- I -
لم
يعد السؤال في العراق الآن: هل تقع الحرب الأهلية الثانية خلال عشر سنوات بين السنّة
والشيعة ؟، بل: هل لازال بالامكان وقف الانزلاق السريع الراهن إليها؟
المؤشرات
على السؤال الثاني لاتبدو إيجابية، والسبب يقع في الدرجة الأولى على عاتق رئيس
الوزراء نوري المالكي. فالرجل يبدو
مهجوساً هذه الأيام بالانتفاضة السورية واحتمال تعزيرها لسنّة العراق إلى درجة
يعتقد البعض أنها وصلت إلى مرحلة الوسواس المرضي (Paranoia ).
بكلمات
أوضح: المالكي يرى وراء كل حركة مطلبية عراقية شبح انتفاضة شعبية سنيّة على الطراز
السوري. وربما هذا مادفعه إلى اللجوء إلى الخيار الأمني- المخابراتي في الدرجة
الاولى، منذ أن بدأ الحراك الشعبي في المحافظات السنّية الأربع في كانون
الأول/ديسمبر الماضي. وقد توّج المالكي
هذا التوّجه بمذبحة قرية الحويجة الشمالية مؤخراً التي راح ضحيتها عشرات السنّة بين قتيل وجريح.
بالطبع،
هذا الموقف الطائفي الذي يتخذه المالكي، والذي يُغلِّب فيه نزعته السلطوية على هدف
بناء الدولة الوطنية العراقية الشاملة لكل مواطنيها، ليس بالأمر المستجد، بل هو
بدأ خلال الاحتلال الأميركي وبعده. كل ما هنالك أن هذه السياسات بدأت تؤتِ أكلها الآن: شعور كبير بالامتعاض
والتهميش بين العرب السنّة، الأمر الذي يهدد بتحويل حركاتهم الاحتجاجية الراهنة
إلى تمرد مسلح في أي لحظة، شبيه بذلك حدث العام 2003.
كما أن فشل الحكومة في تحقيق أي نوع حقيقي من
المصالحة السياسية، وتلبية حاجات السكان
الاجتماعية والتنموية، وتسوية القضايا العالقة في مجالات النفط والأراضي المتنازع
عليها، كل ذلك جعل "الحل الأمني" يفرض نفسه كمقاربة حكومية وحيدة
للأزمات الراهنة. وإذا ماوضعنا في الاعتبار الخلل الديمغرافي- الطائفي الراهن في
تركيبة قوات الجيش وأجهزة الأمن لغير صالح السنّة، فقد لايكون من الخطأ الاستنتاج
بأن تفاقم الأوضاع في المحافظات السنيّة سيؤدي في نهاية المطاف إلى فشل النموذج
العراقي الراهن لإعادة بناء الدولة- الأمة.
والآن، دخلت الحرب الأهلية السورية على خطوط
الصدع العراقية الجديدة لتكون بمثابة الصاعق الذي قد يفجّر بلاد العباسيين مرة
أخرى، وربما أخيرة. فحكومة المالكي، بسماحها بتحوُّل العراق إلى ممر للمساعدات
الإيرانية للنظام السوري، خلقت الظروف الملائمة لتقاطع مصالح السنّة العراقيين مع
ثورة السنّة السوريين. وهذا ما دفع العديد من العشائر السنيّة العراقية، ناهيك
بالطبع بالحركات الإسلامية المتطرفة إلى رفع شعار: اليوم دمشق وغداً الزحف على
بغداد.
- II -
هذا القصور الذي
يبديه المالكي في عملية بناء الدولة الوطنية يتقاطع، أو بالأحرى هو يصب، في صالح التنظيم الجديد الذي ظهر على الساحة
العراقية: "جيش رجال الطريقة النقشبندية"، الذي هو حصيلة بين حركة صوفية عريقة لها امتدادات عالمية (من
بين أنصارها رجب طيب أردوغان كما يقال) وبين حزب البعث العراقي بقيادة عزت إبراهيم
الدوري.
هذه المنظمة بدأت
تفرض وجودها ليس فقط بسبب طرحها الإيدولوجي القومي العربي والإسلامي المشترك،
وقدراتها التنظيمية والإعلامية، وانضمام أعداد كبيرة من أفراد الحرس الجمهوري
السابق إليها، بل لأن سياسات المالكي الطائفية المتشنجة بدأت تدفع حركات الاحتجاج
السنيّة المسالمة إلى الاقتناع بما تقوله المنظمة من أن الثورة المسلحة ضد ما تصفه بـ"النظام الطائفي العميل
للصفويين الفرس"، هو المدخل الوحيد لتحقيق المطالب.
رجال القبائل في
الأنبار، المعقل الرئيس للانتفاضة السنيّة، بدأوا يستجيبون لهذه الدعوة، جنباً إلى
جنب مع ظهور مجموعات مسلحة بشكل مطرد في كل المحافظات السنية.
والحصيلة؟
إنها واضحة: مالم
يتخل المالكي عن سياسة الاقصاء المذهبي في دوائر الدولة والجيش والقضاء، ويقبل
فكرة إعادة بناء الدولة العراقية على أسس وطنية، فإن أسوأ كوابيسه هو ستتحقق
بالفعل: تحوّل الثورة السنيّة السورية والانتفاضة السنّية العراقية إلى ثورة واحدة
قد تعيد تشكيل المشهد الجيو- استراتيجي في كل المشرق العربي.
كيف؟
- III -
في
8 آذار/مارس الحالي، ألقى المحلل البريطاني في "فايننشال تايمز" ديفيد غاردنر
بعض الأضواء على السبب، حين ركَّز على النقاط التالية:
-
التحالف الغربي، بدخوله العراق وتفكيكه، قلب موازين القوى في أكثر مناطق العالم
التهابا، ليس لأنه أطاح نظام حسين، بل لأنه أوصل الأقلية الشيعية في داخل العالم
الإسلامي (والتي هي أغلبية في العراق) إلى السلطة في قلب المنطقة العربية للمرة
الأولى منذ سقوط الخلافة الفاطمية العام 1173.
-
وهذا، إضافة إلى أنه أسفر عن حمام دم في العراق، أشعل مجدداً نزاعاً عمره ألف سنة
بين السنّة والشيعة، امتد من المشرق العربي إلى شبه القارة الهندية.
-
أحداث العراق غيَّرت بالفعل مقومات المنطقة، وهي كانت أخطر بكثير من مضاعفات حرب
السويس العام ،1956 لأنها أعطت زخماً لكل ألوان وأنواع الحركات الإسلامية.
تحليل
دقيق؟
أجل.
لكن، يجب ان نضيف إليه عاملاً آخر لايقل أهمية.
فأرض العراق في الواقع رأس جسر ممتازاً ونموذجياً لتفجير العالم الأسلامي من داخله،
لأنها كانت المسرح الرئيس للمأساة التاريخية لآل البيت على يد الأمويين. كما أنها
كانت ساحة المعركة الرئيس بين العثمانيين والصوفيين طيلة قرنين من الزمن ( العراق
آنذاك كان يصبح صفوياً فارسياً في الشتاء،
وسنّياً تركياً في الصيف! ) .
القسمة الدموية
السنية – الشيعية انطلاقاً من العراق منذ غزوه العام 2003، حققت، وستحقق أكثر،
جملة أهداف إستراتيجية غربية دفعة واحدة.
فهي شطرت الشرق الاوسط الكبير الى شطرين كبيرين متناحرين. وهي جعلت إيران في حال
صدام ليس مع أميركا وحسب، بل (مجدداً ) أيضاً مع تركيا وباقي اطراف الغالبية
السنّية في العالم الإسلامي. وبالطبع، حين تحاصر جمهورية الخميني على هذا النحو،
لن يطول الوقت ( مجدداً أيضاً ) قبل ان تبدأ البحث في وقت ما عن حلفاء لها في
الغرب. وهذا بالتحديد ما فعله الصفويون
طيلة القرنين 18 و19.
وأخيرا، حروب
السنّة والشيعة قد تقلب صورة الصراع مع إسرائيل رأسا على عقب. ويكفي للتدليل على
ذلك تخيلّ، مثلاً، مصير مواجهة " حزب
الله " مع إسرائيل، إذا ما انجرّ الحزب الى صراعات طائفية مع السنّة في لبنان
وسوريا والعراق.
رب متسائل هنا: كيف
يمكن أن يكون انقسام العراق هو المدخل لتقسيم المشرق؟
حسنا. الصورة تبدو
بسيطة وواضحة: الحرب الأهلية العراقية الجديدة، في حال نشوبها،
ستؤدي إلى انفصال المحافظات السنيّة الأربع عن الكيان العراقي، وربما انضمامها إلى
الأردن في إطار مملكة أردنية هاشمية جديدة. وهذا بات أمراً وارداً بقوة بعد أن
أعاد الرئيس الأميركي أوباما خلال جولته الشرق أوسطية الجديدة إحياء المحور
التركي- الإسرائيلي- الأردني الشهير، الذي سيتحوِّل في وقت قريب إلى الوكيل الحصري
الإقليمي الجديد للباكس أميركانا في الشرق الأوسط.
هذه المملكة
الهاشمية الجديدة ستقيم بالطبع علاقات وطيدة مع المحافظات السنيّة السورية، سواء
في شكل فيدرالي أو تنسيقي، في حال انهارت الدولة السورية الراهنة. وحينها سيكون
الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام قيام دولة علوية على الساحل السوري لها امتدادات
شيعية في داخل لبنان، فضلاً عن تقسيم لبنان نفسه إلى دويلات طائفية مسيحية ودرزية
وسنّية وشيعية.
***
هل يعي المالكي كل
هذه المعطيات الزلزالية الناجمة عن سياساته الطائفية الاقصائية، أم أن البارانويا
هي الحاكم السعيد في رأسه؟
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق