-
I -
حين ظهر الرئيس السوري بشار الأسد الأسبوع الماضي على
شاشة تلفزيون "الدنيا" الموالي له، توقّع الكثيرون أن يتحدث، ولو باقتضاب،
عن الدمار والضحايا والكوارث التي تحيق بوطنه سورية هذه الأيام، وإن من باب الدعاية
الإعلامية.
حديقة عامة في روسيا البيضاء- غوغل- |
لكنه لم يفعل. كل مافعله هو التحوُّل إلى جنرال عسكري
يدلي بشهادة عسكرية، عن سير المعارك، وتكتيكات الحرب، والفترة الزمنية المطلوبة
لـ"تحقيق النصر المؤزر". وهذا بالطبع جنباً إلى جنب مع إغلاق الأبواب
والنوافذ أمام أي فرصة للوصول إلى أي تسوية سياسية، من شأنها إخراج البلاد من الهاوية
السحيقة التي سقطت فيها بفعل الخيار الأمني- العسكري القاتل.
مضاعفات هذه النزعة العسكرتارية المتفاقمة لم تتأخر في
الظهور. فبعد أيام قليلة من هذه المقابلة التلفزيونية الملتهبة، كانت جرافات جيش
النظام تنضم إلى سلاحي الطيران والدبابات في
تطبيق سياسة الأرض المحروقة والمباني المُدمَّرة في دمشق وحمص وحلب ودرعا
الزور. ففي غرب دمشق، دمَّرت الجرافات في يوم واحد (الأحد الماضي) 20 مبنى سكنياً
في حيي الزيات والفاروق، وأحرق الجنود
العديد من المباني الأخرى التي يقطنها سوريون سنَّة بعد حرقها. وتكرر الأمر
نفسه في مناطق شرق دمشق. هذا في حين كانت مدينتا درعا ودير الزور تنضمان إلى حمص
وحلب وريفهما في التعرُّض إلى حالة دمار شامل جواً وبرا.(في درعا وحدها تم إحراق
200 منزل خلال يومين).
-
II -
نموذج حماه
هذه النقلة من حرب الشوارع إلى تدمير الشوارع، عنت أن
القيادة السورية الراهنة اتخذت قراراً فعلياً بتحويل كل مدن سورية إلى حماه أخرى
التي عمد الرئيس السابق حافظ الأسد، كما هو معروف، إلى تسوية العديد من أحيائها
بالأرض العام 1982 وقتل فيها ما يتراوح بين 20 إلى 30 ألف شخص.
"الفلسفة الاستراتيجية"، إذا جاز التعبير،
وراء حرب الدمار الشامل هذه، كان قد شرحها العقيد المنشق في الحرس الجمهوري مناف
طلاس. فهو نقل، في مقابلة مؤخراً مع "واشنطن بوست"، عن مسؤول سوري كبير
قوله في معرض دفاعه عن الخيار الأمني:" أضرب المعارضين بقوة كي يخافوا. وحين
يخافوا سيتراجعون".
بالطبع، هذا المسؤول لم يأتٍ بجديد. إذ أن هذه
"الفلسفة" هي الوحيدة التي طبّقها النظام منذ أربعة عقود حتى الآن،
والتي أسفرت عن ولادة "الدولة الأمنية" و"الثقافة الأمنية"
السوريتيين، بقيادة 15 جهاز مخابرات من كل الأنواع، تتقاسم الأدوار في ما
بينها للسيطرة على كل من المجتمع المدني
وعلى القوات المسلحة نفسها.
وقد حقق هذا التوجُّه، إضافة إلى عوامل إقليمية ودولية
مساعدة (على رأسها التعاون الوثيق بين أجهزة المخابرات السورية والأجهزة الأمنية
الأميركية والإسرائيلية)، نجاحات واضحة، حيث تم تصحير المجتمع بالكامل، وفُرِضت
رقابة استخباربة صارمة على كل الضباط والجنود لمنع حدوث أي انشقاق تحت طائلة القتل
(وهذا مايفسِّر إلى الآن عدم قدرة فرق عسكرية سورية كاملة عن إعلان التمرد على
النظام)، وساد استقرار الرعب والخوف طيلة ثلاثة عقود.
ولأن نجاح سياسة التخويف والقمع كانت باهرة إلى حد مدهش
(كما مع كل الديكتاتوريات الاخرى في التاريخ)، كان من الصعب سايكولوجياً على
الرئيس بشار الأسد وبقية قادة أجهزة الأمن أن يُصدِّقوا بأن مثل هذه السياسة لن
تنجح في قمع الانتفاضة الراهنة. وها هم يراهنون الآن على أن استخدام كل ترسانة
الأسلحة الثقيلة والتدمير المنهجي للمدن، وفق نموذج مأساة حماه، سيعيد زرع الخوف
في القلوب، وسيدفع الثوار إلى قفص الرضوخ والاستسلام مجددا.
الأمر نفسه حدث مع تجربة العقيد معمر القذافي في ليبيا،
الذي مارس هو الأخر سياسة الخوف والتخويف للحفاظ على سلطة جماهيريته. وشهير تحذير
القذافي للتونسيين (وعبرهم لليبيين) في الأيام الأولى للثورة التونسية من أن
مخابرات النظام "ستلحقكم إلى غرف
نومكم لتقتلكم هناك"، وأيضاً تهديده للثوار الليبيين بالهجوم عليهم "
بيتاً بيتا، وزنقة زنقة".
بيد أن الأسد ونظامه لم يدركا بعد، وعلى رغم مرور 18
شهراً على حلولهم الأمنية، أن أول ضحية من ضحايا الثورة السورية كانت سياسة الخوف
نفسها. وهذا لم يتأكد وحسب من خلال المعارك العسكرية الأخيرة، حيث كان الثوار
يندفعون إلى القتال وكأنهم في نزهة أو فيلم سينمائي، بل أولاً وأساساً من
المظاهرات السلمية في بداية الثورة، حين كان المتظاهرون ينزلون إلى الشوارع على
رغم تغلغل عسس المخابرات بينهم، وعلى رغم إطلاق النار الكثيف عليهم من قبل القناصة
وعناصر الشبيحة والجيش.
عامل الخوف سقط وانقضى الأمر. وأول وأبرز دليل على ذلك
هو أن عناصر الأمن والمخابرات التي تعد بعشرات الآلاف فقدت السيطرة على الشارع،
فاضطر النظام إلى الاستنجاد بالجيش الذي يستطيع أن يقتل لكنه لا يُخيف.
لكن، إلى أين من هنا؟
-
III -
إلى روسيا البيضاء؟
إن قرار النظام بزج كل أسلحته الثقيلة في المعركة،
وبتدمير المدن وفق نموذج حماه، لايعني في الواقع سوى أمر واحد: النظام، أو على
الأقل بشار الأسد وعائلته، يطلقون عبر سياسة الدمار الشامل في 2012 ،آخر طلقة
لديهم لمحاولة استعادة "امجاد" حافظ الأسد و"انجازاته" في
حماه 1982.
لكن هنا أيضاً ثمة خطأ فادح في قراءة التاريخ: فتدمير
حماه في الثمانينيات ضمن في الواقع استقراراً زائفاً للنظام، وكان هو التمهيد
الحقيقي لسرعة تحوُّل الانتفاضة السلمية السورية إلى ثورة مسلحة. فالعنف يستسقي
العنف ولو بعد حين.
لقد دخل الأسد بالفعل ربع الساعة الأخير من عمره السياسي.
ولأن الأمر كذلك، ستكون الدقائق الأخيرة من هذا العمر هي الأكثر عنفاً ودمارا.
إنها أشبه بوداع نيرون لروما عبر حرقها.
النظام لم يعد يعيش الآن سوى على التنفس الاصطناعي الذي
توفِّره له روسيا وإيران. بيد أن هذا قد لايستمر طويلاً، خاصة بالنسبة إلى روسية
التي تحوَّلت بالنسبة إليها الورقة السورية التي تضغط بها على الغرب إلى ورقة ضغط اقتصادي ودبلوماسي عليها هي نفسها.
وحين تسحب روسية أجهزة التنفس عن الأسد وعائلته(وهذا بات
متوقعاً ربما في وقت قريب)، سنوقن حينها أن مقابلة الأسد الملتهبة في فضائية
"الدنيا" كانت أشبه بمسدس مُتهالك سيُحال على "التقاعد"، بعد
أن يُطلق رصاصته الأخيرة. وهذا التقاعد سيكون على الأرجح في روسيا البيضاء، وليس
في موسكو، كما توقّعت صحيفة "روسيا وراء العناوين" ( Russia beyond the headlines)
سعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق