-
I -
يعترف كاتب هذه السطور أنه كان في البداية من المتحمسين
للعولمة وللانضمام إليها، ليس لأنه نقل بندقية الانتماء من كتف الاشتراكية (فهذا
لم يحدث) إلى قبضة الرأسمالية (فهذا كان ولايزال غير وارد)، بل لقناعة بأن هذا
"القدر الحتمي" سيكون تقدمياً، كما كانت الرأسمالية في نشأتها تقدمية
حين برزت على انقاض النظام الإقطاعي.
كان ثمة مراهنات، أو بالأحرى أوهام، أخرى: فالعولمة، بصفتها
قوة حديثة ومابعد حديثة، يفترض أن تجلب معها حقوق الانسان والديمقراطية، والعلم
والتقانة والعقلانية، وتوحيد العالم في قرية واحدة من خلال ثورة الاتصالات
والمعلومات المذهلة، وتلغي التعصب بكل أشكاله العرقية والقومية وألوانه الدينية،
من خلال تجاوز الدولة القومية التي تسببت بالكوارث الهائلة في القرن العشرين، وقبله
منذ القرن السابع عشر حين حوَّلت النهضة الإنسانية الأولى في أوروبا إلى نزعة
استعمارية وعنصرية عاتية.
لكن، يتبين الآن مدى خطل هذه الرهانات من ألفها إلى
الياء.
صحيح أن الرأسمالية العالمية انتصرت في كل العالم (كما
توقع كارل ماركس) وحولّته إلى سوق واحد، وصحيح أن عصر العولمة أزال الحواجز أمام
الأفكار والمعلومات والسلع والخدمات. لكن الصحيح أيضاً أن الرأسمالية
النيوليبرالية المنفلتة من عقالها، والمسيطرة على كل ما يكتب ويذاع ويبحث وينشر
ويتداول من فكر وثقافة في العالم، ألحقت، ولاتزال، دماراّ ربما فات الأن أوان ترميمه
في بيئة أمنا الأرض، وأوجدت أضخم حالة لامساواة في كل التاريخ البشري ( بين واحد
في المئة يملكون كل شيء وفي خدمتهم 20 في المئة يكونون جيشوهم الصغيرة، وبين 80 في
المئة الباقين)، وحوّلت السعادة الفردية كما الجماعية إلى سراب استهلاكي منقطع
السرعة، ووضعت العالم والتكنولوجيا في خدمة مصالحها الخاصة، بما في ذلك بدء تحويل أفراد
الطبقات الرأسمالية إلى "مخلوقات خالدة" عبر تقانة البيوتكنولوجيا.
والأهم من هذا وذاك أن العولمة اندفعت بكل طاقتها لتكريس
إيديولوجيتها القائمة على التركيز على أن الإنسان فردي واناني تطبعاً وطبيعة
(نظريات الجينة الأنانية)، وبالتالي أن الحروب والصراعات والتنافسات الوحشية
والتنافسية، ومعها ديكاتورية السوق، جزء لايتجزأ من هذا الطبع وتلك الطبيعة.
-
II -
لكن، إذا كانت العولمة الرأسمالية على هذا القدر من
الوحشية والخطورة، فإنها في الوقت نفسه، كما قلنا، تبدو قدراً حتمياً لامرد له.
هذا إضافة إلى أن كل المحاولات التي بذلت خلال العقدين الماضيين لطرح بدائل لها،
من العولمة البديلة إلى العولمة ذات الوجه الإنساني أو العولمة الأممية
والاشتراكية، لم تُحدث حتى خدوشاً على سطحها على رغم المظاهرات والمؤتمرات الصاخبة
في سياتل ونيويورك ولندن وباريس وبقية عواصم العالم.
وطالما أن الأمر على هذا النحو، ماذا في وسعنا نحن
الرافضين لهذا المصير الداكن في المنطقة العربية والعالم أن نفعل؟ أليس من الأفضل
بدل الرفض غير المجدي أن نراهن، مثلا، على نهوض مماثل للصين والهند في ظل العولمة،
على رغم أن هذين البلدين العملاقين مهددان الآن، خاصة الصين، بكوارث بيئية مرعبة
قد تتبعها ربما حروب أهلية طاحنة؟.
كلا.
فعلى المستوى العربي، لايتوقعن أحد أن تسمح إسرائيل، وهي
المركز الشرق اوسطي الحقيقي للعولمة، بدخول استثمارات انتاجية صناعية وزراعية
وتكنولوجية إلى الدول العربية، لأن ذلك سيهدد هيمنتها الكاسحة على المنطقة. كما أنه
قد يلغي كل المشروع الشرق أوسطي القائم على كون الدولة العبرية المركز الانتاجي
والتكنولوجي الوحيد في هذا الإقليم.
هذا إضافة إلى أن الدول العربية نفسها تحوّلت كلها وبلا
استثناء إلى ما أسماه غونار ميردال "الدولة الرخوة" التي ينخرها الفساد
من رأسها إلى أخمص قدميها، وأصبحت تابعة بالكامل لقوى العولمة الرأسمالية المتعولمة.
وهذه الأخيرة لاتريد من الدول العربية سوى أن تسهّل تحوّل بلدانها إلى سوق
استهلاكي للشركات متعددة الجنسيات، وأن تركز (خدمة للمركز الإسرائيلي) على
القطاعات الخدماتية غير الانتاجية.
هذا الواقع، يضاف إليه تضافر وتقاطع عاملي تغير المناخ
والطفرة الديموغرافية الشبابية، سيعني أمراً واحدا: أن بقاء المنطقة العربية
مرتبطة بنظام العولمة وشروط التكيف الهيكلي التي تفرضها مؤسساتها من صندوق النقد
الدولي والبنك الدولي إلى منظمة التجارية العالمية، ومن ورائهما حكومات الاتحاد
الاوروبي وجيوش الامبراطورية الاميركية، سيؤدي إلى سلسلة اضطرابات اجتماعية
وطائفية وإثنية وحروب أهلية لاتنتهي. وهذا على أي حال مايحدث الآن في مصر وتونس وليبيا
والسودان واليمن وسورية، وما سيحدث حتماً قريباً في الجزائر والمغرب ودول الخليج.
وعلى الصعيد العالمي، سيتواصل فرز المجتمعات الغربية
المتقدمة صناعياً إلى أقلية احتكارية تخدمها فئة العشرين في المئة وإلى 80 في
المئة يمارسون العطالة والبطالة في إطار ما أسماه زبغنيو بريجنسكي " TittytainmenT،
أي "إرضاع" الـ80 في المئة من صدر التسليات الاستهلاكية التافهة، تماماً
كما كان يفعل أباطرة روما القديمة حين كانوا يلهون مواطينهم بـ"السيرك
والخبز".
بيد أن الأهم عالمياً هو التدهور البيئي. فأقطاب العولمة
ينفقون عشرات مليارات الدولارات سنوياً على مراكز الأبحاث و"العلماء"
الذين ينفون وجود ظاهرة تغيّر المناخ، أو يروجون أن التنكولوجيا قادرة على خفض نسب
التلوث، من دون تنفيذ ماطالب به نادي روما منذ السبعينيات بضرورة وقف النمو الاقتصادي،
لأن الأرض لم تعد تتحمل هذا النزف البيئي الهائل للمحيطات والأنهار والتربة
والهواء.
بيد أن الكارثة البيئية العالمية موجودة وحقيقة واقعة.
وهذا ما حذّر منه بقوة تقرير الأمم المتحدة الأخير قبل أيام حول تغيّر المناخ،
والذي أشار فيه إلى أنه إذا ماواصلت الدول الغنية في الغرب والصاعدة في الشرق
تجاهل ضرورة خفض معدلات ثاني أوكسيد الكربون، فبعد عقد من الآن سيكون الوقت قد فات
لوقف مضاعفات تغير المناخ.
-
III -
الآن، طالما أننا في طريق مسدود عربياً وعالمياً إزاء
العولمة، فهل هذا يعني أن نستسلم لأقدارنا؟
كلا.
هناك حلول، واقعية ومثالية في آن!
(للحديث صلة).
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق