ثلاث سنوات عجاف مرّت الآن على موجة ثورات الربيع
العربي، من دون أن تتوضح تماماً بعد طبيعة هذه الثورات، أوديناميكياتها، وبالتالي
مآلها.
بالطبع، دوافع هذه الانتفاضات معروفة. وقد تحدثت عنها
باسهاب التقارير المتلاحقة عن التنمية البشرية العربية التي أصدرتها الأمم المتحدة:
عجوزات المعرفة، والحرية، واللامساواة بين الرجل والمرأة. هذا بالطبع إضافة إلى
وصول التحديث الاقنصادي- الاجتماعي والسياسي (ومعه مسألة الهوية) في كل الدول
العربية تقريباً إلى طريق مسدود، وغياب مفهوم الأمن الإنساني بفعل سيطرة الدولة
الأمنية (المخابرات والجيش) على مقدرات الأمور.
3 مسائل
ويمكن تلخيص هذه العوامل في ثلاث: مسألة الهوية، والصراع
الاجتماعي (الطبقي) والعلاقة مع ظاهرة العولمة بصفتها أحد المحددات الكبرى الجديدة
ليس فقط للاقتصاد والسياسة، بل أيضاً للثقافة والفكر في كل دول العالم.
كل هذه العوامل مجتمعة كانت حاضرة خلال اندلاع الثورات.
لكن الطريقة التي تفاعلت بها هذه العوامل في الشارع المنتفض، كانت غامضة إلى حد
كبير ومتناقضة (تبعاً لتناقض القوى الاجتماعية التي تحملها) إلى حد أكبر.
فالقوى الإسلامية، مثلاً، اعتبرت أن هذه الثورات هي في
الواقع انتفاضة الهوية على ما اعتبرته تهميشاً للإديولوجية الإسلامية ليس فقط مع
الدولة الحديثة العربية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، بل أيضاً منذ
انهيار الخلافة العثمانية العام 1924. وجاءت المكاسب الانتخابية الكاسحة التي
حققتها هذه القوى في مصر وتونس، ولكن ايضاً في المغرب، لتؤكد لها صحة تحليلها، ولتركز
كل جهودها بالتالي على بناء دولة إسلامية بأقصى سرعة ممكنة، مستفيدة من الدعم
الأميركي لها.
بيد أن سنة واحدة من تجربة سلطة الإخوان في مصر، سرعان
ما اثبتت خطل هذا التحليل. فقد تجاهلت كثرة واسعة من فئات المجتمع المصري جهود
الإخوان لـ"أسلمة" الدولة والمجتمع تطبيقاً لشعار "الإسلام هو
الحل"، ونزلت بكثافة إلى الشوارع في 30 حزيران/يونية ليس لإعلان رفض الهوية
بل للتشديد على أولوية الشأن الاجتماعي، أو بالأحرى، صراع الطبقات، على ماعداه.
الأمر نفسه تكرر مع القوى العلمانية والقومية والوطنية (وإن
بشكل أقل حدة بسبب ضعفها، من جهة، ولأنها ليست في السلطة، من جهة أخرى)، والتي
أعطت الأولوية للحرية والديمقراطية، أي عملياً للهوية السياسية، فإذا بها تفاجأ
بأن غالبية المجتمع تنحاز عملياً إلى ما هو ضد هذه الأخيرة، أي لصالح سلطة الدولة
العميقة التس نشبت ثورة 25 يناير أصلاً ضدها، على اعتبار أنها قد تحقق ماقفزت عليه
دولة الأخوان: الأمن والخبز. وقد اتخذ هذا التطور شكلاً ضبابياً من الوطنية
المصرية المتطرفة المتمحورة حول الدولة (أياً يكن شكلها).
في تونس، كادت التطورات تصل إلى الحصيلة نفسها، لولا أن
تدارك حزب النهضة الأمر وسارع إلى استيعاب الانتفاضات الشعبية المطلبية المحتملة،
من خلال تقديم تنازلات سريعة في الدستور وفي العلاقة مع الاحزاب العلمانية على
حساب الهوية والإديولوجيا.
جلاء الغموض
الآن، وقد اتضح أن الأولوية القصوى في المجتمعات العربية
هي للشأن الاقتصادي- الاجتماعي، أي عملياً لصراع الطبقات، فإن العديد من قسمات
الغموض التي أحاطت بهذه الثورات قد تنجلي. ولن يكون من العسير بعد الآن استطلاع
ماقد تؤول إليه التطورات، على الأقل في بلدان الربيع العربي.
صحيح أن شعارات الديمقراطية والحريات لن تختفِ، وصحيح أن
قوى الاسلام السياسي ستعيد في نهاية المطاف، وبعد أن تفيق من صدمة الخروج من جنة
الحكم إلى جحيم السجون مجدداً، النظر في أسباب تناقض أولوياتها مع الأولويات
الشعبية، كما حدث لأسلاميي أردوغان بعد سقوط تجربة أستاذهم أربكان العام 1997، إلا
أن هذا لن ينفِ الحقيقة بأن الدولة الأمنية عادت بقوة إلى الساحة بدعم شعبي واضح.
فهل سيعني هذا "نهاية التاريخ" بالنسبة إلى
أولوية الديمقراطية؟
(غدا نتابع)
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق