الأسد وأركانه أغلقوا كل منافذ التسوية السياسية،
ويراهنون الآن على تصوير الصراع على أنه بين أمن النظام وبين فوضى "جبهة
النصرة" الجهادية. لكن السحر قد ينقلب على الساحر.
|
-
I -
في لقاء على تلفزيون "أن. بي. أن" التابع
لرئيس مجلس النواب نبيه بري، أطلق السيد ناصر قنديل، أحد أكثر السياسيين
اللبنانيين قرباً من النظام السوري وتنسيقاً معه، سلسلة تبنوءات جديدة حول موعد
تحقيق "نصر النظام النهائي" على الثورة الشعبية الراهنة.
جبهة النصرة: سلاح ذو حدين(الصورة من غوغل |
لكن الأهم من التنبوءات كانت المواقف التي أبداها قنديل حيال
المعارضة الداخلية السورية المتجسدة في هيئة التنسيق الوطني التي يرئسها القطب
الناصري حسن عبد العظيم، والتي تُعتبر الأكثر ليونة والأكثر استعدادا للحوار مع
النظام. وعلى رغم ذلك، وضعها قنديل أمام خيارين لاثالث لهما: إما الانضمام إلى
"جبهة النصرة" الجهادية الإسلامية المتطرفة، أو الالتحاق بوزير المصالحة
الوطنية في الحكومة الراهنة علي حيدر.
ولأن هذا الرأي يعكس بالطبع موقف المسؤولين السوريين،
فهو يفيد لتظهير نمط تفكير القيادة السورية في هذه المرحلة والتي يمكن تلخيصها
ببندين رئيسيين، سياسي وأمني:
البند السياسي، يشي بأن النظام مصر على مواصلة رفض
الاعتراف بوجود أي طرف آخر في المعادلة السياسية السورية، وبالتالي رفض الحوار مع
أي لون من ألوان المعارضة مالم يكن خاضعاً بالكامل لسلطتها. فمعارضة علي حيدر،
التي هي في الواقع موالاة مُحلاة بمواقف نقدية، والتي تشبه إلى حد بعيد أحزاب
الجبهة الوطنية التقدمية التي عملت كغطاء للحكم السلطوي السوري طيلة 40 عاما، هي
المعارضة الوحيدة التي يقبلها النظام. والشعار هنا هو نفسه ذلك الذي رفعته
المارونية السياسية عشية الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1989): "ما لنا لنا،
وما لكم لنا ولكم".
أما البند الأمني فقد يكون الأخطر. إذ هو يكشف عن تتويج
كل الجهود المتصلة التي بذلها النظام طيلة سنة ونصف السنة لتصوير الثورة السورية
على أنها صراع بين نظامه وبين فوضى الإرهابيين الأسلاميين.
والآن، وقد بدأ نجم جبهة النصرة، التي تضم عناصر من فتح
الإسلام وغيرها التي كانت تابعة لأحد أجهزة المخابرات السورية، بالصعود (قفز
عديدها خلال أربعة أشهر من 50 عنصراً إلى ألف الآن) وباتت فصيلاً فاعلاً في معركة
حلب، فسيكون في وسع النظام أن يُعلي الصوت الأن قائلاً للروس والأميركيين
والأوروبيين أنهم يخوض معركتهم ضد الإرهاب الأصولي.
وهذا قد يكون سهلاً الأن، لان فصائل المعارضة العلمانية
والإسلامية المعتدلة المُرهقة، تشعر في هذه المرحلة أن الزخم الجهادي القوي ضد
النظام قد يعدّل، ولو نسبياً، من موازين القوى معه، في غياب أي تدخل خارجي ذا
معنى.
-
II -
هل تنجح هذه الاستراتيجية، التي تتطابق إلى حد بعيد مع
ما فعله النظام السوري طيلة العقود الماضية حين كان "يخلق" التنظيمات
الاصولية المتطرفة ويُطلقها في لبنان والعراق والأردن، ثم يبلغ الغرب أنه مستعد
للجمها وقتالهاـ تماماً كما فعلت المخابرات الجزائرية حين "خلقت"
الجماعة الإسلامية المسلحة لتحظى بدعم هذا الغرب؟.
فلنقل، أولاً، أن تسهيل النظام المحتمل لبروز مثل هذه
التنظيمات الجهادية قد حقق بعض الأهداف الفورية. إذ أن الأميركيين كبحوا جماح
السعوديين والقطريين والأتراك في مجال تسليح المعارضة بأسلحة متطورة مضادة
للطائرات والدبابات، خوفاً من وقوعها في يد الجهاديين. كما أن الروس استخدموا هذه
الورقة أيضاً في حواراتهم مع الغربيين لاقناعهم بأن النظام السوري "ليس كله
شر" ولايزال في وسعه القيام ببعض "الأعمال الخيرة" ضد الإرهاب.
بيد أن هذه النجاحات قد تكون محدودة التأثير في الداخل
كما في الخارج. فجبهة النصرة، مهما قويت شوكتها، لن تكون سوى فصيل واحد من نحو 370
فصيلاً مسلحاً في المعارضة جلّها ينتمي إلى الإسلام المعتدل أو التيارات الوطنية
والعلمانية. فضلاً عن ذلك، بدلاً من أن يعمد الغرب إلى معاودة الاعتماد على النظام
السوري لضرب الجهاديين والقاعديين، كما كان يفعل قبل الربيع العربي، سيتجه إلى
تعزيز وتقوية وتسليح المعارضة غير الجهادية لتمكينها من مواجهة القاعديين والنظام
في آن.
وحينها سيخسر النظام مرتين: مرة حين سيجد نفسه وجهاً
لوجه مع وحش التطرف الأصولي والطائفية الذي أطلقه من عقاله هذه المرة في الداخل
السوري (كما حدث قبل ذلك مع الرئيس أنور السادات في مصر ومع المملكة السعودية في
أفغانستان)؛ ومرة ثانية حين سينشط الغرب وتركيا لدعم القوى الوطنية والعلمانية
السورية.
-
III -
ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني أن كل المحاولات التي يبذلها النظام، وسيبذلها
أكثر في قادم الأيام، لمحاولة الخروج من أزمته، إما بتصدير هذه الأزمة إلى الجوار
اللبناني والأردني والتركي أو بـ" استيراد" التطرف الجهادي إلى أرضه،
تبدو كمن يدور في حلقة مفرغة وسط صحراء قاحلة.
وإذا ماأضفنا إلى ذلك رفضه القاطع لأي تنازلات تؤدي إلى
تسوية سياسية متوازنة مع الأغلبية السنّية، فسنصل إلى الاستنتاج بأن هذا النظام، أو
على الأقل رئيسه وباقي رؤوس "الأصولية الأمنية" فيه، لن يتمكنوا من
البقاء طويلا.
أما تنبؤات السيد قنديل عن "مواعيد النصر
الجديدة"، فهي ليست سوى استمرار لنمط التفكير الرغائبي الغريب الذي سيطر على
النظام وأنصاره ولايزال طيلة الأشهر الـ18 الماضية، والذي ينسج لهم خيالات عن حرب
كونية أشبه بحرب النجوم.
وبالتالي، فإنها (التنبؤات) ظاهرة سايكولوجية أكثر منها
واقعة سياسية.
سعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق