- I -
الباحث اللبناني غسان سلامة اعتاد أن يقول (عبر تجربته
المريرة، على مايبدو، في التعاطي مع الأميركيين):" هؤلاء لايستطيعون أن يبنوا
أصدقاء، فقط أتباع".
الأخوان المسلمون في مصر تذوقواً شيئاً من هذه المرارة،
حين جاءهم وزير الخارجية الأميركي كيري أمس وهو يحمل معه سلسلة شروط مذهلة، ضارباً
عرض الحائط بكل الظروف الصعبة والخطيرة التي يمر بها إخوان مصر هذه الأيام.
فهو طالب الإخوان بتنفيذ البند الثاني (البند الأول كان
الحفاظ على السلام مع إسرائيل) مما يقال أنه اتفاق سري بين الطرفين وقّع قبل
اندلاع الثورة المصرية بسنوات (العام 2005) مقابل تسليمهم السلطة: الاندراج في
اقتصادات السوق وفق شروط "إجماع واشنطن" الذي يطبّقه صندوق النقد
الدولي.
قال كيري في القاهرة:" من الأهمية بمكان أن يصبح الاقتصاد المصري أقوى وأن يقف مجدداً على رجليه.
ومن الواضح لنا أنه يجب أن تتوصل الحكومة المصرية إلى ترتيب مع صندوق النقد الدولي
وأن تعطي السوق هذه الثقة".
الترتيب الذي قصده الوزير الأميركي هو قيام الحكومة
المصرية بفرض ضرائب جديدة ورفع الدعم عن المحروقات الذي يمتص 20 في المئة من
موازنة الحكومة، في مقابل الحصول على قرض من الصندوق بنحو 4،5 مليار دولار. هذا
إضافة إلى ماوصفه مسؤول أميركي يرافق كيري بـ"حزمة إصلاحات مؤلمة" أخرى
تتعلّق بفلسفة السوق.
وجه القسوة في هذا الطلب الأميركي لايكمن فقط في الخلل
الاجتماعي والمعيشي الكبير الذي ستفرزه هذه "الاصلاحات المؤلمة" (إذ هذا
على أي حال ما تفعله واشنطن في كل مكان من أمبراطورية عولمتها الليبرالية)، بل في
التوقيت. فالإخوان يواجهون هذه الأيام ليس ثورة واحدة بل سلسلة ثورات اقتصادية
وسياسية وفكرية ودستورية انفجرت كلها دفعة واحدة في وجههم بسبب الفقر المدقع في
خبرتهم في السلطة ناهيك عن هوسهم المدهش بها. ومن شأن تنفيذ هذه
"الاصلاحات" أن يصب كميات هائلة من الزيت على النار المشتعلة أصلا.
وكان الإخوان طلبوا في السابق من صندوق النقد تعليق
اتفاق القرض الذي توصلوا إليه بالفعل بسبب الغليان الشعبي والسياسي. لكن، ها هو
كيري يأتي ليحذرهم من أن واشنطن لاتهتم سوى بتنفيذ اتفاقهم السري معها. أما
الأشواك المترافقة مع ذلك فيجب أن يقتلعونها بأيديهم.
- II -
كيف سيتدّبر الإخوان أمر الشأن الاقتصادي الذي سيكون هو بحق
(لا الدستور ولاحتى الشريعة) العنصر الحاسم الأكبر الذي سيحدد مصير نجاح أو فشل
تجربتهم في السلطة؟
هذا السؤال كبير. وهو يحتاج إلى سلسلة وقفات تتعلّق بالفلسفة الاقتصادية التي يعتنقها
الإخوان، كما بالبرامج التي تقدموا بها لحل أزمات النمو والتنمية الاقتصاديين في
مصر.
لنبدأ أولاً بمرجعية الإخوان النظرية للاقتصاد.
- III -
يمكن العثور على العديد من الأدبيات التي شكّلت الخلفية
الاقتصادية للإخوان(*). فهناك رسائل مؤسس
الجماعة حسن البنا التي تحدّث فيها عن النظام الاقتصادي في الإسلام، وحدد مبادئه
بنقاط متعددة، كاعتبار المال الصالح قوام الحياة وأساس الحياة، والكشف عن منابع
الثروات الطبيعية، وتحريم موارد "الكسب الخبيث"، وتضييق الفجوة بين
الطبقات، وتحقيق الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وحرمة المال واحترام الملكية وتحريم
استغلال النفوذ السياسي لتحقيق مصالح
اقتصادية.
وإلى البنا، هناك كتاب "العدالة الاجتماعية
في الإسلام" (1949) لـسيد قطب، وهو كتاب حظي عند صدوره (بالرغم أنّ قطب حينها
لم يكن من الإخوان) بإعجاب حسن البنا، وبقي له شأن في تحديد موقع المسألة
الاقتصادية في الإسلام. وثمة كتاب ثانٍ لسيد قطب هو "معركة الإسلام
والرأسمالية" (1951)، وهو قريب الصلة بكتابه "العدالة الاجتماعية"،
إلاّ أنه يركز على المعركة مع الفكر الرأسمالي والتفاوت الطبقي وغياب العدالة
الاجتماعية، ويحاجج فيه بضرورة أن يحكم النظام الإسلامي ويسيّر الأوضاع
الاقتصادية.
وخلال حقبة معينة اعتمد الإخوان المصريون كمرجع اقتصادي
كتاب "اشتراكية الإسلام" (1959) لمصطفى السباعي، المراقب العام الأسبق
لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، الذي لخّص فيه الفروق الجوهرية بين النظام الاقتصادي
الإسلامي وبين الشيوعية، وفصّل رؤيته لتطبيق الإسلام لغايات العدالة والمساواة
والتكافل الاجتماعي.
يضاف
إلى ذلك كتابا "الإسلام والأوضاع
الاقتصادية" (1947) و"الإسلام والمذاهب الاشتراكية" (1947)، لمحمد الغزالي اللذان
يناقشان المنظور الاقتصادي الإسلامي من مستوين الأول أخلاقي وفكري عام، والأحكام
العامة المرتبطة بالملكية والتأمين، ومفهوم الإقطاع بين الرأسمالية والإسلام.
هنالك كتب أخرى وأدبيات مختلفة، مثل كتاب
المودودي "الإسلام ومعضلات الاقتصاد" (1941)، لكنها تأتي بمرتبة أقل من
حيث التأثير والحضور لدى الإسلاميين. بينما تتخصص كتابات اقتصادية إسلامية جديدة
في موضوع المصارف والبنوك الإسلامية والتأمين على وجه الخصوص.
وتجمع كل هذه الأدبيات على مسائل اساسية تركز على
مفهوم العدالة الاجتماعية ودور الدولة المنظم واحترام الملكية الخاصة، أما كيفية
تحقيق تلك الأهداف من الناحية العملية
فتركت للقيادة السياسية في الأخوان كي تبلورها في صيغة برامج.
فكيف فعلت
ذلك؟
(غدا:
الحلقة الثانية)
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق