( I )
نادرة
هي الكتب التي تتمّرد على الحاضر كلّي الحضور ، فتكسر قيوده لترى ما بعده.
ونادرة أكثر
تلك الافكار الكبرى التي تتجاوز
، هي الاخرى ، قوانين الواقع الجامدة لتحاول الامساك بروح
المستقبل المتحركة .
الرساّم العبقري غاري لارسون ، لديه رسم كاريكاتوري
رائع لحقل ترعى فيه أغنام بسلام ، عدا
خروف واحد حكيم يرفع رأسه فجأة بدهشة كبيرة ويصرخ : " إنتظروا ! . هذا عشب.
ما نأكله هو عشب ! ".
المفّكر
جون غراي كان دوما مثل خروف لارسون المتمرد ، الفخور بلونه الاسود بين قطعان الخرفان
البيض. فهو يهوى السباحة عكس التيار ، ويعشق قول
" لا " حين يقول
الجميع " نعم " . وهذا ليس من
باب إثبات الوجود ( فهو لا يحتاجه بسبب شهرته ) ، بل من موقع التشديد على ان
الحقيقة لا يمكن ان تكون ذات وجه واحد ،
او بعد واحد ، او مذاق واحد .
في
كتابه ما قبل الاخير " فجر كاذب
" ، كان غراي أول من حذّر من مخاطر
العولمة الرأسمالية المنفلتة من عقالها. آنذاك ، إنصبت عليه الاتهامات وإنهالت
عليه اللعنات ، لكونه يعارض " نهاية التاريخ " ، تلك النظرية التي
تحولّت ال دين جديد في التسعينات . لكن
بعد فترة قصيرة ، إنقلبت الاتهامات الى إعترافات بالخطأ ، واللعنات الى إشادات
ببعد الرؤيا.
والان
، يتقّدم غراي بما هو أكثر بكثير من نقد الظواهر الاقتصادية والاجتماعية في
المجتمعات البشرية . إنه يوجّه سهامه هذه المرة الى البشر أنفسهم ، مدينا ما يسميه
" الحيوان الانساني ".
لماذا
؟.
قبل الاجابة
، فلنتوقف قليلا امام الافكار
الرئيسة في كتابه الجديد " الهرطقات : ضد التقدم والاوهام الاخرى " (
* )
.
( II )
يحمل
غراي بشّده، في " هرطقاته "
على المحافظين الجدد في إدارة بوش ويطلق عليهم
" يعاقبة واشنطن الذين يعتقدون انه من
الممكن إستئصال الشر من العالم " .
يقول : " الخطر في السياسة الخارجية
الاميركية لا يكمن في انها مهووسة بالشر ، بل بأنها تستند الى الاعتقاد بأنه يمكن
إزالة الشر . ومثل هذا الغباء بعيد كل البعد عن حكمة الاباء المؤسسن الاميركيين
الذين كان هدف الحكومة بالنسبة لهم ليس قيادتنا
الى الارض الموعودة ، بل جعلنا نتحاشى الشرور المتكررة التي تتعرض لها الحياة
البشرية " .
ويشدد على ان تنظيم " القاعدة " يشكل بالفعل تهديدا لأستمرارية القيم الليبرالية
الغربية نفسها ، لكن ذروة الغباء هو الادعاء بأنه في وسعنا هزيمته بالقوة
العسكرية.
بدلا من غزو العراق وإطلاق الضجيج التهديدي ضد
إيران وسوريا ، كانت السياسة المنطقية تقتضي معالجة القضايا الاقليمية ، مثل
الصراع الدموي الفلسطيني- الاسرائيلي ، والفصل بينه وبين نشاطات " القاعدة
" ، بهدف " إعادة الارهاب الى
مستوياته التاريخية الطبيعية " . بيد أن
" صليبيي البيت الابيض والبنتاغون ( على حد تعبيره ) ، يحتقرون بالطبع مثل هذه المقاربة التدريجية
" .
غراي
يعتبر نفسه " ما بعد إنسانوي " بشكل لا يتزعزع " .يقول : "
حين كنا صغارا ، كان التعليم الشفوي الكاثوليكي يؤكد لنا ان العالم خلق من أجل
فائدة الانسان وإستخداماته ، وبالتالي فإننا أسياد الخلق الذين تخضع لسيطرتهم كل
الطبيعة بما فيها من نباتات وحيوانات . ويضيف
: بالنسبة للأنسانيين الليبراليين ، هذه الانباء الطيبة لا تزال طيبة. بيد ان ما يسمى بالانظمة
العلمانية التي تحكم الغرب ، ليست في الواقع سوى حصيلة ديانة مفككة تقوم على
الاعتقاد بان حياة الانسان تصبح أفضل مع نمو المعرفة .
ويبدي
غراي إحتقارا واضحا لمن يسميهم رجال الكهنوت العلماني الحديث . فهؤلاء ورثوا فلاسفة عصر الانوار في القرن الثامن عشر وهم يدعّون أنهم يدشنون عهدا جديدا من الوثنية . في حين
انهم، برأيه ، كانوا في الواقع مسيحيين
جدد .
كل ما فعله عصر التنوير ، هو أنه عزز الدين
المسيحي بوسائل أخرى .أما إيمان هذا العصر
بالتقدم ، فلم يكن سوى الرسالة
المسيحية نفسها وقد أفرغت من مضمونها الغامض والتجاوزي . لا بل يقول غراي
أن أولئك الذين ما زالوا يحملون الايمان المسيحي ، أعمق تفكيرا واكثر ثقافة
حتى من أعتى خصومهم الانسانيين
الليبراليين .
هذه
المقدمات ، تقود الى الاجابة على سؤالنا
الاولي عن أسباب إدانة غراي للبشر .
إذ
هو يعتبر أن الايمان بالتقدم ، الذي يصفه
بأنه " أفيون الطبقات المفكرة " ، ليس سوى أوهام تخفي أكثر السياسات الاجتماعية والسياسية
الصارخة في خطئها.
بالطبع ، هناك شيء إسمه تقدم ، لكن هذا لا يوجد
إلا في العلم ، فيما هو خرافة في الاخلاق والسياسات .
وفي
كل متون الكتاب ، يحمل غراي بشدة على
الفكرة ، التي قدمت للمرة الاولى في عصر النهضة ثم كرّست في عصر الانوار ، وهي أن
التاريخ يتحّرك بشكل حتمي في خط مستقيم ، وبأن الطبيعة البشرية ستتحّسن بالضرورة
مع تراكم معرفتنا . يقول : " المعرفة الانسانية تكبر بالفعل ، لكن الحيوان
الانساني ما يزال على حاله ".
( III )
هل
غراي على حق؟
أجل
!. وعلى من يرفض منطقه ، أن يفسّر لنا
، أولا ، لماذا لم يكن هناك سوى عشر سنوات
سلام فقط ، من إجمالي تاريخ بشري عمره
عشرة آلاف سنة من الحروب .
سعد
محيو
________________________
( * ) John Gray : Heresies : Against
progress and other illusions. Granta.
2004 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق