قلنا بالأمس (راجع اليوم، غداً- 8-4-2014) أن شعارات
الديمقراطية والحريات لن تختفِ، وأن قوى الاسلام السياسي ستعيد في نهاية المطاف،
وبعد أن تفيق من صدمة الخروج من جنة الحكم إلى جحيم السجون مجدداً، النظر في أسباب
تناقض أولوياتها مع الأولويات الشعبية، كما حدث لأسلاميي أردوغان بعد سقوط تجربة
أستاذهم أربكان العام 1997، إلا أن هذا لن ينفِ الحقيقة بأن الدولة الأمنية عادت
بقوة إلى الساحة بدعم شعبي واضح.
ثم تساءلنا: هل سيعني هذا "نهاية التاريخ" بالنسبة
إلى أولوية الديمقراطية؟
الدولة الأمنية
الحال أن الدولة الأمنية، خاصة في مصر، سنتنشط من الآن
فصاعداً لتثبيت أقدام شرعيتها على محاور ثلاث: الحرب ضد "الإرهاب"،
والضرب على وتر الوطنية المصرية وانتهاج سياسة خارجية نشطة لتغذية هذه الوطنية
خصوصاً في منطقة منابع النيل وسيناء وربما أيضاً في المجابهة الشكلية مع الولايات
المتحدة، وطرح مشاريع اقتصادية كبرى كبناء مليون شقة سكنية وتطوير قناة السويس.
نظام حسني مبارك أفاد أيما إفادة من المحور الاول، حين
حظي بشرعية قتاله ضد الإرهاب الأصولي طيلة عقد كامل من التسعينيات. والأرجح أن
النظام الجديد برئاسة المشير السيسي سيراهن على الأمر نفسه، خاصة وأن الأمن باتت
له الأولوية لدى قطاعات واسعة من المصريين.
بيد أن مسألة الأمن والإرهاب، وعلى رغم أنها ستمنح
النظام الجديد فرصة كبيرة لالتقاط الأنفاس، ستكون في الواقع أشبه بمعالجة مرض
السرطان بالاسبيرين. هذا ناهيك عن أنها مؤقتة. فسكان مصر، الذين تجاوز تعدادهم
الـ86 مليون نسمة، نصفهم تحت خط الفقر وثلاثة أرباعهم تحت سن الخامسة والثلاثين،
يحتاجون إلى ثورة انتاجية حقيقية وشاملة قادرة وحدها على "توفير فرص العمل،
والتعليم، والمسكن، والغذاء، والعلاج"، وهي أمور وعد بها المشير السيسي
المصرييين في خطاب الترشيح للرئاسة (16-3-1014).
بيد أن اللايقين يهيمن على قدرة السيسي على تنفيذ هذه
القفزة الانتاجية لسبيين رئيسيين: وجود طبقة كومبرادورية قوية، وظاهرة العولمة
التي ترتبط بها هذه الطبقة.
بالنسبة إلى السبب الأول، معروف أن الطبقة المهينة
حالياً على مصر، هي طبقة رجال الأعمال الجدد الكومبرادوريين الذين برزوا في عهدي
السادات- مبارك، والتي تضم أيضاً كبار
رجال بيروقراطية الدولة وأجهزة الأمن والجيش. وكل هذه القوى ستقاوم بشراسة إعادة
بناء الدولة على أسس جديدة وحديثة وانتاجية، ناهيك عن معارضتها البديهية لأي فكرة
حول العدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الدخل، وتوجيه الدولة للاقتصاد والاستثمارات
نحو القطاعات الانتاجية والاستراتيجية.
لقد أشار السيسي في خطاب الترشيح إلى "ضرورة إعادة
بناء جهاز الدولة الذي يعاني من الترهل، بحيث يتحدث بلغة واحدة ويصبح وحدة واحدة"
(وهذه إشارة إلى صراع "إقطاعيات" القضاء والشرطة ودوائر الاقتصاد)".
لكن، هل هذا ممكن من دون مجابهة مايسميه سمير أمين "الكتلة الرجعية بقيادة
البورجوازية الكومبرادورية"؟
أمين يعرف هذه الكتلةعلى النحو التالي:
" إنها (الكتلة)
برزت خلال الأربعين سنة الماضية، من خلال صعود البورجوازية الغنية التي كانت المستفيد
الوحيد من اللامساواة الفضائحية التي ترافقت مع النموذج الليبرالي المعولم. وهي
تضم بضع عشرات الآلاف ليس من "منظمي المشاريع المبتكرين، كما يسميهم البنك
الدولي، بل من أصحاب الملايين والمليارات الذين يعود الفضل في ثرواتهم إلى التواطؤ
مع جهاز الدولة ضمن منظومة الفساد. هذه البورجوازية الكومبرادورية (التي يسميها
المصريون طبقة الطفيليين الفاسدين) تنشط بحماسة لضم مصر إلى النظام الامبريالي
المتعولم من دون شروط. وهي تشمل في صفوفها العديد من جنرالات الجيش والشرطة،
و"مدنيين" لهم روابط بالدولة، وشخصيات دينية والشيوخ البارزين في الأزهر".
ويقول عبد الحكيم عبد الناصر، نجل الرئيس الراحل جمال
عبد الناصر، أنه رغم دعمه ترشيح السيسي
للرئاسة، إلا أنه يخشى أن تبتلع هذه الطبقة الكومبرادورية، والتي قال أنها تسيطر
عملياً على الإعلام والاقتصاد في مصر، الجهود الاصلاحية التي قد يقوم بها السيسي.
جدار العولمة
لكن، حتى لو نجح الرئيس المصري الجديد في تجاوز بعض
العقبات الكأداء التي تضعها هذه الطبقة في وجه التنمية الانتاجية في مصر، إلا أنه
سيصطدم في النهاية بجدار السبب الثاني الذي أشرنا إليه وهو نظام العولمة.
فهذا النظام، الذي استند منذ أربعة عقود إلى النظريات
الليبرالية الجديدة (أو مايسميه اليساريون "الرأسمالية المتوحشة")،
سيفرض على السيسي أن يضع إصلاحاته إيضاً في الإطار النيو- ليبرالي. وهذا يشمل رفع
الدعم عن مشتقات الوقود والغذاء، وإصلاح الخلل في ميزانية الدولة، ومكافحة التضخم،
ومواصلة مشاريع الخصخصة. وكل ذلك سيفرض تدابير تقشفية قاسية على شعب يعاني أصلاً
من أزمات معيشية خانقة. هذا علاوة على أن إسرائيل، التي تتمتع بنفوذ خاص وبارز في
نظام العولمة، كانت ولاتزال ترفض إقامة أي مشاريع انتاجية في مصر لأن ذلك سيشكل،
كما سبق لديفيد بن غوريون أن قال، "خطراً على موقع الدولة العبرية وأمنها
القومي في الشرق الأوسط".
الحل الوحيد الذي يبدو ممكناً لتحقيق التنمية الذاتية في
مصر هو ما أسماه خبير اقتصادي يساري "العمل على الانفكاك أو الخروج من النظام
العالمي". بيد أن هذا بالطبع يتطلب قماشات سياسية غير متوافرة حتى الآن لا في
المنطقة العربية ولا في بقية مناطق الجنوب في العالم.
وبالتالي، سيجد النظام المصري الجديد، وفي الواقع أي
نظام عربي آخر في منظومات الربيع العربي، نفسه متنازعاً بين عولمة مدمرة تفرض
ذاتها بالقوة العارية، وبين تنمية اجتماعية- إنسانية حقيقية مستحيلة.
وبين الواقع والاستحالة، ستكون الثورات الشعبية المتجددة
والمتتالية في مصر وبقية المنطقة العربية، هي على الأرجح الحاضر والمستقبل
الوحيدين لشعوب المنطقة.
* * *
إن عوامل الهوية والصراع الاجتماعي والعولمة ستواصل
التفاعل العنيف في المنطقة، جنباً إلى جنب مع ظواهر التطرف الأصولي، والتفكك
الاجتماعي والطائفي- الاثني، والحروب الأهلية في المجتمعات العربية التعددية.
لكن سيف الحسم، في نهاية المطاف، سيكون لصالح الصراع
الطبقي بين كثرة الفقراء الكاسحة، التي تقودها الآن "الطفرة الشبابية"
الكبرى، وبين الواحد في المئة من الاغنياء المنتمين إلى بيروقراطية العولمة.
وهذا يذكرنا بالمناخات الشعبية التي سبقت الثورة
الفرنسية الكبرى العام 1789 ومهّدت لها، قبل أن تتسلم قيادها البورجوازية
الفرنسية. هذا بالطبع مع الفارق الكبير أن هذه الأخيرة كانت ثورية مناقضة للإقطاع،
فيما البورجوازيات العربية رجعية مستسلمة لبيروقراطية العولمة ومراكزها وشركاتها
وجيوشها.
سعد محيو
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق