للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الجمعة، 27 سبتمبر 2013

إوباما وروحاني نحو "انفراج مسدود"




في 8 آب/أغسطس 1988 أعلن أية الله الخميني أنه "يتجرع السم من خلال قبوله وقف الحرب مع العراق".
وفي 16 أيلول/سبتمبر 2013، أي بعد 25 سنة، بدا خليفة الخميني أيه الله خامنئي وكأنه يتجرع السم هو الآخر، عبر إبداء استعداد إيران لممارسة "الليونة البطولية" في التعامل مع الغرب، بعد عقدين من "ِشيطنة أميركا" واعتبار أي ليونة في التعاطي معها بمثابة "خيانة إديولوجية".
الخميني قرر "تجرُّع سم" وقف الحرب لأن أدرك أنه عاجز عن حسم الحرب لمصلحته، ولأن نظامه بات مستنزفاً اقتصادياً وعرضة إلى الخطر. وخامنئي قرر هو الآخر "تجرع السم" لأن مقاربته القائمة على المجابهة مع الغرب، جعلت الاقتصاد الإيراني يتراقص على حافة الانهيار.
فالضائقة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها إيران هذه الأيام، أدت إلى خفض قيمة الريال الإيراني بأكثر من 60 في المئة خلال الأشهر الستة الماضية، ورفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى أكثر من 40 في المئة، هذا في حين كان التضخم يقفز إلى مستويات شاهقة. وهذا على مايبدو، مادفع مرشد الثورة الإيرانية إلى لجم الحرس الثوري الإيراني (مؤقتا) عن التدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (كما فعل العام 2009)، وإلى الافصاح علناً للمرة الأولى عن استعداده لابداء المرونة في المفاوضات النووية مع إيران.
"فيتنام إيران"
سبب هذا الانقلاب الخامئني سببان:
 الأول هو العقوبات الاقتصادية الغربية والدولية القاسية على إيران، التي جعلت الرئيس حسن روحاني يعترف في نيويورك أمس بأنها (العقوبات) ألحقت أضراراً فادحة ليس فقط بالاقتصاد الإيراني بل أيضاً بالمواطنين الإيرانيين العاديين الذين باتوا، على حد قوله، "يفتقدون إلى الطعام والدواء".
بيد أن السبب الثاني قد يكون أخطر: الكلفة الباهظة التي تتكبدها إيران في سباق التسلح والصراع على النفوذ الإقليمي مع الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، والتي قد تكون أكثر خطورة من العقوبات الدولية.
أكثر تجليات هذه المسألة تبرز في سورية.
كيف؟
يجب القول هنا، أولاً، أن لا أحد، بما في ذلك حتى  أبرز الخبراء الدوليين الموثوقين في الشأن الإيراني، يستطيع أن يدّعي ولو للحظة أنه قادر على توقّع سلوك طهران في السياسة الخارجية، لأنه ينبع (على حد قولهم الإجماعي) من ثنائية تاريخية شهيرة وعصية على التنبؤ: الباطنية أو التقيّة الشيعية، والدهاء أو الخبث الفارسي.
وربما هذا مادفع عبد الحليم خدام، النائب السابق للرئيس السوري، إلى القول عن تجربته في السلطة طيلة 40 سنة من الحليف الأكبر للنظام السوري: "لم تكن نعرف طيلة هذه الفترة ما يريد الإيرانيون، إلا بعد أن يحدث".
حسنا. إذا ماكان من الصعب، أو حتى المستحيل معرفة ما يريده الإيرانيون حقاً على المستوى الذاتي، إلا أنه ليس كذلك على الصعيد الموضوعي. وهذا مايتبدى الآن في الحالة السورية، حيث بات واضحاً أن  هذه الظروف الموضوعية بدأت تُملي على القادة الإيرانيين توجهات  تناقض صرخاتهم التضامنية المجلجلة مع النظام السوري.
ما هي هذه الظروف؟
إنها ببساطة تحوّل الحرب الأهلية- الإقليمية السورية إلى ما بات بعض المسؤولين الإيرانيين يصفونه في مجالسهم الخاصة بأنه "فيتنام إيران"، في وقت  يُجمع العديد من المحللين على أن الاقتصاد الإيراني يترنح بالفعل، كما أشرنا، على شفير الانهيار، بفعل الحصار الغربي، والفساد المستشري، وسوء الإدارة الحكومية.
وجاء الاستمرار غير المتوقع للحرب السورية، التي حوّلتها طهران إلى حربها الخاصة من خلال الاشتراك المباشر لوحدات من الحرس الثوري (فيلق القدس) وقوات حزب الله اللبناني وبعض الميليشيات الشيعية العراقية في المعارك، لتجعل سورية بمثابة "ثقب أسود" يستنزف ماتبقى من روح أو زخم في الاقتصاد الإيراني (يتندر الموظفون الرسميون في سورية بأنهم باتوا يتقاضون رواتبهم التي تقدّر برقم فلكي يناهز المليار دولار شهريا من طهران).
هذه المعطيات تقف على الأرجح وراء التمخضات التي تجري حالياً، وإن ببطء، في الداخل الإيراني حيال سورية، من جهة، والاتصالات"تحت الطاولة" وفوقها بين إيران والولايات المتحدة، من جهة ثانية، حول هذا الأمر. وكلا هذين التطورين وثيقي الصلة ببعضهما البعض.
ففي الداخل الإيراني، برز الموقف الخطير الذي اتخذه أية الله هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق وأحد الأعمدة الرئيس للنظام الإيراني، حين قال (في شريط فيديو مسجّل تمت إذاعته لنفي الرواية الرسمية عن عدم دقته):" بارك الله شعب سورية الذي تعرَّض إلى هجوم بأسلحة كيمائية على يد حكومته نفسها، والذي يتعيّن عليه الآن أن يتوقع غزواً أجنبيا". كما أدان رفنسجاني انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، وبدا وكأنه يدعم التمرد الشعبي ضد الرئيس بشار الأسد.
ويقول المحلل السياسي الإيراني صادق زيبا كلام، أن تصريح رفسنجاني هذا "لايعبِّر عن آراء ملايين المواطنين الإيرانيين وحسب بل هو أيضاً لسان حال مسؤولين كبار مثل الرئيس الجديد حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف" اللذين رحبا من أعماق قلبيهما به سرا".
هذا الرأي أيدته صحيفة فايننشال تايمز النافذة، لكنه لم تربطه بالمواقف الإنسانية بل في التوجهات الاستراتيجية، إذ قالت أن الرئيس روحاني وحكومته لايريدان مواصلة دعم نظام الرئيس الأسد مالياً وعسكرياً بلا شروط، لأنهما يعتبران ذلك عقبة أمام جهودهما لكسر الطريق المسدود في المحادثات مع الدول الست الكبرى حول الملف النووي الإيراني. وهذا ماقد يفسّر اللهجة غير التصعيدية الإيرانية السابقة حيال احتمالات الضربة العسكرية الأميركية لسورية.
ويقول هنا استاذ إيراني للعلاقات الدولية، طلب عدم ذكر اسمه،:" إيران لم تعد تريد وضع كل بيضها في سلة (الرئيس) الأسد، وقد بات من المصلحة الفضلى الاقتصادية والاستراتيجية لحكومة روحاني البحث عن بديل له". ويضيف إلى ذلك مهرزاد بوروجيردي، مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في جامعة سيراكوز:" المسألة الآن هي كالتالي: إذا ماتدهورت أوضاع الرئيس الأسد في ساحات المعارك، فمتى ستتخلى عنه طهران؟ إذا ماظهرت أدلة جديدة على أن جيش الاسد استخدم بالفعل الأسلحة الكيميائية، فهذا سيرفع إلى حد كبير الأكلاف السياسية لدعم إيران له".
هذه التطورات على الصعيد الداخلي الإيراني ترتبط بشكل وثيق، كما أشرنا، باتصالات ماتحت الطاولة بين إيران والولايات المتحدة، والتي يبدو أن سلطان عمان قابوس ونائب الأمين العام للأمم المتحدة جيفري فيلاتمان، اللذان زارا طهران موخراً، ووزير الخارجية الروسي لافروف، ، يقومان فيها حالياً بدور ساعي البريد بين الطرفين.
وتوضح مصادر دبلوماسية غربية هنا أن سورية باتت عنصراً رئيساً في هذا الحوار غير المباشر الأميركي- الإيراني، حيث كانت واشنطن حريصة على تجنب أي ضربة عسكرية لسورية لئلا يؤدي ذلك إلى ضرب آفاق هذا الحوار، وحيث تبدي أيضاً حكومة روحاني الحرص نفسه عبر النأي بنفسها بقدر الإمكان عن بعض ممارسات النظام السوري.
وذهبت هذه المصادر أبعد من ذلك بكثير، حين نقلت عن محللين أميركيين وإيرانيين قولهم أن إيران ربما كانت ترحّب ضمناً بأي ضربة عسكرية أميركية محدودة لسورية، لأن ذلك سيجعل من الأزمة السورية مشكلة أميركية، بعد أن بقيت طيلة نحو سنتين ونصف السنة مشكلة ضخمة (مالية وعسكرية وإديولوجية) لطهران .
لا بل يعتقد محللون بريطانيون أن إضعاف النظام السوري قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تحويل نقمة العقبة السورية أمام الحوار الإيراني - الأميركي إلى نعمة، من خلال بروز تحالف بين الطرفين ضد المنظمات الجهادية السنّية في سورية (وبالتالي في العراق) أسوة بما حدث بينهما في أفغانستان العام 2001.
وهذا أيضاً ما يراه كريم ساجادبور، خبير الشؤون الإيرانية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، الذي يقول:" تخوض إيران والولايات المتحدة الآن حرباً بالواسطة في سورية لن يخرج منها أحد رابحا. لكن، إذا، أو حين، يسقط الأسد، سيبرز أمام كلا الطرفين عدو مشترك هم الجهاديون المتطرفون السنّة".
هل هذه التحليلات في محلها؟
ربما. لكن هنا يجب الأخذ بنصيحة خدام: انتظار وقوع الحدث الإيراني، قبل أن نتأكد من أنه سيحدث بالفعل!.
هل تنجح المفاوضات؟
هذا على صعيد الوضع الاقتصادي والصراع الإقليمي. ماذا الآن عن احتمالات نجاح المفاوضات الإيرانية- الأميركية؟
مايلفت الانتباه هنا هو ماكشفت عنه مصادر دبلوماسية غربية رفيعة المستوى من أن واشنطن طلبت من طهران عبر وسطاء عُمانيين وسويسريين وروس أن تجري معظم المحادثات المقبلة بينما في إطار من السرية التامة.
وعلى رغم أن المصادر قالت أنها لم تعرف رد فعل الإيرانيين على هذا الاقتراح، إلا أنها قالت أن هذه الخطوة ضرورية لتسهيل التوصل إلى "رؤوس أقلام اتفاق" بين الطرفين حول خريطة طريق المفاوضات وتحديد الهدف الذي يراد الوصول إليه، من دون السماح للعوامل الداخلية في إيران والولايات المتحدة بالتأثير على مجريات الأمور بينهما.
وأعربت المصادر عن ثقتها بأن المفاوضات المقبلة، سواء منها السرية أو تلك التي تجري على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بين الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف مع مجموعة الدول الخمسة + واحد،  سببها كما أسلفنا الضائقة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها إيران هذه الأيام، ولأن إدارة أوباما أثبتت طيلة السنوات الخمس الأخيرة أن أولاياتها القصوى تكمن في إصلاح البيت الداخلي الأميركي وفي الاستدارة شرقاً نحو شرق آسيا. وهذا ماجعلها تتخذ مواقف انسحابية من كل قضايا الشرق الأوسط تقريبا، من مصر والعراق وتونس إلى سورية مؤخرا. كما أن هذا ما جعل القيادة الإيرانية تشعر بشيء من الطمأنينة بأن واشنطن ربما لم تعد تسعى إلى تغيير النظام الإيراني.
نقطة الانطلاق في المفاوضات الإيرانية- الأميركية ستبدأ من الاتفاق الروسي - الأميركي على الملف النووي الكيميائي، حيث ستكون فرص الاتفاق كبيرة بين الطرفين، وربما أيضاً حول التسوية السياسية في سورية. لماذا؟ تجيب المصادر: لأن شعور الإيرانيين إزاء الأسلحة الكيميائية يشبه شعور اليابانيين إزاء الأسلحة النووية. فهم خسروا أكثر من 100 ألف ضحية أو إصابة بها على يد صدام حسين. كما أن اقتصادهم أرهق بشدة من جراء دعم نظام الرئيس بشار الأسد على كل الصعد المالية والأمنية. وهذا ماقد يجعل الاتفاق مع واشنطن ممكن حول كلٍ من الأسلحة الكيميائية السورية ونظام مابعد الأسد.
ويتوقع أن تطرح واشنطن أيضاً على الإيرانيين فصلاً جديداً من التعاون بين الطرفين ضد الإرهاب والأطراف السنّية المتطرفة، كما حدث بينهما حين تعاونا في حربي  أفغانستان والعراق ضد خصوم مشتركين.
بيد أنه يعتقد أن عقدة المنشار في المفاوضات ستكون الثمن الذي يريده المفاوضون الإيرانيون مقابل استعدادهم لعدم تجاوز نسبة الـ20 في المئة من عملية تخصيب اليورانيوم. إذ أنهم يسعون إلى إجراءات جدية من الغرب ليس فقط إلى خفض العقوبات الاقتصادية عنهم، بل حتى أيضاً إلى مساعدة الاقتصاد الإيراني على تجاوز عتبة الانهيار التي يقف أمامها الآن. وهذا أمر لن يقبله الكونغرس الأميركي إلا من خلال "خطوة استسلامية" إيرانية يتم خلالها التأكد من أمرين إثنين:
الأول، أن إيران ستغلق فعلياً ملف التسلُّح النووي، وستشرع كل أبوابها أمام التفتيش الدولي على منشآتها النووية.
والثاني، أن الولايات المتحدة تريد أن تطمئن إلى أن التحولات في المواقف الإيرانية، من التصعيد والمجابهة إبان عهد الرئيس أحمدي نجاد إلى الليونة والتسويات في عهد روحاني، سيشمل أيضاً إسرائيل.
وهذان أمران دونهما ثلاث عقبات كأداء:
الأولى، أن أجنحة عديدة في الحرس الثوري الإيراني، وفي مقدمها فيلق القدس الذي يقوده سليماني، ستتضرر بشدة من أي صفقة أميركية- إيرانية، لأن مصالحها الاقتصادية تتغذى من العقوبات الدولية على إيران.
والثانية، أن الكونغرس الأميركي يحتوي على صقور بالغي الشراسة يعارضون أي خطوة مع طهران لاتتضمن العمل على إسقاط النظام. وقد وقّع عشرة شيوخ قبل أيام بياناً أصروا فيه على أنه ما لم تفكك إيران ليس فقط برنامجها النووي العسكري بل أيضاً المدني وما لم تصبح ديمقراطية ليبرالية (أي يتم تغيير نظامها)، فإنه لايجب رفع أي من العقوبات المفروضة عليها.
والعقبة الثالثة تكمن في الشرق الأوسط. إذ أن أي صفقة ثنائية أميركية- إيرانية لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القوى الإقليمية الرئيس في المنطقة، ستجابه باعتراضات قوية قد تؤدي إلى تقويضها.
والحصيلة؟
إنها واضحة: أوباما وروحاني متحسمان لإبرام الصفقات. لكنهما في الواقع نسران بلا أسنان: فالأول لن يحصل على موافقة الكونغرس على أي اتفاق لايرضي الصقور الجمهوريين والليكوديين، والثاني عرضة في أي لحظة للوقوع في أفخاخ الحرس الثوري الذي قد يتجاوز حتى أوامر ولي الفقيه، بعد أن بات هذا الحرس منذ عقد من الزمن هو القوة الفعلية الحاكمة في بلاد الخميني وقورش.
وأمام هذا الوقائع، أكثر مايمكن أن يحققه الثنائي أوباما وروحاني هو صفقات ثنائية صغيرة، على نمط  صفقات أفغانستان وإيران غيت. أما "الصفقة الكبرى" التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة فهي يجب أن تنتظر ولادة نظام دولي جديد لايبدو في الأفق أنه قد يطل برأسه في أي وقت قريب.

____________________________


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق