-
I -
المفكر البارز برتراند ميهوست (bertrand meheust ) يعتبر أنه فات الاوان على انقاذ البشرية من مصير
مأساوي لامفر منه، نظراً إلى الدمار الذي
أحدثه الرأسمالية في بيئة الأرض والمحيط الحيوي. فـ"تليُّف الكبد
النيوليبرالي"، على حد تعبيره، لا شفاء منه. وهذا مايراه أيضاً مفكر آخر هو
وليم غريدر الذي أعلن أن العولمة ستتسبب
بسلسلة كوارث رهيبة تلحق بالعالم
قبل ان يتمكن الحس السليم من الانتصار. هذا إذا بقي وقت لتحقيق انتصار ما.
كلا المفكرين على حق، لكن نسبيا. فبيئة الأرض وصلت
بالفعل إلى درجة التشبع بالتلوث، ولن تستطيع الرأسمالية العالمية حتى لو أرادت (وهي
لن تريد أبدا) أن توقف الحرب الشعواء التي أعلنتها على الطبيعة. وبالتالي الانتقام
المقبل لأمنا غايا من الجنس البشري آتية لاريب فيها.
ليس هذا وحسب، بل لا بد من الاعتراف أيضاً أنه لا سبيل
للتغلب على رأسمالية أو امبراطورية العولمة. فهي قوة طاغية، لا بل أكبر قوة طاغية
في التاريخ. إذ هي تسيطر على فكرنا وثقافتنا (الأفلام والموسيقى، ومراكز الأبحاث،
والصحافة والإعلام والفضائيات ألخ..)، والمأكل والمشرب( الأطعمة المعدلة جينيا،
والسيطرة على أسواق وأسعار وبذورات المحاصيل الزراعية عبر الشركات الضخمة متعددة
الجنسيات) وتوجيه أو خلق الأحلام والرغبات (التي تتركز كلها على إديولوجيا
الاستهلاك)، وتحديد طبيعة أنظمتنا السياسية والاقتصادية وفق مصالحها الآنية والأنانية
الخاصة التي لاعلاقة لها لامن قريب ولا من بعيد بالأخلاق والمثل العليا.
وأخيراً ستقوم
العولمة النيولبرالية قريباً بالعمل على تغيير الطبيعة البشرية نفسها، من خلال
علوم البيوتكنولوجيا والجينات والكومبيوتر، لتخلق ما أسماه فرانسيس فوكوياما نفسه
"آخطر إنقلاب في التاريخ البشري".
بيد أن كل ذلك لايجعل ميهوست وغيدر على حق كليا. إذ لا
بد من الرهان على أمل ما بأن تبقى قلة بشرية ناجية من نار الجحيم البيئي الزاحف،
لتقوم بإعادة بناء الحياة من جديد على كوكب الأرض.
-
II -
لقد قلنا بالأمس في هذا الموقع أن ثمة حلولاً لهذه
الكارثة.
ونقول اليوم أن هذا الحل يكمن مع النبي نوح!
فهذا النبي الذي تقول الأساطير الدينية أنه بنى فلكاً،
أنقذ الحياة (وليس فقط البشرية) من طوفان هائل اجتاح كوكب الأرض ولم يبق ولم يذر،
حسنا. هذا الطوفان آت لا محالة في عصرنا الحديث، وهو
يحمل اسماً واضحاً ومحددا: تغيّر المناخ.
صحيح أن العديد من العلماء يقولون أن "نهاية
العالم" قد لاتأتٍ قبل 50 أو حتى 100 سنة، لكن الصحيح أيضاً أن كوارث ما قبل
النهاية الأخيرة لن تقل هولا: ذوبان المجلدات القطبية وارتفاع مستوى المحيطات
والبحار، بما سيتسبب بتسوناميات وزلازل
متكررة، واضطراب فصول السنة بما يؤدي إلى
ضرب التوازنات الإيكولوجية وإبادة اجناس لاحصر لها من النباتات والحيوانات التي
تلعب دوراً هائلاً لتوازن البيئة، ودورات
متصلة من الجفاف والفيضانات التي تفجّر حروباً أهلية لاتنتهي (كما يحدث الأن في
سورية والعراق وغرب إفريقيا وغيرها من المناطق).
فلك نوح الجديد المنقذ من ضلال العولمة النيوليبرالية لن
يكون بالطبع سفينة بل فكرة. وهي تتمحور حول الأتي:
أولا، قيام قطاعات من المجتمعات المدنية في كل أنحاء
العالم بالانسحاب من الاقتصاد الرأسمالي العالمي أو إعلان القطيعة معه، وابتداع
برامج محددة لبناء اقتصادات بديلة تستند بالدرجة الأولى إلى ضرورات البيئة السليمة،
وحاجات الإنسان الضرورية، وبالتالي تجنّب كل السلع الاستهلاكية المادية والثقافية
التي تنتجها العولمة.
ثمة العديد من هذه المحاولات من هذا النوع الآن في فرنسا
والولايات المتحدة والصين وهي تبشّر ، في حال توصلها إلى إبدعات خلاقة لاستخدامات
العلم والتكنولوجيا على أسس سليمة بيئياً واقتصادياً وثقافيا، بولادة نظام عالمي
بديل من تحت إلى فوق.
ثانياً، بلورة وعي كوني جديد، وبالتالي مواطنة عالمية
جديدة، يستندان إلى اكتشافات الفيزياء الحديثة حول وحدة الكون والوجود وحول كون الكل
متضمن في الجزء والجزء متضمن في الكل. هذا الوعي لايعني بالضرورة ضرب الأديان
والقوميات الحالية، بل هو يأخذ منها أجمل وأفيد مافيها، في إطار تعددية مابعد حداثية،
من خلال تدمير الأسوار الانغلاقية التي بنتها الأديان والقوميات حول نفسها.
علاوة على ذلك، هذا الوعي الجديد، الذي ينهي انفصال
الفرد عن الطبيعة والله والبشر والمخلوقات، سيكون أيضاً بطاقة خروج الإنسان من
الجحيم النفسي الذي يعيشه في هذا العصر، والذي يتجسَّد في الأزمات السايكولوجية
المدمرة، والصراعات الاجتماعية القاتلة (التي تغذيها النيولبرالية عبر إيديولوجيا "جينتها
الأنانية")، والحروب على أنواعها. الوعي الجديد، المستند إلى ضرب الإيغو
(الأنا) الأناني وإطلاق طاقات الإنسان الروحية من خلال فلسفات وتقنيات التأمل،
سيكون مدخلنا إلى السلام الداخلي، والتضامن بدل التنافس الأعمى، والتعاون بدل
الحروب، والتصالح مع أمنا الطبيعة بدل إعلان الحرب الخاسرة سلفاً عليها.
ثالثا، هذه الشبكات الاجتماعية والاقتصادية
والسايكولوجية سيكون بمقدورها، إذا ماتوصلت في خاتمة المطاف إلى التنسيق في ما بينها،
تشكيل حكومة ظل عالمية تقوم، من جهة بكشف كوارث العولمة النيوليبرالية الحالية
بالأرقام والوقائع، ومن جهة ثانية بتوفير تصور لـ"بشرية جديدة" وحياة
جديدة وأرض جديدة.
-
III -
قد يقال هنا أن هذا مجرد مشروع حالم أو مثالي.
وهذا صحيح.
لكن، فلنتذكر القانون الذهبي الأبرز في التاريخ
والطبيعة، والذي يشير إلى أن المخلوقات لاتتطور بالفعل إلا إذا ماتعرضت إلى خطر
ماحق يهدد وجودها برمته. هذا ماحدث، مثلاً، للأسماك قبل مليارات السنين التي اضطرت
إلى الخروج نحو اليابسة بسبب الخلل الذي ضرب بيئتها البحرية. وهذا ماحدث أيضاً
للزواحف التي اضطرت إلى تعلم الطيران للهرب من ضغوطات بيئية ما ماحقة.
كذلك، المجتمعات البشرية التي حوصرت بالتصحير والجفاف
على مدار التاريخ، اجبرت على الهجرة إلى أماكن صعبة وقصية بحثاً عن مناخات مناسبة
للحياة.
والآن، ولأن الجنس البشري مهدد برمته بسبب عولمة الرأسمالية للتلوث، لم يعد ثمة مجال
أمامه سوى التطور من خلال بناء حضارة سلام
بيئية- تعاونية- روحية تنطلق من الفرد والمجموع في آن وعلى حد سواء، أو الانقراض.
لقد بلغ السيل الذبى بالنسبة إلى أمنا الأرض (غايا). وما لم نقم بفعل التوبة
اليوم تحت أقدامها، ستدوسنا غداً تحت هذه الأقدام، وستكتب نهاية قاتمة للمشروع
البشري برمته.
القرار لكم، أفراداً وجماعات.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق