للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

السبت، 26 يناير 2013

أنت أنا يا أخي...


اعتقاد البشر أنهم مخلوقات فردية منفصلة ومستقلة هو مجرد وهم كبير لايمكن أن يؤدي سوى إلى صراعات ونزاعات لانهاية له، وهو الذي خلق هذه الأيام السلسلة المتنامية من الأزمات الاجتماعية والبيئية والوجودية الكبرى، وهو الذي  أفرز كوارث التلوث وسخونة المناخ ودمار توازنات الطبيعة".

- I -

أشرنا بالأمس في هذه الزاوية(اليوم، غداً، 25-1-2013) إلى أن تجربة عالم الفيزياء ألان اسبينكت، الذي اكتشف هو وفريقه أنه في ظروف مُعيّنة تكون الجزيئيات ماقبل الذرية قادرة على التواصل الفوري مع بعضها البعض، بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينها، سواء أكانت على بعد 10 أمتار أو 10 بلايين متر، أثارت ضجة كبرى في الأوساط العلمية.
من فيلم أفاتار(الصورة من غوغل
وهذا كأن أمراً متوقعاً. إذ أن هذه التجربة خرقت مبدأ أينشتاين الذي ينص على أنه لا اتصالات يمكن ان تجري بأسرع من سرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية). ولذلك عجز العلماء عن تفسير هذه الظاهرة.
وحده ديفيد بوهم كان جريئاً بما فيه الكفاية ليُعلن أن سلوك الجزيئيات يشبه تماماً تجربة السمكة في الأكواريوم التي أوردناها أمس. فما نراه ليس جزيئيات عديدة لاحصر لها، بل جزءٌ واحد أو كلٌّ واحد، في إطار هولوغرام واحد يحتوي على كل شيء وعلى كل المعلومات في الكون. الكل موجود في كل جزء.
بالطبع، هذه النظرية تتناقض تناقضاً بيّناً مع مباديء العلم الغربي الحديث، الذي يعتبر أن أفضل وسيلة لفهم الظواهر المادية هي تقطيع أوصالها إلى أجزاء ودراستها كوحدات منفصلة. بيد أن تقطيع الهولوغرام لايؤدي سوى إلى أجزاء تتضمن الكل، مهما صغر حجم هذه الأجزاء.
ويعتقد بوهم أن الجزيئيات ماقبل الذرية تستطيع البقاء على اتصال وتواصل مع بعضها البعض لا لأنها تُرسل إشارات أسرع من الضوء، بل لان الانفصال في ما بينها مجرد وهم. ففي مستوى أعمق من الحقيقة، هذه الجزيئيات ليست كيانات فردية منفصلة بل هي في الحقيقة امتدادات للشيء الأساسي نفسه.
يقول بوهم:  إننا نرى الأشياء، على غرار الجزيئيات مادون الذرية منفصلة، لأننا لانرى سوى جزء من حقيقتها. فهذه الجزيئيات ليست "أطرافاً" منفصلة بل أوجهاً من وحدة كامنة هولوغرامية أعمق  لاتنقسم كما الوردة".
 وبما أن كل شيء في الحقيقة المادية يتكوّن من اطياف وأشباح (أي وهم)، فإن الكون نفسه ليس أجزاء منفصلة بل كلاً واحداً. قرية واحدة، بكلمات أوضح، على رغم بلايين المجرات فيه. كما أن هذا الكون يتضمن سمات مذهلة أخرى: فالالكترونات في ذرة الكربون الموجودة في دماغنا البشري، ترتبط بالجزئيات دون الذرية الموجودة في كل سمكة تسبح وفي كل قلب ينبض وفي كل نجم يلمع. كل شيء يخترق كل شيء. الكل شبكة واحدة متصلة.
وفي هذا الكون الهولوغرامي، حتى الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل كلها توجد في وقت واحد. وبالتالي، امكانية رؤية الماضي والمستقبل ستكون ممكنة حين يُطوّر الإنسان التكنولوجيات المتطورة اللازمة لذلك.
عالم الاعصاب كارل بريبرام أثبت هو الأخر هذه الفكرة، حين قطع دماغ الجرذ إلى أجزاء، فاكتشف أنه في كل جزء منها بقيت الذكريات موجودة في نبضات عصبية تنتقل عبر كل الدماغ، كما اللايزر في صورة الوردة.
هذه الاكتشافات كان يفترض أن تقود إلى ثورة في العلوم الإنسانية، شبيهة بتلك التي اطلقتها نظرية داروين في التطور التي أفرزت كماً واسعاً من العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسايكولوجية، مثل "الداروينية الاجتماعية"، والليبرالية الاقتصادية المستندة إلى فرضية "الجينة الأنانية" الرأسمالية الموجودة لدى كل إنسان.
لكن، لماذا لم يحدث الأمر نفسه مع اكتشافات بوهم وزملائه؟
- II -

لسبب واضح: نظرية بوهم تصيب من الرأسمالية مقتلاً. فهي بنفيها الوجود الفردي والانفصال بين البشر وبين كل الموجودات، كانت تدعو عملياً إلى إلغاء النظام الرأسمالي التنافسي (حرب الجميع على الجميع) وإحلال نظام تعاوني ديموقراطي-روحاني مكانه؟
 ولم يكن غريباً بعد ذلك على أي حال، أن تشن السلطات الأميركية على بوهم حملات عنيفة تتهمه بالانتماء إلى الشيوعية، ما اضطره في نهاية المطاف إلى الهجرة إلى بريطانيا والاستقرار فيها.
كتب بوهم:" اعتقاد البشر أنهم مخلوقات فردية منفصلة ومستقلة هو مجرد وهم كبير لايمكن أن يؤدي سوى إلى صراعات ونزاعات لانهاية لها. وفي الواقع، محاولة العيش وفقاً للفكرة بأن الأجزاء هي حقائق منفصلة هو ماخلق هذه الأيام السلسلة المتنامية من الأزمات الاجتماعية والبيئية والوجودية الكبرى، وهو ما أفرز كوارث التلوث وسخونة المناخ ودمار توازنات الطبيعة".
العالم اللافردي الذي يدعو إليه صاحبنا الفيزيائي الذي كان مساعداً لألبرت أينشتاين وفارق الحياة العام 1992، يستند إلى الأفكار الرئيسة التالية:
- وحدة الوجود (PANTHEISM) التي تؤمن بها العديد من المدارس "التجاوزية" في كل الأديان، والتي تعتبر أن الوجود برمته وحدة متكاملة يتصل بها الجزء بالكل والكل بالجزء، مادة وروحاً، مهما كان نوعهم أو شكلهم، وسواء أكانوا إنساناً أونباتاً أوحيواناً أوحتى جمادا.

-       علم فيزياء الكم(QUANTUM PHYSICS) الذي أكد نظرية وحدة الوجود، حين أثبت أن أجزاء الكون، من أصغر كوارتس إلى أكبر مجرّة، مترابطة مع بعضها البعض في شبكة واحدة لاتتجزأ.
-       الفلسفة الصوفية التي تعتبر أن التواصل مع العناية الإلهية ممكن فقط عبر التواصل الروحي والحدس، لاعبر العقل الذي لايستطيع سوى إدراك العالم المادي الظاهر.
-       الفلسفة البيئية والإيكولوجية التي ترفض اعتبار الطبيعة عنصراً ميتاً أو جامداً يجب استغلاله وإخضاعه بكل القوة والعنف الممكنين، وتطل عليها بوصفها كياناً حيّاً وأمّاً رؤوماً. وهذا ما عبّرت عنه أشعار الهنود الحمر الجميلة الذين رفضوا حرث الأرض قائلين:" كيف تريدون مني أن أبقر بطن أمي ؟
-       فيلم أفاتار الشهير تأثّر إلى حد كبير بأفكار بوهم. فجنس النافي في الفيلم يُجسّدون كل هذه المباديء مجتمعة. فهم مُتوحدون ومتحدون كلياً مع الطبيعة، خاصة مع الأشجار التي يُقدّسونها لأنه لا حياة بشرية أو غير بشرية من دونها. ثم أن كل شيء في قمر باندورا الذي يقطنونه متصل ببعضه البعض في وحدة روحية رائعة، تتجسّد في  الغابات البكر التي تًشع أنوارها وتتفجر ألوانها بكل الجمالات، والتي يعيش فيها وعليها النافي من دون حاجة إلى ناطحات السحاب وغابات الأسمنت.

- III -

ماذا إذا؟
هل سنواصل اعتبار الكون (ومعه الوجود) أشبه بحجر صلد يجب تدميره أو اخضاعه بالقوة، أم أننا سنطل عليه بحب وحنو على أنه هولوغرام واحد رائع؟
الخيار هنا هو بين الوهم والحقيقة، وأيضاً بين بقاء الجنس البشري والحياة نفسها على الأرض، أو الانقراص.
 فلنقم بهذا الخيار، والآن.

                                                                                سعد محيو



                                                                                 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق