استخدام
رئيس الوزراء العراقي لكلٍ من ورقتي التطرف السنّي والتعصب الشيعي في آن، قد يسفر في نهاية المطاف عن انهيار الوطني العراقي نفسه.
|
- I -
قد
لايكون من المغالاة في شيء القول أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي قرر على
مايبدو ممارسة أخطر وأسوأ لعبة في كل تاريخه السياسي: استخدام ورقة التطرف السنّي،
بعد أن أوغل في استعمال التعصب المذهبي الشيعي، لأغراضه السياسية الآنية.
فالمالكي
هو الذي سحب الجيش العراقي فجأة من الفلوجة، الأمر الذي سهّل إلى حد كبير على
تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام" (داعش) السيطرة على هذه
المدينة التي لعبت مرتين الدور الأكبر في التصدي للاحتلال الاميركي. وبعد أن
انتشرت داعش في الفلوجة، عاد المالكي عن قراره وأمر الجيش بالاستعداد لاقتحامها.
وفي
هذه الأثناء، كان رئيس الوزراء يقطف سريعاً ثماراً دسمة: من الدعم الأميركي
والروسي له بالسلاح والتغطية الدولية، إلى استنفار مشاعر الشيعة العراقيين
(ومخاوفهم) من التطرف الأصولي السنّي، مروراً بمواصلة الإطباق على كل معارضيه
السياسيين من شيعة وسنّة واكراد تحت شعار أولوية الحل الأمني في محافظة الأنبار.
بيد
أن هذه الانجازات قد تثبت قريباً أنها قصيرة العمر، تماماً كما أثبتت سياسة الغزل
التي مارستها أميركا وقوى إقليمية عدة أخرى مع غول التطرف الأصولي بأنها تكتيك
قصير النظر ويُنذر بكوارث كبرى لاحقة.
وهذا
ينطبق على العراق أكثر بكثير مما ينطبق على سورية، التي عمد فيها رئيسها بشار
الأسد هو الآخر إلى تسهيل ولادة الوحش العنفي، بهدف تقديم نفسه للعالم على أنه
فارس المعركة الاول ضد الإرهاب.
لكن،
لماذا العراق؟
- II -
لأن
هذا البلد مستهدف منذ زمن ليكون نقطة التفجير الرئيس للفتنة الكبرى- 2 بين السنّة
والشيعة في الشرق الأوسط الإسلامي، تمهيداً لإقامة دويلات جديدة
على أسس مذهبية وطائفية وعرقية في المنطقة.
وهذا
رأي أكده في 8 آذار/مارس الماضي المحلل البريطاني في "فايننشال تايمز"
ديفيد غاردنر، حين ركَّز على النقاط التالية:
-
التحالف الغربي، بدخوله العراق وتفكيكه، قلب موازين القوى في أكثر مناطق العالم
التهابا، ليس لأنه أطاح نظام حسين، بل لأنه أوصل الأقلية الشيعية في داخل العالم
الإسلامي (والتي هي أغلبية في العراق) إلى السلطة في قلب المنطقة العربية للمرة
الأولى منذ سقوط الخلافة الفاطمية العام 1171.
-
وهذا، إضافة إلى أنه أسفر عن حمام دم في العراق، أشعل مجدداً نزاعاً عمره ألف سنة
بين السنّة والشيعة، امتد من المشرق العربي إلى شبه القارة الهندية.
-
أحداث العراق غيَّرت بالفعل مقومات المنطقة، وهي كانت أخطر بكثير من مضاعفات حرب
السويس العام ،1956 لأنها أعطت زخماً لكل ألوان وأنواع الحركات الإسلامية.
تحليل
دقيق؟
أجل.
لكن، المحلل الاستراتيجي يضيف إليه عاملاً آخر لايقل أهمية.
فأرض العراق في الواقع تعتبر رأس جسر ممتازاً ونموذجياً لتفجير العالم الأسلامي من داخله،
لأنها كانت المسرح الرئيس للمأساة التاريخية لآل البيت على يد الأمويين. كما أنها
كانت ساحة المعركة الرئيس بين العثمانيين والصفوفين طيلة قرنين من الزمن ( العراق
آنذاك كان يصبح صفوياً فارسياً في الشتاء،
وسنّياً تركياً في الصيف! ) .
وأضاف: القسمة
الدموية السنية – الشيعية انطلاقاً من العراق منذ غزوه العام 2003، حققت، وستحقق
أكثر، جملة أهداف إستراتيجية غربية دفعة
واحدة. فهي شطرت الشرق الاوسط الكبير الى شطرين كبيرين متناحرين. وهي جعلت إيران
في مواجهة ليس مع أميركا وحسب، بل (مجدداً ) أيضاً مع تركيا وباقي اطراف الغالبية
السنّية في العالم الإسلامي. وبالطبع، حين تحاصر جمهورية الخميني على هذا النحو،
لن يطول الوقت ( مجدداً أيضاً ) قبل ان تبدأ البحث في وقت ما عن حلفاء لها في
الغرب. وهذا بالتحديد ما فعله الصفويون
طيلة القرنين 18 و19. وهذا مايبدو أن الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني يحاول أن
يفعله الآن.
-
III -
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية
لاتقل أهمية بالنسبة إلى مخاطر سياسات المالكي.
فالسياسات الطائفية الفاقعة التي مارسها المالكي بعد الانسحاب الأميركي ، بدأت تؤتِ أكلها الآن:
شعور كبير بالامتعاض والتهميش بين العرب السنّة، الأمر الذي يهدد بتحويل حركاتهم
الاحتجاجية الراهنة إلى ثورة مسلحة مكتملة النمو، ستكون أخطر بكثير مما حدث العام
2003.
كما أن التأخر في تحقيق مصالحة سياسية حقيقية،
وتلبية حاجات السكان الاجتماعية والتنموية، وتسوية القضايا العالقة في مجالات
النفط والأراضي المتنازع عليها، كل ذلك جعل "الحل الأمني" يفرض نفسه
كمقاربة حكومية وحيدة للأزمات الراهنة. وإذا ماوضعنا في الاعتبار الخلل
الديمغرافي- الطائفي الراهن في تركيبة قوات الجيش وأجهزة الأمن لغير صالح السنّة،
فقد لايكون من الخطأ الاستنتاج بأن تفاقم الأوضاع في المحافظات السنيّة سيؤدي في
نهاية المطاف إلى فشل النموذج العراقي الراهن لإعادة بناء الدولة- الأمة.
والآن، دخلت الحرب
الأهلية السورية على خطوط الصدع العراقية الجديدة لتكون بمثابة الصاعق الذي قد
يفجّر بلاد العباسيين مرة أخرى، وربما أخيرة. فحكومة المالكي، بسماحها بتحوُّل
العراق إلى ممر للمساعدات الإيرانية للنظام السوري، خلقت الظروف الملائمة لتقاطع
مصالح السنّة العراقيين مع ثورة السنّة السوريين. وهذا ما دفع العديد من العشائر
السنيّة العراقية، ناهيك بالطبع بالحركات الإسلامية المتطرفة إلى رفع شعار: اليوم
دمشق وغداً الزحف على بغداد.
رب متسائل هنا: كيف
يمكن أن يكون انقسام العراق هو المدخل لتقسيم المشرق؟
الصورة تبدو بسيطة وواضحة: الحرب الأهلية
العراقية الجديدة، في حال نشوبها،
ستؤدي إلى انفصال المحافظات السنيّة الأربع عن الكيان العراقي، وربما انضمامها إلى
الأردن في إطار مملكة أردنية هاشمية جديدة. وهذا بات أمراً وارداً بعد أن أعاد
الرئيس الأميركي أوباما نسبياً إحياء المحور التركي- الإسرائيلي- الأردني الشهير،
الذي قد يتحوِّل في وقت قريب إلى الوكيل الحصري الإقليمي الجديد للباكس أميركانا
في الشرق الأوسط.
هذه المملكة
الهاشمية الجديدة ستقيم بالطبع علاقات وطيدة مع المحافظات السنيّة السورية، سواء
في شكل فيدرالي أو تنسيقي، في حال انهارت الدولة السورية الراهنة. وحينها سيكون
الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام قيام دولة علوية على الساحل السوري لها امتدادات
شيعية في داخل لبنان، فضلاً عن تقسيم لبنان نفسه إلى دويلات طائفية مسيحية ودرزية
وسنّية وشيعية.
هل تبدو هذه
المحصلات مغالية في التشاؤم؟
ربما.
لكن التطورات التي
تجري في المشرق العربي هذه الأيام، لاتوحي بشيء من التفاؤل.
وحين يكون الأمر
على هذا النحو، لايعود من المفيد إطلاق نعوت التفاؤل أو التشاؤم على السيناريوهات
المحتملة لما ستؤول إليه الأمور، بل تصبح المسـألة مجرد تحليل علمي لاحتمالات علمية.
والعراق الآن هو
المدخل الأول والرئيس لهذا التحليل وتلك الاحتمالات، أساساً بسبب اللعبة الخطرة
التي يمارسها الآن الرئيس المالكي عبر رمي أعواد الثقاب المشتعلة أمام براميل
الإرهاب والمذهبية المدمّرة.
سعد محيو
__________________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق