-
I -
دبي تنهض ثانية؟
هذا ماتوحي به المشاريع العقارية الجديدة التي أطلقتها
الشركات العملاقة نخيل (التي كانت في قلب الأزمة المالية الكبرى العام 2008)
وإعمار، ودبي هولدينغ. كما يوحي به أيضاً تدفق الأموال الآتية من رأسماليي الربيع
العربي الهاربين، والتجارة، والسياحة، إلى شرايين اقتصاد هذه المدينة- الدولة.
محمد بن راشد: إعادة النظر بمفهوم الحداثة؟ - الصورة من غوغل |
على رأس هذه
المشاريع بالطبع مدينة محمد بن راشد الذي يُراد لها أن تكون "مدينة العالم"،
والتي ستضم حديقة استوديوهات يونيفيرسال.
وعلى رغم الشكوك التي لاتزال تحوم حول المستقبل
الاقتصادي لدبي، حيث أن جبل الدين باقٍ على ذروة الـ 110 مليار دولار (نصف الديون
سيستحق عامي 2014 و2016) وأن المشاريع العقارية القديمة لما تنجز بعد فيما تجري
الاستعدادات لأخرى جديدة، إلا أن المستشارين السابقين لحكومة دبي (والذين عادوا
إلى مواقعهم الآن) واثقون أن "النهضة الثالثة" لدبي لن تخرجها من ورطتها
المالية وحسب، بل ستكرّس صعودها العالمي مجددا.
قد يكون هؤلاء مخطئون (مجدداً) في تقديراتهم. لكن المرء
لايستطيع إلا أن يُدهش من هذه الروح التجارية
المغامرة التي نجحت، أصلاً، خلال عقود قليلة في تحويل مرفأ صغير كان يعتاش على
التجارة والتهريب وحوله حفنة مبانٍ بدائية، إلى نيويورك جديدة تعج بناطحات السحاب،
وأساطير ألف ليلة وليلة، وخيالات سندباد كما مغامرات علي بابا ومعه الأربعين حرامي.
هذا فضلاً عن المناخات الليبرالية الاجتماعية التي أشاعتها دبي في قلب شبه جزيرة
صحراوية تقليدية ومحافظة.
-
II -
بيد أن مثل هذه
الدهشة، لايجب أن تُلغي التفكير العقلاني والأسئلة الهادئة:
- لِمَن تُقيم دبي كل هذه المباني والمدن الضخمة؟
- شعار مدينة العالم جميل. لكن، كل المدن الكوزموبوليتية
في العالم حرصت على أن يكون هناك توازن دقيق بين سكانها الأصليين وبين الوافدين في
مجالات التعداد السكاني، وحقوق الملكية، وربما لاحقاً حقوق المواطنة. العالمية
هنا، حتى في إطار العولمة، يجب أن تعني تعزيز المحلية الوطنية لاتحويلها إلى مجرد
ذكرى جميلة في متحف التاريخ. وهنا شعار البنك البريطاني قد يكون مفيدا: "بنك
العالم المحلي".
- ومع هذا التوازن الدقيق المطلوب في الحياة المادية،
يبرز توازن ضروري أكثر إلحاحاً على صعيد الهوية والثقافة والفكر. فطالما أن العولمة
لما تنتج بعد المواطن العالمي والحكومة العالمية، ستبقى الهويات والقوميات والأديان
الهندية والصينية والبنغالية وغيرها عناصر رئيسة وفاعلة (وأحياناً مدمِّرة
للثقافات المحلية) في أي مدينة عالمية. وهكذا، يمكن أن يكون القيمون على دبي
بالفعل عالميي النزعة وحتى الانتماء، لكن هذا لن يسري بالتأكيد على أصحاب الثقافات
الأخرى فيها. ليس في المستقبل القريب على الأقل.
-هل ثمة حاجة بالفعل إلى كل هذه الغابات الإسمنتية في
بلد صحراوي شاسع؟ وهل الهندسة المعمارية الحالية، مهما تطورت تقنياً وعلا شأوها، تتلاءم
على المدى الطويل مع البيئة والظروف المناخية الصحراوية القاسية؟
-
III -
الأرجح أن الدافع الرئيس لدى محمد بن راشد وصحبه في كل
مشاريعهم، هو هوى صاخب بالحداثة بكل ألوانها وصورها. هوى يرقى إلى مستوى الهوس،
وهو نابع في الغالب من ردة فعل على الذاكرة الجماعية التي احتضنت صوراً من الماضي
كان فيها إنسان شبه الجزيرة العربية أسير قوانين البيئة الصحراوية القاسية، والمُفقرة،
وحتى الظالمة.
كل مبنى "حديث" في دبي وبقية مدن الخليج، هو
محاولة للانتقام من ماضٍ سقيم. هو تمرد على ظلم الطبيعة وعواصف غبارها وشمسها
اللاظية والحارقة. وهذه نزعة سايكولوجية عميقة تقاطعت في لحظة تاريخية معينة مع
هيمنة أنماط الحداثة الغربية على كل أنحاء العالم، فولدت من هذين العاملين
"الحداثة المكتومية" (من آل متكوم) في حلتها المتطرفة الراهنة.
هل كان في وسع محمد بن راشد ابتداع حداثة أقل تطرفاً
وأكثر توازناً وحكمة، كما حاولت إمارة الشارقة أن تفعل حين ضخت الثقافة إلى
مشروعها الحداثي (قبل أن تجتاحها هي الأخرى الغابات الإسمنتية التجارية)؟
لو أن حاكم دبي حمل هذا السؤال معه إلى خلوة هادئة في
الصحراء وفكّر فيه ملياً، لربما خرج بنظرية حداثة أكثر جمالاً.. وأكثر ديمومة.
سعد