قبل أيام قليلة من انعقاد مؤتمر جنيف-2حول سورية، في حال
انعقاده، لايزال السؤال معلقاً في الهواء حول المضمون الحقيقي لهذا المؤتمر: هل هو
حقاً لحل الأزمة السورية، أم هو في الواقع منبر "مفيد" لتسوية الصراعات
بين الدول الكبرى حول طبيعة النظام العالمي الجديد؟.
مبررات هذا السؤال واضحة: فالنظام السوري فقد منذ أشهر
المبادرة الاستراتيجية حين سلّم كل أوراقه لروسيا وإيران مع حلفائها الشيعة في
لبنان والعراق. والمعارضة المسلحة فقدت نفسها هي الاخرى، حين انغمست في حرب أهلية
داخلية وباتت معتمدة كلياً في التمويل والتسليح على القوى الخارجية. وهذا، جنباً
إلى جنب مع التبعثر الأسطوري للمعارضة السياسية
السورية في الخارج، أخرج الحرب في سورية من سياقها الداخلي ووضعها برمتها
تقريباً في أحضان القوى الدولية والإقليمية. ومنذ ذلك الحين، بات قرار الحرب
والسلام في بلاد الأمويين يمر في واشنطن وموسكو، ويتراقص على أبواب الرياض وطهران
وأنقرة، وصولاً حتى إلى أقاصي الشرق الآسيوي في بلاد الهان (الصين).
جيمي كارتر، الرئيس الـ39 للولايات المتحدة، عبّر عن
حقيقة التدويل والأقلمة (من إقليم) الكاملة للأزمة السورية بالقول أن "الحرب
السورية باتت حرباً لاتُربح. ولأن القوى السورية ترفض بعضها البعض، فأن مفاوضات مؤتمر جنيف -2 قد تفشل. ولذا، لامناص
من منح الأولوية للحلول الخارجية، وبالتالي من قيام الدول الكبرى بفرض الحلول على
السوريين".
وهذا ما رآه أيضاً خافييه سولانا، مسؤول الشؤون الأمنية
والخارجية السابق في الاتحاد الأوروبي، الذي قال أن "نفض الغبار عن قرارات
جنيف-1 بعد سنة من توقيعها خطوة إيجابية،
لكنها عرضة إلى مخاطر جمة قد تطيح الكيان السوري نفسه وتفجر الوضع الإقليمي برمته.
ولكي يتجنّب الغرب هذا المصير الذي يهدد مصالحه، يتعيّن عليه تصعيد مناوراته
الدبلوماسية وجعل انهاء الصراع على رأس أولوياته بدل أن تكون الطموحات
السياسية لدوله هي هذه الأولويات، كما الأمر الآن(... )".
جبهتان وصفقات
كلام واضح؟
بالتأكيد. لكنه يبدو أيضاً كلاماً رغائبياً إلى حد كبير.
أو هو على الأقل ينتظر مآل الصفقات على جبهتين متلازمتين: جبهة العلاقات
الأميركية- الروسية، وجبهة الحوارات الأميركية- الإيرانية.
على الجبهة الأولى، برزت متغيرات واضحة خلال الشهرين
الماضيين. فقد تمكّنت واشنطن وموسكو فجأة من إبرام صفقة لم تخطر على بال، حين
توافقتا على تفكيك الترسانة الكيمائية السورية "في أسرع وقت ممكن"،
وبالتالي على وقف الضربة الجوية- الصاروخية الأميركية المقررة ضد النظام السوري.
وهذا فتح الأبواب على مصراعيها أمام العاصمتين كي توصلان ما انقطع بينهما من
مساومات حول الأزمة السورية العام 2012. وهكذا وّلدت صيغة مؤتمر جنيف- 2، وألمح كل
من الوزيران لافروف وكيري أن أي طرف سوري يعارض حضور هذا المؤتمر "سيتعرض إلى
عقوبات روسية وأميركية صارمة".
الوفاق الروسي الأميركي حيال سورية شمل أيضاً استعداد
واشنطن لمنح موسكو الدور الأبرز في حل الأزمة السورية، هذا علاوة على الوفاق الأهم
المتعلق بحربهما ضد منظمات التطرف الإسلامي التي اجتاحت المشرق العربي.
بيد أن فتح الأبواب لم يعن تبخر التباين في وجهات النظر
حول طبيعة الحلول في سورية. وهنا دخلت على الخط معطيات الجبهة الثانية، أي
الحوارات الأميركية- الأيرانية.
فقد كانت طهران، ومعها موسكو، تضغطان بقوة لتحويل الاتفاق النووي الإيراني- الغربي إلى
مدخل لاتفاقات إقليمية حول مسألة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. موسكو تحمست
لهذه الفكرة ليس لأنها تعتبر إيران حليفاً يعتد به (الشكوك حول النوايا بين
البلدين تاريخية كما هي آنية وإديولوجية)، بل لأنها تعرف أن نفوذها على النظام
السوري لايكتمل من دون ضوء أخضر إيراني.
بيد أنه لم يكن وارداً بالنسبة إلى واشنطن قبول مشاركة
إيران في جنيف-2 لسببين مقنعين: الأول، أن إيران كانت ستسعى في حال حضورها المؤتمر
إلى نسف مقررات جنيف واحد، لأنها تعتبر بقاء الأسد في السلطة (حتى إشعار آخر) ورقة
ثمينة لايجب التفريط بها بسهولة.
والثاني، أن واشنطن ليست مستعدة لا الآن ولا بعد عقدين
لاستبدال تحالفاتها السعودية والخليجية والتركية والإسرائيلية بحلف إقليمي منفرد
مع إيران. كل ماتريده إدارة أوباما في هذه المرحلة هو سحب أميركا من جلجلة حروب
"مبدأ كارتر" التي جعلها قوة إقليمية تدخلية في كل شؤون الشرق الأوسط،
ووضعها في سفينة قيادة حربية قبالة الشواطيء المتوسطية لتدير من هناك كالمايسترو
لعبة موازين القوى من بعيد.
الباحث الأميركي، الإيراني الأصل، راي تقية، أوضح هذه
النقطة بالتحديد، حين شدّد على أن أميركا "في حاجة إلى صفقة نووية مع إيران،
لكن ليس إلى وفاق (إقليمي) معها. وهو حذّر من أن إيران، كما الاتحاد السوفييتي
قبلها، قد تحاول فهم اتفاقات الحد من التسلّح على أنها تأشيرة دخول إلى عملية
توسيع النفوذ الإقليمي، خاصة في سورية إضافة إلى العراق".
من هنا جاء رفض كيري لمشاركة إيران في جنيف-2 قبل أن
تعلن هذه الأخيرة أولاً موافقتها على قرارات جنيف-1 حول عملية انتقال السلطة، بما
في ذلك تحديد مصير رئاسة الأسد. وهذا مايجعل الصراع حول سورية، سواء عبر مفاوضات
جنيف-2 أو خارجها، صراعاً في الواقع على مستقبل الشرق الأوسط برمته وفقاً لموازين
القوى الدولية والإقليمية الجديدة فيه.
إلى أين؟
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنه تعني، ببساطة، أن جنيف-2، في حال انعقاده كما أشرنا،
سيكون في الواقع مجرد "استراحة محارب". فترة هدنة بين حربين. أو على الأقل
منبراً تطرح فيه القوى الدولية والإقليمية المعنية شروطها وشروطها المضادة،
ومطالبها الخاصة بالنفوذ في الإقليم الشرق أوسطي.
أما سورية نفسها، فستبقى بيدقاً في لعبة شطرنج دولية
كبرى جديدة يفترض أن يولد من رحمها نظام دولي جديد، بدأت معالمه تتضح شيئاً فشيئاً
في استراتيجية الاستدارة الأميركية شرقاً نحو آسيا (Pivot )، وفي التحالف (المؤقت) الصيني-
الروسي لتقليم أظافر الزعامة الأميركية في العالم عبر كلٍ من سياستي "القضم
التدريجي" الروسية الشهيرة و"الصبر التاريخي" الصينية الأشهر، وفي
بروز مجموعتي العشرين والبريكس كبديل عن مجموعة
السبعة الكبار الغربية (مع روسيا لاحقا) التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية.
وحين يبرز هذا النظام العالمي الجديد، الذي يجد الآن في
جنيف-2 إحدى تمخضات ولادته، قد ينجلي المشهد عن خريطة شرق أوسط جديدة يحل فيها
بريماكوف وكيري (أو من يخلفهما) مكان سايكس وبيكو، ويعاد رسم خرائط الدول من جديد،
انطلاقاً من سورية أولاً ثم العراق.. أو العكس.
سعد محيو
(*) ينشر هذا المقال في موقع "سويس انفو" الالكتروني
_________________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق