- I -
كل
الأنظار منصبّة على سورية لمعرفة أي مصير ينتظر المشرق العربي: حلول سياسية في أطر جديدة للدول- الأمم العربية
الحالية، أم دويلات جديدة على أسس مذهبية وعرقية.
بيد أن مصير هذه المنطقة في الواقع سيتحدد أساساً في
العراق لا سورية، على رغم الأهمية القصوى لبلاد الشام في رسم، أو أعادة رسم، خرائط
الشرق الأوسط.
لماذا العراق؟
في
8 آذار/مارس الحالي، ألقى المحلل البريطاني في "فايننشال تايمز" ديفيد
غاردنر بعض الأضواء على السبب، حين ركَّز على النقاط التالية:
-
التحالف الغربي، بدخوله العراق وتفكيكه، قلب موازين القوى في أكثر مناطق العالم
التهابا، ليس لأنه أطاح نظام حسين، بل لأنه أوصل الأقلية الشيعية في داخل العالم
الإسلامي (والتي هي أغلبية في العراق) إلى السلطة في قلب المنطقة العربية للمرة
الأولى منذ سقوط الخلافة الفاطمية العام 1171.
-
وهذا، إضافة إلى أنه أسفر عن حمام دم في العراق، أشعل مجدداً نزاعاً عمره ألف سنة
بين السنّة والشيعة، امتد من المشرق العربي إلى شبه القارة الهندية.
-
أحداث العراق غيَّرت بالفعل مقومات المنطقة، وهي كانت أخطر بكثير من مضاعفات حرب
السويس العام ،1956 لأنها أعطت زخماً لكل ألوان وأنواع الحركات الإسلامية.
- II -
تحليل
دقيق؟
أجل.
لكن، يجب ان نضيف إليه عاملاً آخر لايقل أهمية.
فأرض العراق في الواقع رأس جسر ممتازاً ونموذجياً لتفجير العالم الأسلامي من داخله،
لأنها كانت المسرح الرئيس للمأساة التاريخية لآل البيت على يد الأمويين. كما أنها
كانت ساحة المعركة الرئيس بين العثمانيين والصوفيين طيلة قرنين من الزمن ( العراق
آنذاك كان يصبح صفوياً فارسياً في الشتاء،
وسنّياً تركياً في الصيف! ) .
القسمة الدموية
السنية – الشيعية انطلاقاً من العراق منذ غزوه العام 2003، حققت، وستحقق أكثر،
جملة أهداف إستراتيجية غربية دفعة واحدة.
فهي شطرت الشرق الاوسط الكبير الى شطرين كبيرين متناحرين. وهي جعلت إيران في حال
صدام ليس مع أميركا وحسب، بل (مجدداً ) أيضاً مع تركيا وباقي اطراف الغالبية
السنّية في العالم الإسلامي. وبالطبع، حين تحاصر جمهورية الخميني على هذا النحو،
لن يطول الوقت ( مجدداً أيضاً ) قبل ان تبدأ البحث في وقت ما عن حلفاء لها في
الغرب. وهذا بالتحديد ما فعله الصفويون
طيلة القرنين 18 و19.
وأخيرا، حروب
السنّة والشيعة قد تقلب صورة الصراع مع إسرائيل رأسا على عقب. ويكفي للتدليل على
ذلك تخيلّ، مثلاً، مصير مواجهة " حزب
الله " المصيرية مع إسرائيل، إذا ما جرّه الغرب الى صراعات طائفية مع السنّة
في لبنان وسوريا.
- III -
لكل هذه الأسباب،
ماسيجري في العراق سيكون هو، واكثر من سورية، من سيحدد المسار الذي ستتجه إليه
الأمور في الهلال الخصيب العربي.
وهذا الذي يجري
الآن، وسيجري غدا، لا ينبىء بكثير من الخير:
- فالسياسات
الطائفية التي مارستها حكومة المالكي، قبل الانسحاب الأميركي وبعده، بدأت تؤتِ أكلها
الآن: شعور كبير بالامتعاض والتهميش بين العرب السنّة، الأمر الذي يهدد بتحويل
حركاتهم الاحتجاجية الراهنة إلى تمرد مسلح في أي لحظة، شبيه بذلك حدث العام 2003.
- كما أن فشل
الحكومة في تحقيق أي نوع حقيقي من المصالحة السياسية، وتلبية حاجات السكان الاجتماعية والتنموية،
وتسوية القضايا العالقة في مجالات النفط والأراضي المتنازع عليها، كل ذلك جعل
"الحل الأمني" يفرض نفسه كمقاربة حكومية وحيدة للأزمات الراهنة. وإذا
ماوضعنا في الاعتبار الخلل الديمغرافي- الطائفي الراهن في تركيبة قوات الجيش
وأجهزة الأمن لغير صالح السنّة، فقد لايكون من الخطأ الاستنتاج بأن تفاقم الأوضاع
في المحافظات السنيّة سيؤدي في نهاية المطاف إلى فشل النموذج العراقي الراهن
لإعادة بناء الدولة- الأمة.
- والآن، دخلت
الحرب الأهلية السورية على خطوط الصدع العراقية الجديدة لتكون بمثابة الصاعق الذي
قد يفجّر بلاد العباسيين مرة أخرى، وربما أخيرة. فحكومة المالكي، بسماحها بتحوُّل
العراق إلى ممر للمساعدات الإيرانية للنظام السوري، خلقت الظروف الملائمة لتقاطع
مصالح السنّة العراقيين مع ثورة السنّة السوريين. وهذا ما دفع العديد من العشائر
السنيّة العراقية، ناهيك بالطبع بالحركات الإسلامية المتطرفة إلى رفع شعار: اليوم
دمشق وغداً الزحف على بغداد.
- IIII -
رب متسائل هنا: كيف
يمكن أن يكون انقسام العراق هو المدخل لتقسيم المشرق؟
حسنا. الصورة تبدو
بسيطة وواضحة: الحرب الأهلية العراقية الجديدة، في حال نشوبها،
ستؤدي إلى انفصال المحافظات السنيّة الأربع عن الكيان العراقي، وربما انضمامها إلى
الأردن في إطار مملكة أردنية هاشمية جديدة. وهذا بات أمراً وارداً بقوة بعد أن
أعاد الرئيس الأميركي أوباما خلال جولته الشرق أوسطية الجديدة إحياء المحور
التركي- الإسرائيلي- الأردني الشهير، الذي سيتحوِّل في وقت قريب إلى الوكيل الحصري
الإقليمي الجديد للباكس أميركانا في الشرق الأوسط.
هذه المملكة
الهاشمية الجديدة ستقيم بالطبع علاقات وطيدة مع المحافظات السنيّة السورية، سواء
في شكل فيدرالي أو تنسيقي، في حال انهارت الدولة السورية الراهنة. وحينها سيكون
الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام قيام دولة علوية على الساحل السوري لها امتدادات
شيعية في داخل لبنان، فضلاً عن تقسيم لبنان نفسه إلى دويلات طائفية مسيحية ودرزية
وسنّية وشيعية.
هل تبدو هذه
المحصلات مغالية في التشاؤم؟
ربما.
لكن التطورات التي
تجري في المشرق العربي هذه الأيام، لاتوحي بشيء من التفاؤل.
وحين يكون الأمر
على هذا النحو، لايعود من المفيد إطلاق نعوت التفاؤل أو التشاؤم على السيناريوهات
المحتملة لما ستؤول إليه الأمور، بل تصبح المسـألة مجرد تحليل علمي لاحتمالات
علمية.
والعراق الآن هو
المدخل الأول والرئيس لهذا التحليل وتلك الاحتمالات.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق