الخارجية القطرية، مجرد اختبار له ولمدى إمساكه
بالسلطة. وهو تصرف على هذا الأساس: فواصل دعم الإخوان في مصر، وجبهة النصرة في
سورية، والأهم أنه ترك العنان للشيخ القرضاوي ليواصل حملته العلنية على الإمارات
والضمنية على السعودية.
الرد السعودي كان تحذيرات سرية في البداية. لكنه انقلب
في الأيام القليلة الماضية إلى إشهار حرب سياسية علنية مع سحب سفراء السعودية
والإمارات والبحرين من الدوحة. وبالتالي، لم يعد مستبعداً الآن أن تنفذ السعودية
تهديدات سرية أخرى بفرض الحصار البري والجوي على قطر، جنباً إلى جنب مع عزلها في
منطقة الخليج والمنطقة العربية، ومع فرض المزيد من الشروط عليها (مثل إغلاق مراكز
الأبحاث الأميركية وغيرها فيها).
III - -
بكلمات أوضح: السعودية تبدو مستعدة، وبسبب "قلقها
الوجودي" الحقيقي، للذهاب في رحلة الصدام مع قطر إلى أبعد الحدود. فهل التقط
أمير قطر هذه الرسالة، وكيف سيرد عليها؟
الإجابة تعتمد ثلاثة أمور: أولها مصير الوساطة الكويتية
لمحاولة نزع فتيل الأزمة. وثانيها، السؤال عما إذا كانت أميركا ستترك الحوت
السعودي يبتلع السمكة القطرية. وثالثها مدى استعداد النخبة القطرية لخوض "حرب
استقلال" جديدة وخطرة مع الأخ الكبير السعودي الغاضب والقلق والملتاع.
أي السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟
فلننتظر قليلاً لنر.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق