-
I-
ربما ليس من المبالغة في شيء القول أن التظاهرات الضخمة
التي جرت في مصر أمس، غيّرت المشهد السياسي المصري برمته.
الدلائل؟ إنها كثيرة:
فقد فاق حجم التظاهرات التي اجتاحت القاهرة ومعظم المدن
المصرية كل التوقعات، وتجاوزت حتى المسيرات التي ساهمت في إطاحة الرئيس حسني
مبارك.
كما أسقطت هذه المظاهرات مقولة جماعة الإخوان المسلمين
بأن المعارضة مجرد ضجيج صوتي لاقواعد شعبية له. وهذا أمر اعترفت به الجماعة، حين
قال الناطق باسم الرئاسة عمر عامر بأن الجماعة :"لاتقلل من حجم هذه
التظاهرات، ولا من حجم المطالب التي طرحها المحتجون".
علاوة على ذلك، نقلت التظاهرات الصراع السياسي في البلاد
من المؤسسات والإدارات إلى الشارع مجددا، بعد أن اعتقد الكثيرون أن ثورة يناير
أعادت الاعتبار للسياسة بعد عقود من غيابها على يد الأنظمة السلطوية. والآن، ومع
عودة شعار "الشعب تريد"، سيكون الأمر بالنسبة إلى المرحلة الانتقالية
إلى الديمقراطية في مصر بمثابة "عود على ذي بدء" إلى نقطة مجددا.
وأخيرا، سلطة جماعة الإخوان المسلمين في الحكم بعد
التظاهرات، لن تكون كما كانت طيلة السنة الأولى من عهدهم بها. إذ أن معاركهم لن
تكون بعد الآن مع البيروقراطية، بشطريها المدني والعسكري، ولاحتى مع مستقبل
المؤسسات التشريعية، بل مع مطالب شعبية مباشرة يُرجّح لها أن تتضخم عما قريب من
مجرد إجراء انتخابات رئاسية جديدة، إلى المطالبة بنظام سياسي جديد.
-
II-
كل هذه المعطيات تعني أن الكرة انتقلت كلياً إلى ملعب
جماعة الأخوان، التي سيكون عليها الآن أن تتحرَّك بسرعة لاستقاء الدورس مما جرى.
وهي دروس كثيرة في الواقع.
كتبت "فايننشال تايمز" في افتتاحيتها
(28حزيران/يونيو): "مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية دائماً ماتكون مضطربة
ومشوّشة، لكن مع ذلك أداء الرئيس مرسي كان سيئاً للغاية. صحيح انه ورث انهياراً في
الأمن العام، لكنه بدلاً من بناء إجماع يحتاجه لمواجهته، سعى هو والإخوان إلى
احتكار السلطة والسيطرة على مؤسسات مثل القضاء".
وكتبت "نيويورك تايمز":" المتظاهرون
المصريون قالوا أنهم غاضبون من الغياب شبه التام للأمن العام، والحالة اليائسة
للاقتصاد المصري، وتفاقم التوترات الطائفية. لكن الواقع أن القاسم المشترك في
البلاد هو القناعة بأن السيد مرسي فشل في تجاوز جذوره الأخوانية، وفي أن يكون
رئيساً كل المصريين".
هذه النقطة الأخيرة، أي عجز مرسي والإخوان طيلة السنة
الماضية عن بلورة إجماع وطني، قد تكون السبب الرئيس في تحوّل حكم الإخوان من حل أو
مدخل لعملية الانتقال إلى الديمقراطية إلى مشكلة تحتاج إلى حل.
فقد كان واضحاً منذ البداية، وحتى حين فاز مرسي بنصف
أصوات المصريين، أن الأزمة الاقتصادية الهائلة في البلاد، حيث نحو نصف الـ85 مليون
مصري يعيشون تحت خط الفقر ويسيطر 1 في المئة على معظم مفاصل القطاعات الاقتصادية،
تحتاج إلى جهود اسطورية تشارك فيها كل قطاعات المجتمع في إطار خطة تنموية شاملة.
صحيح أن برامج الإخوان المسلمين منذ العام 2005 تتحدث عن
الأطر العامة لهذه الخطة، إلا أن مفاوضاتهم مع صندوق النقد الدولي وشروطه، أوحت
بأنهم قد يتابعون النهج الاقتصادي السابق لنظام مبارك والمستند إلى قطاعات الخدمات
والسياحة والعقارات، وليس إلى مجالات الانتاج الزارعي والصناعي والتكنولوجي.
وبالطبع، الاقتصاد الاستهلاكي غير قادر البتة على توظيف
عشرات ملايين المصريين، الذين يُضخ إليهم كل سنة مليون خريج عاطل عن العمل.
وكما في الاقتصاد، كذلك في السياسة. فقد أسقط الإخوان من
حسابهم الحقيقة بأن الانتخابات وأقلام الاقتراع وحدها، لاتكفي في المراحل
التأسيسية لبناء الدول- الأمم. الإجماع الوطني هنا، مجدداً، هو الأساس، لأنه وحده
القادر على تحقيق المقبولية الشعبية للنظام الجديد. لكن الجماعة عمدت، بدلاً من
ذلك، إلى محاولة التفرد بالسلطة والمؤسسات، الأمر الذي قسم البلاد فوراً في مرحلة
من أدق مراحلها التاريخية. لابل خلق هذا شرخاً حتى في صفوف القوى الإسلامية نفسها،
على سبيل المثال، بين الإخوان والسلفيين.
وأخيراً، أثبتت تجربة السنة أولى حكم بأن الإخوان
(والرئيس مرسي أيضاً كما دلّ على ذلك خطابه الأخير المليء بإشارات مرض الارتياب)،
لم يتمكنوا بعد من الخروج من شرنقة العمل السري وما يتضمنه من سايكولوجيا
المؤامرة، والتقوقع على الذات، والتعاطي مع من هم خارج تنظيمهم على أنه
"الآخر" الذي لايمكن أن يكون إلا في صف الخصم او حتى العدو.
وهذه مسألة في غاية الخطورة اعترف بها لكاتب هذه السطور
مسؤول إصلاحي بارز في جماعة الإخوان، خلال لقاء خاص مؤخراً في اسطنبول، حين قال
"إن النخبة الحالية في جماعة الإخوان المصرية لم تجاوز الفكرة بأنها تنظيم
معارض حتى وهي على رأس السلطة. وهذا ماجعلها تفشل في إقامة التحالفات الضرورية لأي
عمل تأسيسي للدولة".
-
III-
ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني أنه يتعيّن على جماعة الإخوان أن تسارع ليس فقط
إلى إعادة النظر في مواقفها السياسية غداة المظاهرات المليونية ضدها، بل أيضاً إلى
القيام بانتفاضة داخلية لنقلها من عقلية
التنظيم السري المغلق إلى عقلية الحزب الجماهيري المنفتح على كل أنواع التحالفات
والتسويات.
فكرة حكومة الوحدة الوطنية تبدو خطوة أولى جيدة في هذا
السياق. بيد أن هذه يجب أن تترافق مع برنامج طواريء واضح يحظى باجماع، أو شبه
إجماع، وطني، لإعادة فرض الأمن والنظام، وإطلاق عجلة الاقتصاد الانتاجي، وتعديل
الدستور لجعله شاملاً للجميع، والتحضير لانتخابات برلمانية جديدة.
من دون هذا الاجماع، ستكون الحرب الأهلية واردة في كل
حين، (على رغم أن الكثيرين يستبعدون حدوث ذلك في مصر التي يعود تاريخ الدولة فيها
إلى 7 آلاف سنة)، خاصة إذا ما تمسّك الإخوان بنظرية المؤامرة ضدهم وتأخروا في
تقديم عروض التسوية على المعارضة، أو إذا ماواصلت هذه الأخيرة طرح المطالب القصوى
من قبيل إطاحة رئيس منتخب شرعياً من السلطة، أو إذا ماقررت الجماعات الإسلامية
المتطرفة استخدام السيف لحسم الأمور السياسية.
وبالطبع، المؤسسة العسكرية المصرية ستكون أكثر من سعيدة
إذا ماوصلت الأمور إلى الصدام بين الأخوان والمعارضة لأنها، وعلى رغم حصولها على
كل ماطلبته من الامتيازات الاقتصادية والحصانة العسكرية في الدستور، إلا أنها
لاتثق بالأخوان. وعلى أي حال، هذا كان واضحاً في دعم امن الدولة والشرطة وأجهزة
المخابرات الأخرى بشكل علني للمتظاهرين المعارضين، خاصة في القاهرة.
* * *
المشهد السياسي المصري، إذاً تغيّر، وبشدة.
يبقى الانتظار لمعرفة في أي وجهة سيسير هذا التغيُّر:
نحو الفوضى أم نحو النضج السياسي وتعزيز عملية الانتقال إلى الديمقراطية.
وجماعة الإخوان، بحكم موقعها في السلطة، ستكون المعني
الأول في الإجابة على هذا السؤال.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق